نزهة الفتيان في تراجم بعض الشجعان/علي بن أبي طالب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


علي بن أبي طالب رضي الله عنه

هو أبو الحسن أمير المؤمنين، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرته بالشجاعة والنجدة أوضح من كوكب النهار حتى قال فيه أسيد بن أبي إياس الكناني قبل أن يسلم بعد وقعة بدر يخاطب قريشًا ويعيرِّهم بما فعل عليّ فيهم:

في كل مجمع غاية أخزاكم
صدع يفوق على المذاكي القرَّح
لله درُّكُمُو ألمَّا تذكروا
قد يذكر الحر الكريم ويستحي
هذا ابن فاطمة الذي أفناكم
ذبحًا وقتلًا بعضه لم يرتج
أين الكهول وأين كل دعامة
في المعضلات وأين زين الأبطح

وفاطمة أمه هي بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف أسلمت وهاجرت وتوفيت بالمدينة فنزل النبي صلى الله عليه وسلم في قبرها؛ لأنها ربَّته.

وكانت درعه رضي الله عنه صدرًا لا ظهر لها، فقيل له: يا أبا الحسن، لم لا تجعل لها ظهرًا؟ فقال: إذا مكَّنت عدوي من ظهري فلا أبقى الله عليَّ، شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عدا تبوك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلَّفه على المدينة أميرًا، فقال: يا رسول الله، أتتركني مع النساء والصبيان، وتفوتني غزوة معك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إلَّا أنه لا نبي بعدي».

وكانت قتلى قريش ببدر سبعين رجلًا، فكان ثلثها لعلي وعمه حمزة، والباقي لسائر الصحابة.

وقد تقدمت مبارزته لعمرو بن عبد وُد الفارس المشهور وقتله أياه في ترجمة عمرو.

وقتل أبا سعد بن أبي طلحة يوم أحد، وكان أبو سعد بن أبي طلحة حامل لواء المشركين، فخرج بلوائه وطلب المبارزة مرارًا، وقال: أنا قاصم أيِّ داهية، فخرج إليه علي رضي الله عنه، وهو يقول: أنا أبو القصم، فاختلفا ضربتين فقتله علي.

قال ابن هشام: نادى منادٍ يوم أحد: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي، وذو الفقار سيف رسول الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما رجعوا من أحُد ناول سيفه ذا الفقار ابنته فاطمة، وقال: «اغسلي عنه الدم يا بنية فو الله لقد صدقني اليوم»، فناولها علي رضي الله عنه سيفه أيضًا، وقال: اغسلي عنه دمه، فو الله لقد صدقني اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن كنت صدقت القتال لقد صدق معك سهل بن حنيف وأبو دُجانة».

وقال علي حين غسلت فاطمة سيفه من الدم.

أفاطم هاتي السيف غير ذميم
فلست برعديد ولا بلئيم

وأبو دجانة، وسهل بن حنيف من الأنصار، وستأتي ترجمة أبي دجانة في شجعان الأنصار.

وبارز أيضًا مرحبًا اليهودي يوم خيبر، وكان مرحب شجاعًا، وأصله من حِمْير، فخرج يومئذٍ يطلب البزاز1 وهو يقول:

قد علمت خيبر أني مَرحب
شاكي السلاح بطَل مجرِّب
أطعن أحيانًا وحينًا أضرب
إذا الليوث أقبلت تَحزَّب2
إنَّ حمِاي للحمى لا يُقَرب

فخرج إليه علي وهو يقول:

