إحياء علوم الدين/كتاب آداب الألفة والأخوة والصحبة والمعاشرة/الباب الثاني
اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين كعقد النكاح بين الزوجين، وكما يقتضي النكاح حقوقاً يجب الوفاء بها قياماً بحق النكاح. كما سبق ذكره في كتاب آداب النكاح. فكذا عقد الأخوة، فلأخيك عليك حق في المال والنفس وفي اللسان والقلب بالعفو والدعاء وبالإخلاص والوفاء وبالتخفيف وترك التكلف وذلك يجمعه ثمانية حقوق:
الحق الأول
[عدل]في المال
قال رسول الله ﷺ: "مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى"، وإنما شبههما باليدين لا باليد والرجل لأنهما يتعاونان على غرض واحد، فكذا الأخوان إنما تتم أخوتهما إذا ترافقا في مقصد واحد فهما من وجه كالشخص الواحد، وهذا يقتضي المساهمة في السراء والضراء والمشاركة في المآل والحال وارتفاع الاختصاص والاستثمار. والمواساة بالمال مع الأخوة على ثلاث مراتب:
أدناها: أن تنزله منزلة عبدك أو خادمك فتقوم بحاجته من فضلة مالك، فإذا سنحت له حاجة وكانت عندك فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداء ولم تحوجه إلى السؤال فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير في حق الأخوة.
الثانية: أن تنزله منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك ونزوله منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال قال الحسن: كان أحدهم يشق إزاره بينه وبين أخيه.
الثالثة: وهي العليا أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك وهذه رتبة الصديقين ومنتهى درجات المتحابين ومن ثمار هذه الرتبة الإيثار بالنفس أيضاً، كما روي أنه سعى بجماعة من الصوفية إلى بعض الخلفاء فأمر بضرب رقابهم وفيهم أبو الحسن النوري فبادر إلى السياف ليكون هو أول مقتول فقيل له في ذلك فقال: أحببت أن أؤثر إخواني بالحياة في هذه اللحظة، فكان ذلك سبب نجاة جميعهم قي حكاية طويلة، فإن لم تصادف نفسك في رتبة من هذه الرتب مع أخيك فاعلم أن عقد الأخوة لم ينعقد بعد في الباطن وإنما الجاري بينكما مخالطة رسمية لا وقع لها في العقل والدين، فقد قال ميمون بن مهران: من رضي من الإخوان بترك الإفضال فليؤاخ أهل القبور.
وأما الدرجة الدنيا فليست أيضاً مرضية عند ذوي الدين، روي أن عتبة الغلام جاء إلى منزل رجل كان قد آخاه فقال أحتاج من مالك إلى أربعة آلاف، فقال خذ ألفين فأعرض عنه وقال آثرت الدنيا على الله أما استحييت أن تدعي الأخوة في الله وتقول هذا، ومن كان في الدرجة الدنيا من الأخوة ينبغي أن لا تعامله في الدنيا. قال أبو حازم: إذا كان لك أخ في الله فلا تعامله في أمور دنياك وإنما أراد به من في هذه الرتبة.
وأما الرتبة العليا: فهي التي وصف الله تعالى المؤمنين بها في قوله: "وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون" أي كانوا خلطاء في الأموال لا يميز بعضهم رحله عن بعض، وكان منهم من لا يصحب من قال: نعلي، لأنه أضافه إلى نفسه. وجاء فتحي الموصلي إلى منزل لأخ له وكان غائباً، فأمر أهله فأخرجت صندوقه ففتحه وأخذ حاجته فأخبرت الجارية مولاها فقال: إن صدقت فأنت حرة لوجه الله سروراً بما فعل. وجاء رجل إلى أبو هريرة رضي الله عنه وقال: إني أريد أن أؤاخيك في الله فقال: أتدري ما حق الإخاء? قال: عرفني، قال: أن لا تكون أحق بدينارك ودرهمك مني، قال: لم أبلغ هذه المنزلة بعد? فاذهب عني. وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما لرجل: هل يدخل أحدكم يده في كم أخيه أو كيسه فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه? قال: لا قال: فلستم بإخوان. ودخل قوم على الحسن رضي الله عنه فقالوا: يا أبا سعيد أصليت? قال: نعم، قالوا: فإن أهل السوق لم يصلوا بعد، قال: ومن يأخذ دينه من أهل السوق? بلغني أن أحدهم يمنع أخاه الدرهم! قاله كالمتعجب منه. وجاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم رحمه الله وهو يريد بيت المقدس فقال: إني أريد أن أرافقك، فقال له إبراهيم: على أن أكون أملك لشيئك منك: قال: لا، قال: أعجبني صدقك، قال: فكان إبراهيم بن أدهم رحمه الله إذا رافقه رجل لم يخالفه وكان لا يصحب إلا من يوافقه، وصحبه رجل شراك فأهدى رجل إلى إبراهيم في بعض المنازل قصعة من ثريد ففتح جراب رفيقه وأخذ حزمة من شراك وجعلها في القصعة وردها إلى صاحب الهدية، فلما جاء رفيقه قال: أين الشراك? قال: ذلك الثريد الذي أكلته إيش كان? قال: كنت تعطيه شراكين أو ثلاثة. قال: اسمح يسمح لك. وأعطى مرة حماراً كان لرفيقه بغير إذنه رجلاً رآه فلما جاء رفيقه سكت ولم يكره ذلك. قال ابن عمر رضي الله عنهما أهدي لرجل من أصحاب رسول الله ﷺ رأس شاة، فقال: أخي فلان أحوج مني إليه فبعث به إليه فبعث ذلك الإنسان إلى آخر فلم يزل يبعث به من واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول بعد أن تداوله سبعة. وروي أن مسروقاً أدان ديناً ثقيلاً وكان على أخيه خثيمة دين قال: فذهب مسروق فقضى دين خثيمة وهو لا يعلم وذهب خثيمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم، ولما آخى رسول الله ﷺ بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع آثره بالمال والنفس فقال عبد الرحمن: بارك الله لك فيهما فآثره بما آثره به، وكأنه قبله ثم آثره به وذلك مساواة والبداية إيثار والإيثار أفضل من المساواة. وقال أبو سليمان الداراني: لو أن الدنيا كلها لي لجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له. وقال أيضاً: إني لألقم اللقمة أخاً من إخواني فأجد طعمها في حلقي.
ولما كان الإنفاق على الإخوان أفضل من الصدقات على الفقراء قال علي رضي الله تعالى عنه: لعشرون درهماً أعطيها أخي في الله أحب إلي من أن أتصدق بمائة درهم على المساكين. وقال أيضاً: لأن أصنع صاعاً من طعام وأجمع عليه إخواني في الله أحب إلي من أن أعتق رقبة. واقتداء الكل في الإيثار برسول الله ﷺ فإنه دخل غيضة مع بعض أصحابه فاجتنى منها سواكين أحدهما معوج والآخر مستقيم فدفع المستقيم إلى صاحبه، فقال له: يا رسول الله كنت والله أحق بالمستقيم مني فقال: "ما من صاحب يصحب صاحباً ولو ساعة من النهار إلا سئل عن صحبته هل أقام فيها حق الله أم أضاعه". فأشار بهذا إلى أن الإيثار هو القيام بحق الله في الصحبة. وخرج رسول الله ﷺ إلى بئر يغتسل عندها فأمسك حذيفة بن اليمان الثوب وقام يستر رسول الله ﷺ حتى اغتسل ثم جلس حذيفة ليغتسل، فتناول رسول الله ﷺ الثوب وقام يستر حذيفة عن الناس فأبى حذيفة وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا تفعل فأبى عليه السلام إلا أن يستره بالثوب حتى اغتسل وقال ﷺ: "ما اصطحب اثنان قط إلا كان أحنهما إلى الله أرفقهما بصاحبه"، وروي أن مالك بن دينار ومحمد بن واسع دخلا منزل الحسن وكان غائباً فأخرج محمد بن واسع سلة فيها طعام من تحت سرير الحسن فجعل يأكل فقال له مالك: كف يدك حتى يجيء صاحب البيت، فلم يلتفت محمد إلى قوله وأقبل على الأكل، وكان مالك أبسط منه وأحسن خلقاً فدخل الحسن وقال: يا مويلك هكذا كنا لا يحتشم بعضنا بعضاً حتى ظهرت أنت وأصحابك. وأشار بهذا إلى أن الانبساط في بيوت الإخوان من الصفاء في الأخوة كيف وقد قال الله تعالى: "أو صديقكم" وقال: "أو ما ملكتم مفاتحه" إذ كان الأخ يدفع مفاتيح بيته إلى أخيه ويفوض له التصرف كما يريد، وكان أخوه يتحرج عن الأكل بحكم التقوى حتى أنزل الله تعالى هذه الآية وأذن لهم في الانبساط في طعام الإخوان والأصدقاء.
