إحياء علوم الدين/كتاب آداب الألفة والأخوة والصحبة والمعاشرة/الباب الأول
فضيلة الألفة والأخوة
اعلم أن الألفة ثمرة حسن الخلق، والتفرق ثمرة سوء الخلق. فحسن الخلق يوجب التحاب والتآلف والتوافق وسوء الخلق يثمر التباغض والتحاسد والتدابر، ومهما كان المثمر محموداً كانت الثمرة محمودة. وحسن الخلق لا تخفى في الدين فضيلته وهو الذي مدح الله سبحانه به نبيه عليه السلام إذ قال: "وإنك لعلى خلق عظيم" وقال النبي ﷺ: "أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق"، وقال أسامة بن شريك: قلنا يا رسول الله: ما خير ما أعطي الإنسان? فقال: "خلق حسن" وقال ﷺ: "بعثت لأتمم محاسن الأخلاق"،وقال ﷺ: "أثقل ما يوضع في الميزان خلق حسن" وقال ﷺ: "ما حسن الله خلق امرئ وخلقه فيطعمه النار" وقال ﷺ: "يا أبا هريرة عليك بحسن الخلق"، قال أبو هريرة رضي الله عنه: وما حسن الخلق يا رسول الله? قال: "تصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك"، ولا يخفى أن ثمرة الخلق الحسن الألفة وانقطاع الوحشة ومهما طاب المثمر طابت الثمرة، وكيف وقد ورد في الثناء على نفس الألفة سيما إذا كانت الرابطة هي التقوى والدين وحب الله من الآيات والأخبار والآثار ما فيه كفاية ومقنع، قال الله تعالى مظهراً عظيم منته على الخلق بنعمة الألفة: "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم" وقال: "فأصبحتم بنعمته إخواناً" أي بالألفة، ثم ذم التفرقة وزجر عنها فقال عز من قائل: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"إلى "لعلكم تهتدون" وقال ﷺ: "إن أقربكم مني مجلساً أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون" وقال ﷺ: "المؤمن إلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف" وقال ﷺ في الثناء على الأخوة في الدين: "من أراد الله به خيراً رزقه خليلاً صالحاً إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه"، وقال ﷺ: "مثل الأخوين إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى وما التقى مؤمنان قط إلا أفاد الله أحدهما من صاحبه خيراً" وقال عليه السلام في الترغيب في الأخوة في الله: "من آخا أخاً في الله رفعه الله درجة في الجنة لا ينالها بشيء من عمله"، وقال أبو إدريس الخولاني لمعاذ:إني أحبك في الله، فقال له: أبشر ثم أبشر فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ينصب لطائفة من الناس كراسي حول العرش يوم القيامة، وجوههم كالقمر ليلة البدر، يفزع الناس وهم لا يفزعون ويخاف الناس وهم لا يخافون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" فقيل: من هؤلاء يا رسول الله? فقال: "هم المتحابون في الله تعالى"، ورواه أبو هريرة رضي الله عنه وقال فيه: "إن حول العرش منابر من نور عليها لباسهم نور ووجوههم نور ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء"،فقالوا: يا رسول الله صفهم لنا، فقال: "هم المتحابون في الله والمتجالسون في الله والمتزاورون في الله"، وقال ﷺ: "ما تحاب اثنان في الله إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حباً لصاحبه"، ويقال: إن الأخوين في الله إذا كان أحدهما أعلى مقاماً من الآخر رفع الآخر معه إلى مقامه وإنه يلتحق به كما تلتحق الذرية بالأبوين، والأهل بعضهم ببعض لأن الأخوة إذا اكتسبت في الله لم تكن دون أخوة الولادة. قال عز وجل: "ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء" وقال ﷺ: "إن الله تعالى يقول: حقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي وحقت محبتي للذين يتحابون من أجلي وحقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي وحقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي" وقال ﷺ: "إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي". وقال ﷺ: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال: إني أخاف الله تعالى، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"، وقال ﷺ: "ما زار رجل رجلاً في الله شوقاً إليه ورغبة في لقائه إلا ناداه ملك من خلفه طبت وطاب ممشاك وطابت لك الجنة". وقال ﷺ: "إن رجلاً زار أخاً له في الله، فأرصد الله له ملكاً فقال: أين تريد? قال: أريد أن أزور أخي فلاناً، فقال: لحاجة لك عنده? قال: لا، قال: لقرابة بينك وبينه? قال: لا، قال: فبنعمة لك عنده? قال:لا، قال: فبم? قال: أحبه في الله، قال: فإن الله أرسلني إليك يخبرك بأنه يحبك لحبك إياه وقد أوجب لك الجنة، وقال ﷺ: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله"، فلهذا يجب أن يكون للرجل أعداء يبغضهم في الله كما يكون له أصدقاء وإخوان يحبهم في الله. ويروى أن الله تعالى أوحى إلى نبي من الأنبياء: أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت الراحة وأما انقطاعك إلي فقد تعززت بي ولكن هل عاديت لي عدواً أو هل واليت في ولياً? وقال ﷺ: "اللهم لا تجعل لفاجر علي منة فترزقه مني محبة" ويروى أن الله تعالى أوحى إلى عيسى عليه السلام: "لو أنك عبدتني بعبادة أهل السموات والأرض وحب في الله ليس وبغض في الله ليس ما أغنى عنك ذلك شيئاً"، وقال عيسى عليه السلام: "تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي وتقربوا إلى الله بالتباعد منهم والتمسوا رضا الله بسخطهم" قالوا: يا روح الله فمن نجالس? قال: جالسوا من تذكركم الله رؤيته ومن يزيد في عملكم كلامه ومن يرعبكم في الآخرة عمله. وروي في الأخبار السالفة أن الله عز وجل أوحى إلى موسى عليه السلام: يا ابن عمران كن يقظاناً وارتد لنفسك إخواناً وكل خدن وصاحب لا يؤازرك على مسرتي فهو لك عدو، وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام فقال: يا داود ما لي أراك منتبذاً وحيداً? قال:إلهي قليت الخلق من أجلك، فقال: يا داود كن يقظاناً وارتد لنفسك أخداناً وكل خدن لا يوافقك على مسرتي فلا تصاحبه فإنه لك عدو يقسي قلبك ويباعدك مني. وفي أخبار داود عليه السلام أنه قال: يا رب كيف لي أن يحبني الناس كلهم وأسلم فيما بيني وبينك? قال: خالق الناس بأخلاقهم وأحسن فيما بيني وبينك. وفي بعضها: خالق أهل الدنيا بأخلاق الدنيا وخالق أهل الآخرة بأخلاق الآخرة. وقال النبي ﷺ: "إن أحبكم إلى الله الذين يألفون ويؤلفون وإن أبغضكم إلى الله المشاؤون بالنميمة الفرقون بين الإخوان". وقال ﷺ: "إن لله ملكاً نصفه من النار ونصفه من الثلج يقول: اللهم كما ألفت بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك الصالحين" وقال أيضاً: "ما أحدث عبد أخاً في الله إلا أحدث الله له درجة في الجنة"، وقال ﷺ: "المتحابون في الله على عمود من ياقوتة حمراء في رأس العمود سبعون ألف غرفة يشرفون على أهل الجنة يضيء حسنهم لأهل الجنة كما تضيء الشمس لأهل الدنيا فيقول أهل الجنة: انطلقوا بنا ننظر إلى المتحابين في الله فيضيء حسنهم لأهل الجنة كما تضيء الشمس، عليهم ثياب سندس خضر مكتوب على جباههم: المتحابون في الله".