أنا الذي سمتني أمي حيدره
كليث غابات كَرِيِه المنظره3
أكيلهم بالصاع كيل السندره4

والسندرة: شجرة يصنع منها مكابيل عظام، قاله السهيلي5

وأما ابن إسحاق فقال: إن مرحبًا قتله محمد بن مسلمة الأنصاري، ونقل ابن إسحاق عن سلمة بن الأكوع قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه برايته البيضاء إلى حصن من حصون خيبر ليفتحه فقاتل بها طول يومه ثم رجع ولم يفتح وقد جهد، ثم بعث الغد عمر بن الخطاب فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَأُعطِينَّ الراية غدًا رجلًا يحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفرَّار»، قال سلمة: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا وهو أرمد فتفل في عينه، ثم قال: «خذ هذه الراية وامض بها حتى يفتح الله عليك»، قال سلمة: فخرج بها يهرول وإنا لنتبع أثره حتى ركزها في رضَم من حجارة تحت الحصن فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن، فقال: من أنت؟ قال: علي بن أبي طالب، فقال اليهودي: علوتم وإله موسى، قال: فما رجع حتى فتح الله عليه، قال أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم:  خرجنا مع علي، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من اليهود فطاح ترسه من يده فتناول رضي الله عنه بابًا كان عند الحصن فترَّس به عن نفسه ولم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده حين فرغ، قال أبو رافع: فلقد رأيتني في نفر سبعة معي أناثًا منهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه، وهو ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنين وكان يقاتل بين يديه وعمه العباس ممسك لجام البغلة.

ومن كلامه في يوم الجمل قوله: بليت بأنضى الناس، وانطق الناس، وأطوع الناس، وكان يعلَى بن أمية أكثر أهل البصرة مالًا وهو الذي جهز أكثر جيش عائشة.

ومعنى أنضى الناس: أكثر الناس مالًا، وأنطق الناس؛ يعني: طلحة رضي الله عنه، وكان طلحة من الفصحاء المشهورين، وأطوع الناس؛ يعني: عائشة؛ لأنها أم المؤمنين، وجاءه ابن صوحان وهو ينعَس بالليل، فقال: أتنام يا أمير المؤمنين وأصحاب طلحة قد كشفونا؟ فوثب وقد كان قال: لا تبدؤُوهم بالقتال حتى يبدؤوكم، فأخذ الراية من يد ابنه محمد بن الحنفية، وحمل بها وضرب بسيفه حتى انثنى ثم رجع فقوَّموه ودفع الراية لابنه، وقال: هكذا فقاتل لا أمَّ لك، وقال في ذلك اليوم للأشتر وكان علي ميمنته أحمل فحمل فكشف مَن بإزائه ،وقال لهاشم المرقال بن عتبة بن أبي وقاص، وكان على ميسرته أحمل فحمل فكشف من بإزائه فقال لأصحابه كيف رأيتم ميمنتي وميسرتي، وكان رضي الله عنه في أيام صِفين يخرج كل غداة في سَرَعَان الخيل فيقف بين الصَّفين، ثم ينادي: يا معاوية، علامَ يقتل الناس بيننا ابرز لي وأبرز إليك، فيكون الأمر لمن غلب، فقال عمرو بن العاص: أنصفك الرجل فقال له معاوية رضي الله تعالى عنه: أردتها يا عمرو والله لا رضيت عنك حتى تبارز عليًّا فبرز إليه فلما غشيه بالسيف رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى سوأته فضرب عليٌّ وجه فرسه وانصرف عنه فجلس معه معاوية يومًا ونظر إليه فضحك فقال عمرو: أضحك الله سنَّك ما الذي أضحكك؟ قال: من حضور ذهنك يوم بارزت عليًّا إذ أتَّقيته بعورتك، أما والله لقد صادفت منَّانًا كريمًا، ولولا ذلك لخذم رَفغيك بالرمح، فقال عمرو: وأما والله إني عن يمينك إذ دعاك إلى المبارزة فاحولَّت عيناك وربا سحَرك وبدا منك ما أكره ذكره لك.

وبارزه بُسْرُ بن أرطاة من أصحاب معاوية أيضًا فلما غشيه علي بالرمح فعل مثل ما فعل عمرو بن العاص، فقال شاعر من أصحاب علي يعير أهل الشام:

أفي كل يوم فارسٌ غيرُ مُنْتَهٍ
وسوأته تَحت العَجاجةِ باديهْ
يكف عُلا عنها عليٌّ سنانَه
ويضحك منها في الخلاء معاويه
فقولا لعمرو وابن أرْطاةٍ انظرا
سبيلكما لا تُغضِبا الليثَ ثانيه
متى تلقيا الخيل المغيرة بالضحى
وفيها عليٌّ فاتركا الخيل ناحيه

