نزهة المشتاق في اختراق الآفاق/الإقليم الثاني/الجزء التاسع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


إن الذي تضمن هذا الجزء التاسع من الإقليم الثاني من المدن الهندية والصينية منها مدن الهند وهي أوريسين على ضفة البحر الملح ولوقين وقاقلا وأطراغا.

وفيه من بلاد الصين طريغيوقن وقطيغورا وكاشغرا وخيغون وإسقيريا وإشقيرا وبورا وطوخا وأطراغن وقرنابول.

وفي حصة بحره جزيرة أوريسين وجزيرة سناسا وفي كل بلد منها، أمور مختصة بها لا توجد بغيرها وها نحن لكل ذلك ذاكرون بحول الله وعونه.

فأما مدينة أوريسين فإنها مدينة صغيرة على الساحل.

وإنما المذكور منها جزيرتها لأنها عظيمة المقدار كثيرة الجبال والأشجار وفيها فيلة كثيرة وبها تصاد ويتجهز منها بأنيابها.

وقد اختلف في صيد الفيلة وأكثر القول في ذلك فمن الناس من قال إن الصائدين للفيلة يقصدون إلى مواضع مبيتها والأماكن التي تألفها فيحفرون لها حفائر مثل ما تحقره البرابر لصيد الأسود وصفة هذه الحفرة يكون أعلاها واسعا وأسفلها ضيقا ويسترونها بالخشب الرقاق والحشيش ويسوون بالتراب فوق ذلك حتى تخفى الحفرة فإذا جاءت الفيلة إلى مواضعها التي من عادتها المبيت فيها أو في طرق مائها التي تعودت الشرب منه فإذا وافت الحفرة سقط منها واحد على رأسه وفر الباقي من الفيلة على وجوهها وصائدوها يكونون هنالك في أماكن لهم ينظرون منها إلى سقوط الفيلة فإذا نظروا إليها أسرعوا بالجري إلى ما سقط في الحفرة وفتحوا خواصرها وفتقوا بطونها وتركوها إلى أن تموت ثم يتعاونون على تجزيرها وإخراجها عن الحفر قطعاً قطعاً ويخرجون أنيابها ويأخذون كعوبها.

وفي كثير من أخبار الهند أن الفيلة في بلادها تمشى قطارا وتبيت في الغياض اثنين في واحد وثلثة وأربعة في واحد ورقادها هو أن تقصد الشجر فتورك على أصولها ويورك بعضها على بعض وتنام وقوفا لغلظ وطول مفاصلها فيقصد الصائدون إلى تلك الأشجار بالنهار فيقطعون أكثرها ويتركون الشجرة قائمة مستهلكة فإذا جن الليل وأتت الفيلة على جري العادة إلى الأشجار التي من عادتها الرقاد بالاعتماد عليها فلا يزال يثقل بعضها على بعض إلى أن تمر الشجرة على أوائلها وتسقط الفيلة مع سقوط الشجر فلا تقدر أن تقوم فيثب الصائدون إليها بالخشب ويضربون رؤوسها إلى أن تموت وتستخرج أنيابها وتباع من التجار بأموال كثيرة وتحمل إلى الآفاق وتصرف في كثير من الأعمال المرصعة وأخبر غير واحد أن النابين الكبيرين من الفيلة يكون وزنهما ستة عشر قنطار إلى ما فوقها أو دونها.

مما يحكي التجار المسافرون إلى الهند عن ولادة الفيلة أن الإناث منها تلد أولادها في المياه الراكدة فتخرج أولادها عند الوضع فتسقط في الماء فتسرع الأمهات إليها فتقيمها في الماء سوقها وتخرجها عنه وتديم لعقها إلى أن تجف وتستدرجها مشيا إلى أن يكمل خلقها فتبارك الله أحسن الخالقين.

ولا يدرى فيما خلق الله من البهائم ذوات الأربع أفهم من الفيل ولا أقبل منه للتعليم ومن خواص الفيل أنه لا ينظر في عورة الإنسان.