الآثار: قال علي رضي الله عنه: عليكم بالإخوان فإنهم عدة في الدنيا والآخرة ألا تسمع إلى قول أهل النار "فما لنا من شافعين. ولا صديق حميم" وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: والله لو صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت مالي غلقاً غلقاً في سبيل الله أموت يوم أموت وليس في قلبي حب لأهل طاعة الله وبغض لأهل معصية الله ما نفعني ذلك شيئاً. وقال ابن السماك عند موته: اللهم إنك تعلم أني إذا كنت أعصيك كنت أحب من يعطيك فاجعل ذلك قربة لي إليك. وقال الحسن. على ضده. يا ابن آدم لا يغرنك قول من يقول المرء مع من أحب فإنك لن تلحق الأبرار إلا بأعمالهم فإن اليهود والنصارى يحبون أنبياءهم وليسوا معهم. وهذه إشارة إلى أن مجرد ذلك من غير موافقة في بعض الأعمال أو كلها لا ينفع، وقال الفضيل في بعض كلامه: هاه تريد أن تسكن الفردوس وتجاور الرحمن في داره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين? بأي عمل عملته? بأي شهوة تركتها? بأي غيظ كظمته? بأي رحم قاطع وصلتها? بأي زلة لأخيك غفرتها? بأي بعيد قاربته في الله? ويروى أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: هل عملت لي عملاً قط? فقال: إلهي إني صليت لك وصمت وتصدقت وزكيت، فقال: إن الصلاة لك برهان، والصوم جنة، والصدقة ظل، والزكاة نور، فأي عمل عملت لي? قال موسى: إلهي دلني عل عمل هو لك? قال: يا موسى هل واليت لي ولياً قط? وهل عاديت في عدواً قط? فعلم موسى أن أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لو أن رجلاً قام بين الركن والمقام يعبد الله سبعين سنة لبعثه الله يوم القيامة مع من يحب. وقال الحسن رضي الله عنه: مصارمة الفاسق قربان إلى الله، وقال رجل لمحمد بن واسع: إني لأحبك في الله، فقال: أحبك الذي أحببتني له. ثم حول وجهه وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أحب فيك وأنت لي مبغض. ودخل رجل على داوود الطائي فقال له: ما حاجتك? فقال: زيارتك، فقال: أما أنت فقد عملت خيراً حين زرت، ولكن انظر ماذا ينزل بي أنا إذا قيل لي: من أنت فتزار? أمن الزهاد أنت? لا والله، أمن العباد أنت? لا والله، أمن الصالحين أنت? لا والله، ثم أقبل يوبخ نفسه ويقول: كنت في الشبيبة فاسقاً فلما شخت صرت مرائياً والله للمرائي شر من الفاسق، وقال عمر رضي الله عنه: إذا أصاب أحدكم وداً من أخيه فليتمسك به فقلما يصيب ذلك. وقال مجاهد: المتحابون في الله إذا التقوا فكشر بعضهم إلى بعض تتحات عنهم الخطايا لما يتحات ورق الشجر في الشتاء إذا يبس. وقال الفضيل: نظر الرجل إلى وجه أخيه على المودة والرحمة عبادة.
بيان معنى الأخوة في الله
وتمييزها من الأخوة في الدنيا
اعلم أن الحب في الله والبغض في الله غامض وينكشف الغطاء عنه. بما نذكره: وهو أن الصحبة تنقسم إلى ما يقع بالاتفاق، كالصحبة بسبب الجوار أو بسبب الاجتماع في المكتب أو في المدرسة أو في السوق أو على باب السلطان أو في الأسفار وإلى ما ينشأ اختياراً ويقصد، وهو الذي نريد بيانه إذ الأخوة في الدين واقعة في هذا القسم لا محالة إذ لا ثواب إلا على الأفعال الاختيارية ولا ترغيب إلا فيها. والصحبة عبارة عن المجالسة والمخالطة والمجاورة. وهذه الأمور لا يقصد بها غيره إلا إذا أحبه فإن غير المحبوب يجتنب ويباعد ولا تقصد مخالطته، والذي يحب فإما أن يكون لذاته لا ليتوصل به إلى محبوب ومقصود وراءه وإما أن يحب للتوصل به إلى مقصود، وذلك المقصود إما أن يكون مقصوراً على الدنيا وحظوظها، وإما أن يكون متعلقاً بالآخرة، وإما أن يكون متعلقاً بالله تعالى فهذه أربعة أقسام:
أما القسم الأول: وهو حبك الإنسان لذاته فذلك ممكن وهو أن يكون في ذاته محبوباً عندك على معنى أنك تلذ برؤيته ومعرفته ومشاهدة أخلاقه لاستحسانك له، فإن كل جميل لذيذ في حق من أدرك جماله وكل لذيذ محبوب. واللذة تتبع الاستحسان والاستحسان يتبع المناسبة والملاءمة والموافقة بين الطباع، ثم ذلك المستحسن إما أن يكون هو الصورة الظاهرة عني حسن الخلقة، وإما أن يكون هو الصورة الباطنة أعني كمال العقل وحسن الأخلاق ويتبع حسن الأخلاق حسن الأفعال لا محالة ويتبع كمال العقل غزارة العلم، وكل ذلك مستحسن عند الطبع السليم والعقل المستقيم، وكل مستحسن فمستلذ به ومحبوب، بل في ائتلاف القلوب أمر أغمض من هذا فإنه قد تستحكم المودة بين شخصين من غير ملاحة في صورة ولا حسن في خلق وخلق، ولكن لمناسبة توجب الألفة والموافقة فإن شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع، والأشياء الباطنة خفية ولها أسباب دقيقة ليس في قوة البشر الاطلاع عليها، عبر رسول الله ﷺ عن ذلك حيث قال:"الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"، فالتناكر نتيجة التباين والائتلاف نتيجة التناسب الذي عبر عنه بالتعارف. وفي بعض الألفاظ:"الأرواح جنود مجندة تلتقي فتتشام في الهواء"، وقد كنى بعض العلماء عن هذا بأن قال: إن الله تعالى خلق الأرواح ففلق بعضها فلقاً وأطافها حول العرش فأي روحين من فلقتين تعارفا هناك فالتقيا تواصلا في الدنيا. وقال صلى اله عليه وسلم: "إن أرواح المؤمنين ليلتقيان على مسيرة يوم وما رأى أحدهما صاحبه قط"، وروي: أن امرأة بمكة كانت يضحك النساء وكانت بالمدينة أخرى فنزلت المكية على المدنية فدخلت على عائشة رضي الله عنها فأضحكتها فقالت: أين نزلت? فذكرت لها صاحبتها، فقالت: صدق الله ورسوله سمعت رسول الله ﷺ يقول: "الأرواح جنود مجندة" - الحديث -. والحق في هذا أن المشاهدة والتجربة تشهد للائتلاف عند التناسب والتناسب في الطباع والأخلاق باطناً وظاهراً أمر مفهوم. وأما الأسباب التي أوجبت تلك المناسبة فليس في قوة البشر الاطلاع عليها، وغاية هذيان المنجم أن يقول: إذا كان طالعه على تسديس طالع غيره أو تثليثه فهذا نظر الموافقة والمودة فتقتضي التناسب والتواد، وإذا كان على مقابلته أو تربيعه اقتضى التباغض والعداوة. فهذا لو صدق بكونه كذلك في مجاري سنة الله في خلق السموات والأرض لكان الإشكال فيه أكثر من الإشكال في أصل التناسب، فلا معنى للخوض فيما لم يكشف سره للبشر فما أوتينا من العلم إلا قليلاً، ويكفينا في التصديق بذلك التجربة والمشاهدة فقد ورد الخبر به. قال ﷺ: "لو أن مؤمناً دخل إلى مجلس فيه مائة منافق ومؤمن واحد لجاء حتى يجلس إليه، ولو أن منافقاً دخل مجلس فيه مائة مؤمن ومنافق واحد لجاء حتى يجلس إليه"، وهذا يدل على أن شبه الشيء منجذب إليه بالطبع وإن كان هو لا يشعر به، وكان مالك بن دينار يقول: لا يتفق اثنان في عشرة إلا وفي أحدهما وصف من الآخر، وإن أجناس الناس كأجناس الطير ولا يتفق نوعان من الطير في الطيران إلا وبينهما مناسبة، قال فرأى يوماً غراباً مع حمامة فعجب من ذلك فقال: اتفقا وليسا من شكل واحد، ثم طارا فإذا هما أعرجان فقال: من ههنا اتفقا، ولذلك قال بعض الحكماء: كل إنسان يأنس إلى شكله كما أن كل طير يطير مع جنسه، وإذا اصطحب اثنان برهة من زمان ولم يتشاكلا في الحال فلا بد أن يتفرقا، وهذا معنى خفي تفطن له الشعراء حتى قال قائلهم:
فقد ظهر من هذا أن الإنسان قد يحب لذاته لا لفائدة تنال منه في حال أو مآل، بل لمجرد المجانسة والمناسبة في الطباع والباطنة والأخلاق الخفية. ويدخل في هذا القسم الحب للجمال إذا لم يكن المقصود قضاء الشهوة فإن الصور الجميلة مستلذة في عينها وإن قدر فقد أصل الشهوة حتى يستلذ النظر إلى الفواكه والأنوار والأزهار والتفاح والشرب بالحمرة وإلى الماء الجاري والخضرة من غير غرض سوى عينها. وهذا الحب لا يدخل فيه الحب لله بل هو حب بالطبع وشهوة النفس، ويتصور ذلك ممن لا يؤمن بالله إلا أنه إن اتصل به غرض مذموم صار مذموماً كحب الصورة الجميلة لقضاء الشهوة حيث لا يحل قضاؤها. وإن لم يتصل به غرض مذموم فهو مباح لا يوصف بحمد ولا ذم إذ الحب إما محمود وإما مذموم وإما مباح لا يحمد ولا يذم.