الحق الثاني
[عدل]في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات والقيام بها
قبل السؤال وتقديمها على الحاجات الخاصة
وهذه أيضاً لها درجات كما للمواساة بالمال فأدناها القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح وقبول المنة. وقال بعضهم: إذا استقيت أخاك حاجة فلم يقضها فذكره ثانية فلعله أن يكون قد نسي فإن لم يقضها فكر عليه واقرأ هذه الآية: "والموتى يبعثهم" وقضى ابن شبرمة حاجة لبعض لإخوانه كبيرة فجاء بهدية، فقال: ما هذا? قال: لما أسديته غلي، فقال: خذ مالك عافاك الله، إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها فتوضأ للصلاة وكبر عليه أربع تكبيرات وعده في الموتى. قال جعفر بن محمد: إني لأتسارع إلى قضاء حوائج أعدائي مخافة أن أردهم فيستغنوا عني: هذا في الأعداء فكيف في الأصدقاء? وكان في السلف من يتفقد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم بحاجتهم ويتردد كل يوم إليهم ويمونهم من ماله فكانوا لا يفتقدون من أبيهم إلا عينه بل كانوا يرون منه ما لم يروا من أبيهم في حياته، وكان الواحد منهم يتردد إلى باب دار أخيه ويسأل ويقول: هل لكم زيت، هل لكم ملح، هل لكم حاجة? وكان يقوم بها من حيث لا يعرفه أخوه. وبهذا تظهر الشفعة والأخوة فإذا لم تثمر الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه فلا خير فيها. قال ميمون بن مهران: من لم تنفع بصداقته لم تضرك عداوته. وقال ﷺ: "ألا وإن لله أواني في أرضه وهي القلوب فأحب الأواني إلى الله تعالى أصفاها وأصلبها وأرقها، أصفاها من الذنوب وأصلبها في الدين وأرقها على الإخوان"وبالجملة، فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك أو أهم من حاجتك، وأن تكون متفقداً لأوقات الحاجة غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك، وتغنيه عن السؤال وإظهار الحاجة إلى الاستعانة، بل تقوم بحاجته كأنك لا تدري أنك قمت بها، ولا ترى لنفسك حقاً بسبب قيامك بها، بل تتقلد منة بقبوله سعيك على الأقارب والولد. كان الحسن يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا بالآخرة. وقال الحسن: من شيع أخاه في الله بعث الله ملائكة من تحت عرشه يوم القيامة يشيعونه إلى الجنة. وفي الأثر: "ما زار رجل أخاً في الله شوقاً إلى لقائه إلا ناداه ملك من خلفه طبت وطابت لك الجنة". وقال عطاء: تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث فإن كانوا مرضى فعودوهم أو مشاغيل فأعينوهم أو كانوا نسوا فذكروهم. وروي: "أن ابن عمر كان يلتفت يميناً وشمالاً بين يدي رسول الله ﷺ فسأله عن ذلك فقال: أحببت رجلاً فأنا أطلبه ولا أراه فقال: إذا أحببت أحداً فسله عن اسمه واسم أبيه وعن منزله فإن كان مريضاً عدته وإن كان مشغولاً أعنته". وفي رواية: وعن اسم جده وعشيرته. وقال الشعبي في الرجل يجالس الرجل فيقول أعرف وجهه ولا أعرف اسمه: تلك معرفة النوكي. وقيل لابن عباس: من أحب الناس إليك? قال: جليسي، وقال: ما اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثاً من غير حاجة له إلي فعلمت ما مكافأته من الدنيا. وقال سعيد بن العاص: لجليسي علي ثلاث: إذا دنا رحبت به، وإذا حدث أقبلت عليه، وإذا جلس أوسعت له. وقد قال تعالى: "رحماء بينهم" إشارة إلى الشفقة والإكرام. ومن تمام الشفقة أن لا ينفرد بطعام لذيذ أو بحضور في مسرة دونه بل يتنغص لفراقه ويستوحش بانفراده عن أخيه.
الحق الثالث
[عدل]في اللسان بالسكوت مرة وبالنطق أخرى
أما السكوت، فهو أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته وحضرته، بل يتجاهل عنه ويسكت عن الرد عليه فيما يتكلم به ولا يماريه ولا يناقشه وأن يسكت عن التجسس والسؤال عن أحواله، وإذا رآه في طريق أو حاجة لم يفاتحه بذكر غرضه من مصدره ومورده ولا يسأله عنه فربما يثقل عليه ذكره أو يحتاج إلى أن يكذب فيه، وليسكت عن أسراره التي بثها إليه ولا يبثها إلى غيره البتة ولا إلى أخص أصدقائه ولا يكشف شيئاً منها ولو بعد القطيعة والوحشة، فإن ذلك من لؤم الطبع وخبث الباطن، وأن يسكت عن القدح في أحبابه وأهله وولده، وأن يسكت عن حكاية قدح غيره فيه، فإن الذي سبك من بلغك. وقال أنس: "كان ﷺ لا يواجه أحداً بشيء يكرهه"، والتأذي يحصل أولاً من المبلغ ثم من القائل، نعم لا ينبغي أن يخفي ما يسمع من الثناء عليه فإن السرور به أولاً يحصل من المبلغ للمدح ثم من القائل، وإخفاء ذلك من الحسد. وبالجملة، فليسكت عن كل كلام يكرهه جملة وتفصيلاً إلا إذا وجب عليه النطق في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ولم يجد رخصة في السكوت فإذا ذاك لا يبالي بكراهته فإن ذلك إحسان إليه في التحقيق وإن كان يظن أنها إساءة في الظاهر.
أما ذكر مساوئه وعيوبه ومساوئ أهله فهو من الغيبة وذلك حرام في حق كل مسلم ويزجرك عنه أمران: أحدهما: أن تطالع أحوال نفسك فإن وجدت فيها شيئاً واحداً مذموماً فهون على نفسك ما تراه من أخيك وقدر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة كما أنك عاجز عما أنت مبتلى به ولا تستثقله يخصلة واحدة مذمومة فأي الرجال المهذب? وكل ما لا تصادفه من نفسك في حق الله فلا تنتظره من أخيك في حق نفسك فليس حقك عليه بأكثر من حق الله عليك.
والأمر الثاني: أنك تعلم أنك لو طلبت منزهاً عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافة ولن تجد من تصاحبه أصلاً فما من أحد من الناس إلا وله محاسن ومساوئ فإذا غلبت المحاسن المساوئ فهو الغاية والمنتهى، فالمؤمن الكريم أبداً يحضر في نفسه محاسن أخيه لينبعث من قلبه التوقير والود والاحترام، وأما المنافق اللئيم فإنه أبداً يلاحظ المساوئ والعيوب. قال ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العثرات. وقال الفضيل: الفتوة العفو عن زلات الإخوان ولذلك قال عليه السلام: "استعيذوا بالله من جار السوء الذي إن رأى خيراً ستره وإن رأى شراً أظهره"، وما من شخص إلا ويمكن تحسين حاله بخصال فيه ويمكن تقبيحه أيضاً. روي أن رجلاً أثنى على رجل عند رسول الله ﷺ فلما كان من الغد ذمه فقال عليه السلام: "أنت بالأمس تثني عليه واليوم تذمه?" فقال: والله لقد صدقت عليه بالأمس وما كذبت عليه اليوم إنه أرضاني بالأمس فقلت أحسن ما عملت فيه وأغضبني اليوم فقلت أقبح ما عملت فيه فقال عليه السلام: "إن من البيان لسحراً"، وكأنه كره ذلك فشبهه بالسحر، ولذلك قال في خبر آخر: "البذاء والبيان شعبتان من النفاق"، وفي الحديث الآخر: "إن الله يكره لكم البيان كل البيان" وكذلك قال الشافعي رحمه الله: ما أحد من المسلمين يطيع الله ولا يعصيه ولا أحد يعصي الله ولا يطيعه. فمن كانت طاعته أغلب من معاصيه فهو عدل وإذا جعل مثل هذا عدلاً في حق الله فبأن تراه عدلاً في حق نفسك ومقتضى أخوتك أولى. وكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساوئه يجب عليك السكوت بقلبك وذلك بترك إساءة الظن فسوء الظن غيبة بالقلب وهو منهي عنه أيضاً، وحده أن لا تحمل فعله على وجه فاسد ما أمكن أن تحمله على وجه حسن. فأما ما انكشف بيقين ومشاهدة فلا يمكنك أن لا تعلمه وعليك أن تحمل ما تشاهد على سهو ونسيان إن أمكن، وهذا الظن ينقسم إلى ما يسمى تفرساً وهو الذي يستند إلى علامة فإن ذلك يحرك الظن تحريكاً ضرورياً لا يقدر على دفعه، وإلى ما من منشؤه سوء اعتقادك فيه حتى يصدر منه فعل له وجهان، فيحملك سوء الاعتقاد فيه على أن تنزله على الوجه الأردإ من غير علامة تخصه به، وذلك جناية عليه بالباطن وذلك حرام في حق كل مؤمن. إذ قال ﷺ: "ن الله قد حرم على المؤمن من المؤمن دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء"، وقال ﷺ: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"، وسوء الظن يدعو إلى التجسس والتحسس، وقد قال ﷺ: "لا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً"، والتجسس في تطلع الأخبار والتحسس بالمراقبة بالعين. فستر العيوب والتجاهل والتغافل عنها شيمة أهل الدين. ويكفيك تنبيهاً على كمال الرتبة في ستر القبيح وإظهار الجميل أن الله تعالى وصف به في الدعاء فقيل: يا من أظهر الجميل وستر القبيح. والمرضي عند الله من تخلق بأخلاقه فإنه ستار العيوب وغفار الذنوب ومتجاوز عن العبيد، فكيف لا تتجاوز أنت عمن هو مثلك أو فوقك وما هو بكل حال عبدك ولا مخلوقك? وقد قال عيسى عليه السلام للحواريين: كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائماً وقد كشف الريح ثوبه عنه? قالوا: نستره ونغطيه، قال: بل تكشفون عورته، قالوا: سبحان الله من يفعل هذا? فقال: أحدكم يسمع بالكلمة في أخيه فيزيد عليها ويشيعها بأعظم منها. واعلم أنه لا يتم إيمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وأقل درجات الأخوة أن يعامل أخاه بما يحب أن يعامله به ولا شك أنه ينتظر منه ستر العورة والسكوت على المساوئ والعيوب، ولو ظهر له منه نقيض ما ينتظره اشتد عليه غيظه وغضبه فما أبعده إذا كان ينتظر منه ما لا يضمره له ولا يعزم عليه لأجله، وويل له في نص كتاب الله تعالى حيث قال: "ويل للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون" وكل من يلتمس من الإنصاف أكثر مما تسمح به نفسه فهو داخل تحت مقتضى هذه الآية. ومنشأ التقصير في ستر العورة أو السعي في كشفها الداء الدفين في الباطن وهو الحقد والحسد، فإن الحقود الحسود يملأ باطنه بالخبث ولكن يحبسه في باطنه ويخفيه ولا يبديه مهما لم يجد له مجالاً وإذا مجد فرصة انحلت الرابطة وارتفع الحياء ويترشح الباطن بخبثه الدفين. ومهما انطوى الباطن على حقد وحسد فالانقطاع أولى، قال بعض الحكماء: ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد، ولا يزيد لطف الحقود إلا وحشة منه، ومن في قلبه سخيمة على مسلم فإيمانه ضعيف وأمره مخطر وقلبه خبيث لا يصلح للقاء الله.
