صفحة:محاضرات في تاريخ الدولة العباسية.pdf/78

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تم التّحقّق من هذه الصفحة.
- ٧٧ -

الألوهية. وبدأت الدعوة التي قام بها المقنع في منطقة كش ونسف - من أرض ما وراء النهر - والتف حوله جمع كثير، وأيده أعداء الدولة من أتباع مذهـب أبي مسلم الذين عرفوا بالمبيضة ببخارى والصغد، وساعد على نجاح هذه الثـــــــــورة قيام الثورة الخارجية في خراسان (ثورة البرم)، وكذلك إعانة الترك، الذين استنجـد بهم، فتمكن المقنع من السيطرة على الإقليم في وقت قليل، كما استطاع أن يحقـق عدداً من الانتصارات على قوات الخلافة التي سارت ضده. وكان الرجل يظهر أمام الناس مرتدياً قناعاً، هذا القناع منسوج بخيوط الذهب حتى يبهر الأبصار عن طريق إشراق الأنوار الإلهية كما كان يدعي. وتقول النصوص أن أتباعه كانوا يسجدون له، ولهذا السبب عرف بالمقنع. وربما كان السبب في ارتدائه ذلك القناع، هو محاولته إخفاء تشويه وجهه. إذ تقول الرواية: "إنه كان أعور"1.

وبعد عدة حملات كللت بالظفر، استطاعت الجيوش العباسية هزيمة الثـوار في منطقة بخارى بعد أن ضيقوا عليهم الخناق وحاصروهم حوالي أربعة أشهـــر، ولكن المنهزمين لم يستسلموا إذ لحقوا بالقـوات الرئيسية للمقنع2، وطالت المناوشات طوال سنة ١٦٠هـ دون جدوى، وفي السنة التالية وهـي سنة ١٦١هـ تجمعت قوات الخلافة وتقدمت نحو الثائر، وشددت عليه الحصار حتى اضطر كثير من أتباعه إلى الاستسلام وذلك بعد أخذ الأمان سراً منه، وبقي المقنع في قلـة من أصحابه زهاء ألفين، وعندما أيقن بالهلاك اضطر إلى إلقاء نفسه هو وأهلـــــــه ونسائه وخواصه في النار وذلك بعد أن أحرق كل مافي قلعته "من دابة وثوب وغير ذلك" وتقول الرواية أنه قال: "من أحب أن يرتفع معي إلى السماء فليلق نفسه معي في هـذه النار"3.

ورغم القضاء على الفتنـة، وقتل أمير بخارى، فإن ذلك المذهب ظل باقيـا


  1. ابن الأثير، الكامل، ج ٥، ص ٥٢.
  2. نفس المصدر، ص ٥٣.
  3. نفس المصدر، ص ٥٨.