القسم الثاني: أن يحبه لينال من ذاته غير ذاته فيكون وسيلة إلى محبوب غيره والوسيلة إلى المحبوب محبوب، وما يحب لغيره كان ذلك الغير هو المحبوب بالحقيقة. ولكن الطريق إلى المحبوب محبوب ولذلك أحب الناس الذهب والفضة ولا غرض فيهما إذ لا يطعم ولا يلبس ولكنهما وسيلة إلى المحبوبات فمن الناس من يحب كما يحب الذهب والفضة من حيث إنه وسيلة إلى المقصود إذ يتوصل به إلى نيل جاه أو مال أو علم كما يحب الرجل سلطاناً لانتفاعه بماله أو جاهه ويحب خواصه لتحسينهم حاله عنده وتمهيدهم أمره في قلبه، فالمتوسل إليه إن كان مقصور الفائدة على الدنيا لم يكن حبه من جملة الحب في الله، وإن لم يكن مقصور الفائدة على الدنيا ولكنه ليس يقصد به إلا الدنيا كحب التلميذ لأستاذه فهو أيضاً خارج عن الحب لله فإنه إنما يحبه ليحصل منه العلم لنفسه فمحبوبه العلم، فإذا كان لا يقصد العلم للتقرب إلى الله، بل لينال به الجاه والمال والقبول عند الخلق فمحبوبه الجاه والقبول، والعلم وسيلة إليه والأستاذ وسيلة إلى العلم، فليس في شيء من ذلك حب لله إذ لا يتصور كل ذلك ممن لا يؤمن بالله تعالى أصلاً. ثم ينقسم هذا أيضاً إلى مذموم ومباح فإن كان يقصد به التوصل إلى مباح فهو مباح وإنما تكتسب الوسيلة الحكم والصفة من المقصد المتوصل إليه فإنها تابعة له غير قائمة بنفسها.
القسم الثالث: أن لا يحب لا لذاته بل لغيره وذلك الغير ليس راجعاً إلى حظوظه في الدنيا بل يرجع إلى حظوظه في الآخرة فهذا أيضاً ظاهر لا غموض فيه، وذلك كمن يحب أستاذه وشيخه لأنه يتوصل به إلى تحصيل العلم وتحسين العمل ومقصوده من العلم والعمل الفوز في الآخرة،فهذا من جملة المحبين في الله، وكذلك من يحب تلميذه لأنه يتلقف منه العلم وينال بواسطته رتبة التعليم ويرقى به إلى درجة التعظيم في ملكوت السماء، إذ قال عيسى ﷺ: "من علم وعمل وعلم فذلك يدعى عظيماً في ملكوت السماء". ولا يتم التعليم إلا بمتعلم فهو إذن آلة في تحصيل هذا الكمال، فإن أحبه لأنه آلة له إذ جعل صدره مزرعة لحرثه الذي هو سبب ترقية إلى رتبة التعظيم في ملكوت السماء فهو محب في الله، بل الذي يتصدق بأمواله لله ويجمع الضيفان ويهيئ لهم الأطعمة اللذيذة الغريبة تقرباً إلى الله فأحب طباخاً لحسن صنعته في المطبخ فهو من جملة المحبين في الله، وكذا لو أحب من يتولى له إيصال الصدقة إلى المستحقين فقد أحبه في الله، بل نزيد على هذا ونقول: إذا أحب من يخدمه بنفسه في غسل ثيابه وكنس بيته وطبخ طعامه ويفرغه بذلك للعلم أو العمل ومقصوده من استخدامه في هذه الأعمال الفراغ للعبادة فهو محب في الله، بل نزيد عليه ونقول: إذا أحب من ينفق عليه من ماله ويواسيه بكسوته وطعامه ومسكنه وجميع أغراضه التي يقصدها في دنياه ومقصوده من جملة ذلك الفراغ للعلم والعمل المقرب إلى الله فهو محب في الله. فقد كان جماعة من السلف تكفل بكفايتهم جماعة من أولي الثروة وكان المواسي والمواسي جميعاً من المتحابين في الله، بل نزيد عليه ونقول: من نكح امرأة صالحة ليتحصن بها عن وسواس الشيطان ويصون بها دينه أو ليولد منها ولد صالح يدعوا له وأحب زوجته لأنها آلة إلى هذه المقاصد الدينية فهو محب في الله. ولذلك وردت الأخبار بوفور الأجر والثواب على الإنفاق على العيال حتى اللقمة يضعها الرجل في في امرأته بل نقول: كل من استهتر بحب الله وحب رضاه وحب لقائه في الدار الآخرة فإذا أحب غيره كان محباً في الله لأنه لا يتصور أن يحب شيئاً إلا لمناسبته لما هو محبوب عنده وهو رضا الله عز وجل، بل أزيد على هذا وأقول: إذا اجتمع في قلبه محبتان محبة الله ومحبة الدنيا واجتمع في شخص واحد المعنيان جميعاً حتى صلح لأن يتوسل به إلى الله وإلى الدنيا فإذا أحبه لصلاحه للأمرين فهو من المحبين في الله، كمن يحب أستاذه الذي يعلمه الدين ويكفيه مهمات الدنيا بالمؤاساة في المال فأحبه من حيث إن في طبعه طلب الراحة في الآخرة فهو وسيلة إليهما فهو محب في الله، وليس من شرط حب الله أن لا يحب في العاجل حظاً البتة إذا الدعاء الذي أمر به الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه فيه جمع بين الدنيا والآخرة ومن ذلك قولهم: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة" وقال عيسى عليه السلام في دعاءه: اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤ بي صديقي ولا تجعل مصيبتي لديني ولا تجعل الدنيا أكبر همي فدفع شماتة الأعداء من حظوظ الدنيا، ولم يقل: ولا تجعل الدنيا أصلاً من همي، بل قال: لا تجعلها أكبر همي. وقال نبينا ﷺ في دعائه: "اللهم إني أسألك رحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة"، وقال: "اللهم عافني من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة" وعلى الجملة فإذا لم يكن حب السعادة في الآخرة مناقضاً لحب الله تعالى فحب السلامة والصحة والكفاية والكرامة في الدنيا كيف يكون مناقضاً لحب الله? والدنيا والآخرة عبارة عن حالتين إحداهما أقرب من الأخرى، فكيف يتصور أن يحب الإنسان حظوظ نفسه غداً ولا يحبها اليوم? وإنما يحبها