مجلة الرسالة/العدد 419/أبو المظفر الأبيوردي
مجلة الرسالة/العدد 419/أبو المظفر الأبيوردي
شاعر العرب في القرن الخامس
للدكتور عبد الوهاب عزام
(تتمة)
- 6 -
فخر الأبيوردي بأمويته واعتز بها، ولكن عصبيته لبني أمية لم تورطه في العداوة التي أثارتها الفتن بين الأمويين والهاشميين، فهو يفخر ببني عبد مناف جميعاً لا يفرق بين هاشم وأمية كما يفخر بقرشيته وعربيته ويمدح العباسيين وبذكر مآثرهم، وإذا تحدث عن الصحابة وفى الخلفاء حقهم من الثناء والإجلال كما يتحدث المسلم الذي لم تخالط نفسه أهواء العصبية
يقول في مدح المستظهر بالله:
يا خير من بشرت بعد النبي به ... عدنانُ وادَّرعت عِزَّا به مضر
أحيا بك بالله ما كانت تُدلُّ به ... عُلى قريش ومنها السادة الغرر
لك الوقار من الصدِّيق تكنفه ... مهابةٌ كان محبَّوا بها عمر
وجود عثمان والآفاق شاحبة ... ونجدة من علىَّ والقنا كِسر
وعِلمُ جدك عبد الله شِيب به ... دهاؤه أعيا الوارد الصدر
ثم يذكر الخلفاء العباسيين إلى المعتصم
ويقول في قصيدة يمدح فيها الرسول والخلفاء الراشدين:
وكلّ صحبك أهوى فالهدى معهم ... وغَرب من أبغض الأخيار مفلول
وأقتدى بضجيعيك اقتداء أبي ... كلاهما دَمُ مَن عاداه مطلول
ومن كعثمان جوداً والسماح له ... عبء على كاهل العلياء محمول
وأين مثل عليّ في بسالته ... بمأزق من يّردْه فهو مقتول
إني لأعذل من لم يُصِفهم مِقة ... والناس صنفان: معذور ومعذول
ونجده في قصيدة أخرى يفخر بالأمويين والعباسيين والعرب كله - 7 -
كان الأبيوردي شاعر العرب في القرن الخامس كما كان المتنبي شاعرهم في القرن الرابع؛ فشعره ينطق بإباء العرب وعزتهم، ويعرب عن طباعهم وأخلاقهم، ويتحدث بمآثرهم ومفاخرهم، ويمدح كثيراً من رؤسائهم، ويرثى لحالهم في عصره ويأنف ألاً ينالوا حقهم. وهو كثير الحنين إلى بلاد العرب، نزاع إلى البداوة تشبها بهم
والفرق بين أبي الطيب المتنبي وأبي المظفر الأبيوردي أن الأبيوردي أكثر قصداً في فخره وثورته وتحدثه عن مطامعه؛ على أن له أصلاً في الملك يجعل كلامه أقرب إلى القبول وأدنى إلى التصديق
وكذلك يتشابه الشاعران العظيمان في العزوف عن الدنايا، والترفع عما فخر به الشعراء من معاقرة الخمر والاسترسال في الشهوات
ولا يعوز قارئ ديوان الأبيوردي الدليل على هذه الأخلاق والنزعات؛ يقول في اعتداده بنفسه:
وإني إذا أنكرتني البلاد ... وشِيبَ رضا أهلها بالغضب
لكالضيغم الورد كاد الهوان ... يَدبّ إلى غابه فاغْترَبَ
فشيدتُ مجداً رسا أصله ... أمتَّ إليه بأمْ وأب
ولم أنظم الشِّعر عجباً به ... ولم أمتدح أحداً عن أرب
ولا هزني طمعٌ للقريض ... ولكنه ترجمان الأدب
ويقول:
وما أنا ممنْ يملأ الهول صدرَه ... وإن عضه ريب الزمان فأوجعا
إذا غسلت العار عني لم أُبَل ... نداء زعيم الحي أو نعى
والأبيوردي لا يرضى بعيشته، ولا يسكن إلى حاله، ولكنه يأنف أن يسف إلى المطمع الدون، ويستكبر أن تضرعه الحاجة إلى الذل، بل يرى الدنيا كلها أصغر من أن تذل لها نفوس الأحرار. يقول:
قضت وطراً مّني الليالي فلم أبح ... بشكوى ولم يدنس عليّ قميص
أغالي بعرضي والنوائب تعتري ... وغيري يبيع العرض وهو رخيص وقد علمتْ عليا كنانة أنني ... على ما يزين الأكرمين حريص
فظهري بأعباء الخصاصة مثقل ... وبطني من زاد اللئام خميص
ويقول:
وإني لأقري النائبات عزائماً ... تروض بالدهر شامس
وأحقر دنيا تسترقُّ لها الطلى ... مطامع لحظي دونها متشاوس
تجافيت عنها وهي خود غريرة ... فهل أبتغيها وهي شمطاء عانس؟
أغالي بعرضي في الخصاصة، والمنى ... تراودني عن بيعه، وأماكس
وأصدى إذا ما أعقب الريَّ ذلة ... وأزجر عيسى وهي هِيم خوامس
ولي مقلة وحشية لا تروقها ... نفائس تحويها خسائس
ويمثل في أبيات أخرى ما يتنازع نفس الأبي الذي بدلت أحواله غير الزمان:
ولما انتهت أيامنا علقت بنا ... شدائد أيام قليل رخاؤها
وكان إلينا في السرور ابتسامها ... فصار في الهموم بكاؤها
أصيبت بنا فاستعبرت وضلوعها ... على مثل وخز السمهري انطواؤها
ولو علمت ماذا تعانيه بعدنا ... لما شمنت جهلاً بنا سفهاؤها
إلى أن يقول:
ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت ... لنا رغبة أو رهبة عظماؤها
وجاست بنا الجرد العتاق خلالها ... سواكبَ من لباتهن دماؤها
فصرنا نلاقي النائبات بأوجه ... رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها
إذا ما أردنا نبوح بما جنت ... علينا الليالي لم يدعنا حياؤها
وأنفة الأبيوردي وعفته لا ترضيانه بأدنى العيش، فهو طماح إلى العلى، ساع لها، مغامر من أجلها:
رأت أميمة أطماري وناظرُها ... يعوم في الدمع منهلاً بوادره
وما درت أن في أثنائها رجلاً ... ترخى على الأسد الضاري غدائره
أغرَّ في ملتقى أوداجه صيَد ... حمر مناصله، بيض عشائره
إن رث بردي فليس السيف محتفلا ... بالغمد وهو وميض الغرب باتره وهو يرى نفسه كفء المعالي التي يطمح إليها، وأهلاً لها بنسبه وهمته:
الله درى فكم أسمو إلى أمد ... والدهر في ناظريه دونه شَوَس
أبغي عُلًى رامها جدي فأدركها ... وكان في غمرة الهيجاء ينغمس
فأي أروعَ مني نبهت هممي ... وأي شأو من العلياء ألتمس
ويقول:
سأحمل أعباء الخطوب فطالما ... تماشت على ألاين الجمال القناعس
وأنتظر العقبى وإن بعُد المدى ... وأرقب ضوء الفجر والليل دامس
فلله دري حين توقظ همتي ... مساورة الأشجان والنجم ناعس
هذه الأنفة وهذا الإباء وهذا الطموح وهذه الكبرياء التي أوحت إليه أنه دون مكانته، وأن عليه أن يطلب مكانة تليق به وبآبائه، أكثرت حديثه عن مباشرة الخطوب وركوب الأهوال في سبيلها والمحاربة من أجلها، يقول:
تقول ابنة السعدي وهي تلومني ... أمالك عن الدار الهوان رحيل؟
فإن عناء المستنيم إلى الأذى ... بحيث يذل الأكرمون طويل
وعندك محبوك السراة مطهم ... وفي الكف مطرور الشباة صقيل
فثب وثبة فيها المنايا أو المنى ... فكل محب للحياة ذليل
وقال:
سواي يجرَّ هفوته التظَّني ... ويرخى عَقد حبْوته التمني
ويُلبس جيدَه أطواقَ نعمى ... تشف وراءها أغلال مَنّ
إذا ما سامه اللؤماء ضيماً ... تمرَّغ في الأذى ظهراً لبطن
وظل نديم عاطية وروض ... وبات صريع باطية ودن
وأشعر قلبه فَرَق المنايا ... وأودع سمعه نغم المغنى
وصلصلةُ اللجام لدىّ أحرى ... بعز في مباءته مُبِنْ
إلى أن يقول:
وهاأنا أوسع الثقلين صدراً ... ولكن الزمان يضيق عنَّي
ويقول: يا صاحبي خذا للسير أهبته ... فغيرنا بمناخ السوء يحتبس
أترقدان وفرع الصبح منتشر ... عليكما وذَماء الليل مختلَس
إن تجهلا ما يناجيني الحِفاظ به ... فالرمح يعلم ما أبغيه والفرس
