يسألونك (1946)/السنويات الأدبية
السنويات الأدبية
كتب إليَّ أكثر من مستفهم يسألون عن «السنوية التاجورية»، التي أشرت إليها في تحيتي إلى تاجور من مقال بالرسالة قلت فيه: «خطر لنا أن نرجع إلى السنوية التاجورية؛ لنستخرج الفأل مما كتب فيها من أقوال تاجور بإزاء اليوم التاسع والعشرين من شهر سبتمبر، ولكل يوم من أيام هذه السنوية كلمة أو بيت أو خاطرة من مأثورات الشاعر العظيم …»
وهم يطلبون بيانًا عن هذه السنوية، هل هي من صنع الشاعر؟ وهل للشعراء والأدباء المشهورين غير تاجور سنويات على هذه الوتيرة؟ وهل تتجدد في كل سنة، أو تصدر في سنة واحدة ثم تتكرر على نمط واحد؟ إلى أشباه ذلك من أسئلة وتعقيبات.
وسنويات الأدباء والشعراء هي نوع من السنويات الكثيرة، التي افتن فيها الطابعون والناشرون في الأمم الغربية.
فهناك سنويات لمحبي الأزهار ينشرونها للفن والجمال، أو ينشرونها للعلم والخبرة العملية، فما كان منها للفن والجمال زخرفوه بنقوش الأزهار الملونة، ونثروا خلالها شذرات من أقوال الأدباء والشعراء في الرياض والرياحين، وجعلوا بعض حروفها البارزة على مثال الورود والأوراق، وجملوها بما استطاعوا من جمال الشعر والتصوير، وما كان منها للعلم والخبرة العملية رتبوا فيه مواسم الغرس والنقل، وبثوا فيه الوصايا والنصائح عن السقاية والتظليل، أو التعريض للنور، مما له نفع في إنماء النبات وإنماء الزهر على الخصوص.
وهناك سنويات لمحبي الكتب يذكرون فيها المعلومات المتفرقة عن المكتبات التاريخية والكتب النادرة، ونشأة الكتاب في أطواره المتعاقبة وقوانين الطبع والنشر، وحقوق المؤلفين والمترجمين، وما إلى ذلك من الحقائق والأنباء التي يعنى بها الكتاب والقراء، وقد يصدرون السنوية بمقدمة نفيسة تختلف، كما تختلف المعلومات الأخرى عامًا بعد عام.
وهكذا السنويات التي ينشرونها لمحبي العصافير أو محبي الرحلات، أو محبي الصيد أو محبي الرياضة وما إلى ذلك من ضروب اللهو والمتع النفسية والذوقية، فمن جمعها عنده فليس من الضروري أن يملأ فراغها ويشتغل بما يشتغل به طلابها وهواتها، بل لعله يجمع منها مكتبة للمعرفة: كل سنوية منها بكتاب جامع لأشتات الطوائف والمقتبسات والأخبار.
أما سنويات الأدباء والشعراء، فهي المفكرات السنوية المألوفة التي تخصص منها صفحة أو أقل من صفحة لكل يوم من أيام العام، ولكنهم يجعلون للأديب أو الشاعر المشهور مفكرة باسمه يصدرونها بترجمته، وفصل قيم لكاتب من كبار الكتاب في نقده، والتعريف بخصائصه ومزايا شعره ونثره، ويقرنون كل صفحة بيوم من أيام السنة بصفحة من مختاراته تناسب الموعد أو تمت إليه بسبب، وربما اشتملت الصفحة على فقرة واحدة أو بيت واحد، وربما اشتملت على أكثر من ذاك، حسب التفاوت في الحجم والموضوع.
وقلما تتغير هذه المفكرات سنة بعد سنة، ولكن الطابعين المتعددين قد يصدرون مفكرات متعددة لشاعر واحد، وقد تكون المفكرة المفردة أو المفكرات المتعددة أوفى من أحسن المختارات التي تختار لذلك الشاعر، وأحظى بالقراءة والنظر من الكتب التي توضع على رفوفها، ولا تحمل بالليل والنهار حيثما مضى صاحبها، وكلما احتاج إلى النظر في مفكراته اليومية.