غداً لأن الغد سيصير حالاً راهنة فالحالة الراهنة لابد أن تكون مطلوبة أيضاً، إلا أن الحظوظ العاجلة منقسمة إلى ما يضاد حظوظ الآخرة ويمنع منها وهي التي احترز عنها الأنبياء والأولياء وأمروا بالاحتراز عنها وإلى ما لا يضاد وهي التي لم يمتنعوا منها كالنكاح الصحيح وأكل الحلال وغير ذلك، فما يضاد حظوظ الآخرة فحق العاقل أن يكرهه ولا يحبه أعني أن يكرهه بعقله لا بطبعه، كما يكره التناول من طعام لذيذ لملك من الملوك يعلم أنه لو أقدم عليه لقطعت يده أو حزت رقبته لا بمعنى أن الطعام اللذيذ يصير بحيث لا يشتهيه بطبعه ولا يستلذه لو أكله فإن ذلك محال، ولكن على معنى أنه يزجره عقله عن الإقدام عليه وتحصل فيه كراهة الضرر المتعلق به. والمقصود من هذا أنه لو أحب أستاذه لأنه يؤاسيه ويعلمه أو تلميذه لأنه يتعلم منه ويخدمه وأحدهما حظ عاجل والآخر آجل لكان في زمرة المتحابين في الله. ولكن بشرط واحد وهو أن يكون بحيث لو منعه العلم مثلاً أو تعذر عليه تحصيله منه لنقص حبه بسببه فالقدر الذي ينقص بسبب فقده هو لله تعالى، وله على ذلك القدر ثواب الحب في الله وليس بمستنكر أن يشتد حبك لإنسان لجملة أغراض ترتبط لك به، فإن امتنع بعضها نقص حبك وإن زاد زاد الحب، فليس حبك للذهب كحبك للفضة إذا تساوى مقدارهما لأن الذهب يوصل إلى أغراض هي أكثر مما توصل إليه الفضة، فإذاً يزيد الحب بزيادة الغرض ولا يستحيل اجتماع الأغراض الدنيوية والأخروية فهو داخل في جملة الحب لله وحده هو أن كل حب لولا الإيمان بلله واليوم الآخر لم يتصور وجوده فهو حب في الله، وكذلك كل زيادة في الحب لولا الإيمان بالله لم تكن تلك الزيادة فتلك الزيادة من الحب في الله فذلك وإن دق فهو عزيز. قال الجريري: تعامل الناس في القرن الأول بالدين حتى رق الدين وتعاملوا في القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء وفي الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة ولم يبقى إلا الرهبة والرغبة.
القسم الرابع: أن يحب لله وفي الله لا لينال منه علماً أو عملاً أو يتوسل به إلى أمر وراء ذاته وهذا أعلى الدرجات وهو أدقها وأغمضها، وهذا القسم أيضاً ممكن فإن من آثار غلبة الحب أن يتعدى من المحبوب إلى كل من يتعلق بالمحبوب ويناسبه ولو من بعد، فمن أحب إنساناً حباً شديداً أحب محب ذلك الإنسان وأحب محبوبه وأحب من يخدمه وأحب من يثني عليه محبوبه وأحب من يتسارع إلى رضا محبوبه، وأحب من يثني عليه محبوبه وأحب من يتسارع إلى رضا محبوبه، حتى فال بقية بن الوليد: إن المؤمن إذا أحب المؤمن أحب كلبه، وهو كما قال: ويشهد له التجربة في أحوال العشاق ويدل عليه أشعار الشعراء ولذلك يحفظ ثوب المحبوب ويخفيه تذكرة من جهته ويحب منزله ومحلته وجيرانه حتى قال مجنون بني عامر:
فإذن المشاهدة والتجربة تدل على أن الحب يتعدى من ذات المحبوب إلى ما يحيط به ويتعلق بأسبابه ويناسبه ولو من بعد؛ ولكن ذلك من خاصية فرط المحبة لا يكفي فيه ويكون اتساع الحب في تعديه من المحبوب إلى ما يكتنفه ويحيط به ويتعلق بأسبابه بحسب إفراط المحبة وقوتها،
وكذلك حب الله سبحانه وتعالى إذا قوي وغلب على القلب واستولى عليه حتى انتهى إلى حد الاستهتار فيتعدى إلى كل موجود سواه، فإن كل موجود سواه أثر من آثار قدرته ومن أحب إنساناً أحب صنعته وخطه وجميع أفعاله، ولذلك كان ﷺ إذا حمل إليه باكورة من الفواكه مسح بها عينيه وأكرمها وقال: إنه قريب العهد بربنا، وحب الله تعالى تارة يكون لصدق الرجاء في مواعيده وما يتوقع في الآخرة من نعيمه، وتارة لما سلف من أياديه وصنوف نعمته، وتارة لذاته لا لأمر آخر وهو أدق ضروب المحبة وأعلاها. وسيأتي تحقيقها في كتاب المحبة من ربع المنجيات إن شاء الله تعالى. وكيفما اتفق حب الله فإذا قوي تعدى إلى كل متعلق به ضرباً من التعلق حتى يتعدى إلى ما هو في نفسه مؤلم مكروه ولكن فرط الحب يضعف الإحساس بالألم والفرح بفعل المحبوب وقصده إياه بالإيلام يغمر لإدراك الألم، وذلك كالفرح بضربة من المحبوب أو قرصة فيها نوع معاتبة فإن قوة المحبة تثير فرحاً يغمر إدراك الألم فيه وقد انتهت محبة الله بقوم إلى أن قالوا لا نفرق بين البلاء والنعمة فإن الكل من الله ولا نفرح إلا بما فيه رضاه حتى قال بعضهم لا أريد أن أنال مغفرة الله. وقال سمنون:
وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب المحبة. والمقصود أن حب الله إذا قوي أثمر حب كل من يقوم بحق عبادة الله في علم أو عمل وأثمر حب كل من فيه صفة مرضية عند الله من خلق حسن أو تأدب بآداب الشرع. وما من مؤمن محب للآخرة ومحب لله إلا إذا أخبر عن حال رجلين أحدهما عالم والآخر جاهل فاسق إلا وجد في نفسه ميلاً إلى العالم العابد، ثم يضعف ذلك الميل ويقوى بحسب ضعف إيمانه وقوته وبحسب ضعف حبه لله وقوته وهذا الميل حاصل وإن كانا غائبين عنه بحيث يعلم إنه لا يصيبه منهما خير ولا شر في الدنيا ولا في الآخرة، فذلك الميل هو حب في الله ولله من غير حظ فإنه إنما يحبه لأن الله يحبه ولأنه مرضي عند الله تعالى ولأنه يحب الله تعالى ولأنه