وخطب يوم صِفِّين بعدما قُتل عمَّار بن ياسر رضي الله عنه، فقال: أيها الناس، إن الموت طالب لا يعجزه هارب ولا يفوته مقيم، أقدموا ولا تنكلوا، فليس عن الموت محيص، والذي نفس ابن أبي طالب بيده، إن ضربة بالسيف أهون من موت الفراش، أيها الناس، تلقوا السيوف بوجوهكم والرماح بصدوركم وموعدي وإياكم الرايةُ الحمراء فقال له رجل من أهل العراق: ما رأيت كاليوم خطيبًا يخطبنا يأمرنا أن نتلقَّى السيوف بوجوهنا والرماح بصدورنا ويعدنا راية بيننا وبينها مائة ألف سيف، وكانت تلك تسمى ليلة الهرير لقعقعة السيوف فيها وفي صبيحتها رفع أصحاب معاوية المصاحف على الرماح وطلبوا التحكيم وقد أصبح رضي الله عنه في تلك الليلة والمعركة وراء ظهره.

قال أبو عبيدة في التاج: جمع علي بن أبي طالب رئاسة بني بكر بن وائل كلها لحُضَين بن المنذر بن الحارث ابن وعْلة، وجعل ألويتها تحت لوائه وكانت له راية سوداء يخفق ظلها إذا أقبل فلم يُغْنِ أحد في صِفين غَنَاءه فقال فيه علي رضي الله عنه:

لِمَنْ رايةٌ سَوداء يَخْفِقُ ظِلها
إذا قيل قدِّمْها حُضينُ تقدما6
يقدمها في الصف حتى يَردْ بها
حياض المنايا تقطر السم والدِّما7
جزى الله عني والجزاء بكفه
ربيعة خيرًا ما أعفَّ وأكرما

والمراد بربيعة قبائل ربيعة ومنهم بنو بكر بن وائل وكان همْدان قاتلت معه في ذلك اليوم أشد القتال وأروت سيوفها من الدماء في ذلك المجال فقال يمدحهم:

ولَمَّا رأَيْتُ الخيلَ ترجمُ بالقنا
نواصيها حُمْر النحور دوامي
وأعرَضَ نَقْعٌ في السماء كأنه
عَجَاجة دَجْن مُلْبَس بقَتام
ونادى ابن هند في الكُلاعِ وحميْرٍ
وكِنْدَة في لَخْمٍ وحَيِّ جُذام
تَيممْتُ هَمْدَانَ الذين هُمُ هُمُ
إذا ناب دهر جُنتي وسهامي
فجاوبني من خيل هَمْدَان عصبةٌ
فوارس من هَمْدَان غيرُ لئام
فخاضوا لظاها واستطاروا شَرارها
وكانوا لدى الهيجا كَشَرْب مدام
فلو كنتُ بَوَّابًا على باب جَنةٍ
لقلت لهَمدْان ادخلوا بسلام
فهو رضي الله عنه أَحد الشجعان المعدودِ كل واحد منهم بألف المذكورين في نظم الشنقيطي وهو:
ممن بألف يوزن المقدادُ
حَارجةٌ عُبادة الآساد
كذا الزبير وعليٌّ أجدر
وخالد بالعدِّ ممن ذكروا

وقد ترك كثيرًا منهم كما اعترض عليه شارحه مثل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم وأبي دُجانة الأنصاري والبراء بن مالك؛ فإن هؤلاء مثلهم في الشجاعة، وستأتي تراجم هؤلاء كلهم إن شاء الله.

ومن كلام علي رضي الله عنه في هذا المقام: "من فكر في العواقب لم يشجع" وتوفي رضي الله عنه ليلة السابع عشر من رمضان سنة أربعين من الهجرة شهيدًا على يد أشقى الآخرين عبد الرحمن بن مُلجِم المرادي قتله غِيلة عند باب المسجد عند الفجر، وكانت خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر ونصفًا وعمره ثلاث وستون سنة.


  1. كذا في المطبوعة، ولعل الصواب: «البراز». مراجعه.
  2. في الاستيعاب (إذا الحروب أقبلت تلهب) بدل الشطر الثاني.
  3. في «اللسان» يدل «كريه المنظر» (غليظ القصرة).
  4. في اللسان (أكيلكم).
  5. وفي «اللسان» قيل السندرة: امرأة كانت تبيع القمح وتوفي الكيل. أي «أكيلكم وافيًا».
  6. «حضين»؛ أي: يا حضين.
  7. في رواية «الكامل» (حتى يردَّها).