آثار البلاد وأخبار العباد/المقدمة الثانية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



المقدمة الثانية في خواص البلاد


وفيها فصلان

الفصل الاول في تأثير البلاد في إسكانها


قالت الحكماء : إن الأرض شرق وغرب وجنوب وشمال فما تناهى في التشريق وتحجّ منه نور المطلع فهو مكروه لفرط حرارته وشدّة إحراقه فإن الحيوان يحترق بها والنبات لا ينبت وما تناهى في التغريب أيضا مكروه لموازاته التشريق في المعنى الذي ذكرناه وما تناهى في الشمال أيضا مكروه لما فيه من البرد الشديد الذي لا يعيش الحيوان معه وما تناهى في الجنوب أيضا كذلك لفرط الحرارة فإنّها أرض محترقة لدوام مسامتة الشمس إيّاها.

فالذي يصلح للسكنى من الأرض قدر يسير هو أوساط الإقليم الثالث والرابع والخامس وما سوى ذلك فأهلها معذّبون والعذاب عادة لهم وقالوا أيضا : المساكن الحارّة موسّعة للمسام مرخية للقوى مضعفة للحرارة العزيزيّة محلّلة للروح فتكون أبدان سكّانها متخلخلة ضعيفة وقلوبهم خائفة وقواهم ضعيفة لضعف هضمهم.

وأمّا المساكن الباردة فإنّها مصلبّة للبدن مسددة للمسام مقوية للحرارة العزيزيّة فتكون أبدان سكّانها صلبة وفيهم الشجاعة وجودة القوى والهضم الجيّد. فإن استيلاء البرد على ظاهر أبدانهم يوجب احتقان الحرارة العزيزيّة في باطنهم.

وأمّا المساكن الرطبة فلا يسخّن هواؤهم شديدا ولا يبرد شتاؤهم قويّا وسكّانها موصوفون بالسحنة الجيّدة ولين الجلود وسرعة قبول الكيفيّات والاسترخاء في الرياضات وكلال القوى.

وأمّا المساكن اليابسة فتسدّد المسام وتورث القشف والنحول ويكون صيفها حارّا وشتاؤها باردا وأدمغة أهلها يابسة لكن قواهم حادّة.

وأمّا المساكن الحجريّة فهواؤها في الصيف حارّ وفي الشتاء بارد وأبدان أهلها صلبة وعندهم سوء الخلق والتكبّر والاستبداد في الأمور والشجاعة في الحروب.

وأمّا المساكن الآجاميّة والبحريّة فهي في حكم المساكن الرطبة وأنزل حالا وقد جرى ذكر المساكن الرطبة.


الفصل الثاني في تأثير البلاد في المعادن والنبات والحيوان


أمّا المعادن فالذهب لا يتكوّن إلّا في البراري الرملة والجبال الرخوة والفضّة والنحاس والرصاص والحديد لا يتكوّن إلّا في الأحجار المختلطة بالتراب اللين والكبريت لا يتكوّن إلّا في الأراضي الناريّة والزيبق لا يتكوّن إلّا في الأراضي المائية والأملاح لا تنعقد إلّا في الأراضي السبخة والشبوب والزاجات لا تتكوّن إلّا في التراب العفص والقار والنفط لا يتكوّن إلّا في الأراضي الدهنة أمّا تولّد الأحجار التي لها خواص فلا يعلم معادنها وسببها إلّا الله تعالى. وأمّا النبات فإنّ النخل والموز لا ينبتان إلّا بالبلاد الحارّة وكذلك الأترج والنارنج والرمان والليمون وأمّا الجوز واللوز والفستق فلا ينبت إلّا بالبلاد الباردة والقصب على شطوط الأنهار وكذا الدلب والمغيلان بالأراضي الصلبة والبراري القفار والقرنفل لا ينبت إلّا بجزيرة بأرض الهند والنارجيل والفلفل والزنجبيل لا ينبت إلّا بالهند وكذلك الساج والآبنوس والورس لا ينبت إلّا باليمن والزعفران بأرض الجبال بروذراورد وقصب الذريرة بأرض نهاوند والترنجبين يقع على شوك بخراسان.

وأمّا الحيوان فإنّ الفيل لا يتولّد إلّا في جزائر البحار الجنوبيّة وعمرها بأرض الهند أطول من عمرها بغير أرض الهند وأنيابها لا تعظم مثل ما تعظم بأرضها والزرافة لا تتولّد إلّا بأرض الحبشة والجاموس لا يتولّد إلّا بالبلاد الحارّة قرب المياه ولا يعيش بالبلاد الباردة وعير العانة ليس له سفاد في غير بلاده كما يكون ذلك في بلاده ويحتاج أن يؤخذ من حافره ولا كذلك في بلاده والسنجاب والسمور وغزال المسك لا يتولّد إلّا في البلاد الشرقيّة الشماليّة والصقر والبازي والعقاب لا يتفرّخ إلّا على رؤوس الجبال الشامخة والنعامة والقطا لا يفرّخان إلّا في الفلوات والبطوط وطيور الماء لا تفرّخ إلّا في شطوط الأنهار والبطائح والآجام والفواخت والعصافير لا تفرّخ إلّا في العمارات والبلابل والقنابر لا تفرّخ إلّا في البساتين والحجل لا يفرّخ إلّا في الجبال هذا هو الغالب فإن وقع شيء على خلاف ذلك فهو نادر.

والله الموفق للصواب.