مشغول بعبادة الله تعالى إلا أنه إذا ضعف لم يظهر أثره ولا يظهر به ثواب ولا أجر، فإذا قوي حمل على الموالاة والنصرة والذود بالنفس والمال واللسان وتتفاوت الناس فيه بحسب تفاوتهم في حب الله عز وجل، ولو كان الحب مقصوراً على حظ ينال من المحبوب في الحال أو المآل لما تصور حب الموتى من العلماء والعباد ومن الصحابة والتابعين، بل من الأنبياء المنقرضين صلوات الله عليهم وسلامه، وحب جميعهم مكنون في قلب كل مسلم متدين، ويتبين ذلك بغضبه عند طعن أعدائهم في واحد منهم ويفرحه عند الثناء عليهم وذكر محاسنهم وكل ذلك حب لله ومن أحب ملكاً أو شخصاً جميلاً أحب خواصه وخدمه وأحب من أحبه إلا أنه يمتحن الحب بالمقابلة بحظوظ النفس وقد يغلب بحيث لا يبقى للنفس حظ إلا فيما هو حظ المحبوب، وعنه عبر قول من قال:
وقد يكون الحب بحيث يترك به بعض الحظوظ دون بعض كمن تسمح نفسه بأن يشاطر محبوبه في نصف ماله أو في ثلثه أو في عشره، فمقادير الأموال موازين المحبة إذ لا تعرف درجة المحبوب إلا بمحبوب يترك في مقابلته،فمن استغرق الحب جميع قلبه لم يبق له محبوب سواه فلا يمسك لنفسه شيئاً مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه لم يترك لنفسه أهلاً ولا مالاً فسلم ابنته التي هي قرة عينه وبذل جميع ماله. قال ابن عمر رضي الله عنهما: "بينما رسول الله ﷺ جالس وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خللها على صدره بخلال إذ نزل جبريل عليه السلام فأقرأه عن الله السلام وقال له: يا رسول الله ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها على صدره بخلال? فقال: "أنفق ماله علي قبل الفتح"، قال: فأقره من الله السلام وقل له: يقول لك ربك: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط? قال: فالتفت النبي ﷺ إلى أبي بكر وقال: "يا أبا بكر هذا جبريل يقرئك السلام من الله ويقول: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط?" قال: فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: أعلى ربي أسخط أنا عن ربي راض أنا عن ربي راض"، فحصل من هذا أن كل من أحب عالماً أو عابداً أو أحب شخصاً راغباً في علم أو في عبادة أو في خير فإنما أحبه في الله ولله وله فيه من الأجر والثواب بقدر قوة حبه، فهذا شرح الحب في الله ودرجاته وبهذا يتضح البغض في الله أيضاً ولكن نزيده بياناً.
بيان البغض في الله
اعلم أن كل من يحب في الله لا بد أن يبغض في الله فإنك إن أحببت إنساناً لأنه مطيع لله ومحبوب عند الله فإن عصاه فلا بد أن تبغضه لأنه عاص لله وممقوت عند الله، ومن أحب بسبب فبالضرورة يبغض لضده وهذان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر وهو مطرد في الحب والبغض في العادات ولكن كل واحد من الحب والبغض داء دفين في القلب، وإنما يترشح عند الغلبة ويترشح بظهور أفعال المحبين والمبغضين في المقاربة والمباعدة وفي المخالطة والموافقة فإذا ظهر في الفعل سمي موالاة ومعاداة، ولذلك قال الله تعالى: " هل واليت في ولياً وهل عاديت في عدواً?" - كما نقلناه -، وهذا واضح في حق من لم يظهر لك إلا طاعاته تقدر على أن تحبه أو لم يظهر لك إلا فسقه وفجوره وأخلاقه السيئة فتقدر على أن يبغضه، وإنما المشكل إذا اختلطت الطاعات بالمعاصي فإنك تقول كيف أجمع بين البغض والمحبة وهما متناقضان? وكذلك تتناقض ثمرتهما من الموافقة والمخالفة والموالاة والمعاداة فأقول: ذلك غير متناقض في حق الله تعالى كما لا يتناقض في الحظوظ البشرية، فإنه مهما اجتمع في شخص واحد خصال يحب بعضها ويكره بعضها فإنك تحبه من وجه وتبغضه من وجه، فمن له زوجة حسناء فاجرة أو ولد ذكي خدوم ولكنه فاسق فإنه يحبه من وجه ويبغضه من وجه ويكون معه على حالة بين حالتين، إذ لو فرض له ثلاثة أولاد أحدهم ذكي بار والآخر بليد عاق والآخر بليد بار أو ذكي عاق فإنه يصادف نفسه معهم على ثلاثة أحوال متفاوتة بحسب تفاوت خصالهم، فكذلك ينبغي أن تكون حالك بالإضافة إلى من غلب عليه الفجور ومن غلبت عليه الطاعة ومن اجتمع فيه كلاهما متفاوتة على ثلاث مراتب، وذلك بأن تعطى كل صفة حظها من البغض والحب والإعراض والإقبال والصحبة وسائر الأفعال الصادرة منه.
فإن قلت: فكل مسلم فإسلامه طاعة منه فكيف أبغضه مع الإسلام?فأقول: تحبه لإسلامه وتبغضه لمعصيته وتكون معه على حالة لو قستها بحال كافر أو فاجر أدركت تفرقة بينهما وتلك التفرقة حب الإسلام وقضاء لحقه وقدر الجناية على حق الله والطاعة له كالجناية على حقك والطاعة لك. فمن وافقك على غرض وخالفك في آخر فكن معه على حالة متوسطة بين الانقباض والاسترسال وبين الإقبال والإعراض وبين التودد إليه والتوحش عنه، ولا تبالغ في إكرامه مبالغتك في إكرام من يوافقك على جميع أغراضك، ولا تبالغ في إهانته مبالغتك في إهانة من خالفك في جميع أغراضك. ثم ذلك التوسط تارة يكون ميله إلى طرف الإهانة عند غلبة الجناية وتارة إلى طرف المجاملة والإكرام عند غلبة الموافقة، فهكذا ينبغي أن يكون فيمن يطيع الله تعالى ويعصيه ويتعرض لرضاه مرة ولسخطه أخرى.
