نهج البلاغة/الخطبة الشقشقية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلاَنٌ وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى. يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَلاَ يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ. فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً. وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طِخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ. وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ. وَيَكْدَحُ فِيهاَ مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقى رَبَّهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى. وَفِي الْحَلْقِ شَجاً أَرَى تُرَاثِي نَهْباً حَتَّى مَضَى الأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلاَنٍ بَعْدَهُ

(ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الأَعْشَى):

شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا

وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

فَيَا عَجَبا بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآِخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كُلاَمُهَا وَيَخْشُنُ مَسُّهَا. وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا. وَالاعْتِذَارُ مِنْهَا.

فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ. وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَشِماسٍ وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ.

فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ. حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ. جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنَّي أَحَدُهُمْ فَيَا لِلَّهِ وَلِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إلَى هذِهِ النَّظَائِرِ لكِنِّي أَسْفَفْتُ إذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا.

فَصَغَى رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَمَالَ الآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَهَنٍ

إلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِهِ وَمُعْتَلَفِهِ. وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضِمُونَ مَالَ اللَّهِ خَضْمَةَ الإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ إِلَى أَنِ انْتَكَثَ فَتْلُهُ. وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ

فَمَا رَاعَنِي إلاَّ وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. حَتَّى لَقَدْ وُطِىءَ الْحَسَنَانِ.وَشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ

فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلاَمَ اللَّهِ حَيْثُ يَقُولُ.

تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادَاً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ

بَلى وَالله لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا. وَلكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا.

أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ. وَبَرَأَ النَّسَمَةَ

لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ. وَمَا أَخَذَ اللَّه عَلَى العُلَمَاءِ أَنْ لاَ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلاَ سَغَبِ مَظْلُومٍ لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا. وَلأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ

(قَالُوا) وَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى هذَا الْمَوْضِعِ مِنْ خُطْبَتِهِ فَنَاوَلَهُ كِتَاباً فَأَقْبَلَ يَنْظُرُ فِيهِ.

قَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَو أَطْرَدْتَ خُطْبَتَكَ مِنْ حَيْثُ أَفْضَيْتَ.

فَقَالَ هَيْهَاتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَوَاللَّهِ ما أَسِفْتُ عَلَى كَلامٍ قَطُّ كَأَسَفِي عَلَى هذَا الْكَلامِ أَنْ لاَ يَكونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَلَغَ مِنْهُ حَيْثُ أَرَادَ (قَوْلُهُ كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ)

يُرِيدُ أَنَّهُ إِذَا شَدَّدَ عَلَيْهَا فِي جَذْبِ الزِّمَامِ وَهِيَ تُنَازِعُهُ رَأْسَهَا خَرَمَ أَنْفَهَا وَإِنْ أَرْخَى لَهَا شَيْئاً مَعَ صُعُوبَتِهَا تَقَحِّمَتْ بِهِ فَلَمْ يَمْلِكْهَا.

يُقَالُ أَشْنَقَ النَّاقَةَ إِذَا جَذَبَ رَأْسَهَا بِالزِّمَامِ فَرَفَعَهُ وَشَنَّقَهَا أَيْضاً، ذَكَرَ ذلِكَ ابْنُ السِّكِّيتِ فِي إِصْلاَحِ الْمَنْطِق.

وَإِنَّمَا قَالَ أَشْنَقَ لَهَا وَلَمْ يَقُلْ أَشْنَقَهَا لأِنَّهُ جَعَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ أَسْلَسَ لَهَا فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ إِنْ رَفَعَ لَهَا رَأْسَهَا بِمَعْنَى أَمْسَكَهُ عَلَيْهَا.