وقد زوى عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه أنه قال: كنت باليمن ولي جار يهودي يخبرني عن التوراة فقدم علي اليهودي من سفر فقلت إن الله قد بعث فينا نبياً فدعانا إلى الإسلام فأسلمنا وقد أنزل علينا كتاباً مصدقاً للتوراة، فقال اليهودي: صدقت ولكنكم لا تستطيعون أن تقوموا بما جاءكم به، إنا نجد نعته ونعت أمته في التوراة: إنه لا يحل لامرئ أن يخرج من عتبة بابه وفي قلبه سخيمة على أخيه المسلم. ومن ذلك أن يسكت عن إفشاء سره الذي استودعه، وله أن ينكره وإن كان كاذباً فليس الصدق واجباً في كل مقام، فإنه كما يجوز للرجل أن يخفي عيوب نفسه وأسراره وإن احتاج إلى الكذب فله أن يفعل ذلك في حق أخيه، فإن أخاه نازل منزلته وهما كشخص واحد لا يختلفان إلا بالبدن، هذه حقيقة الأخوة وكذلك لا يكون بالعمل بين يدي مرائياً وخارجاً عن أعمال السر إلى أعمال العلانية فإن معرفة أخيه بعمله كمعرفته بنفسه من غير فرق، وقد قال عليه السلام: "من ستر عورة أخيه ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة"، وفي خبر آخر: "فكأنما أحيا موءودة"، وقال عليه السلام: "إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة"، وقال: "المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: مجلس يسفك فيه دم حرام، ومجلس يستحل فيه فرج حرام، ومجلس يستحل فيه مال من غير حله"، وقال ﷺ: "إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة ولا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره" .
قيل لبعض الأدباء: كيف حفظك للسر? قال: أنا أقبره. وقد قيل: صدور الأحرار قبور الأسرار. وقيل: إن قلب الأحمق في فيه ولسان العاقل في قلبه، أي لا يستطيع الأحمق إخفاء ما في نفسه فيبديه من حيث لا يدري به. فمن هذا يجب مقاطعة الحمقى والتوقي عن صحبتهم بل عن مشاهدتهم. وقد قيل لآخر: كيف تحفظ السر? قال: أجحد المخبر وأحلف للمستخبر. وقال آخر: استره وأستر أني أستره وعبر عنه ابن المعتز فقال:
وقال آخر وأراد الزيادة عليه:
وأفشى بعضهم سراً له إلى أخيه ثم قال له: حفظت? فقال: بل نسيت. وكان أبو سعيد الثوري يقول: إذا أردت أن تؤاخي رجلاً فأغضبه ثم دس عليه من يسأله عنك وعن أسرارك، فإن قال خيراً وكتم سرك فاصحبه. وقيل لأبي يزيد: من تصحب من الناس? قال: من يعلم منك ما يعلم الله ثم يستر عليك كما يستره الله. وقال ذو النون: لا خير في صحبة من لا يحب أن يراك إلا معصوماً ومن أفشى السر عند الغضب فهو اللئيم لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة كلها. وقد قال بعض الحكماء: لا تصحب من يتغير عليك عند أربع: عند غضبه ورضاه، وعند طمعه وهواه. بل ينبغي أن يكون صدق الأخوة ثابتاً على اختلاف هذه الأحوال ولذلك قيل:
وقال العباس لابنه عبد الله: إني أرى هذا الرجل. يعني عمر رضي الله عنه. يقدمك على الأشياخ فاحفظ عني خمساً: لا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تجرين عليه كذباً، ولا تعصين له أمراً، ولا يطلعن منك على خيانة، فقال الشعبي: كل كلمة من هذه الخمس خير من ألف. ومن ذلك السكوت عن المماراة والمدافعة في كل ما يتكلم به أخوك. قال ابن عباس: لا تمار سفيهاً فيؤذيك ولا حليماً فيقليك. وقد قال ﷺ: "من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة" هذا مع أن تركه مبطلاً واجب، وقد جعل ثواب النفل أعظم لأن السكوت عن الحق أشد على النفس من السكوت على الباطل، وإنما الأجر على قدر النصب. وأشد الأسباب لإثارة نار الحقد بين الإخوان المماراة والمنافسة فإنها عين التدابر والتقاطع، فإن التقاطع يقع أولاً بالآراء ثم بالأقوال ثم بالأبدان. وقال عليه السلام: "لا تدابروا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحرمه ولا يخذله بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم"، وأشد الاحتقار المماراة فإن من رد على غيره كلامه فقد نسبه إلى الجهل والحمق أو إلى الغفلة والسهو عن فهم الشيء على ما هو عليه، وكل ذلك استحقار وإيغار للصدر وإيحاش. وفي حديث أبي أمامة الباهلي قال: خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نتمارى فغضب وقال: "ذروا المراء لقلة خيره وذروا المراء فإن نفعه قليل وإنه يهيج العداوة بين الإخوان"، وقال بعض السلف: من لاحى الإخوان وماراهم قلت مروءته وذهبت كرامته. وقال عبد الله بن الحسن: إياك ومماراة الرجال فإنك لن تعدم مكر حليم أو مفاجأة لئيم. وقال بعض السلف: أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم، وكثرة المماراة توجب التضييع والقطيعة وتورث العداوة. وقد قال الحسن: لا تشتر عداوة رجل بمودة ألف رجل. وعلى الجملة؛ فلا باعث على المماراة إلا إظهار التمييز بمزيد العقل والفضل واحتقار المردود عليه بإظهار جهله، وهذا يشتمل على التكبر والاحتقار والإيذاء والشتم بالحمق والجهل، ولا معنى للمعاداة إلا هذا فكيف تضامنه الأخوة والمصافاة? فقد روى ابن عباس عن رسول الله ﷺ أنه قال: "لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعداً فتخلفه"، وقد قال عليه السلام: "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط وجه وحسن خلق"،والمماراة مضادة لحسن الخلق. وقد انتهى السلف في الحذر عن المماراة والحض على المساعدة إلى حد لم يروا السؤال أصلاً. وقالوا: إذا قلت لأخيك قم فقال إلى أين? فلا تصحبه بل قالوا ينبغي أن يقوم ولا يسأل. وقال أبو سليمان الداراني: كان لي أخ بالعراق فكنت أجيئه في النوائب فأقول: أعطني من مالك شيئاً، فكان يلقي إلي كيسه فآخذ منه ما أريد، فجئته ذات يوم فقلت: أحتاج إلى شيء. فقال: كم تريد? فخرجت حلاوة إخائه من قلبي. وقال آخر: إذا طلبت من أخيك مالاً فقال: ماذا تصنع به? فقد ترك حق الإخاء. واعلم أن قوام الأخوة بالموافقة في الكلام والفعل والشفقة. قال أبو عثمان الحيري: موافقة الإخوان خير من الشفقة عليهم، وهو كما قال.
الحق الرابع
[عدل]على اللسان بالنطق
فإن الأخوة كما تقتضي السكوت عن المكاره تقتضي أيضاً النطق بالمحاب، بل هو أخص بالأخوة لأن من قنع بالسكوت صحب أهل القبور، وإنما تراد الإخوان ليستفاد منهم لا ليتخلص عن أذاهم، والسكوت معناه كف الأذى فعليه أن يتودد إليه بلسانه ويتفقده في أحواله التي يجب أن يتفقد فيها كالسؤال عن عارض إن عرض وإظهار قلبه بسببه واستبطاء العافية عنه، وكذا جملة أحواله التي يكرهها ينبغي أن يظهر بلسانه وأفعاله كراهتها، وجملة أحواله التي يسر بها ينبغي أن يظهر بلسانه مشاركته له في السرور بها. فمعنى الأخوة المساهمة في السراء والضراء، وقد قال عليه السلام:" إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره"، وإنما أمر بالإخبار لأن ذلك يوجب زيادة حب، فإن عرف أنك تحبه أحبك بالطبع لا محالة، فإذا عرفت أنه أيضاً يحبك زاد حبك لا محالة فلا يزال الحب يتزايد من الجانبين ويتضاعف. والتحاب بين المؤمنين مطلوب في الشرع ومحبوب في الدين، ولذلك علم فيه الطريق فقال: "تهادوا تحابوا"، ومن ذلك أن تدعوه بأحب أسمائه إليه في غيابه وحضوره. قال عمر رضي الله عنه: ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته أولاً، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه. ومن ذلك أن تثني عليه بما تعرف من محاسن أحواله عند من يؤثر هو الثناء عنده فإن ذلك من أعظم الأسباب في جلب المحبة، وكذلك الثناء على أولاده وأهله وصنعته وفعله حتى على عقله وخلقه وهيئته وخطه وشعره وتصنيفه وجميع ما يفرح به وذلك من غير كذب وإفراط، ولكن تحسين ما يقبل التحسين لا بد منه وآكد من ذلك أن تبلغه ثناء من أثنى عليه مع إظهار الفرح فإن إخفاء ذلك محض الحسد، ومن ذلك أن تشكره على صنيعه في حقك بل على نيته وإن لم يتم ذلك.