وملوك الهند تتنافس في اكتساب الفيلة وتتغالى في أثمانها وتنظر الملوك إليها بعين المحافظة عليها وتجلب إلى مرابطها عندهم صغارا فتنشأ على التأنس بالناس.

ويصادر بها في القتال لأن الفيل الكبير المجفف يقاتل على ظهره اثنا عشر رجلا بالحجف والسيوف والدبابيس المتخذة من الحديد ويقف على رأس كل فيل منها رجل يسوقه بمخطاف يجر به خطمه ويضرب أعلى رأسه بخشبة أو بمصفع متخذ لذلك وبه يدار الفيل وأمر الفيلة في القتال أنها يحمل بعضها على بعض فيمر الأقوى على الأضعف ولها كرات ورجعات وكل ذلك مشهور من أمر الفيلة مشهود في بلاد الهند.

وبهذه االجزيرة معادن حديد.

وينبت في أكثر جبالها الراوند الذي يجلب من الصين أفضل لأنه أصلب جسما وأصبغ لونا وأبلغ فيما يراد منه في إصلاح الكبد وجملة منافعه.

وفي هذه الجزيرة شجر على صفة الخروع إلا أنه كثير الشوك وشوكه بارز يمنع من لمسه ويسمى الشهكير وله عروق سود وملوك الصين والهند تقتنيه لأنهم يدبرون منه سم ساعة وهو مشهور الذكر.

وأهل الهند والصين لا يقتلون أحدا من ذوي محارمهم ولا من خدامهم ولا ممن يمكنهم التحيل عليه إلا بالسم.

وفي كل خور من أخوار الهند وأخوار الصين يظهر منها في البحر مما يقابل كل خور أحناش ملمعة بأنواع ألوان وصفات مختلفة من الترقيط وأهل البحر يعلمونها ويميزونها ويعلمون أحناش كل خور مها وأين هي من الأرض بما يعرفون من صفاتها وبها يستدلون وهذا أيضا مذكور وتسمى هذه الأحناش باللسان الهندى الميزرة.

ومن أوريسين إلى لوقين ثلاث مراحل على الساحل وهي مدينة حسنة على البحر وعلى ضفة خور عذب والمراكب تدخله.

ومنها إلى المدينة طريغيوقن أربع مراحل وهي مدينة عامرة على ضفة البحر الملح.

ويقبل هذه المدينة في البحر جزيرة سناسا وهي جزيرة عامرة كثيرة الصادر والوارد وبينها وبين الساحل أقل من نصف مجرى وفيما يذكر أن في هذه الجزيرة بئرا تخرج منها في بعض الأوقات نار محرقة ثم تخمد ثم تخمد في بعض الأوقات.

ومنها إلى قطيغورا ست مراحل ومدينة قطيغورا على البحر وهي على خور ماء حلو وهي مدينة جليلة فيها مكاسب ومتاجر وهي محسوبة في بلاد الصين.

ومنها إلى الصنف ثلاث مراحل والصنف من بلاد الصين وقد ذكرناها وجزيرتها فيما سلف وتقدم من ذكر الإقليم الأول.

ومن قطيغورا إلى كاشغرا أربع مراحل ومدينة كاشغرا من بلاد الصين وهي مدينة عامرة كثيرة الخيرات مشتملة البركات فجها متاجر وبضائع وأسفار وحركات منجحة وهي على نهر صغير يأتي إليها من جهة شمالها من جبل قطيغورا وفي هذا الجبل معادن فضة طيبة فائقة الجودة سهلة التخليص من خبثها.

ومن مدينة كاشغرا إلى مدينة خيغون ثماني مراحل ومدينة خيغون مدينة عامرة من مدن الصين والقاصد إليها كثير وبها التجارات الكثيرة.