فإن قلت: فبماذا يمكن إظهار البغض? فأقول: أما في القول فبكف اللسان عن مكالمته ومحادثته مرة وبالاستخفاف والتغليظ في القول أخرى. وأما في الفعل فبقطع السعي في إعانته مرة وبالسعي في إساءته وإفساد مآربه أخرى. وبعض هذا أشد من بعض وهي بحسب درجات الفسق والمعصية الصادرة منه. أما ما يجري مجرى الهفوة التي يعلم أنه متندم عليها ولا يصر عليها فالأولى فيه الستر والإغماض. أما ما أصر عليه من صغيرة أو كبيرة فإن كان ممن تأكدت بينك وبينه مودة وصحبة وأخوة فله حكم آخر - وسيأتي وفيه خلاف بين العلماء - وأما إذا لم تتأكد أخوة وصحبة فلا بد من إظهار أثر الغض إما في الإعراض والتباعد عنه وقلة الالتفات إليه وإما في الاستخفاف وتغليظ القول عليه. وهذا أشد من الإعراض وهو بحسب غلظ المعصية وخفتها، وكذلك في الفعل أيضاً رتبتان، إحداهما: قطع المعونة والرفق والنصرة عنه وهو أقل الدرجات، والأخرى: السعي في إفساد أغراضه عليه كفعل الأعداء المبغضين، وهذا لا بد منه ولكن فيما يفسد عليه طريق المعصية. أما ما لا يؤثر فيه فلا، مثاله رجل عصى الله بشرب الخمر وقد خطب امرأة لو تيسر له نكاحها لكان مغبوطاً بها بالمال والجمال والجاه إلا ان ذلك لا يؤثر في منعه من شرب الخمر ولا في بعث وتحريض عليه، فإذا قدرت على إعانته ليتم له غرضه ومقصوده وقدرت على تشويشه ليفوته غرضه فليس لك السعي في تشويشه. أما الإعانة فلو تركتها إظهاراً للغضب عليه في فسقه فلا بأس، وليس يجب تركها إذ ربما يكون لك نية في أن تتلطف بإعانته وإظهار الشفقة عليه ليعتقد مودتك ويقبل نصحك فهذا حسن، وإن لم يظهر لك ولكن رأيت أن تعينه على غرضه قضاء لحق إسلامه فذلك ليس بممنوع بل هو الأحسن إن كانت معصيته بالجناية على حقك أو حق من يتعلق بك. وفيه نزل قوله تعالى: "ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة" إلى قوله تعالى: "ألا تحبون أن يغفر الله لكم" إذ تكلم مسطح بن أثاثة في واقعة الإفك فحلف أبو بكر أن يقطع عنه رفقه - وقد كان يواسيه بالمال - فنزلت الآية مع عظم معصية مسطح، وأية معصية تزيد على التعرض لحرم رسول الله ﷺ وإطالة اللسان في مثل عائشة رضي الله عنها، إلا أن الصديق رضي الله عنه كان كالمجني عليه في نفسه بتلك الواقعة والعفو عمن أخلاق الصديق ظلم والإحسان إلى من أساء من. أخلاق الصديقين. وإنما يحسن الإحسان إلى من أساء من ظلمك، فأما من ظلم غيرك وعصى الله به فلا يحسن الإحسان إليه لأن في الإحسان إلى الظالم إساءة إلى المظلوم وحق المظلوم أولى بالمراعاة وتقوية قلبه بالإعراض عن الظالم أحب إلى الله من تقوية قلب الظالم فأما إذا كنت أنت المظلوم فالأحسن في حقك العفو والصفح، وطرق السلف قد اختلفت في إظهار البغض مع أهل المعاصي وكلهم اتفقوا على إظهار البغضللظلمة والمبتدعة وكل من عصى الله معصية متعدية منه إلى غيره، فأما من عصى الله في نفسه فمنهم من نظر بعين الرحمة إلى العصاة كلهم، ومنهم من شدد الإنكار واختار المهاجرة. فقد كان أحمد بن حنبل يهجر الأكابر في أدنى كلمة، حتى هجر يحيى بن معين لقوله: إني لا أسأل أحداً شيئاً ولو حمل السلطان إلي شيئاً لأخذته. وهجر الحارث المحاسبي في تصنيفه في الرد على المعتزلة وقال: إنك لا بد تورد أولاً شبهتهم وتحمل الناس على التفكر فيها ثم ترد عليهم، وهجر أبو ثور في تأويله قوله ﷺ: "إن الله خلق آدم على صورته"، وهذا أمر يختلف باختلاف النية وتختلف النية باختلاف الحال، فإن كان الغالب على القلب النظر إلى اضطرار الخلق وعجزهم وأنهم مسخرون لما قدروا له أورث هذا تساهلاً في المعاداة والبغض وله وجه ولكن قد تلتبس به المداهنة فأكثر البواعث على الإغضاء عن المعاصي المداهنة ومراعاة القلوب والخوف من وحشتها ونفارها، وقد يلبس الشيطان ذلك على الغبي الأحمق بأنه ينظر بعين الرحمة ومحك ذلك أن ينظر إليه بعين الرحمة إن جنى على خاص حقه ويقول إنه قد سخر له والقدر لا ينفع منه الحذر، وكيف لا يفعله وقد كتب عليه فمثل هذا قد تصح له نية في الإغماض عن الجناية على حق الله وإن كان يغتاظ عند الجناية على حقه ويترحم عند الجناية على حق الله فهذا مداهن مغرور بمكيدة من مكايد الشيطان فليتنبه له.
فإن قلت: فأقل الدرجات في إظهار البغض الهجر والإعراض وقطع الرفق والإعانة فهل يجب ذلك حتى يعصي العبد بتركه? فأقول: لا يدخل ذلك في ظاهر العلم تحت التكليف والإيجاب فإنا نعلم أن الذين شربوا الخمر وتعاطوا الفواحش في زمان رسول الله ﷺ والصحابة ما كانوا يهجرون بالكلية بل كانوا منقسمين فيهم إلى من يغلظ القول عليه ويظهر البغض له، وإلى من يعرض عنه ومن لا يتعرض له، وإلى من ينظر إليه بعين الرحمة ور يؤثر المقاطعة والتباعد، فهذه دقائق دينية تختلف فيها طرق السالكين لطريق الآخرة ويكون عمل كل واحد على ما يقتضيه حاله ووقته، ومقتضى الأحوال في هذه الأمور إما مكروهة أو مندوبة فتكون في رتبة الفضائل ولا تنتهي إلى التحريم والإيجاب فإن الداخل تحت التكليف أصل المعرفة لله تعالى وأصل الحب وذلك قد لا يتعدى من المحبوب إلى غيره وإنما المتعدي إفراط الحب واستيلاؤه، وذلك لا يدخل في الفتوى وتحت ظاهر التكليف في حق عوام الخلق أصلاً.
بيان مراتب الذين يبغضون في الله وكيفية معا ملتهم: فإن قلت: إظهار البغض والعداوة بالفعل إن لم يكن واجباً فلا شك أنه مندوب إليه والعصاة والفساق على مراتب مختلفة فكيف ينال الفضل بمعاملتهم وهل يسلك بجميعهم مسلكاً واحداً أم لا? فاعلم أن المخالف لأمر الله سبحانه لا يخلو إما أن يكون مخالفاً في عقده أو في عمله، والمخالف في العقد إما مبتدع أو كافر والمبتدع إما داع إلى بدعته أو ساكت والساكت إما بعجزه أو باختياره: فأقسام الفساد في الاعتقاد ثلاثة: الأول: الكفر، فالكافر إن كان محارباً فهو يستحق القتل والإرقاق وليس بعد هذين إهانة، وأما الذمي فإنه لا يجوز إيذاؤه إلا بالإعراض عنه والتحقير له بالاضطرار إلى أضيق الطرق وبترك المفاتحة بالسلام، فإذا قال: السلام عليك، قلت: وعليك. والأولى الكف عن مخاطبته ومعاملته ومؤاكلته،وأما الانبساط معه والاسترسال إليه كما يسترسل إلى الأصدقاء فهو مكروه كراهة شديدة يكاد ينتهي ما يقوى منها إلى حد التحريم، قال الله تعالى: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم" الآية، وقال ﷺ: "المسلم والمشرك لا تتراءى ناراهما" وقال عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء"الآية.
الثاني:المبتدع الذي يدعو إلى بدعته. فإن كانت البدعة بحيث يكفر بها فأمره أشد من الذمي لأنه لا يقر بجزية ويسامح بعقد ذمة وإن كان ممن لا يكفر به فأمره بينه وبين الله أخف من أمر الكافر لا محالة، ولكن الأمر في الإنكار عليه أشد منه على الكافر لأن شر الكافر غير متعد، فإن المسلمين اعتقدوا كفره فلا يلتفتون إلى قوله إذ لا يدعي لنفسه الإسلام واعتقاد الحق. أما سبب المبتدع الذي يدعو إلى البدعة ويزعم يدعو أن ما إليه حق فهو سبب لغواية الخلق فشره متعد، فالاستحباب في إظهار بغضه ومعاداته والانقطاع عنه وتحقيره والتشنيع عليه ببدعته وتنفير الناس عنه أشد، وإن سلم في خلوة فلا بأس برد جوابه، وإن علمت أن الإعراض عنه والسكوت عن جوابه يقبح في نفسه بدعته ويؤثر في زجره فترك الجواب أولى لأن جواب الإسلام وإن كان واجباً فيسقط بأدنى غرض فيه مصلحة حتى يسقط بكون الإنسان في الحمام أو في قضاء حاجته وغرض الزجر أهم من هذه الأغراض، وإن كان في ملأ فترك الجواب أولى تنفيراً للناس عنه وتقبيحاً لبدعته في أعينهم وكذلك الأولى كف الإحسان إليه والإعانة له لا سيما فيما يظهر للخلق قال عليه السلام: "من انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً، ومن أهان صاحب بدعة أمنه الله يوم الفزع الأكبر، ومن ألان له وأكرمه أو لقيه ببشر فقد استخف بما أنزل الله على محمد ﷺ".
