مجلة الرسالة/العدد 419/عبر من سيرة
مجلة الرسالة/العدد 419/عبر من سيرة
للأستاذ عباس محمود العقاد
(بدرفسكي) موسيقي عظيم وإنسان عظيم، وليس الموسيقى ببالغ أوج العظمة في فنه حتى أوج العظمة الإنسانية في أفق من آفاقها العليا، وإن خيل إلى الأكثرين منا أن الموسيقى طرب، وأن الطرب لهو، وأن اللهو والعظمة لا يتفقان
كان (بدرفسكي) عظيماً لأنه كان أكبر من جميع تلك الأشياء التي يتصاغر لها الناس: كان أكبر من المال ومن المنصب ومن الأثرة ومن المتعة الرخيصة، وكاد أن يكبر على غواية الفن لولا أنه من الفن قد استمد الكبرياء والعظمة، فلا يهجره فترة يسيرة إلا بقوة منه، كما يهجر المرء حياته أحياناً بقوة من دوافع تلك الحياة
وللعظمة مقاييس شتى
وبدرفسكي عظيم بأكثر من مقياس واحد: عظيم بهذا الذي ذكرناه، وعظيم بإعطائه كل شيء حقه على قدر لا يستطيعه أوساط الناس، وعظيم لأنه قادر على العمل العظيم في غير ناحية واحدة. فلم ينحصر في موسيقاه ولا في دعوته الوطنية ولا في غزواته السياسية، ولم يجاوز في كل عمل من هذه الأعمال الكبار حده المقدور
أبلغ العالم شكاة أمته بصوت الموسيقى، فكان داعية فن وداعية وطن. ثم ترك المناصب ليثوب إلى فنه بعد أن صنع ما كان في وسعه أن يصنع، ولم يبق من سب لبقائه في مناصب الدولة إلا التعلق بها والاستخذاء لغوايتها، وليس هو بالذي يتعلق بهذه الفتنة أو يستخذى لهذه الغواية
وجمع الذهب: أكداس الذهب، ثم فرق في خدمة القضية البولونية ما لو احتفظ به لكان أغنى من ملوك المال وأقدر من حكام الأمم
واشتدت به العصبية الوطنية غاية اشتدادها، ولكنه حين وهي الجوائز للنابغين في ضروب الموسيقى وهبها عالمية لكل مجيد وكل مأمول من أبناء القارة الجديدة
ففيه لكل من الوطن والعالم والغنى نصيب بمقدار، وبين يديه هو ميزان ذلك المقدار
ومقياس آخر من مقاييس العظمة فيه أنه جند جيشاً وساس دولة ووجه الدول الأخريات توجيهاً لم يحلم به حالم من أبناء وطنه، ولكنه لم يكن من الحالمين وهو أجدر أبناء بولونيا بالإمامة في عالم الأحلام
ومن يدري ماذا كان يجري في القارة الأوربية لو استمع أبناء قومه لنصحه واتبعوا هداه في العلاقة بينهم وبين جيرتهم من الروس. . . فلعل الذي كان يجري يومئذ غير الذي جرى الآن، وخير مما جرى أو سيجري بعد الآن!
بدرفسكي رجل عظيم لأنه موسيقي عظيم
وهذا شيء ينبغي أن نفهمه نحن الشرقيين خاصة لأننا أحوج إلى فهمه من جملة العالمين
نحن الشرقيين لا نفهم ما الدنيا وما الحياة في الدنيا حتى نفهم ما التعبير عن الحياة، ونفهم أن الفنون أرفع وأجمل ما وهب الإنسان من وسائل التعبير عن حياته بل عن حياتيه: الحياة الظاهرة التي لا خفاء بها، والحياة الباطنة التي ما خلت قط ولن تخلو يوماً من خفاء
فليست الأصداء الموسيقية لغواً من لغو البطالة، ولا هي بذيل من ذيول الفراش أو ذيول السرير، ولا هي بتسلية للأذن تستطيبها كما يستطاب السجع الموزون والرنين المنغوم
كلا. ليست الأصداء الموسيقية كذلك، وليست الحياة شيئاً إن كانت الأصداء الموسيقية كذلك
نعم ليست الحياة شيئاً إن لم يكن لها تعبير، وليست هي شيئاً إن كان كل التعبير عنها لغواً أو تسلية أو متعة فراش
ومن السهل أن تزدري الرجل الذي يبتذل فنه لشهوة غيره، وليس من السهل أن تزدري الرجل الذي يعبر لك عن حياتك ويفتح لك من مغالقها ما عسى أن يحتجب عنك؛ فإنما هو واهب حياة وليس بواهب شهوة أو تسلية أو فضول
لهذا يلتقي الموسيقي العظيم والرجل العظيم في إنسان واحد. ولهذا نحسب بدرفسكي آية من آيات عصره، لأنه استرعى النظرة الجدية منهم حين أسندوا إليه رياسة الوزارة في قومه. وما كانت رياسة الوزارة علواً يرتفع إليه بعد أن رفعته العبقرية، ولا صوتاً مسموعاً في جانب من جوانب الأرض بعد أن سمع صوته في كل جانب منها، وإنما كانت ولاية الموسيقى لرياسة الوزارة دليلاً على النظرة الجدية التي ينظرون بها إلى فنه، أو ينظرون بها إلى الحياة والتعبير عن الحياة