وبأرضها توجد دواب المسك والزباد أما دواب المسك فهي صنف من أصناف المعز بل هي أشبه بالغزلان لكنها صغار وألوانها صهب إلى الحمرة وجلودها لدنة المجسة ورعيها أنواع نبات الطيب ولها صرر يجتمع فيها دم يكون دمها أول شيء أحمر ثم لا يزال يتغير إلى السواد حتى يكون لونه أسود إلى الشقرة فتقلق بها الظباء فتحكها وتقرضها تارة بأضلافها وتارة بالعض بأفواها إلى أن تسقط وحكى صاحب كتاب العجائب أن في برية بلاد التبت جبلان خلف مدينة وحلان يمر بينهما نهر عذب الماء وفي هذين الجبلين ينبت سنبل الطيب كثيرا أو ضرب منه فترعاهما الظباء المسكية وتأتي إلى ذلك الماء فتنتفخ صررها وتمتلئ دما فتحكها بأظلافها حتى تنقطع وهذه الدواب تصاد في وقت معلوم لصيدها فتمسك إلى أن تؤخذ منها تلك الصرر ثم تحمل إلى المواضع التي صيدت فيها فتطلق بها وهي بها مستأنسة لا تنفر كثيرا.

وأما دابة الزباد فهي في هذا الإقليم الثاني من أوله إلى آخره موجودة به وهي دابة تشبه القط بالسواء لا فرق بينهما لكنها كبيرة وتمسك في أقفاص كبار وتطعم اللحم فإذا كان في أول الصيف وآخر الربيع ابتدأ الرشح في أخصيتها فمتى نظر إليها وقد اجتمع من الزباد فيها شيء قبض عليها وكبست في أوعية الخيش وجرد منها ما اجتمع على خصاها من الدرن فذلك الزباد المحض ثم تعاد إلى أقفاصها فتكون بالحالة الأولى إلى أن يجتمع بها الدرن ثانية وثالثة ثم تعاود إلى الجرد والأخذ هكذا من أول الربيع إلى آخر الخريف وهذا الحيوان يكون بالغرب الأقصى كثير في بلاد الملثمين وهو مشهور قد رأيناه عيانا.

ومدينة خيغون عليها حصن حصين وجنات محدقة بها وبساتين لا عنب بها ولا تين البتة ومدينة خيغون على ضفة نهر يصب في نهر خمدان الصين ومن مدينة خيغون إلى مدينة إسقيريا أربع مراحل ومدينة إسقيريا مدينة من مدن الصين على نهر يمد نهر خمدان وهي عامرة وبها ملوك وسادات وجلة وعمال وبها تجتمع أموال الصين التي تصل إلى ملكها الأكبر بعد تخليصها من جميع النوائب وذلك أن جميع الجبايات المجموعة في بلاد الصين براً أو بحراً يصير بها عمالها إلى مدينة إسقيريا فيدفعونها هناك إلى عمال وأمناء يحصلونها ويحاسبون بها وعليها ثم ينصرف العمال إلى بلادهم فإذا اجتمعت الأموال بإسقيريا وكان الوقت المعلوم من العام المؤرخ عندهم لحمل المال جمعت تلك الأموال بأسرها ورفعت إلى مدينة تاجه وهي مدينة الملك العظمى فيستودع هناك المال الذي جيئى به في خزائن الملك البغبوغ وهذه دائمة لا تنقطع ولا يصل إلى بيت مال الملك شيء يحتاج فيه إلى الإخراج منه وإنما يوصل إليه ما كان مخلصا من جميع النوائب وأهل إسقيريا يرمون موتاهم في النهر ولا يدفنون ميتا البتة وسنذكر نهر خمدان وما يصنع به من أهل الصين.

ومن مدينة إسقيريا إلى مدينة طرخا ستة أيام ومدينة طوخا على نهر كلهى الصيني الكبير وهي عامرة بالناس وفيها تجار وبضائع وذخائر ويصنع بها الثياب الطوخية من الحرير القسي ولها قيمة وافره ويتجهز منها إلى سائر البلاد وهي ثياب مطرفة كالثياب العتابية ومنها ثياب مريشة ويعمر الثوب منها كثيرا.