قال علي رضي الله عنه:من لم يحمد أخاه على حسن النية لم يحمده على حسن الصنيعة. وأعظم من ذلك تأثيراً في جلب المحبة الذب عنه في غيبته مهما قصد بسوء أو تعرض لعرضه بكلام صريح أو تعريض فحق الأخوة التشمير في الحماية والنصرة وتبكيت المتعنت وتغليظ القول عليه، والسكوت عن ذلك موغر للصدر ومنفر للقلب وتقصير في حق الأخوة. وإنما شبه رسول الله ﷺ الأخوين باليد تغسل إحداهما الأخرى لينصر أحدهما الآخر وينوب عنه وقد قال رسول الله ﷺ: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يثلمه"، وهذا من الانثلام والخذلان فإن إهماله لتمزيق عرضه كإهماله لتمزيق لحمه. فأخسس بأخ يراك والكلاب تفترسك وتمزق لحومك وهو ساكت لا تحركه الشفقة والحمية للدفع عنك! وتمزيق الأعراض أشد على النفوس من تمزيق اللحوم ولذلك شبهه الله تعالى بأكل لحوم الميتة فقال: "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً" والملك الذي يمثله في المنام ما تطالعه الروح من اللوح المحفوظ بالأمثلة المحسوسة يمثل الغيبة بأكل لحوم الميتة، حتى أن من يرى أنه يأكل لحم ميتة فإنه يغتاب الناس لأن ذلك الملك في تمثيله يراعي المشاركة والمناسبة بين الشيء وبين مثاله في المعنى الذي يجري من المثال مجرى الروح؛ لا في ظاهر الصور. فإذن حماية الأخوة بدفع ذم الأعداء وتعنت المتعنتين واجب في عقد الأخوة. وقد قال مجاهد: لا تذكر أخاك في غيبته إلا كما تحب أن يذكرك في غيبتك، فإذن لك فيه معياران: أحدهما: أن تقدر أن الذي قيل فيه لو قيل فيك وكان أخوك حاضراً ما الذي كنت تحب أن يقوله أخوك فيك? فينبغي أن تعامل المعترض لعرضه به.
والثاني: أن تقدر أنه حاضر من وراء جدار يسمع قولك ويظن أنك لا تعرف حضوره؛ فما كان يتحرك في قلبك من النصرة له بمسمع منه ومرأى? فينبغي أن يكون في مغيبه كذلك فقد قال بعضهم: ما ذكر أخ لي بغيب إلا تصورته جالساً فقلت فيه ما يحب أن يسمعه لو حضر، وقال آخر: ما ذكر أخ لي إلا تصورت نفسي في صورته فقلت فيه مثل ما أحب أن يقال في. وهذا من صدق الإسلام وهو أن لا يرى لأخيه إلا ما يراه لنفسه. وقد نظر أبو الدرداء إلى ثورين يحرثان في فدان فوقف أحدهما يحك جسمه فوقف الآخر؛ فبكى وقال: هكذا الإخوان في الله يعملان لله فإذا وقف أحدهما وافقه الآخر. وبالموافقة يتم الإخلاص ومن لم يكن مخلصاً في إخائه فهو منافق. والإخلاص استواء الغيب والشهادة واللسان والقلب والسر والعلانية والجماعة والخلوة والاختلاف، والتفاوت في شيء من ذلك مماذقة في المودة وهو دخل في الدين ووليجة في طريق المؤمنين، ومن لا يقدر من نفسه على هذا فالانقطاع والعزلة أولى به من المؤاخاة والمصاحبة، فإن حق الصحبة ثقيل لا يطيقه إلا محقق فلا جرم أجره جزيل لا يناله إلا موفق. ولذلك قال عليه السلام: "أبا هر أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً وأحسن مصاحبة صاحبك تكن مؤمناً"، فانظر كيف جعل الإيمان جزاء الصحبة والإسلام جزاء الجوار? فالفرق بين فضل الإيمان وفضل الإسلام على حد الفرق بين المشقة في القيام بحق الجوار والقيام بحق الصحبة. فإن الصحبة تقتضي حقوقاً كثيرة في أحوال متقاربة مترادفة على الدوام والجوار لا يقتضي إلا حقوقاً قريبة في أوقات متباعدة لا تدوم. ومن ذلك التعليم والنصيحة فليس حاجة أخيك إلى العلم بأقل من حاجته إلى المال، فإن كنت غنياً بالعلم فعليك مؤاساته من فضلك وإرشاده إلى كل ما ينفع في الدين والدنيا، فإن علمته وأرشدته ولم يعمل بمقتضى العلم فعليك النصيحة وذلك بأن تذكر آفات ذلك الفعل وفوائد تركه وتخوفه بما يكرهه في الدنيا والآخرة لينزجر عنه وتنبهه على عيوبه وتقبح القبيح في عينه وتحسن الحسن، ولكن ينبغي أن يكون ذلك في سر لا يطلع عليه أحد فما كان على الملأ فهو توبيخ وفضيحة وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة إذ قال ﷺ: "المؤمن مرآة المؤمن". أي يرى منه ما لا يرى من نفسه فيستفيد المرء بأخيه معرفة عيوب نفسه ولو انفرد لم يستفد كما يستفيد بالمرآة الوقوف على عيوب صورته الظاهرة. وقال الشافعي رضي الله عنه: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. وقيل لمسعر: أتحب من يخبرك بعيوبك? فقال: إن نصحني فيما بيني وبينه فنعم وإن قر عني بين الملأ فلا. وقد صدق، فإن النصح على الملأ فضيحة والله تعالى يعاتب المؤمن يوم القيامة تحت كنفه في ظل ستره فيوقفه على ذنوبه سراً، وقد يدفع كتاب عمله مختوماً إلى الملائكة الذين يحفون به إلى الجنة، فإذا قاربوا باب الجنة أعطوه الكتاب مختوماً ليقرأه، وأما أهل المقت فينادون على رؤوس الأشهاد وتستنطق جوارحهم بفضائحهم فيزدادون بذلك خزياً وافتضاحاً ونعوذ بالله من الخزي يوم العرض الأكبر. فالفرق بين التوبيخ والنصيحة بالإسرار والإعلان كما أن الفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء. لسلامة دينك ولما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مدار وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن. قال ذو النون: لا تصحب مع الله إلا بالموافقة، ولا مع الخلق إلا بالمناصحة، ولا مع النفس إلا بالمخالفة،ولا مع الشيطان إلا بالعداوة.
فإن قلت: فإذا كان في النصح ذكر العيوب ففيه إيحاش للقلب فكيف يكون ذلك من حق الأخوة? فاعلم أن الإيحاش: إنما يحصل بذكر عيب يعلمه أخوك من نفسه فأما تنبيهه على ما لا يعلمه فهو عين الشفقة وهو استمالة القلوب، أعني قلوب العقلاء، وأما الحمقى فلا يلتفت إليهم فإن من ينبهك على فعل مذموم تعاطيته أو صفة مذمومة اتصفت بها لتزكي نفسك عنها كان كمن ينبهك على حية أو عقرب تحت ذيلك وقد همت بإهلاكك، فإن كنت تكره ذلك فما أشد حمقك! والصفات الذميمة عقارب وحيات وهي في الآخرة مهلكات فإنها تلدغ القلوب والأرواح وألمها أشد مما يلدغ الظواهر والأجساد وهي مخلوقة من نار الله الموقدة، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يستهدي ذلك من إخوانه ويقول: رحم الله امرأً أهدى إلى أخيه عيوبه، ولذلك قال عمر لسلمان وقد قدم عليه: ما الذي بلغك عني مما تكره? فاستعفى، فألح عليه فقال: بلغني أن لك حلتين تلبس إحداهما بالنهار والأخرى بالليل، وبلغني أنك تجمع بين إدامين على مائدة واحدة، فقال عمر رضي الله عنه: أما هذان فقد كفيتهما فهل بلغك غيرهما?فقال: لا. وكتب حذيفة المرعشي إلى يوسف بن أسباط: بلغني أنك بعت دينك بحبتين: وقفت على صاحب لبن فقلت: بكم هذا? فقال: بسدس، فقلت له: لا... بثمن! فقال: هو لك، وكان يعرفك. اكشف عن رأسك قناع الغافلين وانتبه عن رقدة الموتى، واعلم أن من قرأ القرآن ولم يستغن وآثر الدنيا لم آمن أن يكون بآيات الله من المستهزئين، وقد وصف الله تعالى الكاذبين ببغضهم للناصحين إذ قال: "ولكن لا تحبون الناصحين" وهذا في عيب هو غافل عنه، فأما ما علمت أنه يعلمه من نفسه فإنما هو مقهور عليه من طبعه فلا ينبغي أن يكشف فيه ستره وإن كان يخفيه، وإن كان يظهره فلا بد من التلطف في النصح بالتعريض مرة وبالتصريح أخرى إلى حد لا يؤدي إلى الإيحاش، فإن علمت أن النصح غير مآثر فيه وأنه مضطر من طبعه إلى الإصرار عليه فالسكوت عنه أولى وهذا كله فيما يتعلق بمصالح أخيك في دينه أو دنياه، أما ما يتعلق بتقصيره في حقك فالواجب فيه الاحتمال والعفو والصفح والتعامي عنه، والتعرض لذلك ليس من النصح في شيء، نعم إن كان بحيث يؤدي استمراره عليه إلى القطيعة فالعتاب في السر خير من القطيعة، والتعريض به خير من التصريح، والمكاتبة خير من المشافهة، والاحتمال خير من الكل، إذ ينبغي أن يكون قصدك من أخيك إصلاح نفسك بمراعاتك إياه وقيامك بحقه واحتمالك تقصيره لا الاستعانة به والاسترقاق منه.