ولو سئل أحد لم يكن بدرفسكي رجلاً عظيماً لما خطر له أن يقول: إنه كان عظيما لأنه تولى رياسة الوزارة البولونية في عهد من العهود، ولكنه يقول إنه كان عظيما لأنه كان أهلاً للجد وأهلاً للاضطلاع بالأمانة. ولا تناقض بين هذا وبين عزفه على البيان، واختراعه الجديد من الألحان، بل هذا حجة له على صدق العظمة فيه، واقتداره على كل ما يقتدر عليه العظيم
الحياة تأثير وتعبير. وماذا بعد هذين؟ بل ماذا في التأثير نفسه إن لم يتممه التعبير؟
فالعبقرية التي تتمم الحياة وتعطيها معناها ليست بالمنزلة الهينة بين منازل الإنسانية، وليست بالنافلة بين النوافل ولا باللغو الذي يكون أو لا يكون على حد سواء
قلت في ذكرى من ذكريات الموسيقار المصري النابغة سيد درويش إن (الأمة الكاملة عجزت مع هذا عن قضاء حق الرجل الفرد فمات بينها وهي تتعلم أنها أصيبت من فقده بمصيبة قومية، ولم تبال حكومتها أن تشترك في تشييع جنازته وإحياء ذكره كما تبالي بتشييع جنازات الموتى الذين ماتوا يوم ولدوا والمشيعين الذين شيعتهم بطون أمهاتهم إلى قبر واسع من هذه الدنيا يفسدون من أجوائها ما ليست تفسده العظام النخرات والجثث الباليات. . . أنقول مع هذا؟ بل ما لنا لا نقول إن الرجل قد أهمل في حياته وبعد مماته ذلك الإهمال القبيح لأجل هذا؟ أو ليست آدابنا هي تلك آداب هذا الشرق الجامد الذليل الذي تعاورته الرزايا وران عليه الطغيان؟ أو ليست آداب هذا الشرق المسكين تعلمنا أن العزيز العظيم من يسيء إلى الناس، وأن المهين الحقير من يتوخى لهم الرضى ويوطئ لهم أسباب السرور؟ أو ليس من شرع الاستبداد وسنن آدابه أن يكون الرجل عظيما لأنه يطغى ويكسر النفوس ويحنى الظهور ويعفر الوجوه؟ أو ليس هذا أعظم ما رأينا من العظمة في هذا الشرق الآفل منذ علم أبناؤه أنهم صغراء حقراء، فلن يكون الذي يتقدم إليهم بالرضى والسرور إلا أصغر منهم صغراً وأحقر منهم حقارة؟ بلى، وا أسفاه! إن دغائن الاستبداد ما برحت عالقة فينا بدخيلة السرائر، ننفضها فلا تنتفض إلا ذرة بعد ذرة، ونزن المنفوض منها فإذا هو لا يزيد في الهباء ولا ينقص راكد ذلك التراث. . .)
وقد مضت قرابة عشرين سنة بعد وفاة سيد درويش ونحن لم نتقدم خطوة في هذا المضمار. فلا تزال الأصداء الموسيقية ذيلاً من ذيول الفراش عند جمهرة السامعين. . . أتشك في ذلك؟ استمع إليهم وهم يصرخون ويزعقون بين لمحة وأخرى، ثم حاول أن توفق بين هذا النشوز الصادع وبين شعور السامع بانسجام الأنغام وائتلاف المعاني والأوزان. إن التوفيق بينهما لمستحيل، ولكن لا صعوبة في التوفيق بين هياج الحس المستثار بتصور الشهرة وبين هذه الثورة الناشزة في الحناجر والأيدي والأقدام. فهم على مقربة من الفراش في صورته الحيوانية المريضة؛ ثم هم لا يستمعون ما يبعدهم عنه أو يحولهم إلى فكرة غير التفكير فيه. وعليهم بعض الوزر على الموسيقيين والمطربين وعلى الماضي الذي خلف لهم ذلك التراث بقية الوزر التي لا ندري متى يدركها النفاد!
وبيننا وبين الخلاص من هذه البلية عقبتان: أولاهما أننا نحسب الفنون لهو بطالة. وثانيتهما أن اللهو في عرفنا إسفاف وضيع يعيره الإنسان فضول وقته، ولعل وقته كله فضول
من يصدقني من هؤلاء إذ أقول له إن الموسيقى جد رفيع وشاغل مقدس وليس به ظل ولا مجانة؟
لا أحد
فلنقل لهم إذن أن بدرفسكي الموسيقي تولى رياسة الوزارة في وطنه وتولى قبل ذلك زعامة قومه باعترافهم واعتراف الغرب كله، فإنهم ليصدقون إذن وهم حائرون أن الموسيقى جد والأمر لله!
ثم إنهم ليصرخون بعد ذلك ويزعقون كلما رجعوا إلى (التخت) الذي هو عندهم دهليز الفراش، ولا فضل له عليه!
عباس محمود العقاد