سخط البيوردي وتحدثه بالثورة كانا نتيجة إبائه وطموحه وإنكاره المنزلة التي نشأ فيها كما كانا من سخطه للعرب واستنكافه أن تنزع المقاليد من أيديهم، وتوكل الأمور إلى غيرهم. فالنعرة العربية بينه في شعره، والأنفة للعرب مكررة في قصائده. قال في قصيدة يمدح فيها أبا الغمر المرواني أحد أقاربه:
دهر تذَأبّ من أبنائه نقَد ... وأُوطئت عربٌ أعقاب أعلاج
وأينع الهام لكن نام قاطفها ... فمن لها بزياد أو بحجاج؟
وكم أهبنا إليها بالملوك فلم ... نظفر بأروع للغماء فراج
وأنت يا ابن أبي الغمر الأغر لها ... فقل لذود أضاعوا رعيها: عاج
وألقح الرأي ينتج حادثاً جللاً ... إن الحوامل قد همت بإخداج
وإن كويت فأنضج غير متئد ... لا نفع للكي إلا بعد إنضاج
إلى أن يقول:
متى أراها تثير النقع عابسة ... تردِى بكل طليق الوجه مبلاج
ولاَّج بابٍ أناخ الخطب كلكله ... به ومن غمرات الموت خرَّاج
في غلمة كضواري الأسد أحنقها ... زأر العدى دون غابات وأحراج. الخ
وله قصيدة يمدح بها بعض الوزراء من أسرته أولها:
من رام عزا بغير السيف لم ينل ... فاركب شبا الهندوانيات والأسل
ويقول فيها:
وخالفت هاشماً في ملكها عُصَب ... صاروا ملوكا وكانوا أرذل الخول
حنِّت إليهم ظبي الأسياف ظامئة ... حتى أبت صحبةَ الأجفان والخلل. . . الخ
ويقول في مدح أبي الشداد العقيلي يشكو حال العرب ويحرضه على أن يطلب لهم المكانة الجديرة بهم:
فإيه أبا الشداد إن وراءنا ... أحاديث تروى بعدنا في المعاشر فمن بخِرْق ثائر فوق سابح ... تردَّى بإعصار من النقع ثائر
إذا حفزته هزة الروع خلته ... على الطِّرف صقراً فوق فتخاء كاسر
أترضى وما للعُرب غيرَك ملجأٌ ... توسدّهم رملىّ زرود وحاجر؟
بهم ظمأ أدمى الجوانج بَرحُه ... وذموا إلى الشعري احتدام الهواجر
وأما إعجابه بأخرق العرب وحنينه إلى ديارهم في مدحه وغزله فيذكران بأبي الطيب المتنبي. فهو يحن إلى البداوة ويتغزل بالبدويات، وإذا تحدث عن أمانيه وأعوانه فالمثل الأعلى عنده فتيان العرب
يقول في قصيدة يمدح بها المستظهر بالله:
معي كل فضاض الرداء سَمَيْدع ... أصاحب منه في الوقائع أروعا
غذته رُبَى نجد فشبَّ كأنه ... شبَا مشرفيّ يقطر السم منقعا
يُريح، إذا ارتج الندىّ بمنطق، ... كلاماً كأن الشيح منه تضوعا
ويُروى أنابيب الرماح بمأزق ... يظل غداةَ الروع بالدمُ مترَعا. . . الخ
ويقول في قصيدة يمدح بها أحد رؤساء العرب:
وترويك في قبس حياض تُظلها ... ذوابل في أيدي ليوث خوادر
بنو عربيات تحوط ذمارها ... كماة كأنضاء السيوف البواتر
ويقول في مدح سيف الدولة صدقة دبيس:
له عمة لوثاء تفتر عن نهى ... علمنا بها أن العمائم تيجان
وحنينه إلى البداوة وعاداتها يتبين في مثل قوله:
وأسرى بعيس كالأهلة فوقها ... وجوه من الأقمار أبهى وأبهر
ويعجبني نفح العَرار ورّبما ... شمخت بعريني وقد فاح عنبر
ويخدش غمدي بالحمى صفحة الثرى ... إذا جرَّ من أذياله المتحضر
فما العيش إلا الضب يحرشه الفتى ... وورد بمستن اليرابيع أكدر
بحيث يلف المرءُ أطنابَ بيته ... على العز والكومُ المراسيل تنحر
ويغشى ذراه حين يعتم للقرى ... ويسمو إليه الطارق المتنوّر
هذا طرف من أخبار هذا الشاعر العربي الأموي العظيم. ولعل المتأدبين من شباب العرب يجدون في شعره متعة النفوس الكريمة، وشحذ الهمم الطامحة، ونمطاً من الكلم البليغ، اتفق على تجويده اللفظ والمعنى. ولعل الفرصة تتاح لبحث مفصل جامع في أدب هذا الشاعر
عبد الوهاب عزام