قال أبو بكر الكتاني: صحبني رجل وكان على قلبي ثقيلاً فوهبت له يوماً شيئاً على أن يزول ما في قلبي فلم يزل؛فأخذت بيده يوماً إلى البيت وقلت له: ضع رجلك على خدي، فأبى، فقلت: لا بد، ففعل، فزال ذلك من قلبي. وقال أبو علي الرباطي: صحبت عبد الله الرازي وكان يدخل البادية فقال: على أن تكون أنت الأمير أو أنا? فقلت: بل أنت فقال: وعليك الطاعة فقلت: نعم فأخذ مخلاة ووضع فيها الزاد وحملها على ظهره فإذا قلت له أعطني. قال: ألست قلت: أنت الأمير? فعليك الطاعة فأخذنا المطر ليلة فوقف على رأسي إلى الصباح وعليه كساء وأنا جالس يمنع عني المطر فكنت أقول مع نفسي: ليتني مت ولم أقل: أنت الأمير.
الحق الخامس
[عدل]العفو عن الزلات والهفوات
وهفوة الصديق لا تخلو إما أن تكون في دينه بارتكاب معصية أو في حقك بتقصيره في الأخوة. أما ما يكون في الدين من ارتكاب معصية والإصرار عليها فعليك التلطف في نصحه بما يقوم أوده ويجمع شمله ويعيد إلى الصلاح والورع حاله. فإن لم تقدر وبقي مصراً فقد اختلفت طرق الصحابة والتابعين في إدامة حق مودته أو مقاطعته. فذهب أبو ذر رضي الله عنه إلى الانقطاع وقال: إذا انقلب أخوك عما كان عليه فأبغضه من حيث أحببته، ورأى ذلك من مقتضى الحب في الله والبغض في الله. وأما أبو الدرداء وجماعة من الصحابة فذهبوا إلى خلافه؛ فقال أبو الدرداء: إذا تغير أخوك وحال عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى. وقال إبراهيم النخعي: لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب بذنبه فإن يرتكبه اليوم ويتركه غداً. وقال أيضاً: لا تحدثوا الناس بزلة العالم فإن العالم يزل الزلة ثم يتركها. وفي الخبر: "اتقوا زلة العالم ولا تقطعوه وانتظروا فيئته". وفي حديث عمر وقد سأل عن أخ كان آخاه فخرج إلى الشام فسأل عنه بعض من قدم عليه وقال: ما فعل أخي? قال: ذلك أخو الشيطان قال: مه، قال: إنه قارف الكبائر حتى وقع في الخمر. قال: إذا أردت الخروج فآذني فكتب عند خروجه إليه "بسم الله الرحمن الرحيم":"حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب" الآية، ثم عاتبه تحت ذلك وعذله. فلما قرأ الكتاب بكى وقال: صدق الله ونصح لي عمر فتاب ورجع.
وحكي أن أخوين ابتلى أحدهما بهوى فأظهر عليه أخاه وقال: إني قد اعتللت فإن شئت أن لا تعقد على صحبتي لله فافعل، فقال: ما كنت لأحل عقد أخوتك لأجل خطيئتك أبداً، ثم عقد أخوه بينه وبين الله أن لا يأكل ولا يشرب حتى يتحلل من الغم والجوع حتى زال الهوى عن قلب أخيه بعد الأربعين فأخبره بذلك فأكل وشرب بعد أن كاد يتلف هزالاً وضراً.
وكذلك حكي عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة فقيل لأخيه: ألا تقطعه وتهجره، فقال: أحوج ما كان إلي في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده وأتلطف له في المعاتبة وأدعو له بالعود إلى ما كان عليه.
وروي في الإسرائيليات أن أخوين عابدين كانا في جبل نزل أحدهما ليشتري من المصر لحماً بدرهم فرأى بغياً عند اللحام فرمقها وعشقها واجتذبها إلى خلوة وواقعها، ثم أقام عندها ثلاثاً واستحيا أن يرجع إلى أخيه حياء من جنايته. قال: فافتقده أخوه واهتم بشأنه فنزل إلى المدينة فلم يزل يسأل عنه حتى دل عليه فدخل إليه وهو جالس معها فاعتنقه وجعل يقبله ويلتزمه وأنكر الآخر أنه يعرفه قط لفرط استحيائه منه فقال: قم يا أخي فقد علمت شأنك وقصتك وما كنت قط أحب إلي ولا أعز من ساعتك هذه، فلما رأى أن ذلك لم يسقطه من عينه قام فانصرف معه. فهذه طريقة قوم وهي ألطف وأفقه من طريقة أبي ذر رضي الله عنه، وطريقته أحسن وأسلم.
فإن قلت: ولم قلت هذا ألطف وأفقه ومقارف هذه المعصية لا تجوز مؤاخاته ابتداء فتجب مقاطعته انتهاء لأن الحكم إذا ثبت بعلة فالقياس أن يزول بزوالها، وعلة عقد الأخوة التعاون في الدين ولا يستمر ذلك مع مقارفة المعصية? فأقول: أما كونه ألطف فلما فيه من الفق والاستمالة والتعطف المفضي إلى الرجوع والتوبة لاستمرار الحياء عند دوام الصحبة، ومهما قوطع وانقطع طمعه عن الصحبة أصر واستمر. وأما كونه أفقه فمن حيث إن الأخوة عقد ينزل منزلة القرابة فإذا انعقدت تأكد الحق ووجب الوفاء بموجب العقد، ومن الوفاء به أن لا يمهل أيام حاجته وفقره وفقر الدين أشد من فقر المال، وقد أصابته جائحة وألمت به آفة افتقر بسببها في دينه فينبغي أن يراقب ويراعي ولا يهمل، بل لا يزال يتلطف به ليعان على الخلاص من تلك الوقعة التي ألمت به. فالأخوة عدة للنائبات وحوادث الزمان وهذا من أشد النوائب، والفاجر إذا صحب تقياً وهو ينظر إلى خوفه ومداومته فسيرجع على قرب ويستحي من الإصرار بل الكسلان يصطحب الحريص في العمل فيحرص حياء منه. قال جعفر بن سليمان: مهما فترت في العمل نظرت إلى محمد بن واسع وإقباله على الطاعة فيرجع إلي نشاطي في العبادة وفارقني الكسل وعملت عليه أسبوعاً وهذا التحقيق وهو أن الصداقة لحمة كلحمة النسب والقريب لا يجوز أن يهجر بالمعصية، ولذلك قال الله تعالى لنبيه ﷺ في عشيرته: "فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون" ولم يقل إني بريء منكم مراعاة لحق القرابة ولحمة النسب. وإلى هذا أشار أبو الدرداء لما قيل له: ألا تبغض أخاك وقد فعل كذا? فقال: إنما أبغض عمله وإلا فهو أخي وأخوة الدين أوكد من أخوة القرابة. ولذلك قيل لحكيم: أيما احب إليك أخوك أو صديقك? فقال: إنما أحب أخي إذا كان صديقاً لي. وكان الحسن يقول: كم من أخ لم تلده أمك? ولذلك قيل: القرابة تحتاج إلى مودة والمودة لا تحتاج إلى قرابة، وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: مودة يوم صلة ومودة شهر قرابة ومودة سنة رحم مائية من قطعها قطعه الله. فإذن الوفاء بعقد الأخوة إذا سبق انعقادها واجب. وهذا جوابنا عن ابتداء المؤاخاة مع الفاسق فإنه لم يتقدم له حق، فإن تقدمت له قرابة فلا جرم لا ينبغي أن يقاطع بل يجامل. والدليل عليه أن ترك المؤاخاة والصحبة ابتداء ليس مذموماً ولا مكروهاً بل قال قائلون: الانفراد أولى؛ فأما قطع الأخوة عن دوامها فمنهي عنه ومذموم في نفسه ونسبته إلى تركها ابتداء كنسبة الطلاق إلى ترك النكاح، والطلاق أبغض إلى الله تعالى من ترك النكاح، قال ﷺ: "شرار عباد الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة"، وقال بعض السلف في ستر زلات الإخوان: ود الشيطان أن يلقى على أخيكم مثل هذا حتى تهجروه وتقطعوه، فماذا اتقيتم من محبة عدوكم. وهذا لأن التفريق بين الأحباب من محاب الشيطان كما أن مقارفة العصيان من محابه؛ فإذا حصل للشيطان أحد غرضيه فلا ينبغي أن يضاف إليه الثاني، وإلى هذا أشار عليه السلام في الذي شتم الرجل الذي أتى فاحشة إذ قال: "مه" وزبره وقال: "لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم"، فبهذا كله يتبين الفرق بين الدوام والابتداء لأن مخالطة الفساق محذورة، ومفارقة الأحباب والإخوان أيضاً محذورة، وليس من سلم عن معارضة غيره كالذي لم يسلم وفي الابتداء قد سلم فرأينا أن المهاجرة والتباعد هو الأولى في الدوام تعارضاً فكان الوفاء بحق الأخوة أولى هذا كله في زلته في دينه.
