انتقل إلى المحتوى

البداية والنهاية/كتاب الفتن والملاحم/إنكار المعتزلة للميزان والرد عليهم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



فصل ( إنكار المعتزلة للميزان والرد عليهم )


وقد نقل القرطبي عن بعضهم أن الميزان له كفتان عظيمتان، لو وضعت السماوات والأرض في كل واحدة منهما لوسعتها، فأما كفة الحسنات فنور، وأما الأخرى فظلمة، وهو منصوب بين يدي العرش، وعن يمينه الجنة، وكفة النور من ناحيتها، وعن يساره جهنم، وكفة الظلمة من ناحيتها.

قال: وقد أنكرت المعتزلة الميزان، وقالوا: الأعمال أعراض لا جرم لها، [ص:514] فكيف توزن قال: وقد روي عن ابن عباس: أن الله يخلق الأعراض أجساما، فتوزن. قال: والصحيح أنه توزن كتب الأعمال. قلت: قد تقدم ما يدل على الأول، وعلى الثاني، وعلى أن العامل نفسه يوزن مع عمله.

قال القرطبي: وقد روي عن مجاهد، والضحاك، والأعمش، أن الميزان هنا بمعنى العدل والقضاء، وذكر الوزن والميزان ضرب مثل، كما يقال: هذا الكلام في وزن هذا.

قلت: لعل هؤلاء إنما فسروا هذا عند قوله تعالى: والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان [الرحمن: 7 - 9]. فها هنا المراد بالميزان أنه تعالى وضع العدل بين عباده، وأمر عباده أن يتعاملوا به فيما بينهم، فأما الميزان الموضوع يوم القيامة فقد تواترت بذكره الأحاديث كما رأيت، وهو ظاهر القرآن العظيم: فمن ثقلت موازينه [الأعراف: 8]. ومن خفت موازينه [الأعراف: 9]. وهذا إنما يكون لشيء محسوس.

قال القرطبي: فالميزان حق، وليس هو في حق كل أحد، بدليل قوله تعالى. يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام [الرحمن: 41]. وقوله «فيقول الله: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب».

[ص:515] قلت: وقد تواترت الأخبار في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، لكن يلزم من هذا أن لا توزن أعمالهم، وفي هذا نظر، والله أعلم. وقد توزن أعمال الشهداء، وإن كانت راجحة; لإظهار شرفهم وفضلهم على رءوس الأشهاد، والتنويه بسعادتهم ونجاتهم، وإن كانوا لا حساب عليهم. وأما الكفار فتوزن أعمالهم، وإن لم يكن لهم حسنات تنفعهم يقابل بها كفرهم، فإن حسناتهم - ولو بلغت ما بلغت - لا تقابل كفرهم ولا توازنه، وهي غير نافعة لهم، فتوزن لإظهار شقائهم وتوبيخهم وفضيحتهم على رءوس الأشهاد. وقد جاء في الحديث«إن الله لا يظلم أحدا حسنة، أما الكافر فيطعمه بحسناته في الدنيا، حتى يوافي الله وليس له حسنة يجزيه بها».

وقد ذكر القرطبي في " التذكرة " أن الكافر قد يوافي يوم القيامة بصدقة وصلة رحم وعتق، فيخفف الله عنه بذلك من عذابه، واستشهد بقضية أبي طالب حين جعله الله في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، وفي هذا نظر; إذ قد يكون هذا خاصا به; لأجل حياطة رسول الله ونصرته له، كما سقي أبو لهب في النقرة التي هي في ظهر الإبهام بسبب عتاقته ثويبة التي أرضعت رسول الله واستدل القرطبي على ذلك بعموم قوله تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا الآية [الأنبياء: 47].

قلت: وقصارى هذه الآية العموم، فيخص من ذلك الكافرون، وقد سئل [ص:516] رسول الله عن عبد الله بن جدعان،: ذكر له أنه كان يقري الضيف، ويطعم الجائع، ويصل الرحم، ويعتق، فهل ينفعه ذلك؟ قال«لا; إنه لم يقل يوما من الدهر: لا إله إلا الله». وفي رواية: " لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. وقال تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [الفرقان: 23]. وقال عن أعمال الكفار: والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب [النور: 39].