ومن مدينة طوخا إلى مدينة بورا يومان انحدارا في نهر كلهى وفي البر أربعة أيام وبورا كثيرة الخلق والتجارات متصلة العمارات وافرة النعم بها حنطة وأرز وشجر مقل شهي الأكل.

ومن مدينة بورا إلى مدينة كاشغرا السابق ذكرها ثماني مراحل ومن مدينة بورا إلى مدينة إسقيرا سبع مراحل ومن مدينة إسقيرا إلى مدينة كاشغرا ثماني مراحل.

ومدينة إسقيرا على نهر يمد نهر بهنك وأهلها يعبدون الأصنام وهم كفرة.

ومنها إلى طريغيوقن سبع مراحل ومن إسقيرا أيضاً إلى أطراغن أربع مراحل وهي مدينة على بركة ماء كبيرة عذبة الماء ولا يوجد لوسطها قعر وماؤها مائل إلى الدكنة وبها سمك وجوهها كوجوه البومة على رؤوسها شبه قلانس الديكة ويزعم أهل كفران ترك أنها تفعل بالرجال ما يفعل الإسقنقور من كثرة الإنعاظ وغزر الباه.

ومن مدينة أطراغن إلى مدينة قرنابول أربع مراحل وهي مدينة صغيرة في سفح جبل لكنها عامرة: وربما طرقتها الترك فأضرت بأهلها وسبت بعض قراها ومواشيها لأنها متاخمة للأتراك الخرلخية وهي مدينة على نهر صغير ونهرها يصب في نهر كلهى الصين ومن قرنابول إلى طوخا ست مراحل وطوخا أيضا قد تقدم ذكرها.

ومن لوقين التي على الساحل من بلاد الهند إلى قاقلا سبعة أيام .

وهي على ضفة نهر صغير يصب في نهر بهنك الهند.

وبمدينة قاقلا حرير كثير وأهلها يربون دود الحرير كثيرا وإليها تنسب الثياب القاقلية والحرير القاقلي.

ومن مدينة قاقلا إلى مدينة قشمير عشر مراحل.

ومن قاقلا أيضاً إلى مدينة أطراغا أربع مراحل وأطراغا مدينة كبيرة لملك من ملوك الهند على ضفة نهر بهنك.

وبها جيوش كثيرة ورجال وأسلحه وهم يحاربون الأتراك وبها أرز وخصب ومن أطراغا إلى أطراغن عشر مراحل.

وبهذا الجزء من الأنهار الهندية نهر بهنك ونهر كلهى وبعض نهر خمدان الصين الكبير فأما نهر بنهك الهند فإنه يخرج من الجبل المحيط بأقصى شمال الهند ويمر إلى شرقي مدينة أطراغا إلى موقع نهر قاقلا إلى أن يتصل بالبحر فيصب فيه وذلك عند مدينة طريغيوقن.

ومن أهل الهند قبيلة تسمى الجلهكتية تزعم أن هذا النهر غاص به الملك جلهكت وأنه يتراءى لهم فيه في أكثر الأوقات.

فإذا أذنب الرجل منهم ذنبا أتى إلى هذا النهر فيدخل فيه إلى وسطه ويقيم فيه ساعة وأكثر وبيده أنواع الرياح ثم يقطعها صغارا ويلقي بعضها إثر بعض على ماء النهر ويسبح ويقرأ فإذا أراد الانصراف حرك الماء بيديه أخذ منه بكلتي يديه وصبه على رأسه وظهره ثم يسجد وينصرف.

ومن أنهار الصين نهر كلهى وأهل الصين الساكنون بضفتيه لهم سنة معتادة في هذا النهر إذا أذنب الرجل منهم ذنبا وأراد تكفير ذلك سار إلى هذا النهر وحوله جماعات الناس يدعون له بالطوبى ويدعونه بالكرامة والخلود فإذا وصل إلى هذا النهر أغرق نفسه فيه حتى يموت.

نجز الجزء التاسع من الإقليم الثاني والحمد لله ويتلوه الجزء العاشر منه إن شاء الله تعالى.