أما زلته في حقه بما يوجب إيحاشه فلا خلاف في أن الأولى العفو والاحتمال بل كل ما يحتمل تنزيله على وجه حسن ويتصور تمهيد عذر فيه قريب أو بعيد فهو واجب بحق الأخوة فقد قيل:ينبغي أن تنبسط لزلة أخيك سبعين عذراً فإن لم يقبله قلبك فرد اللوم على نفسك فتقول لقلبك:ما أقساك يعتذر إليك أخوك سبعين عذراً فلا تقبله فأنت المعيب لا أخوك فإن ظهر بحيث لم يقبل التحسين فينبغي أن لا تغضب إن قدرت ولكن ذلك لا يمكن وقد قال الشافعي رحمه الله:من استغضب فلم يغضب فهو حمار ومن استرضى فلم يرضى فهو شيطان فلا تكن حماراً ولا شيطاناً واسترض قلبك بنفسك نيابة عن أخيك واحترز أن تكون شيطاناً إن لم تقبل قال الأحنف:حق الصديق أن تحتمل منه ثلاثاً:ظلم الغضب وظلم الدالة وظلم الهفوة وقال آخر:ما شتمت أحداً قط لأنه إن شتمني كريم فأنا أحق من غفرها له أو لئيم فلا أجعل عرضي له غرضاً ثم تمثل وقال:
وقد قيل:
ومهما اعتذر إليك أخوك كاذباً كان أم صادقاً فاقبل عذره. قال عليه السلام: "من اعتذر إليه أخوه فلم يقبل عذره فعليه مثل إثم صاحب المكس"، وقال عليه السلام: "المؤمن سريع الغضب سريع الرضا"، فلم يصفه بأنه لا يغضب. وكذلك قال الله تعالى: "والكاظمين الغيظ" ولم يقل والفاقدين الغيظ، وهذا لأن العادة لا تنتهي إلى أن يجرح الإنسان فلا يتألم، بل تنتهي إلى أن يصير عليه ويحتمل، وكما أن التألم بالجرح مقتضى طبع البدن فالتألم بأسباب الغضب طبع القلب، ولا يمكن قلعه ولكن يمكن ضبطه وكظمه والعمل بخلاف مقتضاه، فإنه يقتضي التشفي والانتقام والمكافأة، وترك العمل بمقتضاه ممكن، وقد قال الشاعر: ولست بمستبق أخاً لا تـلـمـه على شعث أي الرجال المهذب
قال أبو سليمان الداراني لأحمد بن أبي الحوراني: إذا واخيت أحداً في هذا الزمان فلا تعاتبه على ما تكرهه، فإنك لا تأمن من أن ترى في جوابك ما هو شر من الأول، فجربته فوجدته كذلك. وقال بعضهم: الصبر على الأخ خير من معاتبته، والمعاتبة خير من القطيعة. وينبغي أن لا يبالغ في البغضة عند الوقيعة. قال تعالى: "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتهم منهم مودة" وقال عليه السلام: "أحبب حبيبك هونناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما"، وقال عمر رضي الله عنه: لا يكن حبك كلفاً ولا بغضبك تلفاً، وهو أن تحب تلف صاحبك مع هلاكك.
الحق السادس
[عدل]الدعاء للأخ في حياته وبعد مماته
الدعاء للأخ في حياته وبعد مماته بكل ما يحبه لنفسه ولأهله وكل متعلق به، فتدعو له كما تدعو لنفسك ولا تفرق بين نفسك وبينه، فإن دعاءك له دعاء لنفسك على التحقيق؛ فقد قال ﷺ: "إذا دعا الرجل لأخيه فهو في ظهر الغيب قال الملك: ولك مثل ذلك"، وفي لفظ آخر: يقول الله تعالى: "بك أبداً يا عبدي"، وفي الحديث: "يستجاب للرجل في أخيه ما لا يستجاب له في نفسه"، وفي الحديث "دعوة الرجل لأخيه في ظهر الغيب لا ترد" ، وكان أبو الدرداء يقول: إني لأدعو لسبعين من إخواني في سجودي أسيمهم بأسمائهم. وكان محمد بن يوسف الأصفهاني يقول: وأين مثل الأخ الصالح? اهلك يقتسمون ميراثك ويتنعمون بما خلقت، وهو منفرد بحزنك مهتم بما قدمت وما صرت إليه، يدعو لك في ظلمة الليل وأنت تحت أطباق الثرى، وكان الأخ الصالح يقتدي بالملائكة، إذ جاء في الخبر: "إذا مات العبد قال الناس: ما خلف? وقالت الملائكة: ما قدم?"، يفرحون له بما قدم ويسألون عنه ويشفقون عليه، ويقال: من بلغه موت أخيه فترحم عليه وأستغفر له كتب له كأنه شهد جنازته وصلى عليه. وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: "مثل الميت في قبره مثل الغريق يتعلق بكل شيء ينتظر دعوة من ولد أو أخ أو قريب"، وأنه ليدخل على قبور الأموات من دعاء الأحياء من الأنوار مثل الجبال. وقال بعض السلف: الدعاء للأموات بمنزلة الهدايا للأحياء، فيدخل الملك على الميت ومعه طبق من نور عليه منديل من نور فيقول: هذه هدية لك من أخيك فلان، من عند قريبك فلان، قال: فسيفرح بذلك كما يفرح الحي بالهدية
الحق السابع
[عدل]الوفاء والإخلاص
ومعنى الوفاء: الثبات على الحب وإدامته إلى الموت معه وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه، فإن الحب إنما يراد للآخرة، فإن انقطع قبل الموت حبط العمل وضاع السعي، ولذلك قال عليه السلام في السبعة الذين يظلهم الله في ظله: "ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه"، وقال بعضهم: قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيره في حال الحياة، ولذلك روى أنه ﷺ أكرم عجوزاً دخلت عليه، فقيل له في ذلك، فقال: "إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن كرم العهد من الدين"، فمن الوفاء للأخ مراعاة جميع أصدقائه وأقاربه والمتعلقين به، ومراعاتهم أوقع في قلب الصديق من مراعاة الأخ في نفسه، فإن فرحه بتفقد من يتعلق به أكثر، إذ لا يدل على قوة الشفقة والحب إلا تعديهما من المحبوب إلى كل من يتعلق به، حتى الكلب الذي على باب داره ينبغي أن يميز في القلب عن سائر الكلاب، ومهما انقطع الوفاء بدوام المحبة شمت به الشيطان، فإنه لا يحسد متعاونين على بر كما يحسد متواخيين في الله ومتحبين فيه فإنه يجهد نفسه لإفساد ما بينهما، قال الله تعالى: "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم" وقال مخبراً عن يوسف: "من بعد إن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي" ويقال: ما تواخى اثنان في الله فتفرق بينهما إلا بذنب يرتكبه أحدهما. وكان بشر يقول: إذا قصر العبد في طاعة الله سلبه الله من يؤنسه. وذلك لأن الإخوان مسلاة للهموم وعون على الدين. ولذلك قال ابن المبارك: ألذ الأشياء مجالسة الإخوان والانقلاب إلى كفاية، والمودة الدائمة هي التي تكون في الله، وما يكون لغرض يزول بزوال ذلك الغرض. ومن ثمرات المودة في الله أن لا تكون مع الحسد في دين ودنيا وكيف يحسده وكل ما هو لأخيه فإليه ترجع فائدته? وبه وصف الله تعالى المحبين في الله فقال: "ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم" ووجود الحاجة هو الحسد. ومن الوفاء أن لا يتغير حاله في التواضع مع أخيه وإن ارتفع شأنه واتسعت ولايته وعظم جاهه، فالترفع على الإخوان بما يتجدد من الأحوال لؤم. قال الشاعر:
وأوصى بعض السلف ابنه فقال: يا بني لا يصحب من الناس إلا من إذا افتقرت إليه قرب منك، وإن استغنيت عنه لم يطمع فيك، وإن علت مرتبته لم يرتفع عليك. وقال بعض الحكماء: إذا ولي أخوك ولاية فثبت على نصف مودته لك فهو كثير. وحكى الربيع: أن الشافعي رحمه الله آخى رجلاً ببغداد ثم إن أخاه ولى السيبين فتغير له عما كان عليه، فكتب إليه الشافعي بهذه الأبيات:
واعلم أنه ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين بل من الوفاء المخالفة، فقد كان الشافعي رضي الله عنه آخى محمد بن عبد الحكم وكان يقربه ويقبل عليه ويقول: ما يقيمني بمصر غيره؛ فاعتل محمد فعاده الشافعي رحمه الله تعالى فقال:
وظن الناس لصدق مودتهما أنه يفوض أمر حلقته إليه بعد وفاته، فقيل للشافعي في علته التي مات فيها رضي الله تعالى عنه: إلى من نجلس بعدك يا أبا عبد الله? فاستشرف له محمد بن عبد الحكم وهو عند رأسه ليومئ إليه؛ فقال الشافعي: سبحان الله أيشك في هذا أبو يعقوب البويطي? فانكسر لها محمد ومال أصحابه إلى البويطي مع أن محمداً كان قد حمل عنه مذهبه كله، لكن كان البويطي أفضل وأقرب إلى الزهد والورع. فنصح الشافعي لله وللمسلمين وترك المداهنة ولم يؤثر رضا الخلق على رضا الله تعالى. فلما توفي انقلب محمد بن عبد الحكم عن مذهبه ورجع إلى مذهب أبيه ودرس كتب مالك رحمه الله، وهو من كبار أصحاب مالك رحمه الله. وآثر البويطي الزهد والخمول ولم يعجبه الجمع والجلوس في الحلقة واشتغل بالعبادة وصنف "كتاب الأم" الذي ينسب الآن إلى الربيع بن سليمان ويغرف بع، وإنما صنفه البويطي ولكن لم يذكر نفسه فيه ولم ينسبه إلى نفسه، فزاد الربيع فيه وتصرف وأظهره. والمقصود أن الوفاء بالمحبة من تمامها النصح لله. قال الأحنف: الإخاء جوهرة رقيقة إن لم تحرسها كانت معرضة للآفات فاحرسها بالكظم حتى تعتذر إلى من ظلمك وبالرضا حتى لا تستكثر من نفسك الفضل ولا من أخيك التقصير. ومن آثار الصدق والإخلاص وتمام الوفاء أن تكون شديد الجزع من المفارقة، نفور الطبع عن أسبابها كما قيل:
وأنشد ابن عيينة هذا البيت وقال: لقد عهدت أقواماً فارقتهم منذ ثلاثين سنة ما يخيل إلي أن حسرتهم ذهبت من قلبي. ومن الوفاء أن لا يسمع بلاغات الناس على صديقه لا سيما من يظهر أولاً أنه محب لصديقه. كيلا يتهم. ثم يلقي الكلام عرضاً وينقل عن الصديق ما يوغر القلب، فذلك من دقائق الحيل في التضريب ومن لم يحترز منه لم تدم مودته أصلاً. قال واحد لحكيم: قد جئتك خاطباً لمودتك، قال: إن جعلت مهرها ثلاثاً فعلت، قال: وما هي? قال: لا تسمع علي بلاغة ولا تخالفني في أمر ولا توطئني عشوة. ومن الوفاء أن لا يصادق عدو صديقه. قال الشافعي رحمه الله: إذا أطاع صديقك عدوك فقد اشتركا في عداوتك.