الثالث: المبتدع العامي الذي لا يقدر على الدعوة ولا يخاف الاقتداء به فأمره أهون، فالأولى أن لا يقابح بالتغليظ والإهانة بل يتلطف به في النصح، فإن قلوب العوام سريعة التقلب، فإن لم ينفع النصح وكان في الإعراض عنه تقبيح لبدعته في عينه تأكد الاستحباب في الإعراض، وإن علم أن ذلك لا يؤثر فيه لجمود طبعه ورسوخ عقده في قلبه فالإعراض أولى لأن البدعة إذا لم يبالغ في تقبيحها شاعت بين الخلق وعم فسادها. وأما العاصي بفعله وعمله لا باعتقاده فلا يخلوا إما أن يكون بحيث يتأذى به غيره كالظلم والغصب وشهادة الزور والغيبة والتضريب بين الناس والمشي بالنميمة وأمثالها. أو كان مما لا يقتصر عليه ويؤذي غيره وذلك ينقسم إلى ما يدعو غيره إلى الفساد كصاحب الماخور الذي يجمع بين الرجال والنساء ويهيئ أسباب الشرب والفساد لأهل الفساد أو لا يدعو غيره إلى فعله كالذي يشرب ويزني، وهذا الذي لا يدعو غيره إما أن يكون عصيانه بكبيرة أو بصغيرة، وكل واحد فإما أن يكون مصراً عليه أو غير مصر، فهذه التقسيمات يتحصل منها ثلاثة أقسام ولكل قسم منها رتبة وبعضها أشد من بعض ولا نسلك بالكل مسلكاً واحداً.
القسم الأول: وهو أشدها: ما يتضرر به الناس كالظلم والغصب وشهادة الزور والغيبة والنميمة، فهؤلاء الأولى الإعراض عنهم وترك مخالطتهم والانقباض عن معاملتهم لأن المعصية شديدة فيما رجع إلى إيذاء الخلق. ثم هؤلاء ينقسمون إلى من يظلم في الدماء وإلى من يظلم في الأموال وإلى من يظلم في الأعراض، وبعضها أشد من بعض فالاستحباب في إهانتهم والإعراض عنهم مؤكد جداً، ومهما كان يتوقع من الإهانة زجراً لهم أو لغيرهم كان الأمر فيه آكد وأشد.
الثاني: صاحب الماخور الذي يهيئ أسباب الفساد ويسهل طرقه على الخلق، فهذا لا يؤذي الخلق في دنياهم ولكن يختلس بفعله دينهم، وإن كان على وفق رضاهم فهو قريب من الأول ولكنه أخف منه، فإن المعصية بين العبد وبين الله تعالى إلى العفو أقرب ولكن من حيث إنه متعد على الجملة إلى غيره فهو شديد، وهذا أيضاً يقتضي الإهانة والإعراض والمقاطعة وترك جواب السلام إذا ظن أن فيه نوعاً من الزجر له أو لغيره.
الثالث: الذي يفسق في نفسه بشرب الخمر أو ترك واجب أو مقارفة محظور يخصه فالأمر فيه أخف ولكنه في وقت مباشرته إن صودف يجب منعه بما يمتنع به منه ولو بالضرب والاستخفاف فإن النهي عن المنكر واجب، وإذا فرغ منه وعلم أن ذلك من عادته وهو مصر عليه فإن تحقق أن نصحه يمنعه عن العود إليه وجب النصح وإن لم يتحقق ولكنه كان يرجو فالأفضل النصح والزجر بالتلطف أو بالتغليظ إن كان هو الأنفع، فأما الإعراض عن جواب سلامه والكف عن مخالطته حيث يعلم أنه يصر وأن النصح ليس ينفعه، فهذا فيه نظر وسير العلماء فيه مختلفة، والصحيح أن ذلك يختلف باختلاف نية الرجل فعند هذا يقال: الأعمال بالنيات إذ في الرفق والنظر بعين الرحمة إلى الخلق نوع من التواضع وفي العنف والإعراض نوع من الزجر والمستفتى فيه القلب، فما يراه أميل إلى هواه ومقتضى طبعه فالأولى ضده إذ قد يكون استخفافه وعنفه عن كبر وعجب والتذاذ بإظهار العلو والإدلال بالصلاح، وقد يكون رفقه عن مداهنة واستمالة قلب للوصول به إلى غرض أو الخوف من تأثير وحشته ونفرته في جاه أو مال بظن قريب أو بعيد وكل ذلك مردد على إشارات الشيطان وبعيد عن أعمال أهل الآخرة، فكل راغب في أعمال الدين مجتهد مع نفسه في التفتيش عن هذه الدقائق ومراقبة هذه الأحوال، والقلب هو المفتى فيه وقد يصيب الحق في اجتهاده وقد يخطئ وقد يقدم على اتباع هواه وهو عالم به وقد يقدم وهو بحكم الغرور ظان أنه عامل لله وسالك طريق الآخرة. وسيأتي بيان هذه الدقائق في كتاب الغرور من ربع المهلكات. ويدل على تخفيف الأمر في الفسق القاصر الذي هو بين العبد وبين الله ما روي أن شارب خمر ضرب بين يدي رسول الله ﷺ وهو يعود، فقال واحد من الصحابة: لعنه الله ما أكثر ما يشرب، فقال ﷺ: "لا تكن عوناً للشيطان على أخيك"، أو لفظاً هذا معناه وكأن هذا إشارة إلى أن الرفق أولى من العنف والتغليظ.
