وفيات الأعيان/عيسى بن عمر الثقفي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

عيسى بن عمر الثقفي

أبو عمرو عيسى بن عمر الثقفي النحوي البصري، قيل كان مولى خالد بن الوليد، رضي الله عنه، ونزل في ثقيف فنسب إليهم؛ كان صاحب تقعير في كلامه واستعمال للغريب فيه وفي قراءاته، وكانت بينه وبين أبي عمرو بن العلاء صحبة، ولهما مسائل ومجالس وأخذ القراءة عرضاً عن عبد الله بن أبي إسحاق وروى الحروف عن عبد الله بن كثير وابن محيصن، وسمع الحسن البصري، وله اختيار في القراءة على قياس العربية، وروى القراءات عنه أحمد بن موسى اللؤلؤي وهارون بن موسى النحوي والأصمعي والخليل بن أحمد وسهل بن يوسف وعبيد بن عقيل وأخذ سيبويه عنه النحو، وله الكتاب الذي سماه " الجامع " في النحو، ويقال إن سيبويه أخذ هذا الكتاب وبسطه وحشى عليه من كلام الخليل وغيره، ولما كمل بالبحث والتحشية نسب إليه، وهو كتاب سيبويه المشهور، والذي يدل على صحة هذا القول أن سيبويه لما فارق عيسى بن عمر المذكور ولازم الخليل بن أحمد سأله الخليل عن مصنفات عيسى، فقال له سيبويه: صنف نيفاً وسبعين مصنفاً في النحو، وإن بعض أهل اليسار جمعها وأتت عنده عليها آفة فذهبت ولم يبق منها في الوجود سوى كتابين: أحدهما اسمه " الإكمال "، وهو بأرض فارس عند فلان، والآخر " الجامع " وهو هذا الكتاب الذي أشتغل فيه وأسألك عن غوامضه، فأطرق الخليل ساعة ثم رفع رأسه وقال: رحم الله عيسى، وأنشد:

ذهب النحو جميعـاً كـلـه



غير ما أحدث عيس بن عمر

ذاك إكمال وهـذا جـامـعٌ



وهما للناس شمسٌ وقـمـر

فأشار بالإكمال إلى الغائب وبالجامع إلى الحاضر. وكان الخليل قد أخذ عنه أيضاً.

ويقال: إن أبا الأسود الدؤلي لم يضع في النحو إلا باب الفاعل والمفعول فقط، وإن عيسى بن عمر وضع كتاباً على الأكثر وبوبه وهذبه وسمى ما شذ عن الأكثر لغات. وكان يطعن على العرب ويخطئ المشاهير منهم، مثل النابغة في بعض أشعاره وغيره، وروى الأصمعي قال: قال عيسى بن عمر لأبي عمرو بن العلاء: أنا أفصح من معد بن عدنان، فقال له أبو عمرو: لقد تعديت، فكيف تنشد هذا البيت:

قد كنا يخبأن الوجوه تستراً



فاليوم حين بدأن للنظـار

أو " بدين للنظار " فقال عيسى: بدأن للنظار، فقال له أبو عمرو، أخطأت؛ يقال: بدا يبدو إذا ظهر، وبدا يبدأ إذا شرع في الشيء، والصواب " حين بدون للنظار ". وإنما قصد أبو عمرو تغليطه، لأنه لا يقال في هذا الموضع " بدأن " ولا " بدين " بل " بدون ".

ومن جملة تقعيره في الكلام ما حكاه الجوهري في كتاب " الصحاح " قال: سقط عيسى بن عمر عن حمار له، فاجتمع عليه الناس، فقال: ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة، افرنقعوا عني؛ معناه: ما لكم تجمعتم علي تجمعكم على مجنون، انكشفوا عني.

ورأيت في بعض المجاميع أنه كان به ضيق النفس، فأدركه يوماً وهو في السوق، فوقع ودار الناس حوله يقولون: مصروع مصروع، فبين قارئ ومعوذ من الجان، فلما أفاق من غشيته نظر إلى ازدحامهم فقال هذه المقالة، فقال بعض الحاضرين: إنه جنيه يتكلم بالهندية.

ويروى أن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين كان قد ضربه بالسياط، وهو يقول: والله إن كانت إلا أثياباً في أسيفاط قبضها عشاروك. وله من هذا النوع شيء كثير. وتوفي سنة تسع وأربعين ومائة، رحمه الله تعالى.

وقيل إن الذي ضربه كان يوسف بن عمر أمير العراقين - وسيأتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى - وكان سبب ضربه إياه أنه لما تولى العراقين بعد خالد بن عبد الله القسري تتبع أصحابه، وكان بعض جلسائه قد أودع عند عيسى بن عمر المذكور وديعةً فنمي الخبر إلى يوسف، فكتب إلى نائبه بالبصرة يأمره بأن يحمل إليه عيسى بن عمر مقيداً، فدعا به ودعا حداداً، وأمره بتقييده: فلما قيده قال له الوالي: لا بأس عليك، إنما أرادك الأمير لتأديب ولده، قال: فما بال القيد إذاً؟ فبقيت هذه الكلمة مثلاً بالبصرة، فلما وصل إلى يوسف سأله عن الوديعة فأنكر، فأمر بضربه، فلما أخذه السوط جزع فقال هذه المقالة المقدم ذكرها.