الحق الثامن
[عدل]التخفيف وترك التكلف والتكليف
وذلك بأن لا يكلف أخاه ما يشق عليه بل بروح سره من مهماته وحاجاته ويرفهه عن أن يحمله شيئاً من أعبائه، فلا يستمد منه من جاه ومال ولا يكلفه التواضع له والتفقد لأحواله والقيام بحقوقه، بل لا يقصد بمحبته إلا الله تعالى تبركاً بدعائه واستئناساً بلقائه به على دينه وتقرباً إلى الله تعالى بالقيام بحقوقه وتحمل مؤنته. قال بعضهم: من اقتضى من إخوانه ما لا يقضونه فقد ظلمهم، ومن اقتضى منهم مثل ما يقتضونه فقد أتعبهم، ومن لم يقتض فهو المتفضل عليهم. وقال بعض الحكماء: من جعل نفسه عند الإخوان فوق قدره أثم وأثموا، ومن جعل نفسه في قدره تعب وأتعبهم، ومن جعلها دون قدره سلم وسلموا وتمام التخفيف بطي بساط التكلف حتى لا يستحق منه فيما لا يستحي من نفسه. وقال الجنيد ما تواخى اثنان في الله فاستوحش أحدهما من صاحبه أو احتشم إلا لعلة في أحدهما. وقال علي عليه السلام: شر الأصدقاء من تكلف لك ومن أحوجك إلى مداراة وألجأك إلى اعتذار. وقال الفضيل: إنما تقاطع الناس بالتكلف يزور أحدهم أخاه فيتكلف له فيقطعه ذلك عنه. وقالت عائشة رضي الله عنها: المؤمن أخو المؤمن لا يغتنمه ولا يحتشمه. وقال الجنيد: صحبت أربع طبقات من هذه الطائفة. كل طبقة ثلاثون رجلاً. حارثاً المحاسبي وطبقته، وحسناً المسوحي وطبقته، وسرياً السقطي وطبقته، وابن الكريبي وطبقته، فما تواخى اثنان في الله واحتشم أحدهما من صاحبه أو استوحش إلا لعلة في أحدهما. وقيل لبعضهم: من نصحب? قال: من يرفع عنك ثقل التكلف وتسقط بينك وبينه مؤنة التحفظ. وكان جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما يقول: أثقل أخواني علي من يتكلف لي وأتحفظ منه، وأخفهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي. وقال بعض الصوفية: لا تعاشر من الناس إلا من لا يزيده عنده ببر ولا تنقص عنده بإثم يكون ذلك لك وعليك وأنت عنده سواء، وإنما قال هذا لأن به يتخلص عن التكلف والتحفظ. وإلا فالطبع يحمله على أن يتحفظ منه إذا علم أن ذلك ينقصه عنده. وقال بعضهم: كن مع أبناء الدنيا بالأدب ومع أبناء الآخرة بالعلم ومع العارفين كيف شئت، وقال آخر: لا تصحب إلا من يتوب عنك إذا أذنبت ويعتذر عليك إذا أسأت ويحمل عنك مؤنة نفسك ويكفيك مؤنة نفسه. وقائل هذا قد ضيق طريق الأخوة على الناس وليس الأمر كذلك بل ينبغي أن يؤاخي كل متدين عاقل ويعزم على أن يقوم بهذه الشرائط ولا يكلف غيره هذه الشروط حتى تكثر إخوانه، إذ به يكون مؤاخياً في الله وإلا كانت مؤاخاته لحظوظ نفسه فقط. ولذلك قال رجل للجنيد: قد عز الإخوان في هذا الزمان أين أخ لي في الله? فأعرض الجنيد حتى أعاده ثلاثاً، فلما أكثر قال له الجنيد: إن أردت أخاً يكفيك مؤنتك ويتحمل أذاك فهذا لعمري قليل، وإن أردت أخاً في الله تحمل أنت مؤنته وتصبر على أذاه فعندي جماعة أعرفهم لك. فسكت الرجل.
واعلم أن الناس ثلاثة: رجل تنتفع بصحبته، ورجل تقدر على أن تنفعه ولا تتضرر به ولكن لا تنتفع به. ورجل لا تقدر أيضاً على أن تنفعه وتتضرر به وهو الأحمق أو السيء الخلق فهذا الثالث ينبغي أن تتجنبه، فأما الثاني فلا تجتنبه لأنك تنتفع في الآخرة بشفاعته وبدعائه وبثوابك على القيام به، وقد أوحى الله تعالى إلى موسى عله السلام: إن أطعتني فما أكثر إخوانك أي إن واسيتهم واحتملت منهم ولم تحسدهم. وقد قال بعضهم: صحبت الناس خمسين سنة فما وقع بيني وبينهم خلاف فإني كنت معهم على نفسي ومن كانت هذه شيمته كثر إخوانه. ومن التخفيف وترك التكلف أن لا يعترض في نوافل العبادات. كان طائفة من الصوفية يصطحبون على شرط المساواة بين أربع معان: إن أكل أحدهم النهار كله لم يقل له صاحبه صم، وإن صام الدهر كله لم يقل له أفطر، وإن نام الليل كله لم يقل له قم?وإن صلى الليل كله لم يقل له: نم، وتستوي حالاته عنده بلا مزيد ولا نقصان لأن ذلك إن تفاوت حرك الطبع إلى الرياء والتحفظ لا محالة. وقد قيل: من سقطت كلفته دامت ألفته، من خفت مؤنته دامت مودته. وقال بعض الصحابة: إن الله لعن المتكلفين وقال ﷺ: "أنا والأتقياء من أمتي براء من التكلف"، وقال بعضهم: إذا عمل الرجل في بيت أخيه أربع خصال فقد تم أنسه به إذا أكل عنده، ودخل الخلاء، وصلى. ونام. فذكر ذلك لبعض المشايخ فقال: بقيت خامسة وهو أن يحضر مع الأهل في بيت أخيه ويجامعها، لأن البيت يتخذ للاستخفاء في الأمور الخمس،وإلا فالمساجد أروح لقلوب المتعبدين، فإذا فعل هذه الخمس فقد تم الإخاء وارتفعت الحشمة وتأكد الانبساط. وقول العرب في تسليمهم يشير إلى ذلك، إذ يقول أدهم لصاحبه: مرحباً وأهلاً وسهلاً، أي لك عندنا مرحب وهو السعة في القلب والمكان، ولك عندنا أهل تأنس بهم بلا وحشة لك منا، ولك عندنا سهولة في ذلك كله، أي لا يشتد علينا شيء مما تريد. ولا يتم التخفيف وترك التكلف إلا بأن يرى نفسه دون إخوانه ويحسن الظن بهم ويسيء الظن بنفسه فعند ذلك يكون هو خيراً منهم، وقال أبو معاوية الأسود: إخواني كلهم خير مني، قيل وكيف ذلك? قال: كلهم يرى لي الفضل عليه ومن فضلني على نفسه فهو خير مني، وقد قال ﷺ: "المرء على دين خليله ولا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له"، فهذه أقل الدرجات وهو النظر بعين المساواة والكمال في رؤية الفضل للأخ. ولذلك قال سفيان: إذا قيل لك يا شر الناس فغضبت فأنت شر الناس أي ينبغي أن تكون معتقداً ذلك في نفسك أبداً. وسيأتي وجه ذلك في كتاب الكبر والعجب. وقد قيل في معنى التواضع ورؤية الفضل للإخوان أبيات:
وقال آخر:
ومهما رأى الفضل لنفسه فقد احتقر أخاه وهذا في عموم المسلمين مذموم. قال ﷺ: "بحسب المؤمن من الشر أن يحقر أخاه المسلم"، ومن تتمة الانبساط وترك التكلف أن يشاور إخوانه في كل ما يقصده، ويقبل إشاراتهم، فقد قال تعالى: "وشاورهم في الأمر" وينبغي أم لا يخفي عنهم شيئاً من أسراره كما روي أن يعقوب ابن أخي معروف قال: جاء أسود بن سالم إلى عمي معروف وكان مؤاخياً له فقال: إن بشر بن الحارث يحب مؤاخاتك وهو يستحي أن يشافهك بذلك، وقد أرسلني إليك يسألك أن تعتقد له فيما بينك وبينه أخوة يحتسبها ويعتد بها إلا أنه يشترط فيها شروطاً: لا يحب أن يشتهر بذلك ولا يكون بينك وبينه مزاورة ولا ملاقاة فإنه يكره كثرة الالتقاء، فقال معروف: أما أنا لو آخيت أحداً لم أحب مفارقته ليلاً ولا نهاراً ولزرته في كل وقت وآثرته على نفسي في كل حال، ثم ذكر من فضل الأخوة والحب في الله أحاديث كثيرة، ثم قال فيها. وقد آخى رسول الله ﷺ علياً فشاركه في العلم وقاسمه في البدن وأنكحه أفضل بناته وأحبهن إليه وخصه بذلك لمؤاخاته وأنا أشهدك أني قد عقدت له أخوة بيني وبينه وعقدت إخاءه في الله لرسالتك ولمسألته على أن لا يزورني إن كره ذلك ولكني أزوره متى أحببت، ومره أن يلقاني في مواضع نلتقي بها، ومره أن لا يخفي علي شيئاً من شأنه وأن يطلعني على جميع أحواله، فأخبر ابن سالم بشراً بذلك فرضي وسر به. فهذا جامع حقوق الصحبة وقد أجملناه مرة وفصلناه أخرى، ولا يتم ذلك إلا بأن تكون على نفسك للإخوان ولا تكون لنفسك عليهم وأن تزل نفسك منزلة الخادم لهم فتقيد بحقوقهم جميع جوارحك.