بيان الصفات المشروطة فيمن تختار صحبته:
اعلم أنه لا يصلح للصحبة كل إنسان. قال ﷺ: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"، ولابد أن يتميز بخصال وصفات يرغب بسببها في صحبته وتشترط تلك الخصال بحسب الفوائد المطلوبة من الصحبة إذ معنى الشرط ما لا بد منه للوصول إلى المقصود فبالإضافة إلى المقصود تظهر الشروط. ويطلب من الصحبة فوائد دينية ودنيوية: أما الدنيوية، فكالانتفاع بالمال أو الجاه أو مجرد الاستئناس بالمشاهدة والمجاورة وليس ذلك من أغراضنا. وأما الدينية، فيجتمع فيها أيضاً أغراض مختلفة إذ منها الاستفادة من العلم والعمل، ومنها الاستفادة من الجاه تحصناً به عن إيذاء من يشوش القلب ويصد عن العبادة، ومنها استفادة المال للاكتفاء به عن تضييع الأوقات في طلب القوت، ومنها الاستعانة في المهمات فيكون عدة في المصائب وقوة في الأحوال، ومنها التبرك بمجرد الدعاء، ومنها انتظار الشفاعة في الآخرة فقد قال بعض السلف: استكثروا من الإخوان فإن لكل مؤمن شفاعة فلعلك تدخل في شفاعة أخيك. وروي في غريب التفسير في قوله تعالى: "ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله" قال: يشفعهم في إخوانهم فيدخلهم الجنة معهم. ويقال:إذا غفر الله للعبد شفع في إخوانه، ولذلك حث جماعة من السلف على الصحبة والألفة والمخالطة وكرهوا العزلة والانفراد، فهذه فوائد تستدعي كل فائدة شروطاً لا تحصل إلا بها، ونحن نفصلها: أما على الجملة فينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال: أن يكون عاقلاً حسن الخلق غير فاسق ولا مبتدع ولا حريص على الدنيا. أما العقل فهو رأس المال وهو الأصل فلا خير في صحبة الأحمق فإلى الوحشة والقطيعة ترجع عاقبتها وإن طالت. قال علي رضي الله عنه:
كيف والأحمق قد يضرك وهو يريد نفعك وإعانتك من حيث لا يدري ولذلك قال الشاعر:
ولذلك قيل: مقاطعة الأحمق قربان إلى الله. وقال الثوري: النظر إلى وجه الأحمق خطيئة مكتوبة،ونعني بالعاقل الذي يفهم الأمور على ما هي عليه إما بنفسه وإما إذا فهم. وأما حسن الخلق فلا بد منه إذ رب عاقل يدرك الأشياء على ما هي عليه ولكن إذا غلبه غضب أو شهوة أو بخل أو جبن أطاع هواه وخالف ما هو المعلوم عنده لعجزه عن قهر صفاته وتقويم أخلاقه فلا خير في صحبته. وأما الفاسق المصر على الفسق فلا فائدة في صحبته لأن من يخاف الله لا يصر على كبيرة ومن لا يخاف الله لا تؤمن غائلته ولا يوثق بصداقته بل يتغير بتغير الأغراض. وقال تعالى: "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه" وقال تعالى: "فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه" وقال تعالى: "فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا" وقال: "واتبع سبيل من أناب إلي" وفي مفهوم ذلك زجر عن الفاسق. وأما المبتدع ففي صحبته خطر سراية البدعة وتعدي شؤمها إليه فالمبتدع مستحق للهجر والمقاطعة فكيف تؤثر صحبته? وقد قال عمر رضي الله عنه في الحث على طلب التدين في الصديق فيما رواه سعيد بن المسيب قال: عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يغلبك منه واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين من القوم ولا أمين إلا من خشي الله فلا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره ولا تطلعه على سرك واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى. وأما حسن الخلق فقد جمعه علقمة العطاردي في وصيته لابنه حين حضرته الوفاة قال: يا بني إذا عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا خدمته صانك وإن صحبته زانك وإن قعدت بك مؤنة مانك، اصحب من إذا مددت يدك بخير مدها وإن رأى منك حسنة عدها وإن رأى سيئة سدها، اصحب من إذا سألته أعطاك وإن سكت ابتداك وإن نزلت بك نازلة واساك، اصحب من إذا قلت صدق قولك وإن حاولتما أمراً أمرك وإن تنازعتما آثرك، فكأنه جمع بهذا جميع حقوق الصحبة وشرط أن يكون قائماً بجميعها. قال ابن أكثم: قال المأمون فأين هذا? فقيل له: أتدري لم أوصاه بذلك? قال لا. لأنه أراد أن لا يصحب أحداً. وقال بعض الأدباء: لا تصحب من الناس إلا من يكتم سرك ويستر عيبك فيكون معك في النوائب ويؤثرك بالرغائب وينشر حسنتك ويطوي سيئتك فإن لم تجده فلا تصحب إلا نفسك.
وقال علي رضي الله عنه:
وقال بعض العلماء:لا تصحب إلا أحد رجلين: رجل تتعلم منه شيئاً من أمر دينك فينفعك، أو رجل تعلمه شيئاً في أمر دينه فيقبل منك، والثالث فاهرب منه. وقال بعضهم: الناس أربعة: فواحد حلو كله فلا يشبع منه. وآخر مر كله فلا يؤكل منه، وآخر فيه حموضة فخذ من هذا قبل أن يأخذ منك، وآخر فيه ملوحة فخذ منه وقت الحاجة فقط. وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: لا تصحب خمسة: الكذاب فإنك منه على غرور وهو مثل السراب يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب، والأحمق فإنك لست منه على شيء يريد أن ينفعك فيضرك. والبخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه، والجبان فإنه يسلمك ويفر عند الشدة، والفاسق فإنه يبيعك بأكلة أو أقل منها، فقيل: وما أقل منها? قال: الطمع فيها ثم لا ينالها. وقال الجنيد: لأن يصحبني فاسق حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني قارئ سيئ الخلق. وقال ابن أبي الحواري: قال لي أستاذي أبو سليمان: يا أحمد لا تصحب إلا أحد رجلين: رجلاً ترتفق به في أمر دنياك، أو رجلاً تزيد معه وتنتفع به في أمر آخرتك، والاشتغال بغير هذين حمق كبير. وقال سهل بن عبد الله: اجتنب صحبة ثلاثة من أصناف الناس: الجبابرة الغافلين، والقراء المداهنين، والمتصوفة الجاهلين. واعلم أن هذه الكلمات أكثرها غير محيط بجميع أغراض الصحبة، والمحيط ما ذكرناه من ملاحظة المقاصد ومراعاة الشروط بالإضافة إليها فليس ما يشترط للصحبة في مقاصد الدنيا مشروطاً في الآخرة والأخوة كما قاله كما قاله بشر. الإخوان ثلاثة: أخ لآخرتك وأخ لدنياك وأخ لتأنس به. وقلما تجتمع هذه المقاصد في واحد بل تتفرق على جمع فتتفرق الشروط فيهم لا محالة. وقد قال المأمون: الإخوان ثلاثة: أحدهم مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه، والآخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت، والثلث مثله مثل الداء لا يحتاج إليه قط: ولكن العبد قد يبتلي به وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع. وقد قيل: مثل جملة الناس كمثل الشجر والنبات، فمنها ما له ظل وليس له ثمر وهو مثل الذي ينتفع به في الدنيا دون الآخرة فإن نفع الدنيا كالظل السريع الزوال، ومنها ما له ثمر وليس له ظل وهو مثل الذي يصلح للآخرة دون الدنيا، ومنها ما له ثمر وظل جميعاً، ومنها ما له واحد منهما كأم غيلان تمزق الثياب ولا طعم فيها ولا شراب، ومثله من الحيوانات الفأرة والعقرب، كما قال تعالى: "يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير" وقال الشاعر:
فإذا لم يجد رفيقاً يؤاخيه ويستفيد به أحد هذه المقاصد فالواحدة أولى به. قال أبو ذر رضي الله عنه: الوحدة خير من الجليس السوء والجليس الصالح خير من الوحدة، ويروى مرفوعاً. وأما الديانة وعدم الفسق فقد قال الله تعالى: "واتبع سبيل من أناب إلي" ولأن مشاهدة الفسق والفساق تهون أمر المعصية على القلب وتبطل نفرة القلب عنها. قال سعيد بن المسيب: لا تنظروا إلى الظلمة فتحبط أعمالكم الصالحة بل هؤلاء لا سلامة في مخالطتهم، وإنما السلامة في الانقطاع عنهم. قال الله تعالى: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" أي سلامة والألف بدل من الهاء، ومعناه إنا سلمنا من إثمكم وأنتم سلمتم من شرنا، فهذا ما أردنا أن نذكره من معاني الأخوة وشروطها وفوائدها فلنرجع في ذكر حقوقها ولوازمها وطرق القيام بحقها. وأما الحريص على الدنيا فصحبته سم قاتل لأن الطباع مجبولة على التشبه والإقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري صاحبه، فمجالسة الحريص على الدنيا تحرك الحرص ومجالسة الزاهد تزهد في الدنيا فلذلك تكره صحبة طلاب الدنيا ويستحب صحبة الراغبين في الآخرة. قال علي عليه السلام: أحيوا الطاعات بمجالسة من يستحيا منه. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: ما أوقعني في بلية إلا صحبة من لا أحتشمه. وقال لقمان يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن القلوب لتحيا بالحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل القطر.