وهنا معرض للعجب لا يفرغ منه المتعجب!
ففي الغرب حيث يستغني القراء عن التشويق والإغراء يوجد التشويق على أبرعه والإغراء على أشده.
وفي الشرق حيث يحتاجون إلى جميع المشوقات والمغريات لا يوجد من يغري ولا من يُغرَى، ولا يزالون على ما بهم من الجهل كأنهم أزهد الناس في الدرس والاطلاع.
وليس هذا وحده بمعرض العجب في شئون الكتابة والقراءة عندهم وعندنا.
ففي الغرب حيث يظفر الكاتب بأحسن الجزاء من قرائه يعطيهم ما يعطي من ثمراته، ولا ترهقه الشروط، ولا تثقل عليه القيود، ولا يتمحلون له أسباب العيب والتجني والانتقاص، فليس في إنجلترا من يشترط على برناردشو مثلًا أن يحلق لحيته، أو يقلع عن بدعة النباتية في طعامه، أو يدين في السياسة والاجتماع بمثل ما يدين به، أو ينهج في معيشته أو اعتقاده نهجًا غير الذي ارتضاه لنفسه.
وفي الشرق حيث لا يغني الجزاء، ولو وفر القراء، ترى العالم القارئ أو جمهرة القراء كأنهم الطفل الممعود، لا أكثر من شروطه ولا أقل من زاده، ولا أعجب من مطالبه ومقترحاته: تعطيه الحلوى فيطلب الفاكهة، وتعطيه الفاكهة فيطلب الخبز واللحم، وتعطيه الخبز واللحم فيطلب المطبوخ إذا أعطيته الشواء، ويطلب الشواء إذا أعطيته المطبوخ، ويتحكم وهو في مطعم الصدقة، أو شبيه بمطعم الصدقة! ثم لا هو بالآكل، ولا هو بالشاري، ولا هو بالملتمس العلاج لما عنده من ضعف القابلية قبل أن يلتمس العلاج للطاهي وأصناف الطعام.
واسمع غرائب ما يطرق الآذان ويصك الأذهان: فهذا الكاتب لماذا لا يكتب في القصة؟ ولماذا لا يكتب في الدين؟ ولماذا لا يكتب في الفكاهة؟ ولماذا لا يكتب في هذه الصحيفة أو تلك المجلة؟ وهذا الكاتب لماذا لا يطلق لحيته؟ أو لماذا لا يقصها؟ وهذا الكاتب لماذا لا يعجب بفلان ولا يقلع عن الإعجاب بفلان؟ وهذا الكاتب لماذا لا يتوجه إلى جمهرة القراء قارئًا قارئًا؛ ليعفر وجهه بتراب الاعتذار والاستغفار، ويعترف بما يسومونه من اعتراف أو ينكر ما يسومونه من إنكار؟
وخذها قاعدة لا ريب فيها أن الشروط عندنا تزيد بمقدار ما يقل الجزاء، وأن الجزاء عندهم يزيد بمقدار ما تقل الشروط.
أليس هذا بعجيب؟
بلي، ولكنه عجب في الظاهر دون الحقيقة، وما من عجب صحيح في كثرة الطهاة حيث يكثر الآكلون، ولا من عجب صحيح في كثرة الافتنان والتسابق إلى الإتقان حيث يكثر الطهاة في مكان.
فالغربيون يفتنُّون في الطبع والنشر والتشويق والترغيب؛ لأن طهاة الأدب كثيرون، وآكلي الأدب كثيرون.
وكذلك تقل الشروط عندهم؛ لأن الطعام مطلوب هنا إن لم يطلب هناك، وسائغ في بعض الأذواق إن لم يسغ في غيرها من الأذواق.
أما الطفل الممعود فكيف يعيش الطاهي إلى جانبه؟ وكيف يقلع عن الاقتراح والاشتراط وهو لا يأكل ولا يشتهي؟
لو أنه أكل لما اشترط واقترح.
ثم إنه ليجد شروطه كاملة وافية دون أن يطلبها ويلح في تقاضيها؛ لأن الطهاة يكثرون حيث يكثر الآكلون، ثم يتنافس الطهاة فيجيدون ويبدعون.
•••
لقد أخذنا المفكرات السنوية من الطباعة الغربية، ولكننا لم نأخذ بعد افتنانهم في أوضاعها ولا في موضوعاتها، فقلما تختلف مفكراتنا السنوية بغير الحجم وصنف الورق ولون الغلاف، وقد يزيدون عليها بعض الحكم والأمثال على غير قصد مرسوم أو تفرقة منوعة.
وإني لأكتب هذا المقال، وأود أن يصل إلى طائفة من الناشرين والطابعين، فيتخذوا من المفكرات مروجًا للأدب ومن الأدب مروجًا للمفكرات، ويخرجوا لنا مفكرة للمتنبي ومفكرة للبحتري، ومفكرة لابن الرومي، ومفكرات للجاحظ وابن المقفع ومحمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول وسائر العظماء من الكتاب والمصلحين والقادة في عصورنا الغابرة والحاضرة، وإذا خيفت قلة الإقبال على مفكرة مقصورة على أديب واحد فلتطبع منها طبعات متفرقة لأدباء متعددين، فيجتمع من المفكرة كلها ديوان منتخب لأدباء العربية، ويقتني القارئ الواحد أكثر من مفكرة واحدة إذا حسن الاختيار والتنويع.
ومهما يكن من الإعراض عن القراءة، فلا إخال أن الكتيب الصغير الذي يباع بدريهمات، ويحتوي ثلاثمائة وستين معنى للمتنبي أو المعري يعدم مئات القراء إذا استكثرنا عليه الألوف، وقد يقبل عليه من لا ينشط لقراءة الدواوين والكتب، ولكنه يتسلى بالبيت بعد البيت والمعنى بعد المعنى كلما قلب صفحة لإثبات موعد أو تقييد حساب.
ونعود إلى تاجور الذي بدأناه بالتحية، وذكرنا من أجله هذه المفكرات السنوية.
فنحمد الله أنه بات بمنجاة من الخطر، وأن النبأ الذي انتظرناه مبشرًا بسلامته قد سرى بين أرجاء العالم في هذا العهد الذي ندرت فيه أنباء السلامة، فكان له جمال الندرة الموموقة، وغبطة الترفيه المنشود في أوانه. ونفتح السنوية التاجورية على شهر أكتوبر، فنقرأ له تحية الخريف التي يقول فيها: «المساء يومئ، وبودي أن أتبع السفر١ الذين أقلعوا في الزورق الأخير لعبور الظلام: منهم من هو راجع إلى مقره، ومنهم من يذهب إلى الشاطئ البعيد، وكلهم قد اجترأ على الرحيل، وأنا على المورد وحدي قد تركت مقري، وأخطأت الزورق وذهب مني الصيف وليس لي في الشتاء حصاد، وهأنذا أنتظر الحب الذي يجمع العثرات والخيبات؛ ليبذرها دموعًا في الظلام، عسى أن تنبت الثمر حين يطلع النهار الجديد.»
ثم نقرأ له في الصفحة التالية: «تقبلني يا رب … تقبلني في هذه السويعة، واغمر بالنسيان تلك الأيام اليتيمة التي انقضت في البعد عنك، وانشر هذه السويعة موسعة فسيحة على جحرك وتحت ضيائك، فكم ذا أقتفي الأصوات التي تجذبني إليها، ثم لا تهديني إلى مكان، فاليوم هبني يا رب أن أجلس في سلام حيث أصغي إلى كلماتك من خلال هذه السكينة».
ذلك وحي الشاعر الذي له رسالة من الغيب وإلى الغيب في صفحة كل يوم.