أما البصر؛ فبأن تنظر إليهم نظر مودة يعرفونها منك، وتنظر إلى محاسنهم وتتعامى عن عيوبهم ولا تصرف بصرك عنهم في وقت إقبالهم عليك وكلامهم معك. روي أنه ﷺ كان يعطي كل من جلس إليه نصيباً من وجهه وما استصغاه أحد إلا ظن أنه أكرم الناس عليه حتى كان مجلسه وسمعه وحديثه ولطيف مسألته وتوجهه للجالس إليه وكان مجلسه مجلس حياء وتواضع وأمانة، وكان عليه السلام أكثر الناس تبسماً وضحكاً في وجوه أصحابه وتعجباً مما يحدثونه به، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم اقتداء منهم بفعله وتوقيراً له عليه السلام.
وأما السمع، فبأن تسمع كلامه متلذذاً بسماعه ومصدقاً به ومظهراً للاستبشار به ولا تقطع حديثهم عليهم بمرادة ولا منازعة ومداخلة واعتراض فإن أرهقك عارض اعتذرت إليهم وتحرس سمعك عن سماع ما يكرهون.
وأما اللسان فقد ذكرنا حقوقه فإن القول فيه يطول ومن ذلك أن لا يرفع صوته عليهم ولا يخاطبهم إلا بما يفقهون.
وأما اليدان؛ فأن لا يقبضهما عن معاونتهم في كل ما يتعاطى باليد.
وأما الرجلان، فأن يمشي بهما وراءهم مشي الأتباع لا مشي المتبوعين ولا يتقدمهم ما يقدمونه ولا يقرب منهم إلا بقدر ما يقربونه، ويقوم لهم إذا أقبلوا ولا يقعد إلا بقعودهم ويقعد متواضعاً حيث يقعد. ومهما تم الاتحاد خف حمله من هذه الحقوق مثل القيام والاعتذار والثناء فإنها من حقوق الصحبة، وفي ضمنها نوع من الأجنبية والتكلف، فإذا تم الاتحاد انطوى بساط التكلف بالكلية فلا يسلك به إلا مسلك نفسه لأن هذه الآداب الظاهرة عنوان آداب الباطن وصفاء القلب. ومهما صفت القلوب استغنى عن تكلف إظهار ما فيها، ومن كان نظره إلى صحبة الخلق فتارة يعوج وتارة يستقيم، ومن كان نظره إلى الخالق لزم الاستقامة ظاهراً وباطناً وزين باطنه بالحب لله ولخلقه وزين ظاهره بالعبادة لله والخدمة لعباده فإنها أعلى أنواع الخدمة لله إذ لا وصول إليها إلا بحسن الخلق، ويدرك العبد بحسن خلقه درجة القائم الصائم وزيادة.
خاتمة لهذا الكتاب
[عدل]نذكر فيها جملة آداب العشرة والمجالسة مع أصناف الخلق ملتقطة من كلام بعض الحكماء:
إن أردت حسن العشرة فالق صديقك وعدوك بوجه الرضا من غير ذلة لهم ولا هيبة منهم، وتوقير من غير كبر، وتواضع من غير مذلة. وكن في جميع أمورك في أوسطها فكلا طرفي قصد الأمور ذميم. ولا تنظر في عطفيك، ولا تكثر الالتفات، ولا تقف على الجماعات، وإذا جلست فلا تستوفز وتحفظ من تشبيك أصابعك والعبث بلحيتك وخاتمك وتخليل أسنانك وإدخال إصبعك في أنفك وكثرة بصاقك وتنخمك وطرد الذباب من وجهك وكثرة التمطي والتثاؤب في وجوه الناس وفي الصلاة وغيرها، وليكن مجلسك هادئاً وحديثك منظوماً مرتباً واصغ إلى الكلام الحسن ممن حدثك من غير إظهار تعجب مفرط ولا تسأله إعادته، واسكت عن المضاحك والحكايات ولا تحدث عن إعجابك بولدك ولا جاريتك ولا شعرك ولا تصنيفك وسائر ما يخصك، ولا تتصنع تصنع المرأة في التزين ولا تتبذل تبذل العبد وتوق كثرة الكحل والإسراف في الدهن، ولا تلح في الحاجات ولا تشجع أحداً على الظلم ولا تعلم أهلك وولدك فضلاً عن غيرهم مقدار مالك فإنهم إن رأوه قليلاً هنت عندهم وإن كان كثيراً لم تبلغ قط رضاهم، وخوفهم من غير عنف ولن لهم من غير ضعف ولا تهازل أمتك ولا عبدك فيسقط وقارك، وإذا خاصمت فتوقر وتحفظ من جهلك وتجنب عجلتك وتفكر في حجتك ولا تكثر الإشارة بيديك ولا تكثر الالتفات إلى من وراءك ولا تجث على ركبتيك، وإذا هدأ غيظك فتكلم وإن قربك سلطان فكن منه على مثل حد السنان فإن استرسل إليك فلا تأمن انقلابه عليك وارفق به رفقك بالصبي وكلمه بما يشتهيه ما لم يكن معصية، ولا يحملنك لطفه بك أن تدخل بينه وبين أهله وولده وحشمه وإن كنت لذلك مستحقاً عنده فإن سقطة الداخل بين الملك وبين أهله سقطة لا تنعش وزلة لا تقال، وإياك وصديق العافية فإنه أعدى الأعداء ولا تجعل مالك أكرم من عرضك، وإذا دخلت مجلساً فالأدب فيه البداية بالتسليم وترك التخطي لمن سبق والجلوس حيث اتسع وحيث يكون أقرب إلى التواضع، وأن تحيي بالسلام من قرب منك عند الجلوس.
ولا تجلس على الطريق، فإن جلست فأدبه غض البصر ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وعون الضعيف وإرشاد الضال ورد السلام وإعطاء السائل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والارتياد لموضع البصاق، ولا تبصق في جهة القبلة ولا عن يمينك ولكن عن يسارك وتحت قدمك اليسرى.
ولا تجالس الملوك، فإن فعلت فأدبه ترك الغيبة ومجانبة الكذب وصيانة السر وقلة الحوائج وتهذيب الألفاظ والإعراب في الخطاب، والمذاكرة بأخلاق الملوك وقلة المداعبة وكثرة الحذر منهم. وإن ظهرت لك المودة وإن لا تتجشأ بحضرتهم، ولا تتخلل بعد الأكل عنده، وعلى الملك أن يحتمل كل شيء إلا إفشاء السر والقدح في الملك والتعرض للحرم.
ولا تجالس العامة، فإن فعلت فأدبه ترك الخوض في حديثهم وقلة الإصغاء إلى أراجيفهم والتغافل عما يجري من سوء ألفاظهم وقلة اللقاء لهم مع الحاجة إليهم. وإياك أن تمازح لبيباً أو غير لبيب فإن اللبيب يحقد عليك والسفيه يجترئ عليك لأن المزاح يخرق الهيبة ويسقط ماء الوجه ويعقب الحقد ويذهب بحلاوة الود ويشين فقه الفقيه ويجرئ السفيه ويسقط المنزلة عند الحكيم ويمقته المتقون، وهو يميت القلب ويباعد عن الرب تعالى ويكسب الغفلة ويورث الذلة وبه تظلم السرائر وتموت الخواطر وبه تكثر العيوب وتبين الذنوب. وقد قيل: لا يكون المزاح إلا من سخف أو بطر. ومن بلي في مجلس بمزاح أو لغط فليذكر الله عند قيامه. قال النبي ﷺ: "من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك".