انتقل إلى المحتوى

ميزان العمل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ميزان العمل المؤلف أبو حامد الغزالي


بسم الله الرحمن الرحيم


بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام الهمام، حجة الإسلام، زين الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، رضي الله تعالى عنه وأرضاه: لما كانت السعادة التي هي مطلوب الأولين والآخرين لا تنال إلا بالعلم والعمل، وافتقر كل واحد منهما إلى الإحاطة بحقيقته ومقداره، ووجب معرفة العلم والتمييز بينه وبين غيره بمعيار، وفرغنا منه، وجب معرفة العمل المسعد، والتمييز بينه وبين العمل المشقي. فافتقر ذلك أيضاً إلى ميزان، فأردنا أن نخوض فيه ونبين أن الفتور عن طلب السعادة حماقة، ثم نبيّن العلم وطريق تحصيله، ثم نبيّن العمل المسعد وطريقه. وكل ذلك بطريقة تترقى عن حد طريق التقليد إلى حد الوضوح، لو استقصى بحقيقته وطوّل الكلم فيه ارتقى إلى حد البرهان على الشروط التي ذكرناها في " معيار العلم ". وإن كنا لسنا نطوّل الكلام به، ولكن نرشد إلى أصوله وقوانينه.

بيان أن الفتور عن طلب السعادة حماقة السعاة الآخروية التي نعني بها بقاء بلا فناء، ولذة بلا عناء، وسرور بلا حزن، وغنى بلا فقر، وكمال بلا نقصان، وعز بلا ذل، وبالجملة كل ما يتصوّر أن يكون مطلوب طالب ومرغوب راغب، وذلك أبد الآباد، وعلى وجه لا تنقصه تصرم الأحقاب والآماد، بل لو قدّرنا الدنيا مملوءة بالدّرر، وقدّرنا طائراً يختطف في كل ألف سنة حبة واحدة منها، لفنيت الدّرر ولم ينقص من أبد الآباد شيء، فهذا لا يحتاج إلى استحثاث على طلبه، وتقبيح الفتور فيه بعد اعتقاد وجوده، إذ كان عاقل يتسارع إلى أقل منه، ولا يصرف عنه كون الطريق إليه متوعراً، ومحوجاً إلى ترك لذات الدنيا، واحتمال أنواع من التعب هنا. فإن المدة في احتمال التعب منحصرة، والفائت فيها قليل. واللذات الدنيوية منصرمة منقضية. والعاقل يتيسر عليه ترك القليل نقداً في طلب أضعافه نسيئة. ولذلك ترى الخلق كلهم في التجارات والصناعات، وحتى في طلب العلم، يحتملون من الذل والخسران، والتعب

والنصب، ما يعظم مقاساته طمعاً في حصول لذة لهم في المستقبل، تزيد على ما يفوتهم في الحال زيادة محدودة، فكيف لا يسمحون بتركه في الحال للتوصل إلى مزايا غير مقدرة ولا محدودة. ولم يخلق في الدنيا عاقل هو حريص على طلب المال، كلف بذل الدينار وانتظار شهر ليعتاض منه بعد مضي الشهر الإكسير الأعظم الذي يقلّب النحاس ذهباً إبريزاً، إلا تسمح نفسه ببذله، وإن كان ذلك فواتاً في الحال. حتى أن من لم يحتمل ألم الجوع مثلاً، في مثل هذه المدة ليتوصل به إلى هذه النعم الجسيمة، لم يعدّ عاقلاً، ولعل ذلك لا يتصور وجوده في الخلق، مع أن الموت وراء الإنسان بالمرصاد، والذهب لا ينفع في الآخرة. وربما يموت في الشهر أو بعد الشهر بيوم فلا ينتفع بالذهب. وكل ذلك لا يفتر رأيه في البذل، طمعاً في هذا العوض. فكيف يفتر رأي العاقل في مقاساة الشهوات، في أيام العمر وأقصاها مائة سنة، والعوض الحاصل عنها سعادة لا آخر لها؟ ولكن فتور الخلق عن سلوك طريق السعادة لضعف إيمانهم باليوم الآخر، وإلا فالعقل الناقص قاض بالتشمير لسلوك طريق السعادة فضلاً عن الكامل.

بيان أن الفتور عن طلب الإيمان به حماقة أقول أن فتور الإيمان أيضاً مع أنه من الحماقة، فليس يقتضي الفتور في سلوك سبل السعادة، لولا الغفلة. فإن الناس في أمر الآخرة أربع فرق: فرقة اعتقدت الحشر والنشر والجنة والنار، كما نطقت به الشرائع، وأفصح عنه وصفه القرآن، وأثبتوا اللذات الحسية التي ترجع إلى المنكوح والمطعوم والمشموم والملموس والملبوس والمنظور إليه، واعترفوا بأنه يضاف إلى ذلك أنواع من السرور، وأصناف من اللذات التي لا يحيط بها وصف الواصفين، فهي " مما لا أعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ". وأن ذلك يجري أبداً بلا انقطاع، وأنه لا ينال إلا بالعلم والعمل. وهؤلاء هم المسلمون كافة، بل المتبعون للأنبياء على الأكثر من اليهود والنصارى، وفرقة ثانية، وهم بعض الإلهيين الإسلاميين من الفلاسفة، اعترفوا بنوع من اللذة لا تخطر على قلب بشر كيفيتها، وسموها لذة عقلية.

وأما الحسيات فأنكروا وجودها من خارج. ولكن أثبتوها على طريق التخيل في حالة النوم. ولكن النوم يتكدر بالتنبه، وذلك لا تكدر له بل هو على التأبيد. وزعموا أن ذلك يثبت لطائفة من المشغوفين بالمحسوسات، والذين التفات نفوسهم مقصور عليها، ولا يسمون إلى اللذات العقلية. وهذا لا يفضي إلى أمر يوجب فتوراً في الطلب، فإن الالتذاذ إنما يقع بما يحصل في نفس الإنسان من التأثر بالملموس والمنظور والمطعوم وغيره. والشيء الخارج سبب في حصول الأثر، وليست اللذة من الأثر الخارج بل من الأثر الحاصل عند حضور الخارج. فإذا أمكن حصول الأثر في النفس دون الشيء الخارج، كما في حالة النوم، فلا أرب في الشيء الخارج. وفرقة ثالثة ذهبوا إلى إنكار اللذة الحسية جملة، بطريق الحقيقة والخيال، وزعموا أن التخيل لا يحصل إلا بآلات جسمانية، والموت يقطع العلاقة بين النفس والبدن، الذي هو آلته في التخيل وسائر الاحساسات، ولا يعود قط إلى تدبير البدن بعد أن أطرحه، فلا يبقى له إلا آلام ولذات ليست حسية ولكنها أعظم من الحسية. فإن الإنسان في هذا العالم أيضاً ميله إلى اللذات العقلية، ونفرته عن الآلام العقلية أشد،

ولذلك يكرهون في الطلب إراقة ماء الوجه، ويؤثرون الاحتزاز عن الافتضاح، والاستتار في قضاء شهوة الفرج، ومقاساة الآلام والمشقات. بل قد يؤثر الإنسان ترك الطعام يوماً أو يومين، ليتوصل به إلى لذة الغلبة في الشطرنج، مع حسيته، ولذة الغلبة عقلية. وقد يهجم على عدد كبير من المقاتلين ليقتل ويعتاض عنه ما يقدره في نفسه من لذة الحمد والوصف بالشجاعة. وزعموا أن الحسيات، بالإضافة إلى اللذات الكائنة في الدار الآخرة في غاية القصور. وتكاد يكون نسبتها كنسبة إدراك رائحة المطعوم اللذيذ إلى ذوقه ونسبة النظر في وجه المعشوق إلى مضاجعته ومجامعته، بل أبعد منه نسبة. وزعموا أن ذلك لما بعد عن فهم الجماهير مثّلت لهم تلك اللذات بما عرفوها من الحسيات، كما أن الصبي يشتغل بالتعلم لينال به القضاء أو الوزارة، وهو لا يدرك في الصبي لذاتهما، فيوعد بأمور يلتذ بها كثيراً كصولجان يلعب به، أو عصفور يعبث به وأمثاله، وأين لذة اللعب بالعصفور من لذة الملك والوزارة؟ ولكن لما قصر فهمه عن درك الأعلى مثّل بالأخس، ورّغب فيه تلطفاً باستدراجه إلى ما فيه سعادته.

وهذا أيضاً إذا صح، فلا يوجب فتوراً في الطلب، بل يوجب زيادة الجد. وإلى هذا ذهبت الصوفية والإلهيون من الفلاسفة من عند آخرهم، حتى أن مشايخ الصوفية صرّحوا ولم يتحاشوا، وقالوا: من يعبد الله لطلب الجنة أو للحذر من النار فهو لئيم. وإنما مطلب القاصدين إلى الله أمر أشرف من هذا. ومن رأى مشايخهم وبحث عن معتقداتهم وتصفح كتب المصنّفين منهم، فهم هذا الاعتقاد من مجاري أحوالهم على القطع. وفرقة رابعة وهم جماهير من الحمقى، لا يُعرفون بأسمائهم ولا يعدون في زمرة النظار، ذهبوا إلى أن الموت عدم محض، وإن الطاعة والمعصية لا عاقبة لهما، ويرجع الإنسان بعد موته إلى العدم، كما كان قبل وجوده. وهؤلاء لا يحل تسميتهم فرقة، فإن الفرقة عبارة عن جمع، وليس هذا مذهب جمع، ولا منسوباً إلى ناظر معروف، بل هو معتقد أحمق بطّال غلبت عليه شهوته، واستولى عليه شيطانه، فلم يقدر على قمع هواه، ولم تسمح له رعونته بأن يعترف بالعجز عن مقاومة الهوى، فيتعلل لنقصانه بأن ذلك واجب وأنه الحق. ثم أحبّ أن يساعده غيره، فدعا إلى البطالة وما جلبت عليه النفس من اتباع الهوى الذي هو أشد حامل للأحمق على المسارعة إلى التصديق به، لا سيما وقد يحتال بعض الفسقة بنسبة

هذا المعتقد إلى معروف بدقائق العلوم، كأرسطو طاليس وافلاطون، أو إلى فرقة كالفلاسفة، ويستدرج السامع بأن معرفتك لا تزيد على معرفتهم، وقد بحثوا زماناً وما تحصلوا على طائل. ولا يشعر ذلك المسكين بتلبيسه، فيصدقه لموافقته طبعه، ولا يطالبه بالبرهان في نقل المذهب عمّن نقله. ولو أخبره بأثر يتعلق به خسران درهم، لكان لا يصدقه إلا ببرهان، ولو قال: إن أباك أقر لفلان بعشرة الدراهم التي خلفها لك، ومعه به سجّل فيه خط الشهود، لقال: ما الحجة فيه وأين الشاهد الحي الذي يشهد به؟ وأي خبر في السجّل المكتوب، وفي نقل الخطوط؟ ثم يصدّقه في نقل مذهب من سمّاه من غير شاهدين يشهدان على سماعه، ومن غير عرض خطّ ذلك المذكور، ومن غير عرض تصنيف من تصانيفه، ولو بخط غيره. ثم لو سمع ذلك المذكور بإذنه يصرّح بذلك، لكان ينبغي أن يتوقف في القبول زاعماً أنه لا برهان عليه، وأن كان أخذه تقليداً. فتقليد الأنبياء والأولياء والعلماء، بل تقليد الجماهير والدهماء من الخلق أولى من تقليد واحد ليس معصوماً من الخطأ.

فأنت الآن أيها المسترشد، بعد أن عرفت هذه المعتقدات، لا يخلو حالك في اعتقاد الفرقة الضالة عن أربعة أقسام: إما أن تكون قاطعاً ببطلانه، أو ظاناً لبطلانه، أو ظاناً لصحته ظناً غالباً، ومجوزاً لبطلانه بطريق الإمكان البعيد، أو قاطعاً بصحته. وكيف ما كنت فعقلك يوجب عليك الاشتغال بالعلم والعمل، والإعراض عن ملاذ الدنيا، إن سلم عليك عقلك، وصحّت خبرتك. وذلك لا يخفى إن كنت قاطعاً ببطلانه. وإن كنت تظنّ بطلانه ظناً غالباً، تقاضاك عقلك التشمير في طلبه، كما يتقاضى العقل تجشم المصاعب في ركوب البحر، لطلب الربح، وفي تعلم العلم في أول الشباب، لطلب الرياسة عند من يطلبها، وفي نيل الوزارة أو باب من أبواب الكرامة بمقاساة مقدماتها. وعواقب تلك الأمور مظنونة، وليست مقطوعاً بها، بل إذا غلب على ظنّ الحريص على الدنيا أن الكيمياء له

وجود، ويحتمل عنده عدمها، وعلم أن تعب شهر يوصله إليها، إن كان لها وجود، ثم يتنعم بها بقية عمره الذي يمكن أن يكون أقل من شهر، وأن يكون كثيراً، تقاضاه عقله أن يحتمل التعب في ذلك الشهر ويستحقره، وإن كان معلوماً وعاجلاً، بالإضافة إلى ما يظنه وإن كان آجلاً ولم يكن مقطوعاً به. وإن كنت تظن صحته ظناً غالباً، ولكن بقي من نفسك تجويز صدق الأنبياء والأولياء وجماهير العلماء، ولو على بعد، فعقلك أيضاً يتقاضاك سلوك طريق الأمن، واجتناب مثل هذا الخطر العائل. فإنك لو كنت في جوار ملك وأمكنك أن تتعاطى في واحد من محارمه مثلاً عملاً من الأعمال، تظن ظناً غالباً أن يقع منه موقع الرضا، فيعطيك عليه خلعة وديناراً، ويحتمل احتمالاً على خلاف الظن الغالب أنه يقع منه موقع السخط، فيتكّل بك ويفضحك، ويديم عقوبتك طول عمرك، أشار عليك عقلك بأن الصواب أن لا تقتحم هذا الخطر. فإنك إن فعلت وأصبت، فمزيته دينار لا يطول بقاؤه معك، وإن أخطأت فنكاله عظيم، يبقى معك طول عمرك، ليس تفي ثمرة صوابه بغائله خطئه. ولذلك إذا وجدت طعاماً وأخبرك جماعة بأنه مسموم، أو شخص واحد حاله دون حال نبي واحد، فضلاً عن أن يقدر

على التأييد بالمعجزة، وغلب على ظنك كذبه، كما غلب على ظنك الآن كذب الأنبياء كلهم، ولكن جوّزت مع ذلك صدقه وعلمت أنه ليس في أكله إلا التلذذ بطعمه وحلاوته وقت الذوق، وإن كان مسموماً ففيه الهلاك، فعقلك أيضاً يشير عليك باجتناب الخطر، إن كنت من زمرة العقلاء. ولهذا قال علي رضي الله تعالى عنه لمن كان يشاغبه ويماريه في أمر الآخرة: " إن كان الأمر على ما زعمت تخلصنا جميعاً. وإن كان الأمر كما قلت، فقد هلكت ونجوت ". ولا ينبغي أن تظن أن هذا تشكيك منه في اليوم الآخر ولكنه زجر على حدّ جهل المخاطب القاصر عن معرفة ذلك بطريق البرهان. وهو الذي جرّأنا على سلوك هذا المنهاج ليسهل تأمله على أهل البطالة والتقصير في الطاعة لله تعالى. وقد تبيّن على القطع أن العظيم الهائل إن لم يكن معلوماً فبالاحتمال يتقدم على اليقين المستحقر، لأن كون الشيء مستحقراً أو عظيماً بالإضافة. فلتنظر إلى منتهى العمر وما يصفو من الدنيا للمترفهين، وتسير إلى ما أعتقده الفرق الثلاث من كمال السعادة الآخروية ودوامها، وتعرف بالبديهة استحقار ما ترك من الدنيا في عظيم ما يعتاض عنها بالإضافة إليها.

وإن كنت في الحالة الرابعة، وهي اعتقاد صحة مذهب الفرقة الرابعة، فنخاطبك على حد جهلك وقصورك، بوجهين: أحدهما أنك لم تعتقد هذا المعتقد ببرهان حقيقي ضروري، لا يمكن الغلط فيه حتى يقال تنبهت لنوع من الدليل، غفل عنه الأنبياء والأولياء والحكماء وكافة العقلاء. فإن الغلط إذا تطرد لهؤلاء، مع كثرتهم وغزارة علومهم، وطول نظرهم، وكثرة معجزات أنبيائهم، فماذا تأمن الغلط في اعتقادك، وما الذي عصمك؟ وأقل درجاتك أن يجوز الغلط على نفسك. وإن احتمل عندك صدق الجماهير وغلطك، التحقت بالحالة الثالثة. وإن لم تتسع نفسك لهذا التجويز حتى زعمت أنك عرفت بطلان اعتقاد الجماهير واستحالة كون النفس جوهراً باقياً بعد الموت، أو معاداً بطريق البعث والنشور، كما عرفت أن الاثنين أكثر من الواحد، وأن السواد والبيان لا يجتمعان، فهذا الآن من سوء المزاج وركاكة العقل. ويبعد مثل هذا الأحمق عن قبول العلاج، ولمثل هذا قال الله تعالى فيهم (أُولَئِكَ كَالأَنْعَام بَلْ هُمْ أَضَلُّ) . الوجه الثاني: أن هذه الفرقة وإن أنكروا السعادة الآخروية، فلم ينكروا السعادة الدنيوية. وأعلى السعادات الدنيوية العزة والكرامة، والمكانة والقدرة، والسلامة من الغموم والهموم، ودوام الراحة والسرور. وهذا أيضاً لا يفوز به الإنسان إلا بالعلم والعمل،

بعزل الولاة وأبطالهم. ولا يخفي لذة العالم في علمه، وفيما ينكشف له في كل لحظة من مشكلات الأمور، لا سيما إذا كان في ملكوت السموات والأرض، والأمور الآلهية. وهذا لا يعرفه من لم يذق لذة انكشاف المشكلات. ثم أنها لذة لا نهاية لها، لأن العلوم لا نهاية لها، ولا مزاحمة فيها، لأن المعلومات تتسع للطلاب وإن كثروا، بل استئناس العالم يزيد بكثرة شركائه، إذا كان يقصد ذات العلم، لا حطام الدنيا ورئاستها، فإن الدنيا هي التي تضيق بالمزاحمة، بل يزداد سعة بكثرة الطلاب. ثم مع أنها أوفى اللذات عن عمن أنس بها، فهي أدومها، إذ المنعم بها عليه هو الله وملائكته، ولكن عند اكبابه على الطلب وتجرده له. ولذلك لا ترى جماعة من الرؤساء والولاة، إلا وهم في خوف العزل يتشوقون أن يكون عزهم كعز العلماء.

وأما العمل فلسنا نعني به إلا رياضة الشهوات النفسانية، وضبط الغضب، وكسر هذه الصفات، لتصير مذعنة للعقل، غير مستولية عليه، ومستسخرة له في ترتيب الحيل الموصلة إلى قضاء الأوطار. فإن من قهر شهواته، فهو الحرّ على التحقيق، بل هو الملك. ولذلك قال بعض الزهاد لبعض الملوك: " ملكي أعظم من ملك "، فقال كيف: قال: " من أنت عبده عبدي "، وأراد به أنه عبد شهواته، وشهواته صارت مقهورة له. فعبد الشهوات، العاجز عن كسرها وقهرها، رقيق وأسير بالطبع، لا يزال في عناء دائم وتعب متواتر، إن قضى وطره يوماً عجز عنه أياماً. ثم لا يخلو في قضائها عن أخطار، وعلائق ومشاق، يضطر إلى تقلدها. فتقليل الشهوات تقليل لأسباب الغموم، ولا سبيل إلى إماطتها إلا بالرياضة والمجاهدة، وهو المراد بالعمل. فإذن العالم العامل أحسن الناس حالاً، عند من رأى السعادة مقصورة على الدنيا. فإن الدنيا ليست تصفو لأحد، وليس يفي جدواها بمشاقها.

فالممعن في اتباع الشهوات، والمعرض عن النظر في المعقولات، شقيّ في الدنيا باتفاق، وشقيّ في الآخرة عن الفرق الثلاث، إلا عند شرذمة من الحمقى، لا يؤبه لهم، ولا يعبأ بهم، ولا يعدون في جملة العقلاء رأساً. فقد تبين أن الاستعداد للآخرة بالعلم والعمل ضروري في العقل، وإن المقصر فيه جاهل. فإن قلت: فما بال أكثر الناس مقصرين فيه وهم مؤمنون بالآخرة؟ فاعلم أن سبب ذلك الغفلة عن التفكير في هذه الأمور التي ذكرناها فإن تلك الغفلة مطردة عليهم، مستغرقة لأوقاتهم، لا ينتهون عنها ما دامت الشهوات متوالية، وهي كذلك. وإنما المنبه عليها واعظ، زكي السيرة، وقد خلت البلاد عنه، وإن فرض على ندور لم يلتفت إليه، وإن التفت إليه ووقع الإحساس به في الحال، وحسن العزم على التجرد للطاعة في الاستقبال، هجمت عقب ذلك شهوة من الشهوات وأزالت أثر التنبيه، وأعادت حجاب الغفلة، وعاد العاقل لما نهى عنه. ولا يزال هكذا شأن كل واحد إلى الموت، وعند ذلك لا يبقى له إلا التحسر بعد الفوت، ولا يغني ذلك عنه شيئاً فنعوذ بالله من الغفلة، فإنها منشأ كل شقاوة.

بيان أن طريق السعادة العلم والعمل فإن قلت: قد اتضح لي أن سلوك سبيل السعادة حزم العقلاء، والتهاون بها غفلة الجهال، ولكن كيف يسلك الطريق من لا يعرفه، فبماذا أعلم بأن العلم والعمل هو الطريق، حتى أشتغل به؟ فلك في معرفته طريقان: أحدهما جملى، يناسب المنهاج السابق، وهو أن تلتفت إلى ما اتفق عليه آراء الفرق الثلاث، وقد أجمعوا على أن الفوز والنجاة لا تحصل إلا بالعلم والعمل جميعاً، وأن اتفقوا على أن العلم أشرف من العمل. وكأن العمل متمم له وسائق بالعلم إلى أن يقع موقعه، ولأجله قال الله تعالى: (إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلمُ الطَّيبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ، والكلم الطيب يرجع إلى العلم عند البحث، فهو الذي يصعد ويقع الموقع، والعمل كالخادم له يرفعه ويحمله. وهذا تنبيه على علو رتبة العلم.

ومذهب الفرقة الأولى، وهم المتمسكون بالمفهوم الأول للجماهير من ظواهر الشرع، غير خاف ربطه النجاة بالعلم والعمل، وبيانه لا يمكن أن يحصى. والصوفية والفلاسفة، الذين آمنوا بالله واليوم الآخر على الجملة، وإن اختلفوا في الكيفية، كلهم متفقون على أن السعادة في العلم والعبادة. وإنما نظرهم في تفصيل العلم والعمل، والتوقف مع هذا الاتفاق حمق. فمن استولت عليه علة، واتفق كتب الأطباء وأقوالهم، مع اختلاف أصنافهم، على أن النافع لهذه العلة المبرّدات، فتوقف المريض فيه سفه في عقله، بل يقتضي العقل المبادرة إليه. نعم، ربما يكون له طريق بعد ذلك إلى أن يتحقق ذلك، لا عن تقليد للجماهير بل عن تحقيق لحقيقة العلة، ووجه مناسبة المبردات لإزالتها، فينتهض بصيراً إذا نظر واستقل، وترقّى عن حضيض التقليد والاتباع، إلى ذروة الاستبصار. فكذلك قد ادعى الصوفية وفرق سواهم أنه يمكن الوصول إلى درك ذلك بالبصيرة والتحقيق، وذلك أن تعرف حقيقة الموت، وأنه يرجع إلى خروج الآلة عن الصلاة للاستعمال، لا إلى انعدام المستعمل. ثم تعلم أن سعادة كل شيء ولذته وراحته في وصوله إلى كماله الخاص به. ثم تعلم أن الكمال الخاص بالإنسان هو إدراك حقيقة

العقليات، على ما هي عليه، دون المتوهمات والحسيات التي يشاركه الحيوانات فيها. ثم تعلم أن النفس بالذات متعطشة إليه، وبالفطرة مستعدة له، وإنما يصرفها عنه اشتغالها بشهوات البدن وعوارضه مهما استولت عليه ومهما كسر الشهوة وقهرها وخلص العقل عن رقها واستعبادها إياه، وأكب بالتفكر والنظر على مطالعة ملكوت السموات والأرض، بل على مطالعة نفسه وما خلق فيها من العجائب، فقد وصل إلى كماله الخاص، وقد سعد في الدنيا إذ لا معنى للسعادة إلا نيل النفس كمالها الممكن لها، وإن كانت درجات الكمال لا تنحسر. ولكن لا يشعر بتلك اللذة ما دام في العالم ممنوعاً بالحس والتخيل وعوارض النفس، كالذي عرض للمطعم الألذ، وفي ذوقه خدر فيزول، فيشعر باللذة المفرطة. فالموت مثل زوال الخدر، فقد سمعت مقدماً من متوعي الصوفية يصرح بأن السالك إلى الله تعالى يرى الجنة وهو في الدنيا، والفردوس الأعلى معه في قلبه، إن أمكنه الوصول إليه. وإنما الموصول إليه. بالتجرد عن علائق الدنيا، والإكباب بجملة همته على التفكر في الأمور الآلهية، حتى ينكشف له بالإلهام الآلهي جليها، وذلك عند تصفية نفسه عن هذه الكدورات.

والوصول إلى ذلك هو السعادة، والعمل هو المعين على الوصول إليه. فهؤلاء فرقة ادعوا المعرفة بمناسبة العلم والعمل للسعادة، فهذا هو المنهج الثاني في الوصول إلى اليقين، فما قالوه سديد، وهو بزعمهم لا يعرف إلا بالمجاهدة والرياضة، كما قال الله تعالى: (وَالذينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) . فعليك بالمجاهدة والتجرد للطلب، فربما ينكشف لك حقيقة الحال بالنفي أو الإثبات. ويكفيك في الشروع في العلم والعمل اتفاق الثلاث عليه، إذ لم يكن غرضك من السؤال الجدال، بل كان غرضك طلب الفوز، كالمريض الذي يطلب الشفاء دون الجدال إذ بغيته اتفاق أصناف الأطباء فيه.

بيان تزكية النفس وقواها وأخلاقها على سبيل المثال والإجمال: فإن قلت: قد اتضح لي أن الاشتغال بالعلم والعمل واجب، ولكن العلوم كثيرة، وكذلك الأعمال فهي مختلفة بالنوع ثم المقدار، وليس يكفي العلم بأن العلة يلائمها المبردات، ما لم يعلم نوع المبرد وقدره ووقت استعماله، في الموالاة أو التفريق، إلى غير ذلك مما يتطرق إلى تفاصيل اضطرارية، فلا بد من بيان النوع وبيان الكمية ثم الكيفية في الاشتغال به. فأعلم أن الناس فيما سألته فريقان: قانع بالتقليد، وهو مستغن عن البحث، ولكن ينهج السبيل الذي رسمه له مقلده، وفريق آخر لا يقلدون تقليد المريض للطبيب، بل يتشوقون إلى أن ينالوا رتبة الأطباء. والخطب في هذا عظيم، والمدى طويل، وشروط هذا الأمر لا تظهر في الإعصار، إلا لواحد فرد شاذ. ولكنا ننبئك بما يرقيك عن حضيض التقليد، ويهديك إلى سواء الطريق. فإن ساعدك التوفيق، وانبعث من نفسك داعية الاستتمام،

توصلت إليه بالمجاهدة ولا يمكنك معرفة ما تطلبه، إلا بأن تعرف أولاً نفسك وقواها وخواصها، فكيف يشتغل بمخالطة زيد من لا يعرف زيداً؟ والمجاهدة معالجة للنفس بتزكيتها، لتفضي إلى الفلاح، كما قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّاهَا) ، ومن لم يعرف الثوب لا يتصور منه إزالة وسخه. ولما كان ملاك الأمر معرفة النفس، عظم الله أمره ونسبه إلى نفسه تخصيصاً وإكراماً، فقال تعالى: (إنِّي خَالقٌ بَشَراً منْ طين، فَاذَا سَوّيْتَهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحي) فنبه على أن الإنسان مخلوق من جسم مدرك بالبصر ونفس مدركة بالعقل والبصيرة لا بالحواس، وأضاف جسده إلى الطين وروحه إلى نفسه. وأراد بالروح ما نعنيه بالنفس، منبهاً لأرباب البصائر أن النفس الإنسانية من الأمور الآلهية، وإنها أجل وأرفع من الأجسام الخسيسة الأرضية ولذلك قال تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوح قُل الرّوحُ مِنْ أَمْر رَبي) ، وقيل: " كان في كتب الله المنزلة

إعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك ". وقال عليه السلام: " أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه ". وقال تعالى: (وَلاَ تَكُونُوا كَالّذينَ نَسُوا الله فأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) ، تنبيهاً على تلازم الأمرين، وأن نسيان أحدهما مع نسيان الآخر. ولذلك قال تعالى: (سَنُريَهم آياتِتنا في الآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِم) ، وقال تعالى: (وَفي أَنْفُسِكُم أَفَلاَ تُبْصِرُونَ) . وما أراد به ظاهر الجسد، فإن ذلك يبصره البهائم، فضلاً عن الناس. وعلى الجملة، من جهل نفسه فهو بغيره أجهل، ومن رحمه الله على عباده أن جمع في شخص الإنسان على صغر حجمه من العجائب ما يكاد بوصفه يوازي عجائب كل العالم، حتى كأنه نسخة مختصرة من هيئة العالم، ليتوصل الإنسان بالتفكر فيها إلى العلم بالله عز وجل. فإن قلت: فصف لي من أمر النفس جملة مشوقة إلى التفصيل، إن لم تقدر على استقصاء القول فيه، حذراً من التطويل،

فأعلم أن للنفس الحيوانية بالجملة قوتين: إحداهما محركة والأخرى مدركة. والمحركة قسمان: باعثة ومباشرة للحركة. فالمباشرة للحركة هي القوة التي تنبث في الأعصاب والعضلات، ومن شأنها أن تشنج العضلات، فتجذب الأوتار والرباطات المتصلة بالأعصاب إلى نحو جهة المبدأ، أو ترخيها فتصير الأعصاب والرباطات إلى خلاف جهة المبدأ. وهذه خادمة للمحركة الباعثة. والمراد بالباعثة القوة النزوعية الشوقية، التي تبعث على الحركة مهما حصل في الخيال صورة شيء مطلوب أو مهروب عنه، فتحمل القوة المباشرة للحركة على التحريك. ولهذه الباعثة شعبتان: شعبة تسمى شهوانية، وهي تبعث على تحريك يقرب من الأشياء التي يعتقدها صاحبها ضرورية أو نافعة، طلباً للذة، والأخرى تسمى غضبية، وهي قوة تبعث على تحريك يدفع به الشيء الذي يعتقد فيه أنه ضار أو مفسد، طلباً للغاية. وأما المدركة فقسمان: ظاهرة وباطنة.

أما الظاهرة، فهي الحواس الخمس، ولسنا نخوض في تحقيقها، وإن كان القول في معرفة حقائقها طويلاً جداً، ولكن غرضنا ذكر الجملة. وأما الباطنة فخمسة: الأولى الخيالية، وهي التي تبقى فيها صورة الأشياء المحسوسة بعد غيبتها، فإن صورة المرئي تبقى في الخيال بعد تغميض العين. فتلك القوة التي فيها انطبعت صورة المرئي تسمى خيالاً، وتسمى حسّاً مشتركاً، إذ يبقى فيه أثر مدركات الحواس الخمس كلها. الثانية الحافظة لذلك، فإن ما يمسك الشخص به صورة الشيء غير ما يقبله به، والشمع يمسك النقش بيبوسته، ويقلبه برطوبته والماء يقبله ولا يمسكه. وهذه القوى، أعني القابلة لمدركات الحواس الخمس والحافظة لها في التجويف الأول من مقدم الدماغ، فهو مسكنها، وبحلول آفة فيه تختل هذه القوة، وعرف ذلك بعلم الطلب. الثالثة القوة الوهمية، وهي قوة مترتبة في نهاية التجويف الأوسط من الدماغ، تدرك معاني غير محسوسة من المحسوسات الجزئية، كالقوة الحاكمة في الشاة بأن الذئب مهروب عنه، وأن الولد معطوف عليه. الرابعة الحافظة لهذه المعاني التي ليست محسوسة، كما كانت الثانية حافظة للصور، فهي حافظة للمعاني، وتسمى ذاكرة، ومسكنها التجويف المؤخر من الدماغ.

ولقد بقي الأوسط وهو مسكن القوة المفكرة وهي مرتبة بين خزانة الصور وخزانة المعاني، وشأنها أن تركب بعض ما في الخيال مع بعض، وتفصل عن بعض، بحسب الاختيار. والعادة جارية بذكر هذا في القوى المدركة، والأولى أن يذكر في جملة القوى المحركة، إذ ليس لها إدراك شيء، إلا بنوع حركة بتفصيل مركب وتركيب مفصل، مما هو حاصل في الخيال. ولا يقدر على وضع شيء مستجد ليس هو موجوداً في الخيال بحال، إلا بمجرد التفصيل والتركيب. وهذه القوى التي ذكرناها يشارك فيها الحيوانات الإنسان إلا المفكرة، فإن في الحيوانات شيئاً يقاربه يسمى المتخيلة، ولا تنتهي قوته إلى حد قوة المتفكرة في الإنسان. وأما النفس الإنسانية، من حيث هي إنسانية، فينقسم قواها إلى قوة عالمة وقوة عاملة. وقد تسمى كل واحدة منهما عقلاً، ولكن على سبيل الاسم المشترك، إذ العاملة سميت عقلاً لكونها خادمة للعالمة، مؤتمرة لها فيما ترسم. فأما العاملة، فهي قوة ومعنى للنفس، هو مبدأ حركة بدن الإنسان إلى الأفعال المعينة الجزئية، المختصة بالفكر والروية، على

ما تقتضيه القوة العالمة النظرية التي سنذكرها. وينبغي أن يكون سائر قوى البدن مقموعة مغلوبة، دون هذه القوة العملية بحيث لا تنفعل هذه القوة عنها. وتلك القوى كلها تسكن وتتحرك، بحسب تأديب هذه القوة وإشارتها، فإن صارت مقهورة، حدثت فيها هيآت انقيادية للشهوات، تسمى تلك الهيآت أخلاقاً رديئة، وإن كانت متسلطة حصلت لها هيئة استيلائية، تسمى فضيلة وخلقاً حسناً. ولا يبعد أن يجعل الخلق اسماً لما يحصل في سائر الشهوات والقوى من الانقياد والتأدب، أو هذه القوة من الاستيلاء والتأديب. وبالجملة لا يبعد أن يكون الخلق واحداً، وله نسبتان، إذ هيئة الاستيلاء من هذه القوة يلازمها هيئة الانقياد من سائر القوى، وهو المراد بالخلق المحمود. وبالجملة فالنفس أعز من أن تدرك بالحواس الخمس بل تدرك بالعقل، أو يستدل عليها بآثارها وأفعالها. ولها نسبتان نسبة إلى الجنبة تلك الجنبة. فهذه القوة العملية هي القوة التي لها بالقياس إلى الجنبية التي دونها وهي البدن وتدبيره وسياسته.

وأما القوة العالمة النظرية التي سنذكرها فهي لها بالقياس إلى الجنبة التي فوقها لتفعل وتستفيد منها، أعني بالجنبة الملائكة الموكلة بالنفوس الإنسانية، لإفاضة العلوم عليها، فإن العلوم إنما تحصل فيها من الله تعالى بواسطة. قال الله تعال: (وَمَا كَانَ لِبَشَر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيَاً أَو مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَو يُرْسِلَ َسُولاً) ، فكأن للنفس منا وجهين: وَجه إلى البدن، ويأبى أن يكون هذا الوجه مستولياً غير قابل البتة، ولا منفعل عن عوارض البدن وشهواته، ووجه إلى الجنبة الشريفة العالية، ويجب أن يكون هذا الوجه دائم القبول عما هنالك، مستمداً التأثير فإنها مهبط أسباب سعادته. وهذه القوة النظرية العالمة هي التي من شأنها أن تتلقى المعاني الكلية المجردة عن العوارض التي تجعلها محسوسة جزئية، فما ذكرنا معنى الكلي في كتاب " معيار العلم ". ثم هذه القوة بالنسبة إلى العلوم التي تحصل فيها على ثلاث مراتب. أولاها كنسبة حال الطفل إلى الكتابة، فإن الطفل فيه قوة للكتابة، ولكن قوة بعيدة من الفعل، فكذا قوة العلم له.

المرتبة الثانية أن يحصل فيها جملة من المعقولات الأولية الضرورية، كحال الصبي المميّز المراهق للبلوغ، ويكون نحو هذه القوة للصبي بالإضافة إلى الكتابة بعد أن عرف الدواة والقلم والحروف المفردة دون المركبة، فإنه لم يكن كذلك في المهد إذ ليس فيه على الكتابة إلا قوة مطلقة بعيدة من الفعل، المرتبة الثالثة أن تحصل المعقولات الكسبية كلها بالفعل وتكون كالمخزونة عنده، فإذا شاء رجع إليها ومهما رجع تمكن منها. وحاله في العلوم حال الكاتب الحاذق الصانع الغافل عن الكتابة، فإنه مستعد لها بالقوة القريبة استعداداً في غاية الكمال، وهذه نهاية الدرجة الإنسانية. ولكن في هذه الرتبة درجات لا تحصى، تختلف بكثرة المعلومات وبقلتها، وبشرف المعلومات وخستها، وبطريق تحصيلها وأنها تحصل بالإلهام الإلهي وبتعلم واكتساب، وإنه سريع الحصول أو بطيء الحصول. وفي هذا العلم تتباين منازل العلماء والحكماء الأولياء والأنبياء، وبحسب التفاوت فيه تتفاوت مناصبهم،

ودرجات الرقي فيه غير محدودة ولا محصورة. وأقصى الرتب درجة النبي الذي ينكشف له كل الحقائق أو أكثرها من غير اكتساب وتكلف، بل بكشف إلهي في أسرع وقت. وهذه هي السعادة التي تحصل للإنسان، فتقربه إلى الله تعالى تقريباً، لا بالمكان والمسافة، ولكن بالمعنى والحقيقة. والأدب يقتضي قبض عنان البيان في هذا المقام، فقد انتهى الأمر بطائفة إلى أن ادعوا اتحاداً وراء القرب، فقال بعضهم: " سبحاني ما أعظم شأني "، وقال آخر: " أنا الحق "، وعبر آخر بالحلول، وعبر النصارى باتحاد اللاهوت والناسوت، حتى قالوا في عيسى صلوات الله عليه أنه نصف الله، تعالى الله عن قول الظالمين علواً كبيراً، وبالجملة فمنازل السائرين إلى الله تعالى لا تنحصر، وإنما يعرف كل سالك المنزل الذي قد بلغه في سلوكه، فيعرف ما خلفه من المنازل. فأما ما بين يديه فلا يحيط بحقيقته، إلا بطريق الجملة، والإيمان بالغيب، فلا يعرف حقيقة النبوة إلا النبي. وكما لا يعرف الجنين حال الطفل، ولا الطفل حال المميّز وما افتح له من العلوم الضرورية، ولا المميز حال العاقل وما اكتسبه من العلوم النظرية،

فلا يعرف عاقل ما انفتح لأولياء الله وأنبيائه من مزايا لطفه ورحمته، (مَا يَفْتَحُ اللهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا) . فهذه الرحمة مبذولة بحكم الجود الإلهي غير مضنون بها على أحد. ولكن لا بد من الاستعداد للقبول بتزكية النفس وتطهيرها عن الخبث والكدورة. وكما أن الصورة المتلونة ليس فيها منع من أن تنطبع في الحديد الخبيث، إلا الحجاب من جهة الحديد في صدأه وخبثه، وافتقادره إلى صيقل يجلوه ويزيل خبثه ويجليه، فهكذا ينبغي أن تعتقد أن الحجاب من جانبك لا من جانب الرحمة الإلهية. ولذلك قال عليه السلام: " إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها ". ولذلك عبّر عن غاية الجود والبذل من ذلك الجانب، بأدل العبارات على الشوق والرغبة، فقال: " يُنزِّلُ الله كلّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: هل من داع فأستجيب له، هل من مسترحم فأرحمه ". وقال:

" طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشد شوقاً " وقال: " من تقرّب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومَنْ أتاني يمشي أتيته هرولة ". وعليك أن تستقرئ من القرآن والأخبار ما يناظر ذلك فإنه خارج عن الحصر والإحصاء. بيان ارتباط قوى النفس بعضها ببعض اعلم أن هذه القوى متفاوتة الرتب، فإن بعضها أريدت لنفسها، وبعضها أريدت لغيرها، وبعضها خادمة، وبعضها مخدومة. والرئيس المطلق منها هي التي تراد لنفسها، ويراد غيرها لها، وليس ذلك إلا الرتبة الأخيرة، وفيها تفاوت رتب الأولياء والأنبياء. فإن الإنسان لم يخلق إلا لما هو من خاصيته، وما عدا القوى المخصومة بالنفس الإنسانية يشاركها فيها الحيوانات، فإن الإنسان خلق على رتبة بين البهيمية والملك، وفيه جملة من القوى والصفات. فهو من حيث يتغذى وينسل فنبات،

ومن حيث يحس ويتحرك فحيوان، ومن حيث صورته وقامته فكالصورة المنقوشة على حائط. وإنما خاصته التي لأجلها خلق قوة العقل، ودرك حقائق الأشياء. فمن استعمل جميع قواه على وجه التوصل بها إلى العلم والعمل، فقد تشبه بالملائكة، فحقيق بأن يلحق بهم وجدير بأن يسمى ملكاً وربانياً، كما قال: (إنْ هَذا إلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) ومن صرف همته إلى اتباع اللذات البدنية، يأكل كما يأكل الأنعام، فقد نزل إلى أفق البهائم، فيصير إما غمراً كثور، وإما شرهاً كخنزير، وإما صرعة ككلب، وأما حقوداً كجمل، أو متكبراً كنمر، أو ذا روغان كثعلب. أو يجمع ذلك كله كشيطان مريد. وبالجملة من تصفح القوى التي ذكرناها، عرف أن مقتضيات العقل أرفعها وأعلاها، فينظر بعين التعجب كيف يخدم بعضها لبعض خدمة ضرورية عليها فطرت، ولا تستطيع مخالفة أمر الله تعالى فيها.

فإن العقل هو الرئيس المخدوم، ويخدمه وزيره وهو أقرب الأشياء إليه، وهو العقل العملي، الذي سميناه قوة عاملة بحسب مراسم العقل. لأن العقل العملي لأجل تدبير البدن، والبدن آلة النفس ومركبها، تقتنص به بواسطة الحواس مبادئ العلوم التي تستنبط منها حقائق الأمور. ثم العقل العملي يخدمه الوهم، والوهم يخدمه قوتان: قوة بعده وقوة قبله. فالقوة التي بعده هي القوة الحافظة لما أدركه وأداه إليه، والقوة التي قبله هي جميع القوى الحيوانية على الترتيب الذي سنذكره، ومن جملتها المتخيلة، أعني المفكرة، ويخدمها قوتان مختلفتا المأخذ، فالقوة الرغبية الشوقية تخدمها بالانبعاث، لأن انبعاثها إلى الحركة، بالتخيل والفكر. والقوة الحافظة للصور التي في الحس المشترك تخدمها بقبول التركيب والتفصيل، فيما فيها من الصور. ثم هذان رئيسان لطائفتين،

أما الحافظة للصور فيخدمها (الحس) المشترك، برفع االصور إليها حتى تحفظ. وأما القوة النزوعية فتخدمها الشهوة والغضب، والشهوة والغضب تخدمهما القوة الحركة للعضل، وعندها تنتهي القوى الحيوانية. والقوى الحيوانية بالجملة يخدمها النباتية، والنباتية ثلاث، المولدة والمربية والغاذية، ورأسها المولدة، وتخدمها المربية والغاذية تخدمها. ثم يخدم هذه قوى أربع، وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة، إذ لا بد في النبات من قوة جاذبة للغذاء إليه، ثم ماسكة، ثم هاضمة تهضم ما أمسكته الماسكة، ثم دافعة تدفع فضله،

والدافعة هي الخادمة التي لا خادم لها، وكأنها كالكناس في نظام أمر البلد، ثم الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة تخدم القوى الهاضمة والجاذبة والماسكة والدافعة، وهذه آخر درجات القوى في الأجسام. وقد ضرب للقوى المذكورة مثال يقربها إلى إفهام العوام، فقيل القوة المفكرة مسكنها وسط الدماغ بمنزلة الملك، يسكن وسط المملكة. والخيالية مسكنها مقدم الدماغ، جارية مجرى صاحب بريدة، أو مجتمع الأخبار عنده. والحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ، جارية مجرى خادمه، والقوى الناطقة جارية مجرى ترجمانه، والعاملة جارية مجرى كاتبه، والحواس جارية مجرى الجواسيس وأصحاب الأخبار الصادقة اللهجة، فيما يرفعونه من الأخبار، فيلتقط كل واحد الخبر من الصق الذي وكل به، إذ البصر موكل بعالم الألوان والسمع بالأصوات، وهكذا الجميع. فيرفعون هذه الأخبار إلى صاحب البريد وصاحب البريد يسقط ما يراه حشواً، ويرفع الباقي صافياً إلى حضرة الملك،

فيميزه ويعرف منافعه ومضاره، ويسلمه لخادمه إلى وقت الحاجة، فحينئذ يتقدم بإخراجه، وكما أن الأعمال التي يتولاّها الملك بنفسه أشرف مما يستعمل فيه غيره، فكذلك ما تتولاه النفس التي هي الملك بالحقيقة، بواسطة المفكرة، من الروية والاعتبار والقياس والفراسة واستنباط المجهول، أشرف مما تستعمل فيه الخدم. وهذا المثال قريب مما روي أن حبر الأمة قال: " دخلت على عائشة، فقالت: الإنسان عيناه مهاد، وأذناه قمع، ولسانه ترجمان، ويداه جناحان، ورجلاه بريدان، والقلب ملك. فإذا طاب طاب جنوده ". فقالت: " هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ". فهذه جمل من أحوال النفس تلوناها عليك على سبيل الاقتصار، وإنها بعض عجائب النفس. ولو نظرت في تشريح الأعضاء، وفحصت عن عدد العروق والأعصاب والعضل والعظام والشرايين والأوردة،

ثم إلى الأعضاء الآلية التي أعدت للنفس، ولجذب الطعام ثم لهضمه ثم لدفعه، وإلى الآلات التي خلقت للتناسل، ورأيت العجائب في خدمة بعضها بعضاً بالضرورة، ثم بعد فراغك من تشريح الأجسام نظرت في تفصيل قوى تلك الأجسام، واستقصيته بمعرفة حقائق العلوم الطبيعية، لقضيت منها آخر العجب. فتعساً لمن كفر بالله وغفل عن قوله: (وَفي الأرض آيَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ، وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرون) ، بل في كل شيء دليل على أنه واحد. ومن لم يؤمن بالله على الجملة، فليس من العقلاء، وهو أخسّ من أن يخاطب بمثل هذه الكلمات. وإنما كلامنا مع من صدّق بالجملة، فندعوه إلى البحث عن صنع الله، ليزداد بسببه يقينه وإيمانه، ويتفاقم به تعظيمه وإجلاله. فكل ما لا يدرك بالحواس، وإنما يدرك بالعقل بواسطة آثاره، فسبيل استقصاء معرفته استقصاء النظر في آثاره. بل نضرب مثالاً يقرب من فهم الخلق كافة، فما من فقيه إلا وقد اعتقد في المذكورين من العلماء مثل أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، رتبة تتقاضاه التعظيم. وهذا يشترك فيه الخلق، ولكن ليس من يتصفح تصنيف مصنف، فيرى فيه من عجائب صنعه وبدائع حذقه، يبقى اعتقاده في التعظيم على ما كان عليه قبل معرفته، بل لا يزال يطلع على صفة غريبة له في كلامه وتصنيفه أو شعره، وتزداد نفسه له تعظيماً وتوقيراً واعتقاداً

فمن عرف أن الله صانع العالم، كمن عرف أن زيداً متميز عن غيره، بكونه ناظم ديوان، ومصنف كتاب. وأين هذا من اعتقاد من تصفح الشعر، فرأى فيه غرائبه؟ فهذا يعتقد عظمته ورتبته اعتقاداً راسخاً عن تحقيق وبصيرة والآخر يعتقد اعتقاداً مجملاً ضعيفاً، غير مدرك بالبصيرة والتحقيق. وهذا فرق بين رتبة العوام وذوي البصائر في هذا الأمر الواحد. والعالم بما فيه من العجائب تصنيف الله وتأليفه وإبداعه واختراعه، والنفس جزء من أجزاء العالم، وكل جزء من أجزاء العالم مشحون بالعجائب، فلا يزال الباحث عنها مستفيداً زيادة اعتقاد، وتأكيد إيمان، ولذلك حثّ الله على التفكر في الأنفس والآفاق وملكوت السموات والأرض.

بيان نسبة العمل من العلم وإنتاجه السعادة التي اتفق عليها المحققون من الصوفية بأجمعهم، وساعدهم من النظار طوائف سواهم: إن تأثير العمل لإزالة ما لا ينبغي، والسعي في العلم، سعي في تحصيل ما ينبغي وإزالة ما لا ينبغي، شرط لتفريغ المحل لما ينبغي، والمشروط هو المقصود، وهو أشرف من الشرط. ومثاله من أراد استيلاد إمرأة بها علة، تمنع العلوق، فعليه وظيفتان: إحداهما إماطة العلة المفسدة للحمل، المانعة من العلوق، والأخرى إيداع النطفة بعد إزالة العلة المانعة. فالأولى شرط للثانية، والثانية هي الغاية المطلوبة. وإذا فرضت داراً بنيت لملك، رتبة تلك الدار نزول الملك فيها، وقد اغتصبها القردة والخنازير، فجمال تلك الدار وكمالها موقوف على أمرين: أحدهما إزعاج القردة النازلين فيها بغير حق والآخر نزول المستحق.

وإذا فرضنا مرآة صدئة قد ستر الخبث صفاها، ومنع انطباع صورنا فيها، فكمال المرآة أن تستعدّ لقبول الصور، فتحكيها كما هي عليها، وعلى مكملها وظيفتان: إحداهما الجلاء والثقل، وهي إزالة الخبث الذي ينبغي أن لا يكون، والثانية أن يحاذي بها نحو المطلوب حكاية صورته. فكذلك نفس الآدمي مستعدة لأن تصير مرآة، يحاذي بها شطر الحق في كل شيء، فتنطبع به كأنها هو من وجه، وإن كانت غيره من وجه آخر، كما في الصورة والمرآة. وكمالها في مثل هذه الدرجة وهذه الخاصة التي فارقت بها ما تحتها من الحيوانات، إذ هذا الاستعداد مسلوب عن الحيوانات كلها، سوى الآدمي بالقوة والفعل جميعاً، كما انسلب عن التراب والخشب الاستعداد لحكاية الصور، وأن يكون مرآة لها، وهو موجود بالفعل أبداً للملائكة، لا يفارقها، كما أنه موجود للماء الصافي، فإنه يحكي الصورة بطبعه حكاية مخصوصة، وهو موجود للآدمي بالقوة لا بالفعل. فإن جاهد نفسه التحق بأفق الملائكة، وإن استمر على الأسباب الموجبة لتراكم الخبث على مرآة النفس، باتباع الشهوات، اسودّ قلبه وتراكمت ظلمته، وبطل بالكلية استعداده، والتحق بأفق البهائم، وحرم سعادته وكماله حرماناً أبدياً، لا تدارك له. فإذن العمل معناه كسر الشهوات بصرف النفس عن

صوبها، إلى الجنبة العالية الآلهية، ليمحي عن النفس الهيئات الخبيثة، والعلائق الردية التي ربطتها بالجنبة السافلة. حتى إذا محقت تلك العلائق، أو ضعفت حوذي بها نحو النظر في الحقائق الآلهية، ففاضت عليه من جهة الله تعالى تلك الأمور الشريفة، كما فاضت على الأولياء والأنبياء والصديقين. وذلك صيد ينفق على قدر الرزق، وبأحكام الأصل فيه يزيد الاسترزاق، كما يعرضن من زيادة الاسترزاق بالأسباب في اقتناص الصيد، بل في اقتناص الربح والتجارة، بل في اقتناص فقه النفس. فإن القليل بالاجتهاد قد يجاوز حد المجتهدين بمزيد ذكاء فطري، فكذا طهارة النفس عن هذه العلائق في أول الفطرة في غاية الاختلاف. ثم الجهد أيضاً يختلف وينشأ من ذلك تفاوت لا ينحصر، فكذا سعادة الآخرة. ففيضان هذه الرحمة من الله عز وجل على النفس غاية المطلوب، وهو عين السعادة التي للنفس بعد الموت، ولكنها مشروطة بإزالة العلائق ومحو الصفات الردية التي تأكدت للنفس باتباع الشهوات. فإذن العمل يرجع إلى مجاهدة النفس بإزالة ما لا ينبغي. وإذا نسب إلى اتباع الشهوات ظهرت فضيلتها، وإذا نسب إلى تحصيل ما ينبغي كانت رتبتها منه مرتبة

الشرط من المشروط، والخادم من المخدوم، وما أريد لغيره بالنسبة إلى ما أريد لنفسه، وعليه نبه النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: " الإيمان بضع وسبعون باباً، أدناها إماطة الأذى من الطريق. والمجاهدة بالعبادات أكثر أغراضها إماطة الأذى عن الطريق. ولقائل أن يقول المراد بالحديث التقاط الزجاج العظم والحجارة من الشوارع، وأن هذا هو السابق إلى فهم الأكثرين. ولقائل آخر: أن يقول إن الناس يتفاوتون في فهم معاني الألفاظ، على حسب تفاوت رتبهم، ولذلك قال عليه السلام: " نضر الله أمراً سمع مقالتي فوعاها، ثم أدّاها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ". فلولا أن في ألفاظه ما يسبق إلى فهم غير الفقيه خلاف ما يسبق إلى فهم الفقيه، لما أكد الوصية بذلك. ثم ليت شعري إذا فهم غير الفقيه خلاف ما يسبق إلى فهم الفقيه، لما أكد الوصية بذلك. ثم ليت شعري إذا فهم غير الفقيه خلاف ما يسبق إلى فهم الفقيه أو الأفقه أو في جانب غيرهم؟ ولا شك أن هذا عزيز نادر، والغالب خلافه. فالسابق إلى فهم الجماهير يكاد الحق يجانبه، وينحاز إلى ما يفهمه الفقيه والأفقه، ولا سيما في لفظ لا يصرح بالتخصيص. فإن لفظ الأذى عام، ولفظ الطريق عام. ولو أريد الخاص لذكر الزجاج أو المدر ونبه على أمثاله. وذلك الظاهر أيضاً مندرج تحت العموم، فإنه بذلك العمل

أيضاً مصلح نفسه، ومهذب خلقه، ومميط عن النفس رذيلة الغفلة والغشاوة، وقلة الشفقة، على ما سنذكره في تفصيل سوء الأخلاق وحسنها. فقد عرفت أن سعادة النفس وكمالها أن تنتقش بحقائق الأمور الآلهية وتتحد بها حتى كأنها هي، وأن ذلك لا يكون إلا بتطهير النفس عن هيئات ردية تقتضيها الشهوة والغضب، وذلك بالمجاهدة والعمل. فالعمل للطهارة، والطهارة شرط ذلك الكمال. ولذلك قال عليه السلام: " بني الدين على النظافة ". بيان مفارقة طريق الصوفية في جانب العلم طريق غيرهم: اعلم أن جانب العمل متفق عليه، وأنه مقصود لمحو الصفات الردية، وتطهير النفس من الأخلاق السيئة. ولكن جانب العلم مختلف فيه، وتباين فيه طرق الصوفية طرق النظار، من أهل العلم. فإن الصوفية لم يحرّضوا على تحصيل العلوم ودراستها، وتحصيل ما صنّفه المصنفون في البحث عن حقائق الأمور،

بل قالوا: الطريق تقديم المجاهدة بمحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها، والإقبال بكل الهمة على الله تعالى. ومهما حصل ذلك فاضت عليه الرحمة، وانكشف له سر الملكوت، وظهرت له الحقائق. وليس عليه إلا الاستعداد بالتصفية المجرّدة، وإحضار النية، مع الإرادة الصادقة والتعطش التام، والترصد بالانتظار لما يفتحه الله تعالى من الرحمة. إذ الأولياء والأنبياء انكشفت لهم الأمور، وسعدت نفوسهم بنيل كمالها الممكن لها، لا بالتعلم بل بالزهد في الدنيا والإعراض والتبرّي عن علائقها، والاقبال بكل الهمة على الله تعالى. فمن كان لله كان الله له، حتى أن في الوقت الذي صدقت فيه رغبتي لسلوك هذا الطريق، شاورت متبوعاً مقدماً من الصوفية في المواظبة على تلاوة القرآن، فمنعني وقال: السيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية، بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل وولد ومال ووطن وعلم وولاية، بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجودها وعدمها، ثم تخلو بنفسك في زاوية تقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب، وتجلس فارغ القلب مجموع الهمّ، مقبلاً بذكرك على الله تعالى.

وذلك في أول الأمر، بأن تواظب باللسان على ذكر الله تعالى، فلا تزال تقول: الله الله، مع حضور القلب وإدراكه، إلى أن تنتهي إلى حالة لو تركت تحريك اللسان، لرأيت كأن الكلمة جارية على لسانك، لكثرة اعتياده. ثم تصير مواظباً عليه إلى أن يمحى أثر اللسان، فتصادف نفسك وقلبك مواظبين على هذا الذكر، من غير حركة اللسان. ثم تواظب إلى أن لا يبقى في قلبك إلا معنى اللفظ، ولا يخطر ببالك حروف اللفظ، وهيئات الكلمة، بل يبقى المعنى المجرد حاضراً في قلبك على اللزوم والدوام. ولك اختيار إلى هذا الحد فقط، ولا اختيار بعده لك، إلا في استدامة لدفع الوساوس الصارفة. ثم ينقطع اختيارك، فلا يبقى لك إلا الانتظار لما يظهر من فتوح، ظهر مثله للأولياء، وهو بعض ما يظهر للأنبياء، قد يكون أمراً كالبرق الخاطف لا يثبت ثم يعود، وقد يتأخر. فإن عاد فقد يتظاهر أمثاله على التلاحق، وقد لا يقتصر على فن واحد، ومنازل أولياء الله فيه لا تحصى، لتفاوت خلقهم وأخلاقهم. فهذا منهج الصوفية، وقد ردّوا الأمر إلى تطهير محض من جانبك، وتصفية وجلاء، ثم استعداد وانتظار فقط. وأما النظّار فلم ينكروا وجود هذا الطريق، وافضاءه إلى

المقصد، وهو أكبر أحوال الأولياء والأنبياء، ولكن استوعروا هذا الطريق، واستبعدوا فضاءه إلى المقصود، وزعموا أن محو العلائق إلى ذلك الحد بالاجتهاد كالممتنع، وإن حصل في حالة، فثباته أبعد منه، وأدنى إلى ذلك الحد بالاجتهاد كالممتنع، وإن حصل في حالة، فثباته أبعد منه، وأدنى وسواس وخاطر يشوّش. وفي أثناء هذه المجاهدة قد يفسد المزاج، ويختلط العقل ويمرض البدن، ويفضي إلى الماليخوليا. فإذا لم تكن النفس قد ارتاضت بالعلوم الحقيقة البرهانية، اكتسبت بالخاطر خيالات تظنها حقائق تنزل عليها. فكم من صوفيّ بقي في خيال واحد عشر سنين، إلى أن تخلص عنه. ولو كان قد أتقن العلوم أولاً، لتخلص منه على البديهة. فالاشتغال بتحصيل العلوم بمعرفة معيار العلم، وتحصيل براهين العلوم المفصلة أولى، فإنه يسوق إلى المقصود سياقة موثوقاً بها، كما يوثق بالاجتهاد، في أن يحصل فقه النفس. وقد كان، عليه السلام، فقيه النفس من غير اجتهاد، لكن لو أراد مريد أن ينال رتبته بمجرد الرياضة، فقد توقع بعيداً، فيجب تحصيل نفس العلوم الحقيقة في النفس، بطريق البحث والنظر على غاية الإمكان، وذلك بتحصيل ما حصّله الأولون أولاً. ثم لا بأس بعد ذلك بالانتظار لما لم ينكشف للعلماء

الباحثين عن الأمور الآلهية، فما لم ينكشف للخلق أكثر مما انكشف. وهذا تباين الفريقين. وقد خطر لي مثال لا يبعد أن يكون منبهاً للافهام الضعيفة، المفتقرة إلى الأمثلة المحسوسة، في درك الحقائق العقلية، ومعرفاً لوجه الفرق بين الفريقين. فقد حكي أن أهل الصين والروم تباهوا بحسن صناعة النقش والتصوير، بين يدي بعض الملوك، فاستقر رأي الملك على أن يسلم إليهم صفة ينقش أهل الصين منها جانباً، وأهل الروم جانباً، ويرخي بينهم حجاب، بحيث لا يطلع كل فريق على صاحبه، فإذا فرغوا رفع الحجاب، ونظر إلى الجانبن، وعرف رجحان من رجح من الفريقين، ففعل ذلك، فجمع أهل الروم من الأصباغ الغريبة ما لا ينحصر، ودخل أهل الصين وراء الحجاب من غير صبغ، وهم يجلون جانبهم ويصقلونه، والناس يتعجبون من توانيهم في طلب الصبغ. فلما فرغ أهل الروم ادعى أهل الصين أننا أيضاً قد فرغنا. فقيل لهم: كيف فرغتم ولم يكن معكم صبغ، ولا اشتغلتم بنقش؟ فقالوا: ما عليكم ارفعوا الحجاب، وعلينا تصحيح دعوانا. فرفعوا الحجاب، وإذا بجانبهم وقد تلألأ فيه جميع الأصباغ الرومية الغريبة، إذ قد صار كالمرآة لكثرة التصفية

والجلاء، فازداد حسن جانبهم بمزيد الصفاء، وظهر فيه ما سعى من تحصيله غيرهم. فقدّر كأن النفس محل نقش العلوم الآلهية، ولك في تحصيله طريقان: أحدهما تحصيل عين النقش، كطريق أهل الروم والثاني الاستعداد لقبول النقش من خارج. والخارج ههنا اللوح المحفوظ، ونفوس الملائكة، فإنها منقوشة بالعلوم الحقيقية نقشاً بالفعل على الدوام، كما أن دماغك منقوش بالقرآن كله، إن كنت حافظاً له، وكذلك جملة علومك، لا نقشاً يحسّ ويبصر، ولكن نوعاً من الانتقاش عقلياً، ينكره من اقتصرت به خساسة نفسه على المحسوسات ولم يترقّ عنها. بيان الأولى من الطريقين فإن قلت: فقد مهّدت للسعادة طريقين متباينين، فأيهما أولى عندك؟ فاعلم أن الحكم في مثل هذه الأمور بحسب الاجتهاد الذي يقتضيه حال المجتهد، ومقامه الذي هو فيه. والحق الذي يلوح لي، والعلم عند الله فيه، إن الحكم بالنفي أو الإثبات في هذا على الإطلاق خطأ، بل يختلف بالإضافة إلى الأشخاص والأحوال.

فكل من رغب في السلوك، فقد كبر شأنه، فالأولى به أن يقتنع بطريق الصوفية، وهو المواظبة على العبادة، وقطع العلائق. فإن البحث عن العلوم الكسبية لتحصل ملكة كتابته في النفس شديد، ولا يتيسّر إلا في عنفوان العمر، والتعلم في الصغر كالنقش على الحجر. ومن العناء رياضة الهرم. وقيل لأحد الأكابر: من أراد أن يتعلم شيخاً، ما يفعل؟ فقال: إغسل مسخاً فعساه يبيض. وقد خرج من هذا أن الأولى بأكثر الخلق الاشتغال بالعمل والاقتصاد من العلم على القدر الذي يعرف به العمل. فإن الأكثر لا ينتبهون لهذا الأمر في عنفوان الشباب، وإن تنبه في عنفوان شبابه، نظر إلى طبعه وذكائه. فإن علم أنه لا يستعدّ لفهم الحقائق العقلية الدقيقة، وجب عليه أن يشتغل بالعمل أيضاً، فلا فائدة في اشتغاله بالعلوم النظرية، وهم الأكثرون من الأقل، الذي تتبعناه. فإن ذكياً قابلاً للعلوم، فإن لم يكن في بلده أو في العصر مستقلّ بالعلوم النظرية، مترق عن رتبة تقليد من سبقه، فالأولى به العمل. فإن هذه لا يمكن تحصيلها إلا بمعلم، فليس في القوة البشرية، في شخص واحد، الوصول إليها إلا قليل بطول الزمن. ولذلك لو لم يكن علم الطب مثلاً صار متقناً بالخواطر المتعاونة، في الأزمنة المتطاولة، لافتقر أذكى الناس إلى عمر طويل، في معرفة علاج علة واحدة، فضلاً عن الجميع. والغالب في البلاد الخلّو عن مثل هذا العالم المستقل.

فإذن لم يبق إلا قليل من قليل وهو ذكيّ تنبه في عنفوان عمره لهذا الأمر، وهو مستعد لفهم العلوم، وصادف عالماً مستقلاً بالعلوم تحقيقاً لا إسماً، وحسبة لا رسماً، كما ترى أكثر العلماء، فهم إما مقلّدون في أعيان المذاهب، أو في أعيان المذاهب وأدلة تلك المذاهب جميعاً، على الوجه الذي تلقوه من أرباب المذاهب. ومن قلد أعمى، فلا خير في متابعة العميان وأتباعهم أو شاب نشأ في طلب العلم وهو زكي في نفسه، وتنبه له بعد الارتياض بأنواع العلوم، ولكن بهذا النوع من العلم الذي تنبه له، فمثل هذا الشخص مستعد للطريقين جميعاً. فالأولى به أن يقدّم طريق التعلم، فيحصّل من العلوم البرهانية ما للقوة البشرية إدراكه بالجهد والتعلم، فقد كفى المؤنة فيه تعب من قبله، فإذا حصّل ذلك على قدر إمكانه، حتى لم يبق علم من جنس هذه العلوم، إلا وقد حصّله، فلا بأس بعده أن يؤثر الاعتزال عن هذا الخلق، والإعراض عن الدنيا، والتجرد لله وأن ينتظر، فعساه ينفتح له بذلك الطريق ما التبس على سالكي هذا الطريق. هذا ما أراه، والعلم عند الله. وقد يخرج منه أن الصواب لأكثر الاشتغال بالعمل،

ومن العمل العلم العملي أعني ما يعرف به كيفيته. فإن العلم العملي ليس بأشرف من العمل، بل هو دونه، فإن مراد له دون العلم الذي يراد منه المعلوم، كالعلم بالله وملائكته وكتبه ورسله والعلم بالنفس وصفاتها. والعلم بملكوت السموات والأرض وغيره. فهذه العلوم نظرية، وليست بعملية وإن كان قد ينتفع بها في العمل، على سبيل العرض، لا على سبيل القصد، ولكون الصواب في العمل لأكثر الخلق استقصاء النبي صلى الله عليه وسلم، تفصيلاً وتأصيلاً، حتى علّم الخلق الاستنجاء وكيفيته، ولما آل الأمر إلى العلوم النظرية أجمل ولم يفصّل، ولم يذكر من صفات الله إلا أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. نعم بعد إجمال العلم، ذكر من تعظيمه وتشريفه وتقديمه على العمل ما لا يكاد يحصى كقوله: " تفكر ساعة خير من عبادة سنة " وكقوله: " فضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر " إلى غير ذلك مما ورد فيه. ثم ذلك العلم المقدم على العمل لا يخلو أما أن يكون هو العلم بكيفية العمل وهو الفقه وعلم العبادات وأما أن يكون علماً سواه. وباطل أن يكون الأول هو المراد لوجهين:

أحدهما أنه فضل العالم على العابد، والعابد هو الذي له العلم بالعبادة وإلا فهو عابد فاسق. والثاني: أن العلم بالعمل لا يكون أشرف من العمل لأن العلم العملي لا يراد لنفسه، وإنما يراد للعمل. وما يراد لغيره يستحيل أن يكون أشرف منه. بيان جنس العلم والعمل الموصلين إلى جنة المأوى فإن قلت: العلوم أصنافها كثيرة، والأعمال وأنواعها مختلفة، وليس الكل مطلوباً، فما الصنف النافع حتى اشتغل به؟ فأقول: أما العلم فمنقسم إلى العملي والنظري. أما النظري فكثير، ولكن كل علم يتصور أن يختلف بالاعصار والبلدان والأمم، فلا يورث كمالاً يبقى في النفس أبد الدهر. ونحن نبتغي من العلم تبليغ النفس كمالها، لتسعد بكمالها، مبتهجة بما لها من البهاء والجمال أبد الدهر، فخرج عن هذا البيان العلم باللغات، وموجبات الألفاظ، كالعلم باللغة والإعراب والنحو والشعر والترسل وشرح الألفاظ وتفصيلها. فإن افتقر إلى شيء منها، فيطلب لا لنفسه، بل ليكون ذريعة للعلم المقصود. لكننا الآن في بيان العلم المقصود، فإنا

إن نعرف ذات الحج، لم يلزمنا ذكر الخف والمطهرة، وإن كان يحتاج إليهما في التوصل إليه. وإنما نميّز العلوم التي تبقى معلوماتها أبد الآبدين، لا تزول ولا تحول. ومثل ذلك لا يختلف باختلاف الإعصار والأمم، وذلك يرجع إلى العلم بالله وصفاته، وملائكته وكتبه ورسله، وملكوت السموات والأرض، وعجائب النفوس الإنسانية والحيوانية، من حيث أنها مرتبطة بقدرة الله عز وجل، لا من حيث ذواتها. فالمقصود الأقصى العلم بالله، وملائكة الله لا بد من معرفتهم، لأنهم واسطة بين الله وبين النبي. وكذا معرفة النبوة والنبي، لأن النبي واسطة بين الخلق والملائكة، كما أن الملك واسطة بين الله والنبي. وهكذا يتسلسل إلى آخر العلوم النظرية، وغايتها وأقصاها العلم بالله عز وجل. ولكن يتشعب القول فيه اشتعاباً كثيراً، إذ يدل بعضها على بعض. ولذلك يكثر التفصيل فيه. القسم الثاني العلم العملي، وهو ثلاثة علوم: علم النفس بصفاتها وأخلاقها، وهو الرياضة ومجاهدة الهوى، وهو أكبر مقصود هذا الكتاب،

وعلمها بكيفية المعيشة مع الأهل والولد والخدم والعبيد، فإنهم خدمك أيضاً كأطرافك وأبعاضك وقواك. وكما لا بد من سياسة قوى بدنك، من الشهوة والغضب وغيرهما، فلا بد من سياسة هؤلاء، وعلم سياسة أهل البلد والناحية، وضبطهم. ولأجله يراد علم الفقه في الأكثر، إلا ما يتعلق بربع العبادات من جملة العبادات الخاصة بالنفس. ومنه آداب القضاء ولا يتم بمعرفة ربع النكاح والبيع والخراج. وأهم هذه الثلاثة تهذيب النفس، وسياسة البدن، ورعاية العدل من هذه الصفات، حتى إذا اعتدلت تعدّت عدالتها إلى الرعية البعيدة من الأهل والولد، ثم إلى أهل البلد. " فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ". وما سواه يجري منه مجرى الزكاة من النصاب، والضوء من الشمس، والظل من الشجر. وكيف يتوقع استقامة الظل، مع اعوجاج ذي الظل؟ فإذا لم يقدر الإنسان على سياسة نفسه، وضبطها، فكيف يقدر على سياسة غيره. فهذه مجامع العلوم العملية. ولنذكر جمل العلم الأخص من هذه العلوم السياسية، فإنه المقصود بالبيان. ومجامع القوى التي لا بد من تهذيبها ثلاث: قوة التفكير،

وقوة الشهوة، وقوة الغضب، ومهما هذّبت قوة الفكر وأصلحت كما ينبغي، حصلت بها الحكمة، التي أخبر الله عنها حيث قال: (وَمَنْ يُؤْتَ الحِكمة فَقد أُوتِي خَيْراً كَثِيراً) . وثمرتها أن يتيسر له الفرق بين الحق والباطل في الاعتقادات وبين الصدق والكذب في المقال، وبين الجميل والقبيح في الأفعال، ولا يلتبس عليه شيء من ذلك، مع أنه الأمر الملتبس على أكثر الخلق، ويعين على إصلاح هذه القوة وتهذيبها ما أودعناه " معيار العلم ". والقوة الثانية هي الشهوة، وبإصلاحها تحصل العفّة، حتى تنزجر النفس عن الفواحش، وتنقاد للمواساة والإيثار المحمود بقدر الطاقة. والثالثة الحميّة الغضبية، وبقهرها وإصلاحها يحصل الحلم، وهو كظم الغيظ، وكف النفس عن التشفي، وتحصل الشجاعة، وهي كفّ النفس عن الخوف والحرص المذمومين في كتاب الله تعالى.

ومهما أصلحت القوى الثلاث وضبطت على الوجه الذي ينبغي، وإلى الحد الذي ينبغي وجعلت القوتان منقادتين للثالثة، التي هي الفكرية العقلية، فقد حصلت العدالة. وبمثل هذا العدل قامت السموات والأرض، وهي جماع مكارم الشريعة، وطهارة النفس وحسن الخلق المحمود، بقوله عليه السلام: " أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً وألطفهم بأهله ". وقوله عليه السلام: " أحببكم إلي أحسنكم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون ". وثناء الشرع على الخلق الحسن خارج عن الحصر ومعناه إصلاح هذه القوى الثلاث. وقد جمعه الله سبحانه في قوله: (إنّما المؤمنونَ الذينَ آمنُوا باللهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ لم يَرْتَابُوا، وَجَاهَدُوا بَأموالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ في سَبيلِ الله أولئكَ هُمُ الصادقون) ، فدّل الإيمان بالله ورسوله، مع نفي الارتياب، وعلى العلم اليقين والحكمة الحقيقة التي لا يتصور حصولها، إلا بإصلاح قوة الفكر، ودلّ بالمجاهدة بالأموال على العفّة والجود، اللذين هما تابعان بالضرورة لإصلاح الشهوة،

ودلّ بالمجاهدة بأنفسهم على الشجاعة والحلم، اللذين هما تابعان بالضرورة لإصلاح الحمية وإسلالها للدين والعقل حتى تنبعث مهما انبعثت، وتسكن مهما سكن. وعليه دلّ قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُر بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَن الجاهِلِين) . وقال عليه السلام في تفسيره: " هو أن تعفو عمن ظلمكَ، وتعطي من حرمَك، وتصل من قطعك، وتحسن لمن أساء إليك ". فالعفو عمّن ظلمك هو نهاية الحلم والشجاعة، وإعطاء من حرمك هو نهاية الجود، ووصل من قطعك هو نهاية الإحسان. بيان مثال النفس مع هذه القوى المتنازعة مثل نفس الإنسان في بدنه كمثل والِّ في مدينته ومملكته. وقواه وجوارحه الخادمة للبدن بمنزلة الصنّاع والعملة، والقوة العقلية المفكرة له، كالمشير الناصح والوزير العاقل.

والشهوة له كعبد سوء يجلب الميرة والطعام، والحمية كصاحب شرطته. والعبد الجالب للميرة مكّار خداع خبيث ملّبس، يتمثل بصورة الناسح، وتحت نصحه الداء العضال، والشر الشِمّر، وديدنه منازعة الوزير في التدبير حتى لا يغفل عن منازعته ومعارضته في آرائه ساعة. فكما أن الوالي في مملكته، متى استشار في تدبيرات لوزيره، معرضاً عن إشارة هذا العبد الخبيث، بل مستدلاً باشارته على أن الصواب في نقيض رأيه، ودأب صاحب شرطته، وأسلسه لوزيره وجعله مؤتمراً له، مسلطاً من جهته على هذا العبد الخبيث، وأتباعه وأنصاره، حتى يكون العبد مسوساً لا سايساً، ومأموراً ومدبّراً لا آمراً مدبّراً، استقام أمر بلده، وانتظم لقيام العدل بسببه. كذلك النفس متى استعانت بالعقل، وأدّبت الحمية الغضبية، وسلّطتها على الشعوة، واستعانت بالعقل على الأخرى، تارة بأن تقلل من تيه الغضب وغلوائه، بخلابة الشهوة وتقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها، وتقبيح مقتضياتها استشاطة عليها، اعتدلت قواه وحسنت أخلاقه. ومن عدل عن هذه الطريقة فهو كما قال الله تعالى:

(أفرأيتَ مَنِ اتّخَذَ إلَههُ وأَضَلهُ اللهُ عَلَى عِلمٍ) . وقال: (واتّبعَ هَواهُ فَمثَلهُ كَمَثَلِ الكلْبِِ) . وقال عليه السلام: " أعدى عدوك نفسك، التي بين جنبيك ". وقال تعالى لمن قهر هواه: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهى النّفْسِ عن الهوى، فإنّ الجنّةَ هيَ المأْوَى) . وليس الأمر كما ظنه فريق من لزوم قمع الغضب وإماطته بالكلية، وقلع الشهوة وإماطتها بالكلية، بل الواجب ضبطها وتأديبها، فإن العقل لا يقدر على التأديب دون الحمية الغضبية، إذ ليس له إلا الإشارة بالصواب وهو أشرف القوى. وبه صار الإنسان خليفة الله في أرضه، ولكنه كطبيب مشير إلى ما فيه البرّ، فإن لم يستعن بالغضب والحمية التي ترهق الشهوة إلى الطاعة وتنتهض خادمة للعقل في الزجر والكسر لم تفد إشارته. ولذلك لا يتبيّن فضيلة العقل لمن لا حمية له، ولكن ينبغي أن يتأدب بحيث لا ينبعث إلا بإشارة العقل. وكذلك الشهوة

فإن إماتتها عن الجماع عسرة، وقاطعة للتناسل الذي به بقاء النوع، وعن الطعام صعب، وينقطع به بقاء الشخص. ولكن بكسر الشره في الطعام، حتى لا يكون المقصود من الطعام التلذذ بالتناول، بل استيفاء القوة للتوصّل به إلى العلم والعمل، فيكون في أكله كهو في أعلافه دابته، إذا انتهض للجهاد فمقصوده التوصل فقط، ويود لو استغنى عن الطعام وبقيت قوته على العلم والعمل. مثال آخر: الإنسان حيث خلق بنفسه عالماً، كبيراً في المعنى صغيراً في الحجم، فبدنه كمدينة، وعقله كملك مدبّر لها. وقواه المدركة من الحواس الظاهرة والباطنة كجنوده وأعوانه، وأعضاؤه كرعيته. والنفس الأمارة بالسوء، التي هي الشهوة والغضب، كعدوّ ينازع في مملكته، ويسعى في إهلاك رعيته. فصار بدنه كرباط وثغر، ونفسه كمقيم فيه مرابط، فإن جاهد عدوّه وأسره وقهره على ما يجب، حمد أثره إذا عاد إلى حضرته تعالى، كما قال:

(فَضَّلَ اللهُ المجاهدينَ بأموالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعِدِينَ دَرَجَةً وكُلاً وَعَدَ اللهُ الحُسْنى) . وإن ضيّع ثغره وأهل رعيته، ذمّ أثره وانتقم منه عند لقاء الله تعالى. وقال اللهيوم القيامة كما ورد في الخبر: " يا راعي السوء أكلت اللحم، وشربت اللبن، ولم ترد الضالة، ولم تجبر الكسير، اليوم أنتقم منك ". وهذا الجهاد ذكره باللسان مفرح، وغذاء للروح، وتحقيقه بالعمل بالحقيقة هو نزع الروح. ولن يعرف ذلك إلاَّ من طالب نفسه بترك شهواته. ولذلك قالت الصحابة: " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ". فسموا مجاهدة الكفار بالسيف الجهاد الأصغر. وكذلك سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي الجهاد أفضل يا رسول الله؟ " فقال عليه السلام: " جهادك هواك ". ولذلك قال: " ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من ملك نفسه عن الغضب ". مثال آخر: مثل العقل مثل فارس متصيد، وشهوته كفرسه، وغضبه ككلبه،

فمتى كان الفارس حاذقاً وفرسه مروّضاً، وكلبه مؤدباً معلماً منقاداً، صار حرّياً بالنجح. ومتى كان هو في نفسه أحمق، وكان الفرس جموحاً، والكلب عقوراً، فلا فرسه ينبعث تحته منقاداً، ولا كلبه يسترسل بإشارته مطيعاً، فهو خليق بأن يعطب، فضلاً عن أن ينال ما طلب. بيان مراتب النفس في مجاهدة الهوى والفرق بين إشارة الهوى والعقل: إعلم أن للإنسان في مجاهدة الهوى ثلاثة أحوال: الأولى أن يغلبه الهوى، فيملكه ولا يستطيع له خلافاً، وهو حال أكثر الخلق، وهو الذي قال الله تعالى فيه: (أَرَأَيتَ مَنْ اتِّخَذَ إلههُ هَوَاه) . إذ لا معنى للإله إلا المعبود، والمعبود هو المتبوع إشارته. فمن كان تردده في جميع أطواره خلف أغراضه البدنية وأوطاره، فقد اتخذ إلهه هواه

الثانية أن يكون الحر بينهم سجالاً، تارة لها اليد وتارة عليها اليد. فهذا الرجل من المجاهدين. فإن اخترمته المنية في هذه الحالة، فهو من الشهداء، لأنه مشغول بامتثال قوله صلى الله عليه وسلم: " جاهدوا أهواءكم، كما تجاهدون أعداءكم "، وهذه الرتبة العليا للخلق، سوى الأنبياء والأولياء. الثالثة أن يغلب هواه فيصير مستولياً عليه لا يقهره بحال من الأحوال. وهذا هو الملك الكبير، والنعيم الحاضر، والحرية التامة، والخلاص عن الرق. ولذلك قال عليه السلام: " ما من أحد إلا وله شيطان، ولي شيطان. وإن الله قد أعانني على شيطاني، حتى ملكته ". وقال في حق عمر: " ما سلك عمر فجاً، إلا وسلك الشيطان فجاً غيره ". وهذا الآن مزلة قدم، فكم من إنسان يظن أنه نال هذه الرتبة، وهو في الحقيقة شيطان مريد، فإنه يتبع أغراضه، ولكن يتعلل لأغراضه أنها من الدين، وأن طلبه لها لأجل الدين، حتى رأيت جماعة اشتغلوا بالوعظ والتدريس، والقضاء والخطابة، وأنواع الرياسة، وهم فيه متبعون للهوى. ويزعمون أن باعثهم الدين ومحركهم طلب الثواب، ومنافستهم عليها من جهة الشرع،

وهي نهاية الحمق والغرور. وإنما يعرف حقيقة ذلك بأمر، وهو أن الوعظ المقبول، إن كان يعظ الله، لا لطلب القبول وقصده دعوة الخلق إلى الله، فعلامته أنه لو جلس على مكانه واعظ أحسن منه سيرة، وأغزر منه علماً، وأطيب منه لهجة، وتضاعف قبول الناس به بالنسبة إلى قبوله، فرح به وشكر الله على إسقاط هذا الفرض عنه بغيره، وبمن هو أقوم به منه. كمن تعين عليه جهاد كافر، وقتله لارتداده، فنزلت بالكافر صاعقة أحرقته، وكفا مؤنته، والجهاد معه، فرح به وشكر الله تعالى. وهذه الحالة لا يصادفها من نفسه إلا الأولياء، وتكون إحدى آثارها الاحتراز بأقصى الإمكان كل ساعة، وتصريحه بقوله: " اقتلوني فلست بخيركم "، كما نقل عن الصدّيق رضي الله عنه. فإن قلت فإذا كنا لا نأمن مثل التلبيس والخداع، بتزوير الشيطان والتدلي بحبل الغرور، كما حكي عن هؤلاء، فبم تميز بين إشارة العقل وإشارة الهوى؟ فاعلم أن هذا مطلب عويص، ولا خلاص منه إلا بالعلوم الحقيقية، ولا مغني فيه مثل ما اودعناه " معيار العلم "،

إذ به ينكشف التلبيس عن الحق. ولكن القدر الذي ينبغي أن يفزع إليه عند التحير أن يعلم أن العقل في أكثر الأمر يشير بالأصلح للعواقب، وإن كان فيه كلفة ومشقة في الحال، والهوى يشير بالاستراحة وترك التكلف. فمهما عرض لك أمر، ولم تدر أيهما أصوب، فعليك بما تكرهه لا بما تهواه. فأكثر الخلق في الكراهة. قال عليه السلام: " حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات ". وقال تعالى: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلُ اللهُ فيه خَيراً كثيراً) . وقال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرّ لَكُم) . فكلما يشير عليك بالدعة والرفاهية، وحظر الكلف وإيثار الراحة في الحال، فاتهم فيه نفسك، فإن حبك الشيء يعمي ويصم. وبالجملة فما يشير إليه العقل بقوته أفزع إلى العبادة والاستخارة فيه حتى ينشرح الصدر ويعضده الاستشارة، إذا استشير فيه أهله.

وأكثر ما يلبس به الهوى معاذير مزخرفة. والعقل يرشد بحجج حقيقية. والعاشق لشخص قبيح، أو المتناول لطعام بشع شغف به لعادته، لو روجع لزخرف فيه معاذير مموّهة، يشهد عليه العقل بأنه متصنع متكلف. وبالجملة إدراك هذه الحقيقة لا يكون إلا بنور إلهي، وتأييد سماويّ. فليكن الفزع إلى الله في مضانّ الحيرة. فقد قال بعض العلماء: إذا مال العقل إلى مؤلم في الحال، نافع في العاقبة، ومال الهوى نحو نقيضه الملذ في الحال، الوخيم في العقبى، وتنازعا وتحاكما إلى القوة المدبّرة المفكرة، سارع نور الله تعالى إلى نصرة العقل، وبادر وسواس الشيطان وأولياؤه إلى نصرة الهوى، وقام صف القتال بينهما. فإن كانت القوة المدبّرة من حزب الشيطان وأوليائه، ذهلت عن نور الحق، وعميت عن نفع الآجل، واغترت بلذة العاجل، وجنحت إليه، وقهر أولياء الله. وإن كانت من حزب الله وأوليائه، اهتدت بنوره، واستهانت بالعاجلة، وطلبت الآجلة. قال الله تعالى: (الله وَلِيُّ الّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُماتِ إلَى النُّورِ، وَالّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلماتِ) .

وشبه الله العقل بشجرة طيبة، والهوى بشجرة خبيثة، فقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ كَشَجَرَةٍ طَيِّبةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرعُهَا في السَّمَاءِ) . فعند قيام الصفّ والتحام القتال بين هذين الجندين اللذين أحدهما من أعداء الله، والآخر من أوليائه، لا سبيل إلا الفزع إلى الله تعالى، والاستعاذة من الشيطان الرجيم، كما قال تعالى: (وَأمّا يَنزَغَنَّكَ من الشَّيطَانِ نَزَغٌ، فَاسْتَعِذْ باللهِ إنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إنّ الّذِينَ أتّقُوا إِذَا مَسَّهُم طَائفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُبْصِرون) . فإن قلت فهل من فرق بين الهوى والشهوة؟ قلنا لا حجر في العبارات، ولكن نعني الهوى المذموم

من جملة الشهوات، دون المحمود. والمحمود من فعل الله تعالى، وهي قوة جعلت في الإنسان لتنبعث بها النفس لنيل ما فيه صلاح بدنه، إما بإبقاء بدنه أو بإبقاء نوعه، وإصلاحها جميعاً. والمذموم من فعل النفس الأمارة بالسوء، وهو استحبابها لما فيه لذتها البدنية. وهذه الشهوة إذا غلبت سمّيت هوى، فإنها ستتبع الفكرة وتستخدمها لتستغرق وقتها في الامتثال لأمرها. والفكرة مترددة بين الشهوة والعقل، يخدمها العقل فوقها، والشهوة تحتها. فمتى مالت الفكرة نحو العقل ارتفعت وشرفت وولدت المحاسن، وإذا مالت إلى الشهوة تسفّلت إلى أسفل السافلين، وولدت القبائح.

بيان إمكانية تغير الخلق لقد ظنّ بعض المائلين إلى البطالة أن الخُلق كالخَلق، فلا يقبل التغيير. والتفت إلى قوله عليه السلام: " فرغ الله من الخلق ". وظن أن المطمع في تغيير الخلق، طمع في تغيير خلق الله عز وجل، وذهل عن قوله عليه السلام: " حسّنوا أخلاقكم ". وإن ذلك لو لم يكن ممكناً، لما أمر به، ولو امتنع ذلك لبطلت الوصايا والمواعظ والترغيب والترهيب، فإن الأفعال نتائج الأخلاق، كما أن الهويّ إلى أسفل نتيجة الثقل الطبيعي، فلم يتوجه الملام إلى أحدهما دون الآخر. بل كيف ينكر تهذيب الإنسان مع استيلاء عقله، وتغيير خلق البهائم ممكن، إذ ينتقل الصيد من التوحش إلى التأنس، والكلب من الأكل إلى التأدب، والفرس من الجماح إلى السلاسة، وكل ذلك تغيير خلق؟ والقول الشافي فيه أن ما خلق الله سبحانه قسمان:

قسم لا فعل لنا فيه، كالسماء والكواكب، بل أعضاء أبداننا وأجزائها، وما هو حاصل بالفعل، والقسم الثاني ما خلق وجعلت فيه قوة لقبول كمال بعده، إذا وجد شرط التربية. وتربيته قد تتعلق بالاختيار، فإن النواة ليست بتفاح، ولا نخل، ولكنها قابلة بالقوة لأن تصير نخلاً بالتربية، وغير قابلة لأن تصير تفاحاً، وإنما تصير نخلاً إذا تعلق بها اختيار الآدمي في تربيتها. فلذلك لو أردنا أن نقلع بالكلية الغضب والشهوة من أنفسنا، ونحن في هذا العالم عجزنا عنه، ولكن لو أردنا قهرهما، واسلاسهما بالرياضة والمجاهدة قدرنا عليه. وقد أمرنا بهذا، وصار ذلك شرط سعادتنا ونجاتنا. نعم الجبلات مختلفة، فبعضها سريعة القبول، وبعضها بطيئة القبول. ولاختلافهما سببان: أحدهما باعتبار التقدم في الوجود، فإن قوة الشهوة، وقوة الغضب، وقوة التفكر موجودة في الإنسان، وأصعبها تغييراً وأعصاها على الإنسان قوة الشهوة، فإنها أقدم القوى وجوداً وأشدها تشبثاً والتصاقاً، فإنها توجد معه في

أول الأمر، حتى توجد في الحيوان الذي هو جنسه، ثم توجد قوة الحمية والغضب بعده. وأما قوة الفكر، فإنها توجد آخراً. والسبب أنه يتأكد الخلق بكثرة العمل بموجبه والطاعة له، وباعتقاد كونه حسناً مرضياً والناس فيه أربع مراتب: الأولى هو الإنسان الغفل، الذي لا يعرف الحق من الباطل، والجميل من القبيح، فيبقى خالياً عن الاعتقاد، وخالياً أيضاً عن تشمير شهواته، باتباع اللذات. فهذا أقبل الأقسام للعلاج، فلا يحتاج إلا إلى تعليم مرشد وإلى باعث في نفسه يحمله على الاتباع، فيحسن خلقه في أقرب وقت. والثانية أن يكون قد عرف قبح القبيح، ولكنه لم يتعوّد العمل الصالح بل زيّن له شر عمله، يتعاطاه انقياداً لشهواته، وإعراضاً عن صواب رأيه، فأمره أصعب من الأول، إذ تضاعفت علته. فعليه وظيفتان: إحداهما قلع ما رسخ فيه من كثرة التعود للفساد، والآخر صرف النفس إلى ضده. وعلى الجملة هو في محل قبول الرياضة، إن انتهض لها عن جدّ كامل

والثالثة أن يعتقد الأخلاق القبيحة أنها الواجبة المستحسنة، وأنها حق وجميل، ثم تربى عليها. فهذا يكاد تمتنع معالجته، ولن يرجى صلاحه إلا على الندور، إذ تضاعفت عليه أسباب الضلال. الرابعة أن يكون، مع وقوع نشوئه على الاعتقاد الفاسد، وتربيته على العمل به، ويرى فضله في كثرة الشر، واستهلاك النفوس، ويتباهى به، ويظن أن ذلك يرفع من قدره. وهذا أصعب المراتب وفي مثله قيل: من التعذيب تهذيب الذئب، ليتأدب وغسل المسخ ليبيّض، فالأول من هؤلاء يقال له جاهل، والثاني جاهل وضال، والثالث جاهل وضال وفاسق، والرابع جاهل وضال وفاسق وشرير.

بيان الطريق الجملي في تغير الأخلاق ومعالجة الهوى اعلم أن المقصود من المجاهدة والرياضة بالأعمال الصالحة تكميل النفس وتزكيتها وتصفيتها لتهدي بأخلاقها. وبين النفس وبين هذه القوى نوع من العلاقة، تضيق العبارة عن تعريفه على وجه يتشكل في خزانة التخيل، لأن هذه العلاقة ليست محسوسة بل معقولة. وليس من غرضنا بيان تلك العلاقة، ولكن كل واحد من النفس والبدن متأثر بسبب صاحبه. فإن النفس إن كملت وكانت زاكية، حسنت أفعال البدن، وكانت جميلة، وكذا البدن، إن جملت آثاره، حدث منها في النفس هيئات حسنة وأخلاق مرضية. فإذن الطريقة إلى تزكية النفس اعتياد الأفعال الصادة من النفوس الزاكية الكاملة، حتى إذا صار ذلك معتاداً بالتكرر، مع تقارب الزمان، حدث منها هيئة للنفس راسخة تقتضي تلك الأفعال، وتتقاضاها بحيث يصير ذلك له بالعادة كالطبع، فيخف عليه ما كان يستثله من الخير. فمن أراد مثلاً أن يحصّل لنفسه خلق الجود، فطريقة

أن يتكلف تعاطي فعل الجواد، وهو بذل المال، ولا يزال يواظب عليه حتى يتيسر عليه، فيصير بنفسه جواداً. وكذا من أراد أن يحصّل لنفسه خلق التواضع، وغلب عليه التكبّر، فطريقه في المجاهدة أن يواظب على أفعال المتواضعين مواظبة دائمة، على التكرر مع تقارب الأوقات. والعجب أن الأمر بين النفس والبدن دور، إذ بأفعال البدن تكلفاً، يحصل للنفس صفة. فإذا حصلت الصفة فاضت على البدن فاقتضت وقوع الفعل الذي تعوده طبعاً، بعد أن كان يتعاطاه تكلفاً. والأمر فيه كالأمر في سائر الصناعات. فإن من أراد أن يصير له الحذق في الكتابة صفة نفسية ثابتة فطريقه أن يتعاطى ما يتعاطاه الكاتب الحاذق، وهو حكاية الخط الحسن متكلفاً متشبهاً. ثم لا يزال يواظب على تعاطي الخط الحسن، حتى يصير له ذلك ملكة راسخة، ويصير الحذق فيه صفة نفسانية، فيصدر منه بالآخرة بالطبع ما كان يتكلفه ابتداء بالتصنع. فكأن الخط الحسن هو الذي جعل خطه حسناً، ولكن الأول متكلف والآخر بالطبع، وذلك بواسطة تأثر النفس. وكذلك من أراد أن يصير فقيه النفس، فلا طريق له إلا ممارسة الفقه وحفظه وتكراره. وهو في الابتداء متكلف، حتى

ينعطف منه على نفسه وصف الفقه، فيصير فقيه بمعنى أنه حصل للنفس هيئة مستعدة، نحو تخريج الفقه، فيتيسر له ذلك طبعاً مهما حاوله. وكذلك الأمر في جميع صفات النفس. وكما أن طالب رتبة الفقه لا يحرم هذه الرتبة بتعطيل ليلة، ولا ينالها بزيادة ليلة، فكذلك طالب كمال النفس لا ينالها بعبادة يوم، ولا يحرمها بنقصان يوم. ولكن تعطّله في يوم واحد، يدعو إلى مثله. ثم يتداعى قليلاً قليلاً، حتى تأنس النفس بالكسل وتهجر التحصيل فيفوته فضيلة الفقه، فكذا صغائر المعاصي، بعضها يدعو إلى بعض. وكما أن تكرار ليلة لا يحس بأثره في تفقه النفس، فإنه يظهر شيئاً فشيئاً، مثل نمو البدن وارتفاع القامة، فكذلك الطاعة الواحدة، قد لا يحس أثرها في النفس وكمالها في الحال، ولكن ينبغي أن لا يستهان بها، فإن الجملة مؤثرة، وإنما جمعت من الآحاد، فلكل واحد تأثير. ثم ما من طاعة إلا ولها أثر ما وإن خفيى، وكذلك المعصية. وكم من فقيه مسوّف يستهين بتعطيل يوم وليلة، وهكذا على التوالي، فيفوته كمال العلم. فكذا من يستهين بصغار المعاصي ينتهي به الأمر إلى حرمان السعادة.

وكم من فقيه موفق لا يستهين بتعطيل يوم وليلة، فهكذا على التوالي، فيحرز كمال النفس والعلم. فكذا من لا يبستهين بصغار المعاصي ينتهي به الأمرإلى درجات السعادة، إذ القليل يدعو إلى الكثير، ولذلك قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: " الإيمان يبدو في القلب نكتة بيضاء كلما أزداد الإيمان إزداد ذلك البياض. فإذا استكمل العبد الإيمان ابيّض القلب كله. وإن النفاق يبدو في القلب نكتة سوداء، كلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد. فإذا استكمل العبد النفاق، اسود القلب كله ". بيان مجامع الفضائل التي بتحصيلها تنال السعادة إذا عرف أن السعادة تنال بتزكية النفس وتكميلها، وأن تكميلها باكتساب الفضائل كلها، فلا بد من أن يعرف الفضائل جملة وتفصيلاً. فأما الفضائل بجملتها، فتنحصر في معنيين: أحدهما جودة الذهن والتمييز

والآخر حسن الخلق. أما جودة الذهن فليميّز بين طريق السعادة والشقاوة، فيعمل به، وليعتقد الحق في الأشياء على ما هي عليه، عن براهين قاطعة مفيدة لليقين، لا عن تقليدات ضعيفة، ولا عن تخييلات مقنعة واهية. وأما حسن الخلق، فبأن يزيل جميع العادات السيئة، التي عرّف الشرع تفاصيلها، ويجعلها بحيث يبغضها، فيجتنبها كما يجتنب المستقذرات. وأن يتعود العادات الحسنة ويشتاق إليها فيؤثرها، ويتنعّم بها كما قال عليه السلام: " جعلت قرة عيني في الصلاة ". ومهما كانت العبادات، وترك المحظورات مع استثقال وكراهة، فذلك لنقصان، ولا ينال كمال السعادة به. نعم المواظبة عليه بالمجاهدة غاية الخير، ولكن لا بالإضافة إلى فعله عن طوع ورغبة، وإنما قيل: الحق مرة بالإضافة إلى من لم يتهذب، فبقي فيه صوارف عن الحق. ولذلك قال تعالى: (وإنّها لَكَبِيرَةٌ إلاّ عَلَى الخَاشِعِين) . ولذلك قال عليه السلام: " إن استطعت أن تعمل في الرضا لله، فأعمل، وإلا ففي الصبر على ما تكره خيرٌ كثير ".

ثم لا يكفي في نيل السعادة استلذاذ الطاعة، واستكراه المعصية في زمان دون زمان، بل ينبغي أن يكون ذلك على الدوام في جملة العمر. وكلما كان العمر أطول كانت الفضيلة أرسخ وأكمل. ولذلك لما سئل عليه السلام عن السعادة، قال: " طول العمر في طاعة الله ". ولذلك كره الأنبياء والأولياء الموت، فإن الدنيا مزرعة للآخرة. وكلما كانت العبادات أكثر بطول العمر، كان الثواب أكثر، والنفس أزكى وأطهر، وكمالها أتم، وابتهاج صاحبها بجمالها عند التجرد عن علائق البدن أشد وأوفر. وذلك إذا تنبه عن نومه الذي أغفله عن إدراك حال نفسه، من جمال يبتهج به، أو خزي وخيال يفتضح به، وذلك التنبه بإطراح الشواغل. فالناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا. فهذه مجامع الفضائل، وغايتها أن تصدر منه الفضائل أبداً بغير فكر وروية وتعب، ويطلع على الحق بغير تعب طويل، حتى كأنه يصدر منه، وهو في غفلته كالصانع الحاذق في الخياطة والكتابة. وغاية الرذالة أن ترشح منه الرذائل بغير تكلف ولا فكر ولا روية.

واعلم أن هذه الفضائل المحصورة في فن نظري، وفي فن عملي، يحصل كل واحد منها على وجهين: أحدهما بتعلم بشريّ وتكلف اختياري، يحتاج فيه إلى زمان وتدرب وممارسة، وتقوي الفضيلة في شيئاً فشيئاً خفي التدريج، كتدريج الشخص في النمو، وإن كان في الناس من يكفيه أدنى ممارسة، وذلك بحسب الذكاء والبلادة. والثاني يحصل بجود إلهيّ، نحو أن يولد الإنسان، فيصير بغير معلم عالماً، كعيسى بن مريم ويحيى بن زكريا، وكذا سائر الأنبياء الذين حصل لهم من الاحاطة بحقائق الأمور، ما لم يحصل لطلاب العلم بالتعلم. وقيل: إن ذلك قد يحصل أيضاً لغير الأنبياء، وهم الذين يعبر عنهم بالأولياء. وهذا الآن رزق لا يمكن اكتسابه بالجهد، فمن حرم ذلك، فليجتهد أن يكون من الفريق الثاني، وليعلم نزول رتبته عن رتبة أولئك، " فليس التكحل في العينين كالكحل ". ولا ينبغي أن تستبعد أن يكون بالطبع في مبدأ الفطرة من العلوم ما يحصل بالجهد والاكتساب، كما يكون ذلك في الأخلاق. فرب صبي صادق اللهجة سخيّ جريء،

وربما تخلق بخلافه، وذلك يحصل بالتأديب والتربية. فإذا الفضيلة تارة تحصل بالطبع وطوراً بالاعتياد، ومرة بالتعلم. فمن تضافرت في حقه الجهات الثلاث، حتى صار ذا فضيلة طبعاً واعتياداً وتعلماً فهو في غاية الفضيلة. ومن كان رذلاً من هذه الجهات الثلاث فهو في غاية الرذالة، وبينهما رتبة من اختلفت فيه هذه الجهات. بيان تفصيل الطريق إلى تهذيب الأخلاق ينبغي أن تعلم أن علاج النفس بمحو الرذائل عنها وبكسب الفضائل، مثاله علاج الأبدان بمحو العلل عنها، وبكسب الصحة لها. وكما أن الغالب على أصل المزاج الاعتدال، وإنما تعتري العلة المغيرة للاعتدال بعوارض الأغذية وغيرها، فكذا كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه.

والمقصود أنه بالتعليم والاعتياد يكتسب الرذائل. وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً، وإنما يكمل بالنشوء والتربية بالغذاء، فكذلك النفس تخلق ناقصة، وإنما تكتمل بالتزكية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم. وكما أن البدن، إن كان صحيحاً فشأن الطبيب تمهيد القانون الحافظ للصحة، فإن كان مريضاً فشأنه جلب الصحة إليه، فكذا النفس منك إن كانت زاكية، طاهرة، مهذبة الأخلاق، فينبغي أن تسعى لحفظ صحتها وجلب مزيد قوة وصفاء إليها. وكما أن العلة المغيرة للاعتدال، الموجبة للمرض، لا تعالج إلا بضدها، إن كانت من حرارة فبالبرودة وبالعكس، فكذا الرذيلة الموجبة لنقصان النفس، علاجها بضدها، كما سبق من علاج الجهل بالتعلم، والبخل بالتسخي تكلفاً، والكبر بالتواضع تكلفاً، والشره بالكف عن المشتهى تكلفاً. وكما أن كل مبرد لا يكفي لعلة أوجبتها الحرارة، إلا إذا كان على حد مخصوص، ويختلف ذلك بالشدة والضعف،

والدوام وعدمه، وبالكثرة والقلة، ولا بد له من عيار يغرف به مقدار النافع منه، فإن لم يحفظ عياره زاد الفساد، فكذلك النقيض، الذي يعالج به الأخلاق لا بد له من عيار. وكما أن عيار الدواء مأخوذ من عيار العلة، حتى أن الطبيب لا يعالج ما لم يعرف أن العلة من حرارة أو برودة، وإن كانت الحرارة، فما درجتها، أهي ضعيفة أو قوية، فإذا عرف التفت معه إلى أحوال البدن، وأحوال الزمان والصناعة التي المريض بصددها وعالج بحسبها، فكذلك الشيخ المتبوع، الذي يطلب نفوس المريدين والمسترشدين، ينبغي أن لا يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص، ما لم يعرف أخلاقهم. فإذا عرف ما هو الغالب على المريد من الخلق السيء، وعرف مقداره، ولاحظ حاله وسنه، وما يحتمله من المعالجة، عيّن له الطريق. ولذلك ترى الشيخ يشير على بعض المريدين أن يخرج إلى السوق للكدية وذلك أن توسم فيه نوع رياسة وتكبر، فيعالجه بما يراه ذلاً، وهو نقيض خلقه، حتى ينكسر به تكبره، ويشير على بعضهم بتعهد بيت الماء، واعداد نبل

الاستنجاء، وذلك إذا رأى نفسه مائلة إلى الرعونة في النظافة المجاوزة حد الاعتدال. وقد يشير عليه بالصوم، ويأمره بالوصال، إلا بمقدار يخرج به عن موجب النهي، وذلك إذا رآه شاباً قوي الشهوة، مولعاً بشهوة البطن والفرج، إلى غير ذلك من طرق التهذيب. وعن بعضهم: أنه كان يعالج قوة الغضب، ويتكلف صفة الحلم، فكان يعطي السفهاء الأجرة، ليجبهوه بالشتم في المحافل، فيتعود احتماله، فصار بحيث يضرب به المثل في الحلم. وكان آخر يدرج نفسه في الشجاعة، فيركب البحر في الشتاء، وآخر كان يهيئ المآكل الطيبة ويطعمها غيره بحضرته، وهو يقتصر على خبز الشعير لكسر الشره، وعباد الهند يعالجون الكسل عن العبادة بقيام طول ليلة على رجل واحدة لا ينتقل عنها. وآخر عالج حب المال بأن باع كل ماله ورمى بثمنه في البحر. فهذا طريق جملي في تهذيب الأخلاق، والكلام في تفصيله يطول، والغرض أن تنظر، أيها المتشوق إلى تزكية نفسك في أخلاقك.

فإن كانت مهذبة فاحفظها، وإن كانت مائلة فقومها بالرد إلى حد الاعتدال، على ما سيأتي تفصيله، فإن المقصود من جلب الاعتدال سلب الطرفين، إذ الغرض تطهير النفس عن الصفات التي تلحقها بعوارض البدن، حتى لا تلتفت إليها بعد المفارقة، عاشقة ومتأسفة على قوتها، وممنوعة بالاشتغال والتألم بها عن السعادات اللائقة بجوهرها. ومهما أردنا أن لا يكون الماء حاراً ولا بارداً، طلبنا فيه الاعتدال وكان الفاتر لا حاراً ولا بارداً، فكذلك هذه الصفات. فإن قلت: فبماذا اعلم أن الحاصل لي هو الخلق الجميل، وهو الوسط المعتدل بين طرفي الافراط والتفريط؟ فطريقك أن تنظر في الأفعال، التي يوجبها ذلك الخلق الذي فيه مجاهدتك، فإذا التذذت بفعله، فاعلم أن الخلق الموجب له راسخ في نفسك، فإن كان ذلك الفعل قبيحاً فاعلم أن الخلق قبيح، مثل أن تلتذ بامساك المال وجمعه. فموجبه خلق البخل، فعوّد نفسك نقيضه، والأخلاق الحسنة والسيئة قد فصّلها الشرع ويجمعها ما صنف في آداب النبي عليه السلام، وهي مشهورة وسنشير إلى جملها. ونعني بالاعتدال أنك لو كنت تلتذ بالاسراف في تفريق

المال، فتعلم أن هذا أيضاً مذموم وهو الذي يعبّر عنه بالتبذير. والمحمود المعتدل هو السخاء الواقع بين التحرق والتبذير، وهو أن يتيسر عليك بذل ما يقتضي الشرع والعقل إمساكه، عن طوع ورغبة، وكذا في سائر الصفات، والواحد منها كاف في المثال، وإذا عرفت أن معيار الأعمال مأخوذ من مقدار الصفات والأخلاق، لم يخف عليك أن الطريق في هذا تختلف باختلاف الأشخاص، وتختلف في حق شخص واحد باختلاف الأحوال. فمن رزق البصيرة، تتبع العلة وعالجها بطريقها. ولما كان أكثر الناس يعجزون عنه، وعسر على الشرع تفصيل يفي بجميع الأشخاص، في جميع الأعصار، اقتصر الشرع في التفصيل على القوانين المشتركة، التي تعم جدواها من الطاعات وترك المعاصي المحذورة، ثم رغب عن المباحاة التي تقصد للتلذذ بأمور جميلة كقوله: " حب الدنيا رأس كل خطيئة "، وأمثاله. ثم عرف أهل البصيرة منه غاية المطلوب وطريقه،

وغاية المحذور وطريقه، ووقفوا به على التفصيل، وأرشدوا إليه من وفّق لاتباعهم، فكانوا نواباً عن الأنبياء في تفصيل ما أجملوه وشرح ما مهدوه. ولذلك قال عليه السلام: " العلماء ورثة الأنبياء ". بيان أمهات الفضائل الفضائل، وإن كانت كثيرة فتجمعها أربعة تشمل شعبها وأنواعها، وهي الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة. فالحكمة فضيلة القوة العقلية، والشجاعة فضيلة القوة الغضبية، والعفة فضيلة القوة الشهوانية، والعدالة عبارة عن وقوع هذه القوى على الترتيب الواجب فيها تتم جميع الأمور، ولذلك قيل: بالعدل قامت السموات والأرض. فلنشرح آحاد هذه الأمهات، ثم لنشرح بيانها وما ينطوي من الأنواع تحتها. فأما الحكمة فنعني بها مع عظم الله تعالى في قوله: (وَمَنْ يُؤت الحِكْمَة فَقَد أوتيَ خَيْراً كَثِيراً) .

وما أراده رسول الله حيث قال: " الحكمة ضالةُ المؤمن ". وهي منسوبة إلى القوة العقلية، وقد عرفت فيما سبق، أن للنفس قوتين: إحداهما تلي جهة فوق، وهي التي بها تتلقى حقائق العلوم الكلية الضرورية والنظرية من الملأ الأعلى، وهي العلوم اليقينية الصادقة أزلاً وأبداً، لا تختلف باختلاف الأعصار والأمم، كالعلم بالله تعالى وصفاته وملائكته وكتبه ورسله، وأضاف خلقه في العالم. بل من جملة العلم أن النفي والاثبات لا يصدقان على شيء واحد في حال واحدة، وكذلك العلوم الحقيقية. فهذه العلوم هي الحكمة الحقيقية. والقوة الثانية هي التي تلي جهة تحت، أعني جهة البدن وتدبيره وسياسته، وبها تدرك النفس الخيرات في الأعمال وتسمى العقل العملي، وبها يسوس قوى نفسه ويسوس أهل بلده ومنزله، واسم الحكمة لها من وجه كالمجاز لأن معلوماتها كالزيبق تتقلب ولا تثبت، فمن معلوماتها أن بذل المال فضيلة، وقد يصير رذيلة في بعض الأوقات، وفي حق بعض الأشخاص. فلذلك كان اسم الحكمة بالأول أحق، وهذا الثاني كالكمال والتتمة للأول، وهذه هي الحكمة الخلقية،

والأولى هي الحكمة العلمية النظرية، ونعني بالحكمة الخلقية حالة وفضيلة للنفس العاقلة، بها تسوس القوة الغضبية والشهوانية، وتقدر حركاتها بالقدر الواجب في الانقباض والانبساط، وهي العلم بصواب الأفعال. وهذه الفضيلة تكتنفها رذيلتان، وهما الخب والبله، فهما طرفا إفراطها وتفريطها، أما الحب فهو طرف إفراطها، وهو حالة يكون بها الإنسان ذا مكر وحيلة، بإطلاق الغضبية والشهوانية يتحركان إلى المطلوب حركة زائدة على الواجب. وأما البله، فهو طرف تفريطها ونقصانها عن الاعتدال. وهي حالة للنفس، تقصر بالغضبية والشهوانية عن القدر الواجب، ومنشأه بطؤ الفهم، وقلة الاحاطة بصوب الأفعال. وأما الشجاعة فهي فضيلة للقوة الغضبية، لكونها قوية، ومع قوة الحمية، منقادة للعقل المتأدب بالشرع، في إقدامها وإحجامها، وهي وسط بين رذيلتيها المطيفتين بها، وهما التهور والجبن. فالتهور لطرف الزيادة عن الاعتدال، وهي الحالة التي بها يقدم الإنسان على الأمور المحظورة، التي يجب في العقل الاحجام عنها، وأما الجبن فلطرف النقصان، وهي حالة بها تنقص حركة

الغضبية عن القدر الواجب، فتصرف عن الإقدام حيث يجب الإقدام. ومهما حصلت هذه الأخلاق، صدرت منها هذه الأفعال، أي يصدر من خلق الشجاعة الإقدام حيث يجب وكما يجب، وهو الخلق الحسن المحمود، وإياه أريد بقوله تعالى: (أشِدّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُم) ، فلا الشدة في كل مقام محمودة، ولا الرحمة، بل المحمود ما يوافق معيار العقل والشرع. فمن حصل له ذلك، فليحفظه بالمواظبة على أفعاله. ومن لم يحصل له، فلينظر، فإن كان طبعه مائلاً إلى النقصان الذي هو الجبن، فليتعاط أفعال الشجعان، متكلفاً مواظباً عليه، حتى يصير له الاعتياد طبعاً وخلقاً، فيفيظ منه أفعال الشجعان بعد ذلك طبعاً، وإن كان مائلاً إلى طرف الزيادة، وهو التهور، فليشعر نفسه بعواقب الأمور، وليعظم أخطارها، وليتكلف الإحجام إلى الاعتدال، أو ما يقرب منه. فإن الوقوف على حد الاعتدال شديد، ولو تصور ذلك، لارتحلت النفس عن البدن، وليس معها علاقة منه، فكانت لا تتعذب أصلاً بالتأسف على ما يفوتها منه،

وكان لا يتكدر عليها ابتهاجها بما يتجلى لها من جمال الحق وجلاله. ولكن لما عسر ذلك قيل: (وإنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا) . وقد رأى بعض المشايخ رسول الله في المنام فقال: ما الذي أردت بقولك " شيبتني سورة هود "، فقال: قوله (اَسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت) ، يعني الاستمرار على الصراط المستقيم. وطلب الوسط بين هذه الأطراف شديد، وهو أدق من الشعر وأحدّ من السيف، كما وصف من حال الصراط في الدار الآخرة، ومن استقام على الصراط في الدار الدنيا، استقام على الصراط في الآخرة مستقيماً، إذ يموت المرء على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه. ولذلك وجب في كل ركعة من الصلاة قراءة الفاتحة المشتملة على قوله: (إهدنا الصراط المستقيم) ، فإنه أعقد الأمور وأعصاها على الطالب. ولو كلّف ذلك في خلق واحد لطال العناء فيه. وقد كلفنا ذلك في جميع الأخلاق، مع خروجها عن

الحصر، كما سيأتي. ولا مخلص عن هذه المحظورات إلا بتوفيق الله ورحمته ولذلك قال عليه السلام: " الناس كلهم موتى إلا العالمون! والعالمون كلهم موتى إلا العاملون، والعاملون كلهم موتى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم "، فنسأل الله تعالى أن يمدنا بتوفيقه لنجاوز الأخطار في هذه الدار، ولا ننخدع بدواعي الاغترار. وأما العفة، فهي فضيلة القوة الشهوانية، وهي انقيادها على تيسر وسهولة للقوة العقلية، حتى يكون انقباضها وانبساطها بحسب إشارتها، ويكتنفها رذيلتان: الشره والخمود، فالشره هو إفراط الشهوة، إلى المبالغة في اللذات التي تستقبحها القوة العقلية وتنهي عنها، والخمود هو خمود الشهوة عن الانبعاث إلى ما يقتضي العقل نيله وتحصيله، وهما مذمومان، كما أن العفة التي هي الوسط محمودة، وعلى الإنسان أن يراقب شهوته، والغالب عليها الإفراط لا سيما إلى منقضى الفرج والبطن، وإلى المال والرياسة وحب الثناء، والإفراط والتفريط في كل ذلك نقصان،

وإنما الكمال في الاعتدال، ومعيار الاعتدال العقل والشرع، وذلك أن يعلم الغاية المطلوبة من خلق الشهوة والغضب، مثلاً بأن يعلم أن شهوة الطعام، إنما خلقت لتبعث على تناول الغذاء الذي يسد خلل ما ينحلّ من أجزائه بالحرارة الغريزية، حتى يبقى البدن حياً والحواس سليمة، ليتوصل بالبدن إلى نيل العلوم، ودرك حقائق الأمور، ويتشبه بالطبقة العليا بالإضافة إليه، وهي رتبة الملائكة، وبها كمالها وسعادتها. ومن عرف هذا كان قصده من الطعام التقوى على العبادة، دون التلذذ به، فيقتصر ويقتصد لا محالة، ولا يشتد إليه شرهه، ويعلم أن شهوة الجماع خلقت فيه لتكون باعثة على الجماع الذي هو سبب بقاء النوع محفوظاً ليطلب النكاح للولد والتحصّن، لا للعب والتمتع، وإن تمتع ولعب كان باعثه عليه الآلف والاستمالة الباعثة على حسن الصحبة ودوام النكاح، ويقتصر من الأنكحة على القدر الذي لا يعجزه عن القيام بحقوقه. ومن عرف ذلك سهل عليه الاقتصار، وعند ذلك لا يقيس نفسه بصاحب الشرع عليه السلام، إذ كان لا يشغله كثرة الأنكحة عن ذكر الله تعالى، ولا يلزمه طلب الدنيا لأجل الأزواج. ومن ظن أن ما لا يضر صاحب الشرع لا يضرّه، كان كمن ظن أن ما لا يغّير البحر الخضم من النجاسات، لا يغير كوزاً مغترفاً من البحر، وأن ما لا يضر الشخص القوي البنية

السيّ من الأطعمة اللذيذة، لا يضر الصبي الرضيع السخيف البنية. وكم من أحمق يتكايس، فيقيس نفسه بصاحب الشرع، مقايسة الملائكة بالحدادين، فيهلك من حيث لا يدري. نعوذ بالله من عمش البصيرة، فإنه يكاد يكون أردى من العمى، إذ الأعمى يعتقد عجزه فيقلد فيهديه غيره، والأعمش ينفتح من بصيرته بقدر ما يستنكف به من الاتباع ثم لا يكمل نوره بحيث يستكمل مستمراً في سواء السبيل، ومن هذه حاله لا يبالي الله في أي واد هلك. ولقد رأيت جماعة من الحمقى العوام يتكايسون في التصوف بآرائهم ويزعمون أن هذه الشهوات لم خلقت إن كان اتباعها مذموماً ومهلكاً، ولم يعلموا أن تحت خلق الشهوتين، أعني شهوة الفرج والبطن، حكمتين عظيمتين: إحداهما إبقاء الشخص بالغذاء والنوع بالحرث، فإنهما ضروريتان في الوجود بحكم إجراء الله سنته بمشيئة الله الأزلية التي لا يجد لها تبديلاً ولا تحويلاً، والثانية ترغيب الخلق في السعادات الآخروية، فإنهم ما لم يحسوا بهذه اللذات والآلام لم يرغبوا في الجنة ولم يحذروا النار، ولو وعدوا بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر

على قلب بشر، لما أثر ذلك بمجرده في نفوسهم، هذا حد العفة. وأما العدل فهو حالة للقوى الثلاث في انتظامها على التناسب، بحسب الترتيب الواجب في الاستعلاء والانقياد، فليس هو جزءاً من الفضائل، بل هو عبارة عن جملة من الفضائل، فإنه مهما كان بين الملك وجنده ورعيته ترتيب محمود، بكون الملك بصيراً قاهراً، وكون الجند ذوي قوة وطاعة، وكون الرعية ضعفاء سلسي الانقياد، قيل: إن العدل قائم في البلد. ولن ينتظم العدل بأن يكون بعضهم بهذه الصفات دون كلهم، وكذلك العدل في مملكة البدن بين هذه الصفات. والعدل في أخلاق النفس يتبعه لا محالة العدل في المعاملة والسياسة، ويكون كالمتفرّع منه. ومعنى العدل الترتيب المستحب، إما في الأخلاق، وإما في حقوق المعاملات، وإما في أجزاء ما به قوام البلد. والعدل في المعاملة وسط بين رزيلتي الغبن أن

يأخذ ما ليس له، والتغابن أن يعطي في المعاملة ما ليس عليه حمد وأجر. والعد في السياسة أن ترتب أجزاء المدينة الترتيب المشاكل لترتيب أجزاء النفس، حتى يكون المدينة في ائتلافها وتناسب أجزائها، وتعاون أركانها على الغرض المطلوب من الاجتماع، كالشخص الواحد، فيوضع كل شيء موضعه، وينقسم سكانه إلى مخدوم لا يخدم وإلى خادم ليس بمخدوم، وغلى طبقة يخدمون من وجه، ويخدَمون من وجه آخر، كما ذكرناه في قوى النفس. ولا يكتنف العدل رذيلتان، بل رذيلة الجور المقابلة له، إذ ليس بين الترتيب وعدم الترتيب وسط، وبمثل هذا الترتيب والعدل قامت السموات والأرض حتى صار العالم كله كالشخص الواحد، متعاون القوى والأجزاء، وإذ قد ذكرنا جملة هذه الأمهات فلنذكر تفصيل ما يندرج تحت كل فضيلة ورذيلة من أنواع الفضائل والرذائل، مبتدئين فيه بالقوة العقلية، ثم الغضبية، ثم الشهوانية، ليكون ذلك أشفى في البيان.

بيان ما يندرج تحت فضيلة الحكمة ورذيلتيها من الخب والبله: أما الحكمة فيندرج تحت فضيلتها حسن التدبير وجودة الذهن وثقابة الرأي وصواب الظن. أما حسن التدبير فهو جودة الروية في استنباط ما هو الأصلح والأفضل في تحصيل الخيرات العظيمة والغايات الشريفة مما يتعلق بك أو تشير به على غيرك في تدبير منزل أو مدينة أو مقاومة عدو ودفع شر، وبالجملة في كل أمر متفاقم خطير، فإن كان الأمر هيناً حقيراً سمي كيساً ولم يسمى تدبيراً. وأما جودة الذهن فهو القدرة على صواب الحكم عند اشتباه الآراء وثوران النزاع فيها. وأما نقابة الرأي فهو سرعة الوقوف على الأسباب الموصلة في الأمول إلى العواقب المحمودة، وأما صواب الظن فهو موافقة الحق لما تقتضيه المشاهدات من غير استعانة بتأمل الأدلة.

وأما رذيلة الخب فيندرج تحتها الدهاء والجربزة، فالدهاء هو جودة استنباط ما هو أبلغ في إتمام ما يظن صاحبه أنه خير، وليس بخير في الحقيقة، ولكن فيه ربح خطير، فإن كان الربح خسيساً سمي جربزة، فالفرق بين الدهاء والجربزة، يرجع إلى الحقارة والشرف. وأما رذيلة البله، فتندرج تحتها الغمارة والحمق والجنون. فأما الغمارة فهي قلة التجربة بالجملة في الأمور العملية، مع سلامة التخيل. وقد يكون الإنسان غمراً في شيء، بحسب التجربة، والغمر بالجملة هو الذي لم تحنّكه التجارب. وأما الحمق فهو فساد أول الرؤية فيما يؤدي إلى الغاية المطلوبة، حتى ينهج غير السبيل الموصل، فإن كان خلقه، سمي حمقاً طبيعياً ولا يقبل العلاج. وقد يحدث عند مرض، فيزول بزوال المرض.

وأما الجنون فهو فساد التخيل في انتقاء ما ينبغي أن يؤثر، حتى يتجه إلى إيثار غير المؤثر، فالفاسد من الجنون غرضه، ومن الأحمق سلوكه، إذ غرض الأحمق كغرض العاقل، ولذلك لا يعرف في أول الأمر إلا بالسلوك إلى تحصيل الغرض، والجنون هو فساد الغرض، ولذلك يعرف في أول الأمر. بيان ما يندرج تحت فضيلة الشجاعة وهو الكرم، والنجدة، وكبر النفس، والاحتمال، والحلم، والثبات والنبل، والشهامة، والوقار.

أما الكرم فهو وسط بين البذخ والنذالة، وهو طيب النفس بالاتفاق في الأمور الجليلة القدر، العظيمة النفع وقد يسمى حرية. وأما النجدة، فهو وسط بين الجسارة والانخذال، وهو ثقة النفس عند استرسالها إلى الموت، مهما وجب ذلك من غير خوف. وأما كبر النفس فهو وسط بين التكبر وصغر النفس، وهو فضيلة يقدر بها الإنسان أن يؤهل نفسه للأمور الجليلة، مع استحقاره لها وقلة مبالاته بها، ابتهاجاً منه بقدر نفسه وجلالتها. وأثره أن يقل شروره بالإكرام الكبير من العلماء، ولا يسر بإكرام الأوغال، ولا بالأمور الصغار، ولا بما يجري مجرى البخت والاتفاق من السعادات. وأما الاحتمال فهو وسط بين الجسارة والهلع، وهو حبس النفس عن مسايرة المؤذيات. وأما الحلم فهو وسط بين الاستشاطة والانفراك، وهي حالة تكسب النفس الوقار. وأما الثبات فهو شدة النفس، وبعدها من الخور. وأما الشهامة، فهو الحرص على الأعمال توقعاً للجمال. وأما النبل فهو سرور النفس بالأفعال العظام. وأما الوقار فهو وسط بين الكبر والتواضع، وهو أن يضع

نفسه موضع استحقاقها لمعرفته بقدرها. وأما رذيلتا الشجاعة، وهما التهور والجبن، فيندرج تحتهما البذخ، والنذالة، والجسارة، والنكول، والتبجح، وصغر النفس، والهلع، والاستشاطة، والانفراك، والتكبر، والتخاسس، والتعجب، والمهانة، فما يميل منها إلى جانب الزيادة، فهو تحت التهور. وما يميل إلى جانب النقصان، فهو تحت الجبن. فأما البذخ فهو الانفاق فيما لا يجب من الزينة، وغيرها طلباً للصلب. وأما النذالة فهي الدنائة وترك الانفاق فيما يجب، والافتخار بالأشياء الصغار. وأما الجسارة، فالاستهانة بالموت، حيث لا تجب الاستهانة،

وأما النكول، فهو الانقباض فيما لا يجب عنه الانقباض، خوفاً من الهلاك، وأما التبجح فهو تأهيل النفس للأمور الكبار، من غير استحقاق. وأما صغر النفس، فهو تأهيل النفس لما دون الاستحقاق. وأما الجسارة، فهو قلة التأثر بأسباب الهلاك، من غير أثر جميل تقتضيه، وأما الهلع، فهو سوء احتمال الآلام والمؤذيات، وأما الاستشاطة فهو سرعة الغضب وحدته، وأما الانفراك، فهو بطؤ الغضب وبلادته، وأما التكبر فهو رفع النفس فوق قدرها، وأما التخاسس، فحط النفس في الكرامة والتوقير إلى ما دون قدرها، فإن كان على الوجه الواجب سمي تواضعاً محموداً، والمولد للكبر هو العجب، وذلك جهل الإنسان بمقدار نفسه، وظنه أنها على رتبة عالية من غير أن تكون كذلك. وذم الناس للتكبّر والبخل أشد من ذمهم للتخاسس والتبذير، فإنهما في غاية القبح، وهذان وإن كانا مذمومين، فهما شبيهان بالسخاء والتواضع، وربما يدق الفرق بينهما، فيظن أنهما محمودان، وهما رذيلتان بالحقيقة، ومائلتان عن الوسط. ولذلك قال عليه السلام: " طوبى لمن تواضع من غير منقصة، وذلّ في نفسه من غير مسكنة ".

بيان ما يندرج تحت فضيلة العفة ورذيلتها أما فضائل العفة فهي الحياء، والخجل، والمسامحة، والصبر، والسخاء، وحسن التقدير، والانبساط، والدماثة، والانتظام، وحسن الهيئة، والقناعة، والهدوء، والورع، والطلاقة، والمساعدة، والتسخط،

والظرف. أما الحياء فهو وسطبينقاحة والخنوثة، وقيل في حده أنه ألم يعرض للنفس عند الفزع من النقيصة. وقيل: إنه خوف الإنسان من تقصير، يقع فيه عند من هو أفضل منه، وقيل أنه رقة الوجه عند إتيان القبائح، وتحفظ النفس عن مذمومة يتوجه عليها الحق فيها. وبالجملة، فإنه يستعمل في الانقباض عن القبح ويستعمل في الانقباض عمّا يظنه المستحي قبحاً. وهذا الأخير يليق بالصبيان والنساء وهو مذموم من العقلاء. والأول جميل من كل أحد والمراد بقوله: " إن الله يستحي من ذي شيبة في الإسلام أن يعذبه "، أنه يترك تعذيبه. وأما الخجل، فهو فترة النفس لفرط الحياء، وإنما يحمد في الصبيان والنساء، دون الرجال. وإنما يستحي الإنسان ممن يكبر في نفسه. فأما من يستحي من الناس، فنفسه أخسّ عنده من غيره، ومن لا يستحي من الله فلعدم معرفته لجلاله، ولذلك قال عليه السلام: " استحيوا من الله حق الحياء ". ولذلك قال تعالى:

(أَلَمْ يَعْلَمْ بَأَنَّ اللهَ يَرَى) ، فإنه مهما أحس في نفسه أن الله يراه، فيستحي لا محالة إن كان متديناً معظماً، كما قال عليه السلام: " لاَ إيمانَ لمنْ لاَ حَيَاءَ لَهُ " لأن الحياء للإنسان، هو أول إمارات العقل، والإيمان آخر مراتب العقل، وكيف ينال المرتبة الأخيرة من لم يجاوز الأولى؟. وأما المسامحة، فهو التجافي عن بعض الاستحقاق باختيار وطيب نفس، وهو وسط بين المنافسة والإهمال. وأما الصبر، فهو مقاومة النفس للهوى، واحتماؤها عن اللذات القبيحة. وأما السخاء فهو وسط بين التبذير والتقتير، وهو سهولة الانفاق وتجنب اكتساب الشيء من غير وجهه. وأما حسن التقدير، فهو الاعتدال في النفقات احترازاً عن طرفي التقتير والتبذير. وأما الدماثة، فهو حسن هيئة النفس الشهوانية في الاشتياق إلى المشتهيات. وأما الانتظام، فهو حال للنفس يدعوها إلى نظر ما يقدّره من النفقات حتى يناسب بعضها بعضاً. وأما حسن الهيئة فمحبة الزينة الواجبة التي لا رعونة فيها. وأما القناعة، فحسن تدبير المعاش، من غير خب. وأما الهدوء، فسكون النفس فيما تناله من اللذات الجميلة. وأما الورع، فوسط بين الرياء والهتكة، وهو تزيين النفس

بالأعمال الصالحة الفاضلة طلباً لكمال النفس، وتقرباً إلى الله دون الرياء والسمعة. وأما الطلاقة فهو المزاج بالأدب من غير فحش وافتراء، وهو وسط بين الإفراط والتفريط في الجد والهزل، وأما الظرف، فهو وسط بين التقطيب الذي هو الإفراط في التحاشي وبين الهزل، وهو أن يعرف الإنسان طبقات الجلساء، ويحفظ أوقات الأنس ويعطي كلاً ما هو أهله من المباسطة في الوقت معه. ولما كان الإنسان مفتقراً إلى استراحة ضرورية ترويحاً للقلب، لم يكن بد من نوع من العشرة. والدعابة مستطابة غير مترقية إلى الهزل، لكن بمقدار ما يفارق به الإنسان حدّ التوحش وسيرة الجفاء غير مجاوز إلى دأب المساخر في المضحكات. وقد نقل من دعابة رسول الله وأصحابه ما ينبّه على جنسه، ولسنا نطول به، وأما المساعدة، فهو وسط بين الشكاسة والملق، وهو ترك الخلاف، والإنكار على المعاشرين في الأمور الاعتيادية إيثاراً للتلذذ بالمخاطبة. وأما التسخط، فهو وسط بين الحسد والشماتة، وهو الاغتمام بالخيرات الواصلة إلى من لم يستحقها، والشرور التي تلحق من لا يستحقها. وأما الرذائل المندرجة تحت رذيلتي العفة، فهي الشره،

وكلال الشهوة، والوقاحة، والتخنث، والتبذير، والتقتير، والرياء، والهتكة، والكزازة، والمجانة، والعبث، والتحاشي، والشكاسة، والملق، والحسد، والشماتة. فأما الوقاحة، فلجاج النفس في تعاطي القبيح، من غير احتزاز من الذم. وأما التخنث، فحال يعتري النفس من إفراط الحياء، يقبض النفس عن الانبساط قولاً وفعلاً. وأما التبذير فإفناء المال، فيما لا يجب وفي الوقت الذي لا يجب فيه، وأكثر مما يجب. وأما التقتير، فهو الامتناع من إنفاق ما يجب، وسببه البخل والشح واللؤم. ولكل واحد من هذه الثلاثة رتبة، وأما التقتير، فهو الامتناع من إنفاق ما يجب، وسببه البخل والشح واللؤم. ولكل واحد من هذه الثلاثة رتبة.

أما البخيل، فهو الذي يفرط ويقصر في الإنفاق، خوفاً من أن تضطره الفاقة إلى المسئلة، والتذلل للأعداء، وكأن سبب البخل هو الجبن عند البحث. وأما الشحيح فهو الذي يجمع إلى ما ذكرناه أن يكره حسن حال غيره، طمعاً في أن يضطره إلى الحاجة إليه، فينال به الجاه والرفعة، ومنشأ هذا ضرب من الجهل. وأما اللئيم، فهو الذي يجمع إلى هذه الصفات احتمال العار في الشيء الحقير، وسببه نوع من الخبث، وذلك مثل المتلصص والدّيوث. وأما الرياء فهو التشبه بذوي الأعمال الفاضلة، طلباً للسمعة والمفاخرة. وأما الهتكة، فالإعراض عن تزيين النفس بالأعمال الفاضلة، والمجاهرة بأضدادها، وأما الكزازة، فاإفراط في الجد. وأما المجانة فالإفراط في الهزل، وأما العبث فالإفراط في الإعجاب بلقاء الجليس والأنيس. وأما التحاشي، فإفراط في التبرم بالجليس. وأما الشكاسة، فمخالفة المعاشرين، في شرائط الأنس، وأما الملق فالتحبب إلى المعاشرين، مع التغافل عما يلحقه من عار الاستخفاف.

وأما الحسد، فالاغتمام بالخير الواصل إلى المستحق، الذي يعرفه الحاسد. وأما الشماتة، فالفرح بالشر الواصل إلى غير المستحق، ممن يعرفه الشامت. وأما العدالة، فجامعة لجميع الفضائل والجور المقابل لها، فجامع لجميع الرذائل، وما من خلق من هذه الأخلاق، إلا وقد ورد في فضائله أخبار باعثة عليه، وفي رذائله زواجر عنه، ولم نر تطويل الكتاب بها، فليطلب ذلك من آداب النبي عليه السلام، وغيره من الكتب، وإنما الغرض بيان أن الإنسان بسبب هذه القوى الثلاث يحصّل هذه الأخلاق كلها. ولكل واحد طرفان وواسطة، وهو مأمور بالتوسط والاستقامة بين طرفي الإفراط والتفريط في جملة ذلك. حتى إذا حصل ذلك كله، كمل كمالاً بقربه إلى الله تقريباً، بالرتبة لا بالمكان، بحسب قرب الملائكة المقربين من الله عز وجل. فلله البهاء الأعظم، والكمال الأتم. وكل موجود فمشتاق إلى الكمال الممكن له، وهو غايته المطلوبة منه، فإن ناله التحق بأفق العالم الذي فوقه،

وإن حرم عنه انحط إلى الحضيض الذي تحته، فالإنسان بين أن ينال الكمال، فليلتحق في القرب من الله بأفق الملائكة، وذلك سعادته، أو يقبل على ما هو مشترك بينه وبين البهائم، من رذائل الشهوة والغضب، فينحط إلى درجة البهائم، ويملك هلاكاً مؤبداً، وهو شقاوته، ومثاله الفرس الجواد الذي كماله في شدة عدوه، فإن عجز عن ذلك حط إلى رتبة ما دونه، فاتخذ حمولة وأكولة. ومراتب الكمال للإنسان بحسب هذه الأخلاق وبحسب العلوم غير منحصرة، ولذلك تتفاوت درجات الخلق في الآخرة، كما تتفاوت في الدنيا في الخلق والأخلاق، والثورة واليسار وسائر الأحوال. بيان البواعث على تحري الخيرات والصوارف عنها أما الخيرات الدنيوية، فالبواعث عليها ثلاثة أنواع: الترغيب والترهيب بما يجري ويخشى في الحال والمال، والثاني رجاء المحمدة وخوف المذمة ممن يعتد بحمده وذمه، والثالث طلب الفضيلة وكمال النفس، لأنه كمال وفضيلة، لا لغاية أخرى وراءها، فالأول مقتضى الشهوة، وهي رتبة العوام،

والثاني من مقتضى الحياء ومبادئ العقل القاصر، وهو من أفعال السلاطين، وأكابر الدنيا، ودهاتهم المعدودين من جملة العقلاء، بالإضافة إلى العوام. والثالث مقتضى كمال العقل، وهو فعل الأولياء والحكماء ومحققي العقلاء. ولتفاوت هذه الرتب قيل: خير ما أعطي الإنسان عقل يردعه، فإن لم يكن فحياء يمنعه، فإن لم يكن فخوف يزعجه، فإن لم يكن فمال يستره، فإن لم يكن فصاعقة تحرقه، فيستريح منه العباد والبلاد. وهذا التفاوت يعهد لكل شخص من صباه إلى كبره، إذ هو في ابتداء صباه لا يمكن زجره وحثه بالحمد والذم بل بمطعوم حاضر، أو ضرب ناجز يحس به. فإذا صار مميّزاً مقارباً للبلوغ، أمكن زجره وحثه بالمحمدة والمذمة. فطريق زجره مذمة المزجور عنه. وتقبيح حال متعاطيه، وطريق ترغيبه في تعلم الأدب وغيره لكثرة الثناء على آتيه، وكثرة الذم لمجتنبيه، فيؤثر ذلك تأثيراً ظاهراً. وأكثر الخلق لا يجاوزون هاتين المرتبتين إلى الرتبة الثالثة، فيكون إقدامهم وإحجامهم صادراً عن هذه البواعث والصوارف. وأما الرتبة الثالثة، فيعزو وجودها، والخيرات الآخروية أيضاً هذا شأنها. وبهذا الطريق تتفاوت الناس فيها، إذ لا فرق بين الآخروية

والدنيوية، إلا بتأخر وتقدم، وإلا فالخبر مطلوب كل عاقل عاجلاً وآجلاً. والبواعث على الطلب لا تعدو هذه الأقسام، فكأن من أطاع الله وترك معصيته فرتبه ثلاث: الأولى من يرغب في ثوابه الموصوف له في الجنة، أو يخاف من عقابه الموعود له في النار. وهذه الرتبة للعامة، وهم الأكثرون. والثانية رجاء حمد الله ومخافة ذمه، أعني حمداً وذماً في الحال من جهة الشرع. وهذه منزلة الصالحين، وهي أقل من الأولى بكثير. والثالثة وهي العزيز الفذ رتبة من لا يبتغي إلا التقرب إلى الله تعالى وطلب مرضاته، وابتغاء وجهه والالتحاق بزمرة المقربين إليه، زلفى من ملائكته، وهو درجة الصديقين والنبيين، ولذلك قال تعالى: (وَاصْبر نَفْسَكَ مَعَ الّذينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشْيِ يُريدُونَ وَجْهَه) ، وقيل لرابعة العدوية " ألا تسألين الله الجنة؟ فقالت: الجار ثم الدار " وقال بعضهم:

من عبد الله لعوض، فهو لئيم. ولما كان العقل الضعيف لا يقف على كنه هذا المعنى، وأكثر العقول ضعيفة، خلق الله الجنة والنار، ووعد الخلق بهما زجراً وحثاً، وأطنب في وصفهما ولم يتعرض لهذه المعاني إلا بالمرامز، مثل قوله تعالى: (يريدون وجهه) ، (وأعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) . وأما الصوارف فقصور أو تقصير. أما القصور، فالمرض المانع والشغل الضروري في طلب قوت النفس والعيال وما يجري مجراه. وهذا معذور غير مذموم، إلا أنه عن ذروة الكمال محروم، ولا دواء له إلا الفزع إلى الله تعالى، لإماطة هذه الصوارف بجودة. وأما التقصير، فقسمان: أهل وشهوة غالبة. أما الجهل، فهو أن لا يعرف الخيرات الآخروية وشرفها وحقارة متاع الدنيا، بالإضافة إليها، وهو على رتبتين: إحداهما أن يكون عن غفلة وعدم مصادفة مرشد منبه، وهذا علاجه سهل، ولأجله وجب أن يكون في كل قطر جماعة من العلماء والوعاظ، ينبهون الخلق عن غفلتهم ويرغّبون عن الدنيا

في الآخرة، لا على الوجه الذي ألفه أكثر وعاظ الزمن، فهذا ما يجرأ الخلق على المعاصي، أو يحقر الدين عندهم. والثاني أن يكون لاعتقادهم أن السعادة هي اللذات الدنيوية والرياسة الحاضرة، وان أمر الآخرة لا أصل له، أو لأن الإيمان وحده كاف، وهو مبذول لكل مؤمن كيف كان عمله، أو يظن الاتكال على عفو الله ينجيه، وأن الله كريم رحيم، لا نقصان له من معصية العصاة، فلا بد أن يرحمهم. وهذه أنواع من الحماقات فترت خلائق كثيرة عن الطاعات، وجرّأتهم على المعاصي. فأما من ظن أن الآخرة لا أصل لها، فهو الكفر المحض، والضلال الصرف. ومهما كان هذا الاعتقاد مصمماً، بعدت الإنسانية عن صاحبه والتحق بالهلكي على كل حال، وأما من ظن أن مجرد الإيمان يكفيه، فهو جهل بحقيقة الإيمان وغفلة عن قوله: " من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة "، وأن معنى الإخلاص أن يكون معتقده وفعله موافقاً لقوله، حتى لا يكون منافقاً، وأقل درجاته أن لا يتخذ إلهه هواه، فمن اتبع هواه فهو عبده، وصار إلهه هواه. وذلك يبطل قوله لا إله إلا الله

وينافي في إخلاصه. ومن ظن أن سعادة الآخرة تنال بمجرد قوله لا إله إلا الله، دون تحقيقه بالمعاملة، كان كمن ظن أن الطبخ يحلو بقوله طرحت السكر فيه دون أن يطرحه، أو الولد يخلق بقوله وطأت الجارية، دون أن يطأها، والزرع ينبت بقوله بذرت البذر، دون أن يبذره. وكما أن هذه المقاصد في الدنيا، لا تنال إلا بأسبابها، فكذلك أمر الآخرة، فإن أمر الآخرة والدنيا واحد، وإنما خص باسم الآخرة لتأخره، والخروج لقضاء العالم آخرة، بالإضافة إلى الكون في بطن الأم، والبلوغ إلى عالم التمييز آخرة بالإضافة إلى ما قبله، والبلوغ إلى رتبة العقلاء آخرة بالإضافة إلى ما قبلها. وإنما هذه تردد في أطوار الخلقة. والموت طور آخر من الأطوار، ونوع آخر في الترقي، وضرب آخر من الولادة، والانتقال من عالم إلى عالم، كما قال عليه السلام: " القبر أمّا حفرة من حُفَر النار أو روضة من رياض الجنة "، أي ليس في الموت إلا تبديل منزل.

وكما أن من جلس متكلاً على رحمة الله ونعمته متعطشاً جائعاً، لم يسلك الطريق في شرب الماء وتناول الخبز هلك، ومن اتكل عليه في طلب المال ولم يتجر لم يحصل له المال وكان شقياً، فكذا من أراد الآخرة وسعا لها سعيها، وهو مؤمن، فأولئك كان سعيهم مشكوراً، ولذلك نبه الله تعالى عليه فقال: (وَأنْ لَيْسَ للإِنْسَانِ إِلاّ مَا سَعَى) ، ومهما عرف أن البهاء الأكمل لله وإن السعادة القصوى في القرب منه وأن القرب منه ليس بالمكان وإنما هو باكتساب الكمال على حسب الإمكان، وأن كمال النفس بالعلم والعمل والاطلاع على حقائق الأمور مع حسن الأخلاق، فمن لم يكمل كيف يقرب من الله تعالى، ومن أراد أن تقرب رتبته عند الملك بنوع من العلم لو تعطل في بيته متكلاً على كرم الملك ملازماً صفة النقصان غير مجتهد طول الليل في طاب العلم معولاً على فضل الله في أن يبيت ليله ويصبح أفضل أهل زمانه، فإن فضل الله عز وجل أوسع له وقدرته متسعة لأضعافه، قيل له: هذا فعل مشحون بالباطل والحماقة مزين الظاهر بكلام يظن أنه محمود. فكذا من ظن أن الآخرة تنال بالبطالة والعطالة فهذه حاله.

بيان أنواع الخيرات والسعادات نِعَمُ الله سبحانه، وإن كانت لا تحصى مفصلة، فجملتها منحصرة في خمسة أنواع: الأول السعادة الآخروية، التي هي بقاء لا فناء له، وسرور لا غم فيه، وعلم لا جهل معه، وغنى لا فقر معه يخالطه، ولن يتوصل إليه إلا بالله ولا يكمل إلا بالنوع الثاني، وهو الفضائل النفسية، التي حصرنا جملتها من قبل في أربعة أمور: العقل وكماله العلم، والعفة وكمالها الورع، والشجاعة وكمالها المجاهدة، والعدالة وكمالها الانصاف، وهي على التحقيق أصول الدين. وإنما تتكامل هذه الفضائل بالنوع الثالث، وهي الفضائل البدنية المنحصرة في أربعة أمور: في الصحة

والقوة والجمال وطول العمر، ويهممها النوع الرابع، وهي الفضائل المطيفة بالإنسان، المنحصرة في أربعة أمور: وهي المال والأهل والعز وكرم العشيرة. ولا يتم الانتفاع بشيء من ذلك إلا بالنوع الخامس، وهي الفضائل التوفيقية، وهي أربعة: هدايا الله ورشده وتسديده وتأييده، فهذه السعادات بعد السعادة الآخروية، ستة عشر ضرباً. ولا مدخل للاجتهاد في اكتساب شيء منها إلا الفضائل النفسية، على الوجه الذي سبق. فقد عرفت أن هذه الخيرات خمسة: وهي الآخروية

والنفسية والبدنية والخارجة والتوفيقية. والبعض منها يحتاج إلى البعض، أما حاجة ضرورية، كالفضائل النفسية التي لا مطمح في الوصول إلى نعيم الآخرة إلا بها، وصحة البدن الذي لا وصول إلى تحصيل الفضائل النفسية إلا به، وإما حاجة نافعة كحاجة هذه الفضائل الخارجة، فإن المال والأهل والعشيرة، إن عدمت، تطرق الخلل إلى أسباب هذه الفضائل. فإن قلت: فما وجه الحاجة إلى الفضائل الخارجة، من المال والأهل والعز وكرم العشيرة. فاعلم أن هذه الأمور جارية مجرى الجناح المبلغ، والآلة المسهلة للمقصود. أما المال، فالفقير في طلب الكمال، كساع إلى الهيجاء بغير سلاح، وكباز متصيد بلا جناح. ولذلك قال عليه السلام: " نعمَ المال الصالح للرجل الصالح ". وقال: " نعمَ العون على تقوى الله المال ". كيف ومن عدم المال، صار مستغرق الأوقات

في طلب القوت واللباس والمسكن وضرورات المعيشة، فلا يتفرغ لاقتناء العلم الذي هو أشرف الفضائل. ثم يحرم عن فضيلة الحج والصدقة والزكاة وإفاضة الخيرات. وأما الأهل والولد الصالح، فالحاجة إليهما ظاهرة. أما المرأة الصالحة، فحرث الرجل وحصين دينه. قال عليه السلام: " نعم العون على الدين المرأة الصالحة "، وقال في الولد: " إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له "، ومهما كثر أهل الرجل وأقاربه وساعدوه، كانوا له بمنزلة الآذان والأعين والأيدي، فيتيسر له بسببهم من الأمور الدنيوية، ما يطول فيه شغله لو انفرد. وكلما تخففت الأشغال الضرورية في الدنيا، تفرغ القلب للعبادة والعلم، فهو معين على الدين. وأما العز فيه يدفع الإنسان عن نفسه الضيم، ولا يستغني عنه مسلم، فإنه لا ينفك عن عدوه يؤذيه، وظالم يقصده، فيشوش عليه وقته ويشغل قلبه. ولذلك قيل: " الدين والسلطان توأمان ".

وقيل: " الدين أس والسلطان حارس وما أسّ له فمهدوم وما لا حارس له فضايع ". ولذلك قال تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ الله النَّاسِ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ) وبالجملة دفع الأذى لا بد منه للفراغ للعبادة، ولا يتم ذلك إلا بنوع من العز. وكما أن الموصل إلى الخير خير، فدفع الصارف عن الخير خير أيضاً. وأما كرم العشيرة وشرف الآباء، فقد يستهان به ويقال: " المرء بنفسه، والناس أبناء ما يحسنون، وقيمة كل امرئ ما يحسنه ". ولعمري إذا قوبل شرف الأصل دون شرف النفس، بشرف النفس دون شرف الأصل استحقر شرف الأصل. أما إذا انضم إليه لم تنكر فضيلته، " فأين السري إذا سرى أسراهما ". وقد شرط النسب في الإمامة، وقيل: " الأئمة من قريش ". كيف لا، والأخلاق تتبع الأمزجة، وتسري من الأصول إلى الفروع، ولذلك قال عليه السلام: " تخيروا لنطفكم "،

وقال: " إياكم وخضراء الدمن "، وهي المرأة الحسناء في المنبت السوء. فهذا أيضاً من السعادات، ولا نعني به الانتساب إلى بني الدنيا ورؤسها وأمرائها، ولكن الانتساب إلى النفوس الزكية الطاهرة المزينة بالعلم والعبادة والعقل. فإن قلت: فما غناء هذه الفضائل الجسمية؟ فنقول: أما الحاجة إلى الصحة والقوة وطول العمر، فلا شك فيه. وإنما يستحقر أمر الجمال، فيقال: يكفي أن يكون البدن سليماً من الأمراض الشاغلة عن تحري الفضائل. ولعمري أن الجمال لقليل الغناء، ولكنه من السعادات والخيرات على الجملة. اما في الدنيا فلا يخفي وجهه. وأما في الآخرة فمن وجهين: أحدهما أن القبح مذموم، والطباع منه نافرة، وحاجات الجميل إلى الاجابة أقرب، فكأنه جناح مبلّغ، مثال المال، والمعين على قضاء حاجات الدنيا معين على الآخرة، إذ الوصول إلى الآخرة بهذه الأسباب الدنيوية. والثاني أن الجمال في الأكثر يدل على فضيلة النفس، لأن نور النفس، إذا تم إشراقه تبدى إلى البدن.

والمنظر والمخبر كثيراً ما يتلازمان. ولذلك عوّل أصحاب الفراسة على هيئات البدن واستدلوا بها على الأخلاق الباطنة. والعين والوجه كالمرآة للباطن، ولذلك يظهر فيهما أثر الغضب والشر. وقيل: " طلاقة الوجه عنوان ما في النفس، وما في الأرض قبيح إلا وجهه أقبح منه ". واستعرض المأمون جيشاً، فعرض عليه رجل قبيح فاستنطقه، فإذا هو ألكن، فأسقط اسمه. وقال: " الروح إن أشرقت على الظاهر ففصاحة وهذا ليس له ظاهر ولا باطن ". وقد قال عليه السلام: " اطلبوا الحاجة عند حسان الوجوه "، وقال: " إذا بعثتم رسولاً، فاطلبوا حسن الوجه وحسن الاسم "، وقال: " الفقهاء إذا تساوت درجات المصلين، فأحسنهم وجهاً أولاهم بالإمامة ". وقال تعالى ممتناً به: (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ والجِسْمِ) ، ولسنا نعني بالجمال ما يحرك الشهوة، فإن ذلك أنوثة، وإنما نعني به ارتفاع القامة على الاستقامة، مع الاعتدال في اللحم وتناسب الأعضاء وتناصف خلقة الوجه، بحيث لا تنبو

الطباع عن النظر إليها. فإن قلت فما معنى الفضائل التوفيقية، التي هي الهداية والرشد والتسديد والتأييد؟ فاعلم أن التوفيق هو الذي لا يستغني عنه الإنسان في كل حال، ومعناه موافقة إرادة الإنسان وفعله قضاء الله تعالى وقدره. وهو صالح للاستعمال في الخير والشر، ولكن صار متعارفاً في الخير والسعادة. ووجه الحاجة إلى التوفيق بيّن، ولذلك قيل: إذا لم يكن عونٌ من الله للفَتَى ... فأكثر مَا يَجني عَليهِ اجتهادهُ وأما الهداية، فلا سبيل لأحد إلى طلب الفضائل إلا بها فهي مبدأ الخيرات كما قال تعالى: (أَعْطَى كُلَّ خُلْقَهُ ثُمّ هَدَى) وقال تعالى: (وَلَولاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُم مِنْ أَحَدٍ أَبَدَاً وَلَكِنّ الله يزكِّي مَنْ يَشَاءَ) . وقال عليه السلام: " ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله " أي بهدايته. قيل: " ولا أنت يا رسول الله " قال: " ولا أنا ".

والهداية ثلاث منازل: الأولى تعريف طريق الخير والشر المشار إليه بقوله عز وجل: (وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَينِ) ، وقد أنعم الله به على كافة عباده، بعضهم بالعقل وبعضهم على ألسنة رسله. ولذلك قال تعالى: (وَأَمَّا ثمودَ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلى الهُدَى) . والثانية ما يمد به العبد حالاً بعد حال بحسب ترقيه في العلوم، وزيادته في صالح الأعمال. وإياه عني بقوله تعالى: (وَالَّذينَ اهْتَدُوا زَادَهُمْ هُدى وآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) ، والثالثة هو النور الذي يشرق في عالم الولاية والنبوة، فيهتدي به إلى ما لا يهتدي إليه، ببضاعة العقل الذي به يحصل التكليف وإمكان التعلم. وإياه عني بقوله تعالى: (قُلْ إِنّ هُدَى الله هُوَ الهُدَى) ،

فإضافة إلى نفسه وسماه الهدى المطلق. وهو المسمى حياة في قوله: (أَوْ مَنْ كَانَ مَيّتَاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورَاً يَمْشي به في النَّاسِس) ، وقوله تعال: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) . وأما الرشد فنعني به العناية الإلهية، التي تعين الإنسان على توجهه إلى مقاصده، فتوجيه على ما فيه صلاحه، وتفتره عما فيه فساده، ويكون ذلك من الباطن كما قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَينَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) . وأما التسديد، فهو أن يقوم إرادته وحركاته نحو الغرض المطلوب، ليهجم عليه في أسرع وقت، فالرشد تنبيه بالتعريف، والتسديد إعانة ونصرة بالتحريك، وأما التأييد، فهو تقوية أمره بالبصيرة من داخل، وتقوية البطش من خارج، وهو المراد بقوله تعالى: (إذْ أَيَّدتُكَ بروحِ القُدُسِ) ، ويقرب منه العصمة، وهو فيض إلهي يقوى به الإنسان

على تحري الخير، وتجنب الشر، حتى يصير كمانع من باطنه غير محسوس. وإياه عنى بقوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمّ بِهَا لَوْلاَ أَن رَأَى بُرْهَانَ رَبِّه) ، ولن تستتب هذه الأمور، إلا بما يمد الله به عبده من الفهم الثاقب الصافي، والسمع المصغي الواعي، والقلب البصير المراعي، والمعلم الناصح، والمال الزائد، على مقتضى المهمات لقلة القاصر، لا ما يشغل عن الدين لكثرته، والعشيرة والعز الذي يصون عن سفه السفهاء، ويرفع ظلم الأعداء. فبهذه الأسباب تكمل السعادات. بيان غاية السعادات ومراتبها اعلم أن السعادة الحقيقية هي الآخروية، وما عداها سميت سعادة إما مجازاً أو غلطاً، كالسعادة الدنيوية التي لا تعين على الآخرة، وإما صدقاً ولكن الاسم على الآخروية أصدق. وذلك كل ما يوصل إلى السعادة الآخروية ويعين عليه. فإن الموصل

إلى الخير والسعادة، قد يسمى خيراً وسعادة. والأسباب النافعة المعينة، تشرحها تقسيمات أربعة: الأول منها ما هو نافع في كل حال، وهي الفضائل النفسية، ومنها ما ينفع في حال دون حال، ونفعها أكثر كالمال القليل. ومنها ما ضرره أكثر في حق أكثر الخلق، وذلك بعض أنواع العلوم والصناعات. ولما كثر الالتباس في هذا، وجب على العاقل الاستظهار بمعرفة حقائق هذه الأمور، حتى لا يؤثر الضار على النافع، بل النافع على الرفيع، والرفيع على النفيس الأهم، فيطول عليه الطريق. فكم من ناظر يحسب الشحم فيمن شحمه ورم! وكم من طالب حبلاً ليتمنطق به، فيأخذ حية فيظنها حبلاً فتلدغه! والعلم الحقيقي هو الذي يكشف عن هذه الأمور. التقسيم الثاني: إن الخيرات بوجه آخر تنقسم إلى مؤثرة لذاتها، وإلى مؤثرة لغيرها، وإلى مؤثرة تارة لذاتها وتارة لغيرها. فينبغي أن يعرف مراتبها، ليعطي كل رتبة حقها.

فالمؤثرة لذاتها السعادة الآخروية، فليس وراء تلك الغاية غاية أخرى. والمؤثرة لغيرها من المال، كالدراهم والدنانير. فلولا أن الحاجات تنقضي بها لكانت كالحصباء، وسائر الجواهر الخسيسة. والمؤثرة تارة لذاتها وتارة لغيرها، كصحة الجسم. فإن الإنسان وإن استغنى عن المشي الذي يراد سلامة الرجل له، فيريد أيضاً سلامة الرجل م حيث هي سلامة. التقسيم الثالث: إن الخيرات تنقسم من وجه آخر إلى نافع وجميل ولذيذ. والشرور ثلاثة ضار وقبيح ومؤلم. فكل واحد ضربان، أحدهما مطلق، وهو الذي يجمع الأوصاف الثلاثة في الخير، كالحكمة، فإنها نافعة وجميلة ولذيذة، وفي الشر، كالجهل، فإنه ضار وقبيح ومؤلم. والثاني مقيد، وهو الذي جمع بعض هذه الأوصاف دون بعض. فرب نافع مؤلم، كقطع الأصبع الزائدة، والسلعة الخارجة، ورب نافع قبيح كالحمق، فإنه راحة حيث قيل: استراح من لا عقل له، أي لا يغتم للعواقب، فيستريح في الحال،

ورب نافع من وجه، ضار من وجه، كإلقاء المال في البحر، عند خوف الغرق فإنه ضار للمال، ونافع في نجاة النفس، والنافع قسمان: قسم ضروري، كالفضائل النفسية، والاتصال إلى سعادة الآخرة، وقسم قد يقوم غير مقامه، فلا يكون ضرورياً، كالسكنجبين في تسكين الصفراء. التقسيم الرابع: إن اللذات بحسب القوى الثلاث والمشتهيات الثلاثة ثلاث، إذ اللذة هي عبارة عن إدراك المشتهى، والشهوة عبارة عن انبعاث النفس لنيل ما تتشوقه، لذة عقلية أو بدنية مشتركة مع جميع الحيوانات، وبدنية مشتركة مع بعض الحيوانات. أما العقليات، كلذة العلم والحكمة، وهي أقلها وجوداً وأشرفها. أما قتلها، فلأن الحكمة لا يستلذها إلا الحكيم، وقصور الرضيع عن إدراك لذة العسل والطيور السمان والحلاوات الطيبة لا يدل على أنها ليست لذيذة، واستطابته للبن لا تدل على أنه أطيب الأشياء. والناس كلهم إلا النادر ممنون في صبا الجهل بالعنة في رتبة العلم. فلذلك يستلذون الجهل، وقال الشاعر: ومَنْ يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مريضٍ ... يَجِدُ مُرّاً به الماء الزّلالا وأما أشرفيتها، فلأنها لازمة لا تزول، ودائمة لا تحول،

وباقية لذاتها، وثمرها في الدار الآخرة إلى غير نهاية. والقادر على الشريف الباقي، إذا رضي بالخسيس الفاني، كان مصاباً في عقله، محروماً بشقاوته وإدباره. وأقل أمر فيه أن الفضائل النفسية، لا سيما العلم والعقل، لا تحتاج إلى أعوان وحفظة، بخلاف المال. فإن العلم يحرسك وأنت تحرس المال. والعلم يزيد بالإنفاق، والمال ينقص به، والعلم نافع في كل حال ومطلقاً وأبداً، والمال يجذب إلى الرذيلة وتارة إلى الفضيلة. ولذلك ذمّ في القرآن في مواضع، وإن سمي خيراً في مواضع. الثانية هي اللذة المشتركة بين الإنسان وبين سائر الحيوانات، كلذة المأكل والمشرب والمنكح، وهي أكثرها وجوداً. الثالثة التي يشارك فيها الإنسان بعض الحيوانات، وهي لذة الرياسة والغلبة، وهي أشد التصاقاً بالعقلاء، ولذلك قيل: " آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة ". وكيف تكون لذة الجماع والأكل لذة مطلقة، وهي من وجه إزالة ألم؟ ولذلك قال الحسن: " الإنسان صريع جوع وقتيل شبع ". وجميع لذات الدنيا سبع: مأكل ومشرب ومنكح

وملبس ومسكن ومشموم ومسموع ومبصرز وهي بجملتها خسيسة، كما روي عن عليّ كرم الله وجهه، إذ قال لعمار بن ياسر، وقد رآه يتنفس كالحزين: " يا عمار، إن كان تنفسك على الآخرة فقد ربحت تجارتك، وإن كان على الدنيا فقد خسرت صفقتك. فإن وجدت لذاتها المأكولات والمشروبات والمنكوحات والملبوسات والمسكونات والمشمومات المسموعات والمبصرات. فأما المأكولات، فأفضلها العسل، وهو صنعة ذباب. والمشروبات أفضلها الماء، وهو أهون موجود، وأعز مفقود. وأما المنكوحات، فمبال في مبال، وحسبك أن المرأة تزين أحسن شيء منها، ويراد أقبح شيء منها. وأما الملبوسات فأفضلها الديباج وهو نسج دودة. والمشمومات فأفضلها المسك، وهو دم فارة، والمسموعات، فريح هابة في الهواء، والمبصرات فخيالات صائرة إلى فناء ". هذا كلامه.

ومن آفاتها أن كل واحدة منها يتبرم بها بعد استيفائها في لحظة. فليعتبر حالة الفراغ عن الجماع والأكل بما قبله، ولينظر كيف ينقلب المطلوب مهروباً عنه في الحال، فأين يوازي هذا ما تدوم لذته، ولا تفنى أبد الآباد راحته؟ وهو الابتهاج بكمال النفس بالفضائل النفسية، خصوصاً الاستيلاء على الكل بالعلم والعقل. بيان ما يحمد ويذم من أفعال شهوة البطن والفرج والغضب: أما شهوة البطن فداعية إلى الغذاء، والمطعم ضربان: ضروري وغير ضروري. أما الضروري، فهو الذي لا يستغني عنه في قوام البدن، كالطعام الذي يتغذى به، والماء الذي يرتوي به، وهو ينقسم إلى محمود ومكروه، ومذموم ومحظور. أما المحمود، فأن يقتصر على تناول ما لا يمكنه الاشتغال والتقوى على العلم والعمل إلا به، ولو اقتصر عنه لتحللت قواه واختل بدنه، فهذا المقدار، إذا تناوله من حيث يجب كما يجب، فهو

معذور، بل مشكور ومأجور، إذ البدن مركب النفس، لتقطع به منازلها إلى الله تعالى. وكما أن الجهاد عبادة، فإمداد فرس المجاهدة بما يقويه على السير بالمجاهد أيضاً عبادة، ولذلك قال عليه السلام: " عند أكل الصالحين تنزل الرحمة "، وذلك إذا تناوله تناول من اضطر إلى شيء، يود لو استغنى عنه. وإدخال الطعام البطن وإخراجه قريب. ولذلك قيل: من كان همّه ما يدخل في بطنه، كانت قيمته ما يخرج منه. وليعلم الآكل أنه في تناول فضلات الأشجار والنبات كالخنزير في تناول عذرة الإنسان وفضلته، وكالجعل في تناول فضلة الحيوان. ولو كان للأشجار ألسنة، لناطقت متناول فضلاتها بالتشبيه بهذا المتناول لفضلة الحيوان. وأما المكروه، فهو الإسراف والإمعان من الحلال والزيادة على قدرة البلغة. قال عليه السلام:

" ما من وعاء أبغض إلى الله تعالى من بطن مليء من حلال "، وهو أيضاً مضر من جهة الطب، فإنه أصل كل داء. قال عليه السلام: " البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء، وعوّدوا كل جسد ما اعتاد ". فقال محققو الطب: لم يدع عليه السلام شيئاً من الطب إلا وأدرجه تحت هذه الكلمات الثلاث. ولا ينبغي أن يستهين طالب السعادة بهذه الزيادة، وإن سميناها مكروهاً لا محظوراً، فإنه مكروه سريع السياقة إلى المحظورات، بل إلى أكثر المحظورات. فإن مثار الشرور قوة الشهوات، ومقوي الشهوات هي الأغذية. فامتلاء البطن مقوي للشهوب، وتقوي الشهوة داعية للهوى، والهوى أعظم جند الشيطان، الذي إذا تسلط سباه عن ربه وصرفه عن بابه. وإمداد جنود الأعداء بالمقويات يكاد ينزل منزلة عين العداوة. فلهذا يكاد تكون الكراهية فيه حضراً. ولذلك قيل لبعضهم: " ما بالك مع كبرك لا تتعهد بدنك وقد أنهك ".

فقال: " لأنه سريع المرح فاحش الأشر فأخاف أن يجمع بي فيورّطني. ولئن أحمله على الشدائد أحب إليّ من أن يحملني على الفواحش ". فإن قلت: فما المقدار المحمود؟ فعلم أنه نبه عليه السلام على التقدير بخبرين، أحدهما قوله: " حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس "، فأما اللقيمات فهي دون العشرة ويقرب منه قوله عليه السلام: " المؤمن يأكل في معي واحد، والمنافق يأكل في سبعة أمعاء "، والأحب الأكل في سبع البطن، فإن غلب النهم ففي الثلث. وأظن أن الحد ثلث في حق الأكثر، وإن كان ذلك قد يختلف باختلاف الأشخاص. وعلى الجملة فلا بد أن يكون دون الشبع، حتى يخف البدن للعبادة والتهجد باليل، وتضعف القوى عن الانبعاث إلى الشهوات. وأما المحظور فهو التناول مما حرم الله عز وجل من مال الغير أو المحرمات.

وأفحشها شرب المسكر، فإنه أعظم آلات الشيطان في إزالة العقل، الذي هو من حزب الله، وأوليائه، وآثار الشهوة والقوى السبعية التي هي من أحزاب الشيطان وأوليائه. وهذا حكم المطاعم على الإجمال. ولا يطمعن أحد في سلوك طريق السعادة، قبل أن يراعي أمر المطعم في مقداره ووجه حله، فإن المعدة منبع القوى، فكأنه الباب والمفتاح إلى الخير والشر جميعاً. ولذا عظم في الشرع أمر الصوم لأنه على الخصوص يتوجه إلى قهر أعداء الله تعالى كما روي: " إن الصوم لي وأنا الذي أجزي به "، إلى غير ذلك مما ورد فيه. وأما شهوة الفرج، فأفعالها تنقسم إلى محمود ومكروه ومحظور. أما المحمود فهو المقدار الذي لا بد منه لحفظ النوع، فإن النكاح ضروري لبقاء نوع الإنسان باتصال نسله، كما أن الغذاء ضروري لبقاء شخصه إلى حين أجله. والشهوة خلقت باعثة على إبقاء النسل، بطريق الوطء، كما

خلق الجوع باعثاً على إبقاء الشخص بالأكل، ولذلك قال: " تناكحوا، تناسلوا تكثروا، فإني مباه بكم الأمم ". فمن كان قصده في النكاح أمرين: أحدهما النسل لكثرة المباهاة، وأن يلحقه بعده ولد صالح يدعو له، والثاني أن يدفع عن نفسه فضلة المني، التي إذا اجتمعت كانت كالمرة، والدم إذا اجتمع عظمت نكايته في البدن بإثارة المرض، وفي الدين بالدعوة إلى الفجور، فالنكاح على هذا الوجه محمود وسنة وداخل تحت قوله: " من احب فطرتي فليستسن بسنتي ". ومن نكح فقد حصّن نصف دينه. ولا بأس بغرض ثالث، وهو أن يكون في بيته من يدبر أمر منزله، ليتفرغ هو للعلم والعبادة، فيصير النكاح على هذا الوجه من جملة العبادات، فإن الأعمال بالنيات. وإمارة هذا أن لا يطلب من المرأة إلا الجمال للتحصن، وحسن الخلق في تدبير المنزل، والديانة للصيانة والنسب الديني فقط. فإنه إمارة الديانة وحسن الخلق، فإن

العرق نزاع، ولذلك قال عليه السلام: " عليك بذات الدين، تربت يداك، وإياكم وخضراك الدمن ". وقال: " تخيروا لنطفكم ". وليطلب صحة البدن وأن لا يكون عقيماً لأجل الولد فإنه المقصود. ولذلك كره العزل، وإتيان المرأة من ورائها، فإنه إهمال للحراثة، ونساؤكم حرث لكم. ولا بأس بطلب الأبكار، لتستحكم الألفة، وقد ندب الشرع إليها. وأما المكروه فأن يقصد التمتع بقضاء الشهوة فقط، ثم يمعن فيه ويواظب عليه، وربما يتناول ما يزيد في شهوته، وذلك مضر شرعاً، ولا كراهية فيه في نفسه، فإنه مباح،

ولكنه انصراف عن الله إلى اتباع الهوى وتشبّه بالثيران والحمر. وإثارة لشهوة بالمطعومات القوية والأسباب الباعثة تضاهي إثارة سراسباع ضارية، وبهائم عادية، ثم الانتهاض بعدها للخلاص منها. وأما المحظور، فعلى وجهين: أحدهما أن يقضي الشهوة في محل الحرث، ولكن بغير عقد شرعي، ولا على الوجه المأمور، وهو الزنا. وقد قرن ذلك بالشرك حيث قال: (الزاني لا يَنْكَحُ إلا زَانِيَة أو مُشْرِكة) . والثاني تعاطيه في غير محل الحرث، وهو أفحش من الزنا لأن الزاني لم يضيع الماء، بل وضعه في محل الحرث على غير الوجه المأمور. وهذا قد ضيّع، وكان ممن قال الله تعالى: (وَيُهْلِكُ الحَرْثَ والنَّسَلَ) . ولذلك سميت اللواطة الإسراف، فقال تعالى: (إنّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُم قَوْمٌ مُسْرِفُون) . فهذه مراتب الناس في شهوة الفرج. وقد ينتهي بعض الضلال إلى العشق، وهو عين الحماقة وغاية الجهل بما وضع الجماع له،

ومجاوزة لحدّ البهائم في تملك النفس، وضبطها لها، لأن المتعشق لم يقنع بإرادة شهوة الجماع، وهي أقبح الشهوات وأجدرها بأن يستحي منها، حتى اعتقد أن لا تنقضي إلا في محل واحد، والبهيمة تقضي الشهوة أنى اتفق فتكتفي به. وهذا لا يكتفي إلا من معشوقته، حتى ازداد به ذلاً إلى ذل وعبودية إلى عبودية. واستسخر العقل لخدمة الشهوة، وقد خلق ليكون آمراً مطاعاً لا يكون خادماً للشهوة، محتاناً لأجلها، وهو مرض نفس فارغة لا همة لها. وإنما يجب الاحتراز من أوائلها، وهو معاودة النظر والفكر، وإلا فبعد الاستحكام يعسر دفعها. وكذلك عشق الجاه والمال والعقار والأولاد، حتى حب اللعب بالطيور والنرد والشطرنج، فإن هذه الأمور تستولي على طائفة ينقضي عليهم الدين والدنيا، ولا يصبرون عنها. ومثال ردّ الشهوة في أول انبعاثها صرف عنان الدابة عن توجهها إلى باب دار تدخله، فما أهون منعها وصرف عنانها. ومثال علاجها بعد استحكامها أن تترك الدابة، حتى تدخل وتجاوز الباب، ثم تأخذ بذنبها جاراً لها إلى وراء، وما أعظم التفاوت بين الأمرين! فليكن الاحتياط في بدايات الأمور، فأما أواخرها فلا تقبل الإصلاح في الأكثر، إلا بجهد شديد يوازي نزع الروح.

وأما أفعال الغضب فتنقسم إلى محمود ومكروه ومحظور. أما المحمود ففي موضعين: أحدهما المسمى غيرة، وهو أن يقصد حريم الرجل ويتعرض لمحارمه. فالغضب له ولدفعه محمود، وقلة التأثر به خنوثة وركاكة، ولذلك قال عليه السلام: " إن سعداً لغيور، وإن الله أغير منه "، وقد وضع الله الغيرة في الرجال، لحفظ الأنساب. فإن النفوس لو تسامحت بالتزاحم على النساء لاختلطت الأنساب. ولذلك قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها، وضعت الصيانة في نسائها. والثاني الغضب عند مشاهدة المنكرات والفواحش، غيرة على الدين، وطلباً للانتقام، ولذلك مدحوا بكونهم أشداء على الكفار رحماء بينهم. ولذلك قال عليه السلام: " خير أمتي أحداؤها "،

فالمراد به الحدة لحمية الدين. ولذلك قال تعالى: (وَلاَ تَأْخْذُكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دينِ اللهِ) . ومع هذه فالسلطان إذا غضب عند جناية جانٍ، فينبغي أن يحبسه ولا يبادر إلى عقوبته حتى يجدد النظر فيه، فإن الغضب غول العقل، فربما يحمله على مجاوزة حد الواجب في الانتقام. وأما المكروه فغضبه عند فوات حظوظه المباحة نيلها، كغضبه على خادمه وعبده عند كسر آنيته، أو توانيه في خدمته، بحكم تغافل يمكن الاحتزاز عنه. فهذا لا ينتهي إلى حد المذموم، ولكن العفو والتجاوز أولى وأحب. ولذلك قيل لواحد حكيم: لا تصفح عن عبدك وهو يقصر في خدمتك، فيفسد باحتمالك. فقال: " لأن يفسد عبدي في صلاح نفسي خير من أن تفسد نفسي في صلاح عبدي ". فإن احتمال ذلك إصلاح للنفس والانتقام إصلاح للعبد.

وأما المذموم فهو الاستشاطة عن الفخر والتكبر والمباهاة والمنافسة والحقد والحسد، وعن أمور واهية تتعلق بالحظوظ البدنية، من غير أن يكون في الانتقام مصلحة في المستقبل ديناً ودنيا، وهو الغالب على أكثر الخلق، وهو انقياد للخلق الذي يضاد الحلم والتحلم. فإن الحلم عبارة عن إمساك النفس عن هيجان الغضب، والتحلم عن إمساكها عن قضاء الوطر منه، إذا هاج، والكمال في الحلم، ولكن التحلم صبر على المكروه، وفيه أيضاً خير كثير. فهذه مراتب أفعال الغضب. والناس في الغضب يختلفون، فبعضهم كالحلفاء، سريع التوقد، سريع الخمود، وبعضهم كالقطا بطيء الخمود، وبعضهم بطيء التوقد سريع الخمود، وهو الأحمد، ما لم ينته إلى فتور الحمية والغيرة. وأسباب الغضب أما من جهة المزاج، فالحرارة واليبوسة، يدل عليهما تعريف الغضب، فإن الغضب معناه غليان دم القلب، فإن كان على من فوقك في القدرة على الانتقام، تولد منه

انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى القلب، وكان حزناً، ولأجله يصفر الوجه. وإن كان على من دونك تولد منه ثوران دم القلب، لا انقباضه، فيكون منه الغضب الحقيقي وطلب الانتقام. وإن كان على نظيرك في القدرة على الانتقام، تولد منه تردد الدم بين انقباض وانبساط، ويختلف به لون الوجه فيحمر ويصفر ويضطرب. وبالجملة قوة الغضب محلها القلب، ومعناه حركة الدم وغليانه. وأما ما وراء المزاج، فالاعتياد، فإن من يعاشر جماعة يباهون بالغضب والطباع السبعية انطبع ذلك فيه. وإن من خالط أهل الهدوء والوقار أثرت العادة أيضاً فيه. وأما سببه المخرج له من القوة إلى الفعل في الحال، فهو العجب والافتخار والمراء واللجاج والمزاح والتيه والاستهزاء والضيم وطلب ما فيه التنافس والتحاسد وشهوة الانتقام، وكل ذلك مذموم. وحق من اعتراه الغضب أن يتفكر فيما قاله بعض الحكماء لبعض السلاطين وقد سأله حيلة في دفع الغضب، فقال: " ينبغي أن تذكر أنه يجب

أن تطيع لا أن تطاع فقط، وأن تَخدم لا أن تُخدم فقط، وأن تَحتمل لا أن تُحتَمل فقط، وأن تعلم أن الله يراك دائماً، فإذا فعلت ذلك لم تغضب ". واعلم أن الغضب له فروع كما سبق، ومن جملتها الشجاعة والتهور والمنافسة والغبطة والحسد على ما سبق، ولكن نزيدها شرحاً. أما الشجاعة فخلق بين التهور والجبن، فإن اعتبر إضافتها إلى النفس فهي صرامة القلب في الأهوال وربط الجأش عند المخاوف، وإن اعتبر بالفعل فالإقدام على موضع الفرصة وتولدها من الغضب وحسن الأمل وبها يصابر الإنسان الشدائد، بل بها يصبر عن المعاصي، فإن الغضب إذا سلّط على الشهوة زجرها. ولما كان الدين شطره رغبة في الخير، وشطره تركاً للشر قال عليه السلام: " الصبر نصف الإيمان "، ولما كان بعض الشرور في شهوة الفرج والبطن،

وبعضها في غيرهما قال: " الصوم نصف الصبر ". والصبر صبران، صبر جسمي وهو تحمل المشاق بالمدن، أما فعلاً كتعاطي الأعمال الشاقة، وأما انفعالاً كاحتمال الضرب الشديد والمرض العظيم. والمحمود التام هو الضرب الثاني وهو الصبر النفسي. فإن عن تناول المشتهيات، سمي عفة، وإن كان على احتمال مكروه، اختلفت أسماؤه بحسب اختلاف المكروه، فإن كان في مصيبة، اقتصر على اسم الصبر، ويضاده الجزع والهلع، وإن كان في احتمال غني سمي ضبط النفس ويضاده البطر، وإن كان في حرب سمي شجاعة، ويضاده الجبن، وإن كان في كظم الغيظ والغضب، سمي حلماً، ويضاده التذمر، وإن كان في نائبة مضجرة سمي سعة الصدر، ويضاده الضجر والتبرّم وضيق الصدر، وإن كان في إخفاء كلام سمي كتم السر،

وإن كان على فضول العيش سمي زهد وقناعة، ويضاده الحرص والشره، ولذلك قال تعالى: (والصَّابِرِينَ في البَأْسَاءِ) أي المصيبة والضراء، أي الفقر وحين البأس، أي المحاربة، (أولَئِكَ الذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئكَ هُم المُتَّقون) وأما الغبطة والمنافسة والحسد التي هي من جملة الفروع أيضاً، فالغبطة محمودة والحسد مذموم. قال عليه السلام: " المؤمن يغبط والمنافق يحسد ". والمنافسة محمودة قال تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ) . والغبطة تمني الإنسان أن ينال كل ما ناله أمثاله، من غير أن يغتنم لنيل غيره. فإذا انضم إليه الجد والتشمير في الوصول إلى مثله أو خير منه، فهو منافسة. والحسد هو تمني زوال النعمة عن مستحقيها، وربما كان مع سعي في إزالتها. والخبيث الحسود من يكون ساعياً في الإزالة من غير أن يطلبها لنفسه. والحسد غاية البخل، إذ البخيل يبخل بمال نفسه، والحسود يبخل بمال الله على غيره.

وقيل: الحسد والحرص هما ركنا الذنوب ولهما ضرب المثل بآدم وإبليس، إذ حسد إبليس آدم فصار لعيناً، وحرص آدم على ما نهي عنه فأُخرج من الجنة. فهما شجران يثمران الهموم والغموم والخسران، فمن قطع عروقها نجا، وبالجملة فالحسد عين الحماقة، لأن من لا يغنم بخير يصل إلى أهل المغرب، مع أنه لا يناله بوجه، فلم يغتم بخير يصل إلأى عشيرته وشركائه وجيرانه وأهل بلده، وربما بوجه، فلم يغتم بخير يصل إلى عشيرته وشركائه وجيرانه وأهل بلده، وربما ينال منه حظاً. وقوله عليه السلام: " لا حسد إلا في اثنين: رجل أتاه الله مالاً فجعله في حق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها "، إنما أراد به الغبطة، فإن الحسد قد يطلق لإرادتها. فهذا هو القول في ضبط أفعال هذه الصفات. فإن قلت: فمن ضبط أفعال هذه القوى حتى حدث في نفسه، من أفعاله أخلاق راسخة يتيسر بها هذه الأفعال، فهل يكون عفيفاً؟ فاعلم أن العفة لا تتم بهذا القدر ما لم ينضم إليه عفة اليد واللسان والسمع والبصر، وحدّها

في اللسان الكف عن السخرية والغيبة والنميمة والكذب والهمز والتنابذ بالألقاب، وفي السمع ترك الإصغاء إلى قبائح اللسان من الغيبة وغيرها، وإلى استماع الأصوات المحرمة وكذلك في جميع الجوارح والقوى. وعماد عفة الجوارح كلها ألا يطلقها في شيء مما يختص بها، إلا فيما يسوّغه العقل والشرع، وعلى الحد الذي يسوّغه ثم لا تتم بذلك، ما لم يكن قصده في الإقدام والإحجام تحري الفضيلة وطلب التقرب إلى الله عز وجل ونيل مرضاته. فأما إن كان قصده بعفته انتظاراً لما هو أكثر، أو لأنه لا يوافق مزاجه أو لخمود شهوته، أو لاستشعار خوف في عاقبته، كسقوط حشمته أو لأنه ممنوع من تناوله، فكل ذلك ليس بعفة، وإنما كل ذلك تجارة وترك حظ لحظ يماثله. وكل ذلك غير كاف في تحصيل العفة، فليعلم ذلك، ولنخض بعد ذلك في تعريف التعلم والتعليم وتهذيب القوة العقلية.

بيان شرف العقل والعلم والتعليم قد عرفت فيما سبق أن العلم والعمل هما وسيلتا السعادة، وأن العمل لا يتصور إلا بعلم بكيفية العمل، وأن العلم الذي ليس بعملي، كالعلم بالله وصفاته وملائكته، مقصود، فقد استفدت منه أن العلم أصل الأصول، فلا بد أن نرشدك الآن إلى طريق التعلم والتعليم. ولننبه أولاً على شرف هذه الأمور، وندل عليه، فنقول: أما التعليم، فهو أشرف الأعمال. والصناعات ثلاثة أقسام: أما أصول لأقوام للعالم دونها وهي أربعة: الزراعة والحياكة والبناية والسياسة، وأما مهيئة لكل واحدة منها وخادمة لها، كالحدادة للزراعة، والحلاجة والغزل للحياكة،

وأما متممة لكل واحدة من ذلك ومزينة لها، كالطحانة والخبز للزراعة، والقصارة والخياطة للحياكة. وذلك بالإضافة إلى قوام العالم الأرضي، مثل أجزاء الشخص بالإضافة إليه، فإنها ثلاثة أضرب: أما أصول كالقلب والكبد والدماغ، وأما مرشحة لتلك الأصول وخادمة لها، كالمعدة والعروق والشرايين، وأما مكملة ومزينة لها، كالهدب والحاجب. وأشرف أصول الصناعات السياسات، إذ لا قوام للعالم إلا بها، وهي أربعة أضرب: الأول سياسة الأنبياء وحكمهم على الخاصة والعامة، في ظاهرهم وباطنهم، والثاني الخلفاء والولاة والسلاطين، وحكمهم على الخاصة والعامة جميعاً، لكن على ظاهرهم لا على باطنهم، والثالث العلماء والحكماء، وحكمهم على باطن الخواص فقط، والرابع الوعاظ والفقهاء وحكمهم على باطن العامة فقط. فأشرف هذه السياسات الأربع بعد النبوة إفادة العلم وتهذيب نفوس الناس. وبرهان ذلك أن شرف الصناعة، إنما يكون

باعتبار النسبة إلى القوة المبرزة المظهرة لها، كفضل معرفة الحكمة على معرفة اللغات، فإن الأولى متعلقة بالقوة العقلية التي هي أشرف القوى، والأخرى متعلقة بالقوة الحسية، وهي السمع. وأما بحسب عموم النفع كفضل الزراعة على الصياغة، وأما بحسب شرف الموضوع المعمول فيه، كفضل الصياغة على الدباغة. وليس يخفى أن العلوم العقلية تدرك بالعقل، الذي هو أشرف القوى، وبه يتوصل إلى جنة المأوى، وهو أبلغ نفع وأعمه، وموضوعه الذي يعمل فيه نفوس البشر، وهي أفضل موضوع، بل أشرف موجود في هذا العالم. فإفادة العلم من وجه صناعة، ومن وجه عبادة الله تعالى، ومن وجه خلافة الله هو أجل خلافة. فإن الله تعالى قد فتح على قلب العالم العلم، الذي هو أخص صفاته، فهو كالخازن لأنفس خزائنه. ثم هو مأذون له في الإنفاق على كل محتاج إليه، فأيّ رتبة أجلّ من كون العبد واسطة بين ربه وخلقه، في تقربهم إلى الله زلفى، وسياقتهم إلى جنة المأوى؟.

وأما شرف العلم والعقل فمدرك بضرورة العقل والشرع والحس. أما الشرع، فقد قال عليه السلام: " أول ما خلق الله العقل. فقال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر. ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك، بك آخذ وبك أعطي وبك أثيب وبك أعاقب ". وهذا العقل الذي يدرك به الإنسان الأشياء يجري من العقل الأول الذي خلق الله عز وجل مجرى النور من الشمس. فإن هذه العقول عقول بالإضافة إلى الأشخاص وذلك مطلق من غير إضافة. وأما دلالة العقل على شرف العقل، فهو أن ما لا ينال سعادة الدنيا والآخرة إلا به، فكيف لا يكون أشرف الأشياء؟ وبالعقل صار الإنسان خليفة الله وبه تقرب إليه وبه تم دينه. ولذلك قال عليه السلام: " لا دين لمن لا عقل له "، وقال: " لا يعجبكم إسلام امرئ حتى تعرفوا عقله ". ولهذا قيل:

" من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه، كان حتفه في أغلب خصال الشر عليه "، وناهيك به شرفاً أن قد شبّه الله سبحانه العقل بالنور فقال: (اللهُ نورُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ) ، أي منورهما، وأكثر ما يطلق النور والظلمات في القرآن على العلم والجهل، مثل قوله تعالى: (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يَخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ) ، وإنما كان ذلك بالعقل، ولذلك قال عليه السلام لعلي رضي الله عنه: " إذا تقرب الناس لخالقهم بأبواب البر، فتقرب أنت بعقلك، تتنعم بالدرجات والزلفى عند الناس في الدنيا، وعند الله في الآخرة ". وسنذكر وجه التقرب بالعقل. وأما الحس بمجرده، فكاف في إدراك شرف العقل والعلم، حتى أن أكبر الحيوانات شخصاً، أقواها بدناً، إذا رأى الإنسان احتشمه بعض الاحتشام، واستشعر الخوف منه، لإحساسه بأنه مستدل عليه بجبلته. وأقرب الناس إلى البهائم أجلاف العرب والترك، ورعاة البهائم منهم. ولو وقع فيما بينهم راع أو فر منهم عقلاً، وأكثر منهم دراية

بصناعتهم، لو قرّوه طبعاَ. ولذلك ترى الأتراك بالطبع يبالغون في توقير شيوخهم، لأن التجربة ميْزتهم عنهم بمزيد علم، ولذلك قال عليه السلام مطلقاً: " الشيخ في قومه كالنبي في أمته ". وإنما وقار النبي في أمته بعلمه وعقله، لا بقوة شخصه وجمال بدنه، وكثرة ماله وقوة شوكته. ولذلك قصد كثير من المعاندين قتل رسول الله عليه السلام، فلما وقع طرفهم عليه هابوه وتراءى لهم نور الله في وجهه، معرباً عن تميّزه ملقياً للرعب في صدور معانديه، وقد سمى الله عز وجل العلم روحاً، فقال: (وكذلك أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أمرنا) . وسماه حياة فقال تعالى: (أَوْ مَنْ كَانَ مَيِّتَاً فَأَحْيَيْنَاهُ) ، وقال عليه السلام: " ما خلق الله خلقاً أكرم من العقل ". ولو جلبت الأخبار الواردة في الحث على طلب العلم، لطال المقال. وأيّ تشريف يزيد على قوله: " إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم إرضاء بما يصنع ".

بيان وجوب التعلم لإظهار شرف العقل اعلم أن شرف العقل، من حيث كونه مظنة العلم والحكمة وآلة له، ولكن نفس الإنسان معدن للعلم والحكمة، ومنبع لها، وهي مركوزة فيها بالقوة في أول الفطرة، لا بالفعل، كالنار في الحجر والماء في الأرض والنخل في النواة. ولا بد من سعي في إبرازه بالفعل، كما لا بد من سعي في حفر الآبار لخروج الماء. ولكن كما أن من الماء ما يجري من غير فعل بشري، ومنه ما هو كامن محتاج في استنباطه إلى حفر وتعب، ومنه ما يحتاج فيه إلى تعب قليل، كذلك العلم في النفوس البشرية، ممننه ما يخرج إلى الفعل من القوة بغر تعلم بشري، كحال الأنبياء عليهم السلام، فإن علومهم تظهر من جهة الملأ الأعلى، من غير واسطة بشريّ، ومنه ما يطول الجهد فيه كأحوال العامة من الناس، لا سيما ذوو البلادة، الذين كبر سنهم في الغفلة والجهل، ولم يتعلموا زمن الصبا،

ومنه ما يكفي فيه السعي القليل، كحال الأذكياء من الصبيان. ولكون العلوم مركوزة في النفوس، قال الله تعالى: (وَإِذَا أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالوا بَلَى) . فالمراد بإقرار نفوسهم المعنى الذي أشرنا إليه، من كونها موجودة بالقوة دون إقرار الألسنة، فإنها لم تحصل من كلّهم عند الظهور، بل من بعضهم، وكذلك قوله تعالى: (وَلَئَنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُن الله) ، معناه لئن اعتبرت أحوالهم شهدت نفوسهم وبواطنهم بذلك، " فطرة الله التي فطر الناس عليها ". فكل آدمي فطر على الإيمان وما جاء الأنبياء إلا بالوحيد. ولذلك قال: " قولوا لا إله إلا الله ". فإنه لن يصادف إلا من هو مصدق بالإله، وإنما غلط في عينه أو صفته. ثم لما كان الإيمان بالله مركوزاً في النفوس بالفطرة، انقسم الناس إلى من أعرض فنسي، وهم الكفار، وإلى من أجال خاطره، فتذكر وكان كمن جمل شهادة

فنسيها بغفلة ثم تذكرها. ولذلك قال تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرون) ، (وَلْيذَكّرّ أوْلوا الألبابِ) ، (وَاذْكُروا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقُهُ الذي وَاثَقَكُمْ بِه) ، (وَلَقَدْ يَسّرنا القُرآنَ لِلذِّكر فَهَلْ مِنْ مُذَّكِر) . والتذكير هو أكثر ما يعبر به، وتسمية هذا النمط تذكراً ليس ببعيد. وكأن التذكير ضربان: أحدهما أن يتذكر صورة كانت مكتسبة في قلبه بالعقل، ثم غابت عنه، والآخر أن يكون تذكره لصورة مضمّنة بالفطرة في الإنسان. ولذلك قال المحققون: التعلم ليس يجلب للإنسان شيئاً من خارج بل يكشف الغطاء عما حصل في النفوس بالفطرة، كحال مظهر الماء من الأرض، ومظهر الصور في المرآة بالجلاء. وهذه حقائق ظاهرة للناظرين بعين العقل، ثقيلة على من جمد به قصوره على أول رتبة صبيان المكتب، في اعتلاق طبعهم بسوابق الخيالات، من ظواهر الألفاظ، من غير تحقيق لها.

بيان أنواع العقل إعلم أن العقل ينقسم إلى غريزي وإلى مكتسب. فالغريزي هو القوة المستعدة لقبول العلم، ووجوده في الطفل، كوجود النخل في النواة. والمكتسب المستفاد هو الذي يحصل من العلوم، إما من حيث لا يدري، كفيضان العلوم الضرورية عليه، بعد التمييز من غير تعلم، وإما من حيث يعلم مدركه، وهو التعلم. ولانقسام العقل إلى قسمين قال الإمام علي رضي الله تعالى عنه: رَأيتُ العقلَ عقلين ... فمطبوعٌ ومسموع ولا ينفعُ مسموعٌ ... إذا لم يك مطبوع كما لا تنفعُ الشمسُ ... وَضَوءَ العَينِ ممنوع والأول هو المراد بقوله: " ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من العقل "، والثاني هو المراد بقوله عليه السلام لعلي: " إذا تقرب الناس بأبواب البر، فتقرب أنت بعقلك ". والأول يجري مجرى البصر للجسم، والثاني يجري مجرى نور الشمس،

ولا منفعة في النور عند عمي البصر، ولا يجدي البصر عند عدم النور. فكذلك بصر الباطن، وهو العقل، وهو أشرف من البصر الظاهر إذ النفس كالفارس، والبدن كالفرس، وعمي الفأس أضّر من عمى الفرس. ولمشابهة بصره الباطن الظاهر قال تعالى: (مَا كَذَبَ الفُؤادُ مَا رَأَى) ، وقال: (وَكَذَلِكَ نُري إبراهيمَ مَلَكوتَ السَّمَواتِ والأَرْض) . وسمي ضده عمى، قال تعالى: (فَإِنّها لا تَعْمَى الأبصار وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ التي في الصّدُور) . وقال: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذه أَعْمَى فَهُوَ في الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبيلاً) . وبالجملة من لم يكن بصيرة عقله نافذة، فلا تعلق به من الدين إلا قشوره، بل خيالاته وأمثلته، دون لبابه وحقيقته. فلا تدرك العلوم الشرعية، إلا بالعلوم العقلية، فإن العقلية كالأدوية للصحة،

والشرعية كالغذاء، والنقل جاء من العقل، وليس لك أن تعكس. والنفس المريضة المحرومة من الدواء تتضرر بالأغذية ولا تنتفع. ولذلك قال تعالى: (في قُلُوبِهِم مَرَضٌ) ، لما كانوا لا ينتفعون بالقرآن. والمقلد الأعمى، إذا تأمل أمور مواد الشرع يتراءى له أمور متناقضة، وهي كذلك بالإضافة إلى ما فهمه. ثم قد تجبن نفسه عن التأمل فيه لضعف عقله وخور طبعه، فيتكلف الغفلة عنه خيفة أن ينكسر تقليده، وقد يتأمله فيدرك تناقضه، فيتحير ويبطل يقينه. ولو نظر بعين البصيرة، لبطل التناقض ورأى كل شيء في موضعه. ومثاله مثال الأعمى الذي دخل داراً فعثر بالكوز والطشت وأثاث الدار، فقال: لمَ وضعتم هذا على الطريق، لم لا تردونها إلى محلها. فقيل له: إن كلاً في موضعه، ولكن الخلل في البصر. فهذا بيان نسبة العلم المستفاد من العقل. واعلم أن المكتسب من العلوم بواسطة العقل ينقسم إلى المعارف الدنيوية

والآخروية، وطريقاهما متنافيان. فمن صرف عنايته إلى أحدهما، اقتصرت بصيرته في الآخر على الأكثر. ولذلك ضرب الإمام علي رضي الله عنه ثلاثة أمثلة. فقال: " إن مثل الدنيا والآخرة ككفتي ميزان، وكالمشرق والمغرب، وكالضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى ". ولذلك نرى الأكياس في أمور الدنيا جهالاً في أمور الآخرة، وبالعكس. ولذلك قال عليه السلام: " الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ". وقال لمن نسب بعض الصالحين إلى البله: " أكثر أهل الجنة البله "، يعني في أمور الدنيا. ولذلك قال الحسن البصري: " أدركنا أقواماً لو رأيتموهم لقلتم مجانين، ولو رأوكم لقالوا شياطين ". ومهما سمعت أمراً غريباً من أمور الدين، فلا يبعدنّك عن قبوله أنه لو كان حقيقياً لأدركه الأكياس من أرباب الدنيا ودقائق الصناعات الهندسية وغيرها، إذ من المحال أن يظفر سالك طريق المشرق بما يوجد في المغرب، فكذلك أمر الدنيا والآخر. ولذلك قال تعالى: (إن الَّذِينَ لاَ يَرْجَوْنَ لِقَاءَنَا وَرَضَوا بالحياةِ الدُّنْيا

واَطْمَأَنّوا بها) الآيتين. وقوله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهراً مِنَ الحَياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخرَةِ هُمْ غَافِلُون) . ولا يكاد يجمع بينهما إلا من رشحه الله لتدبير الخلق في معاشهم ومعادَهم وهم الأنبياء المؤيدون بروح القدس، المستمدون من قوة تتسع لجميع الأمور، ولا تضيع. فأما النفوس الضيقة، إذا شغلت بأمر انصرفت عن غيره، ولن نقدر على الاستكمال منهما جميعاً. بيان وظائف المتعلم والمعلم في العلوم المسعدة أما المعلم، فوظائفه كثيرة، وتجمع تفاصيلها عشر جمل. الوظيفة الأولى أن يقدم طهارة النفس عن رديء الأخلاق. فكما لا تصح عبادة الجوارح في الصلاة، إلا بطهارة الجوارح،

والعلم عبادة النفس، وفي لسان الشرع عبادة القلب، فلا يصح إلا بطهارة القلب عن خبائث الأخلاق، وأنجاس الصفات. قال عليه السلام: " بني الدين على النظافة ". وهو كذلك باطناً كما أنه كذلك ظاهراً، وقال تعالى: (إنّما المشْرِكُونَ نَجَسٌ) ، فنبّه به على أن الطهارة والنجاسة غير مقصورتين على الظاهر. ولذلك قال عليه السلام: " لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ". والقلب منزل الملائكة، ومحل نظرهم ومصب أثرهم، والصفات الردية كلاب مانعة، ومهما اعتقد في بيت الدين صفات لا تساوي سائر الصفات المحمودة أولى، وبيت الدين هو القلب، وعليه تغلب الكلام مرة، والملائكة أخرى، فإن قلت: فكم طالب رديء الأخلاق، حصّل العلوم؟

فما أبعدك عن فهم العلم الحقيقي الديني، الجالب للسعادة. فما يحصّله صاحب الأخلاق الردية حديث ينظمه بلسانه مرة، وبقلبه أخرى، وكلام يردده، ولو ظهر نور العلم على قلبه، لحسنت أخلاقه، فإن أقل درجات العلم أن يعرف أن المعاصي سموم مهلكة، مبطلة للحياة الأبدية، فإن منشأها الصفات الردية. وهل رأيت من عرف السم فتناوله؟ ولهذا قال علي السلام: " من ازداد علماً ولم يزدد هدى، لم يزدد من الله إلا بعداً ". ولهذا قال بعض المحققين: معنى قولهم تعلمنا العلم لغير الله، فأبى العلم أن يكون إلا الله، أي العلم امتنع وأبى أن يحصل، وما حصل كان حديثاً ولم يكن علماً تحقيقياً. فإن قلت: إني أرى جماعة من فضلاء الفقهاء قد تبخروا فيها مع سوء أخلاقهم، فيقال لك: إذا عرفت مراتب العلوم ونسبتها إلى سلوك السعادة، عرفت أن ما يعرفه أولئك الفقهاء قليل الغناء في المقصود، وإن كان لا ينفك عن تعلق به في حق من يقصد به التقرب. الوظيفة الثانية: أن يقلل علائقه من الأشغال الدنيوية، ويبعد عن الأهل والولد والوطن، فإن العلائق صارفة وشاغلة للقلوب،

(مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجل مِنْ قَلبَين فِي جَوْفِهِ) ، وكلما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق. ولهذا قيل: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإذا أعطيته كلك، فإنك من إعطائه إياك بعضه على خطر. والفكرة مهما توزعت على أمور، كانت كجدول ماؤه منكشف منبسط، فينشفه الهوى والأرض، ولا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ المزرعة وينتفع به. الوظيفة الثالثة: أن لا يتكبر على العلم وأهله ولا يتآمر على المعلم، بل يلقي إليه بزمام أمره، في تفصيل طريق التعلم، ويذعن لنصحه إذعان المريض للطبيب. أما التكبر على العلم، فإنه يستنكف من استفادته ممن يعرفه، وهو عين الحمق، بل الحكمة ضالة كل حكيم. فحيث يجدها، ينبغي أن يغتنمها، ويستفيدها، ويتقلد بها المنة. فَالعِلْمُ حَربٌ لِلفَتى المتَعَالِي ... كَالسَّيْل حَربٌ لِلمَكَانِ العَالِي فلا بد من التواضع، ولذلك قال الله تعالى: (إنّ فِي ذَلك لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ ألقَى السَّمعَ وَهُوَ شَهِيد) ، أي يكون مشتغلاً بالعلم، وهو المراد بمن له قلب، أو كان فيه من العقل ما يحمله على

إلقاء السمع وحسن الإصغاء والضراعة. ومهما أشار المعلم في طريق التعلم بما يراه المتعلم عين الخطأ ويعتقده قطعاً، فليتهم نفسه وليصبر، وليتبع معلمه، فإن خطأ معلمه خير من صواب نفسه، كسالك الطريق يكون قد استفاد بالتجربة ما يتعجب المبتدئ منه. وعلى هذا نبّه الله تعالى في قصة الخضر وموسى فإنه قال: (هَل اتَّبعُكَ عَلى أن تُعَلِّمَنِ ممَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) ، إلى قوله: (فَلاَ تَسْأَلْني عَنْ شيء حتى أحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) . ثم لم يصبر وراجعه وراده إلى أن قال: (هَذَا فِراقٌ بَيني وَبَينك) .

ثم نبّه على أسرار ما استبعده، كما ورد به القرآن، فعرف الله موسى أن العلم يعلم ما لا ينتهي إليه عقل المتعلم ووهمه. وبالجملة فكل متعلم لم يتبع مراسم معلمه في طريق التعلم، فأحكم عليه بالإخفاق وقلة النجح، فإن قلت فقد قال الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذَّكْرِ إِنْ كُنْتُم لاَ تَعْلَمُون) ، فاعلم أن هذا ليس مناقضاً لمنع موسى من السؤال، ولا لما ذكرناه، لأن النهي هو منع عن طلب، ما لم يبلغ إلى حدّ يدركه. فإذا منعه المعلّم من السؤال عنه، فليمتنع. والأمر هو حثّ على معرفة تفصيل ما تقتضيه رتبته من العلم. الوظيفة الرابعة: إن الخائض في العلوم النظرية لا ينبغي أن يصغي أولاً إلى الاختلاف الواقع بين الفرق والشبه المشككة والمحيرة، ما لم يكن بعد تمهيد قوانينه. فإن ذلك يفتر عزمه في أصل العلم،

ويؤيسه عن حقيقة الدرك، لأسباب ذكرناها في كتاب " معيار العلم ". فليتقن الأصول والرأي الذي اختاره استاذه وطريقه. ثم ليخض بعد ذلك في تعريف الشبه وتعقبها، ولهذا نهى الله تعالى من لم يقو في الإسلام عن مخالطة الكفار، حتى قيل كان أحد أسباب تحريم الخنزير ذلك، إذ كان أكثر أطعمة الكفار، فحرّم ذلك ليكون مزجرة للمسلمين عن مؤاكلتهم، التي كانت سبباً للمخالطة. ولهذا يجب صيانة العوام عن مجالس أهل الأهواء، كما يُصان الحرم عن مخالطة المفسدين. فأما من قويت في الدين شكيمته، واستقر في نفسه برهانه وحجته، فلا بأس عليه بالمخالطة، بل الأحب المخالطة والإصغاء إلى الشبه والاشتغال بحلّها، ويكون به مجاهداً. فإن القادر يستحب له التهجم على صف الكفار، والعاجز يكره له ذلك. ومن هذا الأصل غلط من ظنّ أن وظائف الضعفاء كوظائف الأقوياء في الدين، حتى قال بعض مشايخ الصوفية: من رآني في الابتداء قال صدّيقاً، ومن رآني في الانتهاء قال زنديقاً، يعني أن الابتداء يقتضي المجاهدة الظاهرة للأعين بكثرة العبادات، وفي الانتهاء يرجع العمل إلى الباطن، فيبقى القلب على الدوام في عين الشهود والحضور، وتسكن ظواهر الأعضاء،

فيظن أن ذلك تهاون بالعبادات، هيهات! فذلك استغراق لمخّ العبادات ولبابها وغايتها، ولكن أعين الخفافيش تكلّ عن درك نور الشمس. الوظيفة الخامسة: للمتعلم أن لا يدع فناً من فنون العلم، ونوعاً من أنواعه إلا وينظر فيه نظراً يطّلع به على غايته ومقصده وطريقه. ثم إن ساعده العمر وأتته الأسباب طلب التبحّر فيه، فإن العلوم كلها متعاونة مترابطة بعضها ببعض، ويستفيد منه في الحال حتى لا يكون معادياً لذلك العلم بسبب جهله به. فإن الناس أعداء ما جهلوا. قال تعالى: (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذا إفْكٌ قَدِيم) ، قال الشاعر: وَمَنْ يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ ... يَجِدْ مُراً بِهِ المَاءُ الزُّلاَلاَ فلا ينبغي أن يستهين بشيء من أنواع العلوم، بل ينبغي أن يحصّل كل علم ويعطيه حقه ومرتبته، فإن العلوم على درجاتها إما سالكة بالعبد إلى الله، أو معينة على أسباب السلوك، ولها منازل مرتبة في القرب والبعد من المقصد. والقوام بها حفظته كحفظة الرباطات والثغور على طريق الجهاد والحج، ولكل واحد منها رتبه. الوظيفة السادسة: أن لا يخوض في فنون العلم دفعة، بل

يراعي الترتيب، فيبدأ بالأهم فالأهم، ولا يخوض في فنّ حتى يستوفي الفن الذي قبله، فإن العلوم مرتبة ترتيباً ضرورياً وبعضها طريق إلى بعض. والموفق مراعي ذلك الترتيب والتدريج. قال تعالى: (الذينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَه حَقَّ تَلاَوَتِه) ، أي لا يجاوزون فناً حتى يحكموه علماً وعملاً. وليكن قصده من كل علم يتحرّاه الترقي إلى ما فوقه. وينبغي أن لا تحكم على علم بالفساد لوقوع الاختلاف بين أصحابه فيه، ولا بخطأ واحد أو آحاد فيه، ولا بمخالفتهم موجب العلم بالعمل، فيرى جماعة تركوا النظر في العقليات والفقهيات، متعللين فيها بأنه لو كان لها أصل لأدركها أربابها. وقد مضى كشف هذه الشبهة في كتابنا " معيار العلم "، ويرى قوم يعتقدون صحة النجوم لصواب اتفق لواحد، وطائفة يعتقدون بطلانه لخطأ اتفق لواحد، والكل خطأ. بل ينبغي أن يعرف الشيء في نفسه، فلا كل علم يستقل به كل شخص. ولذلك قال الإمام علي رضي الله تعالى عنه: " لا تعرف الحق بالرجال، إعرف الحق تعرف أهله ". الوظيفة السابعة: إن العمر إذا لم يتسع لجميع العلوم، فينبغي أن يأخذ من كل شيء أحسنه، فيكتفي بشمة من كل

علم، ويصرف الميسور من العمر إلى العلم الذي هو سبب النجاة والسعادة، وهو غاية جميع العلوم، وهي معرفة الله على الحقيقة والصدق. فالعلوم كلها خدم لهذا العلم، وهذا العلم حرّ لا يخدم غيره. ولهذا قال تعالى: (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُم فِي خَوْضِهِم يَلْعَبُون) ، وليس المراد تحريك عضلات اللسان بهذه الحروف، ولذا قال: " من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة "، فإن حركة الأطراف قليل الغناء، إذا لم يكن مؤثراً في القلب، أو لم يكن صادراً عن أثر راسخ في القلب، أو له اعتقاد يسمى إيماناً. ثم ينتهي ترتيبه إلى مثل إيمان أبي بكر، الذي وزن بإيمان العالمين لرجح. هذا مع التصريح بأنه ما فضلكم بكثرة صيام وصلاة ولكن بسرّ وقر في قلبه. فإن كان منتهى العلم بالله اعتقاد ما أعتقده المقلّد المتكلّم المتعلم بتحرير الدليل، فما عندي أن هذا يعجز عنه عمر وعثمان وكافة الصحابة، حتى كان قد فضلهم أبو بكر به. وبهذا يستبين للمنصف أن طريق الصوفية، وإن كان يرى مائلاً عن أكثر الظواهر، فمشهود له من الشرع بشواهد قوية. فلا ينبغي أن يعاديها الجاهل لجهله وقصوره عنها.

وعلى الجملة فمعرفة الله غاية كل معرفة، وثمرة كل علم، على المذاهب كلها. وقد روي أنه رؤي صورتا حكيمين من الحكماء المتعبدين في مسجد، وفي يد أحدهما رقعة فيها: " إن أحسنت إلى شيء، فلا تظنن أنك أحسنت شيئاً، حتى تعرف الله تعالى، وتعلم أنه مسبب الأسباب وموجد الأشياء ". وفي يد الآخر: " كنت قبل أن عرفت الله أشرب وأظمأ، حتى إذا عرفته رويت بلا شرب ". الوظيفة الثامنة: أن تعرف معنى كون بعض العلوم أشرف من بعض فإن شرف العلم يدرك بشيئين: أحدهما بشرف ثمرته، والآخر بوثاقه دلالته. وذلك كعلم الدين وعلم الطب، الذي ثمرته حياة البدن إلى غاية الموت. وأما الحساب إذا أضفته إلى الطب، فالحساب أشرف باعتبار وثاقه دلالته، فإن العلوم بها ضرورية غير متوقفة على التجربة بخلاف الطب. والطب أشرف باعتبار ثمرته، فإن صحة البدن أشرف من معرفة كمية المقادير. والنظر إلى شرف الثمرة أولى من النظر إلى وثائقه الدليل.

وأشرف العلوم ثمرة العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله وما يعين عليه، فإن ثمرته السعادة الأبدية. الوظيفة التاسعة: أن تعرف أنواع العلوم بقول جملي، وهي ثلاثة: علم يتعلق باللفظ، من حيث يدل على المعنى، وعلم يتعلق بالمعنى المجرّد. أما المتعلق باللفظ، فهو ما عرف به المعاني بالحس وأريد أن تعرف الألفاظ الموضوعة بالاصطلاح للدلالة عليها وهي قسمان: أحدهما علم اللغات، والآخر لواحقها، كعلم الاشتقاق والإعراب والنحو والتصريف وعلم العروض والقوافي، وقد ينتهي إلى العلم بمخارج الحروف وما يتعلق به. وأما المتعلق بالمعنى من حيث يدل الفظ عليه، فعلم الجدل والمناظرة والبرهان والخطابة. فإن الناظر في هذه العلوم عالم باللغة وموجوب الألفاظ، وعالم بالمعاني، وعالم بترتيب إيرادها، وكيفية نظمها على وجه يؤدي إلى تحصيل العلم اليقيني، فيكون برهاناً، أو إلى إفحام الخصم فيكون جدلاً، أو إلى إقناع النفس الإقناع الذي يبتغي الاستدراج والمجادلة،

فيسمى خطابة ووعظاً، ويسمى أيضاً دليلاً، فإنها تدل على المخاطبين على المقاصد، وتسوقهم إلى اعتقاداتهم، التي فيها نجاتهم. وعليه أكثر دلالات الأخبار والقرائن المستدل بها على الكفار. وهو أكثر أنواع الأدلة نفعاً، وأعمقها في حق الجماهير جدوى. فأما البرهان الحقيقي اليقيني، فلا يستقل بفهمه ودركه إلا أكابر العلماء المحققين الذين لا تسمح الأعصار بآحادهم. وأما الجدل فأقل الأقسام فائدة في الإرشاد، إذ المحقق لا يقنع بما يبني دلالته على تسليم الخصم، وليس مسلماً في نفسه. والعامي لا يفهمه بل يكلّ فهمه عن دركه، والمشاغب المناظر في أكثر الأمر، إذا أفحم استمر على اعتقاده وأحال بالقصور على نفسه، وقال: لو كان صاحب مذهبي حياً وحاضراً، لقدر على الانفصال عنه، وأكثر ما ذكره المتكلمون في مناظراتهم مع الفرق جدليات، وهكذا ما يجري في مناظرات الفقه. ولذلك لا تنكشف مناظرة عن تنبه متنبه برجوعه عن مذهبه إلى غيره. وأما القسم الثالث المتعلق بالمعنى، فضربان: علمي مجرد وعملي. أما العلمي فمعرفة الله تعالى ومعرفة

الملائكة وملكوت السموات والأرض وآيات الآفاق والأنفس وما بث فيها من دابة، ومعرفة الكواكب السماوية والآثار العلوية، ومعرفة أقسام الموجودات كلها، وكيفية ترتب البعض منها على البعض، وكيفية ارتباط البعض منها بالبعض، وكيفية ارتباطها بالأول الحق المقدس عن الارتباط بغيره، ومعرفة القيامة والحشر والنشر والجنة والنار والصراط والميزان، ومعرفة الجن والشياطين، وتحقق أن ما سبق إلى الإفهام العامية من ظاهر هذه الألفاظ، حتى تخيلوا منها في الله تعالى أموراً، من كونه على العرش وفوق العالم بالمكان وقبله بالزمان، وما اعتقدوه في الملائكة والشياطين، وفي أحوال الآخرة من الجنة والنار، هل هي كما اعتقدوه من غير تفاوت، أو هي أمثلة وخيالات، ولها معان سوى المفهوم عن ظاهرها؟ فتحقق هذه الأمور بالصدق والحقيقة الصافية عن الشك، ورجم الظنون المنفكة عن المرية والتخمين، هي العلوم النظرية المجردة عن العمل.

وأما العملي فهي الأحكام الشرعية، والعلوم الفقهية، والسنن النبوية. وذلك معرفة سياسة النفس مع الأخلاق كما مضى، ومعرفة تدبير أهل البيت والولد والمطعم والملبس. وكيفية المعيشة والمعاملة. وهذا علم الفقه، ويشتمل على ربع المعاملات والنكاح والعقوبات. ثم إذا عرف أنواعها، فينبغي أن يعرف مراتبها، كيلا يضيع العمر إلا في المقصود، أو فيما يقرب منه. وأما المقتنع بالقسم الأول المتعلق باللفظ، فمختصر على القشر المحض. والقانع منه بالنحو والإعراب والعروض ومخارج الحروف، فقانع أيضاً من القشرة بأوجهها. وأما الخائض في تعرف الطريق الذي به يتميز الدليل الحقيق عن الإقناع، فمشتغل بأمر مهم. فإن اقتصر عليه فهو مقتصر على الآلة والوسيلة، كمن يقصد الحج فيشتري الجمل ويعدّ الزاد والراحلة، ويقعد في بيته. فلذلك مهم وضروري لكونه آلة ضرورية، ولكن إذا لم

يستعمل في المقصد، لا فائدة له. فلا خير في مجرد السلاح إذ لم يستعمل في القتال. وأما الخائض في العلوم العملية المقتصر عليها، أعني الفقهيات وتفصيلها، فحالة أقرب من حال المقتصر على اللغات، فهو بالإضافة إليه عظيم القدر، كما أن العلم باللغات أيضاً بالإضافة إلى العلم بالرقص والزمّر عظيم، ولكن أن أضيف إلى جانب المقصود، فهو في غاية البعد ولا يتشكل ذلك إلا بمثال. فإذا علق السيد عتق عبده على أن يحج، ووعده بعد ذلك بما ينال به الرئاسة، فله ثلاث مقامات في الوصول إلى سعادة العتق وما بعده. الأول تهيئة الأسباب بشراء الناقة وخرز الرواية وإعداد الزاد، والآخر السلوك لمفارقة الوطن والتوجه إلى المقصد منزلاً بعد منزل، والثالث الاشتغال بالحج ركناً فركناً، ثم العتق معه، مع التعرض لاستحقاقه المال الموصل إلى السعادة، وله في كل مقام منازل من أول إعداد الأسباب إلى آخره، ومن أول سلوك الطريق إلى آخره. وليس قرب من ابتدأ بأركان الحج من السعادة كقرب من

ابتدأ بالاستعداد، ولا كقرب من ابتدأ بالسلوك. فوازن الحج مما نحن فيه كمال النفس بطهارة الأخلاق، وقطع الرذائل كلها، وكمالها مع ذلك بانكشاف الحقائق لها. ومثال المال الموصل إلى الرئاسة ها هنا الموت، الذي يكشف الحجاب الحائل بينه وبين رتبة مشاهدة نفسه، وكمالها وجمالها، ليرى نفسه من الكمال في أعلى عليّين، فيفرح به ويسرّ سروراً مؤبداً. ومثال سلوك منازل الطريق منزلاً بعد منزل سلوك مهذّب الأخلاق في محو الأخلاق الرديئة عن نفسه خلقاً بعد خلق، وطالب العلوم النظرية التي ذكرناها دون سائر العلوم، الخادمة للعلوم النظرية من الفقهيات واللغويات. فالمتعلّم للفقه كالخارز للرواية، والمقتصر عليه كالمقتصر على الرواية، والمقتصر على اللغة كالمقتصر على دباغة الجلد، الذي يتخذ منه الرواية مثلاً، فإن الحاج لا يستغني عن الدباغ ومستغرق أوقاته بمعرفة تفريعات الفقه، على ما يشتمل عليه الخلافيات في هذا العصر، مما لم يعهد في عصر الصحابة،

كمستغرق أوقاته في أحكام الرواية، بعد سلوك الخيوط التي يخرزها وتحسن الخرز. فإن قلت: فهذا إن قلته عن اعتقاد فهو خلاف اجماع الفقهاء، وإن قلته حكاية، فمن المعتقد لهذا المذهب؟ فأقول: لست أقوله إلا حكاية عن هذا المذهب الذي مدار أكثر هذا الكتاب على وضعه، وهو مذهب التصوف. وقد اتفقوا على المعنى الذي يفهمه هذا المثال، وإن لم يكن هذا المثال بعينه من جهتهم. فإن قلت: فهل ما قالوه حق أم لا؟ فأقول ليس هذا الكتاب لبيان الحق والباطل بالبرهان في هذه الأمور، بل هي وصايا تنبّه على الغفلة وترشد إلى مواضع الطلب، كي لا يغفل الإنسان عمّا قالوه. فإن إمكانه ليس ببعيد في أول الأمر، فليبحث المتعلم المسترشد عنه ليعرف سره وغائلته. فإن قلت: إني وأن كنت لا أعتقد مذهب التصوف، فلا تسمح نفسي أيضاً بعد أن استغرقت عمري في الفقه خلافاً ومذهباً أن أنحط عند الصوفية إلى هذه الرتبة الخسيسة، فأرى بهذه العين، فلم قلت أن مذهبهم يوجب هذا؟ فاعلم إنك تتحقق السبب إن علمت تفاصيل ما سبق من ارتباط السعادة بمحو وإثبات عن النفس. وفيها، وأن المحو لما لا ينبغي أن يكون تزكية لها، والإثبات لما ينبغي أن يكون تكميلاً لها بكشف الحقائق فيها. وذلك لا يحصل إلا بتهذيب الأخلاق، والتفكر في آلاء

الله وملكوت السموات والأرض، حتى تنكشف أسرارها. والفقه إنما يحتاج إليه من حيث أنه محتاج إليه البدن، والبدن لا يبقى إلا بعلم الأبدان، وهو الطب. وعلم الأديان، وهو الفقه، إذ الآدمي خلق بحيث لا يمكن أن يعيش وحده كالبهيمة الوحشية، بل يفتقر إلى أن يكون بين جمع متعاونين على أشغال كثيرة، في تهيئة المطاعم والملابس وآلاتهما، ولا بد إذ كان لهم اجتماع من أن يكون بينهم عدل وقانون في المعاملة، عليه يترددون، ولولاه لتنازعوا وتقاتلوا وهلكوا. فالفقه هو بيان ذلك القانون، وتفصيله في ربع النكاح والمعاملات والعقوبات، فالبدن في طريق السائرين إلى الله تعالى يجري مجرى الناقة الراوية في طريق الحج، ومصالح الأبدان كمصالح الناقة، والراوية والعلم والمتكفل بمصالح البدن كالصناعة المتكفلة بخرز الراوية وتقديرها وتطهيرها، ورتبته من هذا المقصد كرتبتها من ذلك المقصد إن صح ما ذكروه في السلوك والاستعداد والمقصد، وإنهم يقولون لولا إرادة الله عمارة الدنيا، لارتفعت الحجب وزالت الغفلة وتوجه الخلق كلهم إلى سبيل الله، وترك كل فريق ما هو بعيد عن المقصود، ولكن كل حزب بما لديهم

فرحون، وبه قوام العالم، بل لولاه لبطلت الصناعات. فلو لم يعتقد الخيّاط والحائك والحجام في صنعته ما يوجب ميله إليها، لتركها وأقبل الكل على أشرف الصنائع، ولبطلت كثرة الصنائع. فإن رحمة الله غفلتهم بوجه من الوجوه. وعليه حمل بعضهم قوله عليه السلام: " اختلاف أمتي رحمة "، يعني اختلاف هممهم، ولو عرف الكنّاس ما في صناعته لتركها، ولاضطر العلماء والخلفاء والأولياء أن يتولوها بأنفسهم. وكذلك الدباغة والحدادة والزراعة، وجميع الأمور فلولا أن الله تعالى حبّب علم الفقه والنحو ومخارج الحروف والطب والفقه في قلوب طوائف، لبقيت هذه العلوم معطّلة، ولتشوش النظام الكلي، وليس من شرط المتجرد لعلم أو صناعة أن يتطلع على قدر رتبته ونسبته إلى من فوقه. بل إلى من تحته. وإنما المطّلع على حملة مراتب العلوم هم المتكفل بالعلوم كلها، وهو الذي آتاه الله الحكمة، وأراه الأشياء على ما هي عليه. فهذا جواب هؤلاء، وإليك الرأي بعد هذا في الاقتصار على ما أنت فيه، أو سلوك طريق هؤلاء والبحث عن هذا الفن، لتعرف حقيقة الحق فيه.

الوظيفة العاشرة: للمتعلم أن يكون قصده في كل ما يتعلمه في الحال كمال نفسه وفضيلتها، وفي الآخرة التقرب إلى الله عز وجل. ولا يكون قصده الرئاسة والمال، ومباهاة السفهاء، ومماراة العلماء، فقد قال عليه السلام: " من تعلم العلم ليباهي به السفهاء ويماري به العلماء دخل النار "، وقد سبق أن العلوم لها منازل في الوصول بها إلى الله عز وجل، والقوّام بتلك العلوم كحفظة الرباطات في طريق الجهاد. فإذا عرف كل أحد رتبته ووفّاه حقه وقصد به وجه الله تعالى، لم يضع أجره، فإن الله يرفعه بقدر علمه في الدنيا والآخرة. وقال تعالى: (يّرْفَعُ اللهُ الذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ) ، وقال: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله) . ولا ينبغي أن يفتر رأيك في العلوم بما حكيناه من طريق الصوفية، فإنهم لا يعتقدون حقارة العلوم، بل يعتقد كل مسلم حرمتها وعظمتها. وما ذكروه، إنما أوردوه بالإضافة إلى مرتبة الأولياء والأنبياء، وذلك جار مجرى استحقارك الصيارفة عند قياسهم بالسلاطين والوزراء. وذلك لا يوجب نقيصتهم، مهما قستهم بالكناسين والدباغين، ولا تطالب من نزل عن الرتبة القصوى لسقاطة القدر بها، فإن الرتبة القصوى

للأنبياء، ثم للأولياء، ثم للعلماء، على تفاوت مراتبهم، ثم للصالحين في الأعمال. وبالجملة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ يَرَه) . ومن قصد التقرب إلى الله بالعلوم، نفعه الله ورفعه لا محالة. فهذه هي الوظائف للمتعلم. وأما وظائف المعلم المرشد فهي ثمان. واعلم قبل كل شيء أن للإنسان في العلم أربعة أحوال، كما في اقتناء الأموال، إذ لصاحب المال حال استفادة، فيكون مكتسباً، وحال ادخار لما اكتسبه، فيكون به غنياً عن السؤال، وحال انفاق على نفسه، فيكون منتفعاً، وحال إفادته غيره بالإنفاق، فيكون به سخياً متفضلاً، وهو أشرف أحواله، فمن أصاب علماً فاستفاد وأفاد، كان كالشمس تضيء لنفسها ولغيرها، وهي مضيئة، مستغن عن السؤال، وحال استبصار وهو تفكّره في المحصّل، وحال تبصير وتعليم، وهو أشرف أحواله، فكذلك العلم كالمال، ولصاحبه استبصار وهو تفكيره في المحصل، وحال تبصير وتعليم وهو أشرف أحواله. فمن أصاب علماً فاستفاده وأفاد

كان كالشمس تضيء لنفسها ولغيرها، وهي مضيئة، والمسك الذي يطيب وهو طيب، ومن أفاد غيره ولم ينتفع به، فهو كالدفتر يفيد غيره، وهو خال عنه، وكالمسنّ يشحذ غيره يقطع، أو كذبالة المصباح تضيء غيرها وهو تحترق. فأول وظائف المعلم أن يجري المتعلم منه مجرى بنيه، كما قال عليه السلام: " إنما أنا لكم مثل الوالد لولده ". وليعتقد المتعلم أن حق المعلم أكبر من حق الأب، فإنه سبب حياته الباقية، والأب سبب حياته الفانية، وكذلك قال الإسكندر، لما قيل له: أمعلمك أكرم عليك أم أبوك؟ فقال: " بل معلمي ". وكما أن من حق بني الأب الواحد أن يتحابّوا ولا يتباغضوا، فكذلك حق بني المعلم، بل حق بني الدين الواحد. فإن العلماء كلهم مسافرون إلى الله تعالى، وسالكون إليه الطريق. في الطريق يوجب تأكد المودة، فأخوة الفضيلة فوق أخوة الولادة. وإنما منشأ التباغض إرادتهم بالعلم المال الرياسة، فيخرجون به عن سلوك سبيل الله، ويخرجون عن قوله تعالى:

(إنّما المُؤْمنونَ إخْوَة) ، ويدخلون تحت قوله: (الأخِلاّءُ يَومَئذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إلا المتّقِين) . الوظيفة الثانية: أن يقتدي بصاحب الشرع، فلا يطلب على إفادة العلم أجراً وجزاء. قال تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْرَاً) . فإن من يطلب المال وأغراض الدنيا بالعلم، كمن نظف أسفل مداسه بوجهه ومحاسنه، فجعل المخدوم خادماً، إذ خلق الله الملابس والمطاعم خادمة للبدن، وخلق البدن مركباً، وخادماً للنفس، وجعل النفس خادمة للعلم. فالعلم مخدوم ليس بخادم، والمال خادم ليس بمخدوم. ولا معنى للضلال إلا عكس هذا الأمر. والعجب أن الأمر قد انتهى بحكم تراجع الزمان، وخلوّ الأعصار عن علماء الدين، إلى أن صار المتعلم يقلّد معلمه ليستفيد منه، ويجلي بين يديه ويطمع في أغراض دنيوية، عوضاً عن استفادته، وهذا غاية الانتكاس ومنشأ ذلك طلب المعلمين الرياسة، والتجمل بكثرة المستفيدين،

لقصور علمهم وعدم ابتهاجهم بكمال علومهم الذاتية، فأطمع ذلك المستفيدين منهم فيهم. الوظيفة الثالثة: ألا يدخر شيئاً من نصح المتعلم وزجره عن الأخلاق الردية، بالتعريض والتصريح، ومنعه أن يتشوق إلى رتبة فوق استحقاقه، وأن يتصدى لاشتغال فوق طاقته، وأن ينبهه على غاية العلوم، وإنما هي السعادة الآخروية دون أغراض الدنيا. فإن رأى من لا يتعلم إلا لأجل طلب الرياسة، ومباهاة العلماء، لم يزجره عن التعلّم. فاشغاله بالتعلم مع هذا القصد خير من لأعراض، فإنه مهما اكتسب العلم تنبّه بالآخرة لحقائق الأمور. وأن الطالب بالعلم لأغراض الدنيا منغبون، وقد بيّن العلماء هذا المعنى بقولهم: " تعلمنا العلم لغير الله، فأبى العلم أن يكون إلا لله ". بل أقول: إن كان الناس لا يرغبون في تعلم العلم لله، فينبغي أن يدعوهم إلى نوع من العلم يستفاد به الياسة بالأطماع في الرياسة، حتى يستدرجهم بعد ذلك إلى الحق. ولهذا رؤي الرخصة في علم المناظرة في الفقهيات، لأنها بواعث على المواظبة لطلب المباهاة أولاً، ثم بالآخرة، يتنبه لفساد قصده، ويعدلك عنه إلى التعلم بالأطماع في الرياسة إنا نطمعه فيه بالصولجان، وشراء الطيور،

وأسباب اللعب، ونطلق له ذلك في بعض الأوقات، لتنبعث دواعيه إلى التعلم ابتداءً طمعاً فيما رعيناه آخراً تدريجياً، وقد جعل الله تعالى قصد الرياسة من تعلّم العلم حفظاً للشرع والعلم. ويجري تحريض المتعلمين على العلم بالأطماع في الرياسة وحسن الذكر مجرى الحب يبث حوالي القمح والملواح المقيد على الشبكة ومجرى شهوة الغذاء والنكاح التي خلقهما الله داعية إلى الفعل الذي فيه بقاء الشخص والنوع، ولولا هذه المصلحة في المناظرة، لما كان يجوز أن يسمح فيها بحال من الأحوال، فإنها ليست تفضي إلى تغيير المذاهب، وترك المعتقد. الوظيفة الرابعة: إنه ينبغي أن ينهي عما يجب النهي عنه، بالتعريض لا بالتصريح، لأن التعريض يؤثر في الزجر، والتصريح بالزجر مما يغري بالمنهى عنه. قال عليه السلام: " لو نهي الناس عن فت البعر لفتوه، وقالوا ما نهينا عنه إلا وفيه شيء ". وينبه على هذا قصة آدم وحواء وما نهيا عنه. وقد قيل: رب تعريض أبلغ من تصريح. وذلك أن النفوس الفاضلة لميلها إلى الاستنباط والتنبه للخفيات، تميل إلى التعريض شغفاً باستخراج معناه بالفكر. والتعريض لا يهتك حجاب الهيبة،

والتصريح يرفعه بالكلية، فيستفيد المنهي جراءة على المخالفة إذا اضطر إلى المخالفة مرة أخرى. الوظيفة الخامسة: إن المتكفل ببعض العلوم، لا ينبغي له أن يقبح في نفس المتعلم العلم الذي ليس بين يديه، كما جرت عادة معلمي اللغة من تقبيح الفقه، عند المتعلمين وزجرهم عنه، وعادة الفقهاء من تقبيح العلوم العقلية والزجر عنها، بل ينبّه على قدر العلم الذي فوقه ليشتغل به عند استكمال ما هو بصدده. وإن كان متكفلاً بعلمين مترتبين، فإذا فرغ من أحدهما رقي المتعلم إلى الثاني وراعى فيه التدريج. الوظيفة السادسة: أن يقتصر بالمتعلمين على قدر إفهامهم، فلا يرقّيهم إلى الدقيق من الجلي، وإلى الخفي من الظاهر، هجوماً وفي أول رتبة، ولكن على قدر الاستعداد، اقتداء بمعلم البشر كافة ومرشدهم حيث قال: " إنّا معشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، ونكلم الناس بقدر عقولهم ". وقال: " ما أحد يحدث قوماً حديثاً لا يبلغه عقولهم، إلا كان ذلك فتنة على بعضهم ". وقال: علي رضي الله عنه، وقد أومأ إلى صدره: " إن ههنا لعلوماً جمة، لو وجدت لها حملة ". وقال عليه السلام: " كلموا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن

يكذب الله ورسوله "، وقال تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهم خَيْرَاً لأَسْمَعَهُمْ) . وسئل بعض المحققين عن شيء فأعرض، فقال السائل: أما سمعت قول رسول الله عليه السلام: " من كتم علماً نافعاً، جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار "، فقال: اترك اللجام واذهب فإن جاء من يفقه فكتكته فليلجمني به. ولما قال تعالى: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءِ أَمْوَالَكُمُ) ، نبّه على أن حفظ العلم وإمساكه عمن يفسده العلم أولى. ولما قال تعالى: (فَإنْ آنَسْتُم مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُم) نبّه على أن من بلغ رشده في العلم، ينبغي أن يبث إليه حقائق العلوم، ويرقى من الجلي الظاهر، إلى الدقيق الخفي الباطن، فليس الظلم في منع المستحق، بأقل من الظلم في إعطاء غير المستحق. وقال المتقدم في مثل ذلك:

فَمَنْ مَنَحَ الجهّال علماً أضَاعَهُ ... وَمَنْ مَنَعَ المسْتَوجِبِين فَقَدْ ظَلَمْ وادخار حقائق العلوم عن المستحق لها فاحشة عظيمة. قال الله تعالى: (وَإذْ أَخَذَ اللهُ مِثَاقَ الذِينَ أُوتوا الكِتَابَ لتُبَيّنّنَهُ للنّاس وَلاَ تَكْتُمُون) . الوظيفة السابعة: إن المتعل القاصر ينبغي أن يذكر له ما يحتمله فهمه، ولا يذكر له أن ما وراء ما ذكرت ذلك تحقيقاً وتدقيقاً أدخره عنك، فإن ذلك يفتر رأيه في تلقف ما ألقي إليه، بل يخيل إليه أنه كل المقصود، حتى إذا استقل به رقي إلى غيره بالتدريج. ومن هذا يعلم أن تقيّد من العوام بقيد الشرع، واعتقد الظاهر وحسن حاله في السيرة، فلا ينبغي أن يشوش عليه اعتقاده وينبّه على تأويلات الظواهر. فإن ذلك يؤدي إلى أن ينحلّ عنه قيد الشرع، ثم لا يمكن أن يقيّد بتحقيق الخواص فيرتفع السد الذي بينه وبين الشرور، فينقلب شيطاناً وشريراً، بل ينبغي أن يرشد إلى علم العبادات الظاهرة، والأمانة في الصناعة، التي هو بصددها، وأن يملأ نفسه من الرغبة والرهبة على الوجه الذي نطق به القرآن، وأن لا يولّد شبهة، فإن تولدت شبهة وتشوقت نفسه إلى حلها، فيعالج دفع شبهته بما يقنع به من كلام عامي، وإن لم يكن على حقائق الأدلة.

ولا ينبغي أن يفتح له باب البحث والطلب، فإنه يعطل عليه الصناعة التي بها تعمر الأرض وينتفع الخلق. ثم يقصر عن درك العلوم، فإن وجد ذكياً مستعداً لقبول الحقائق العقلية، جاز أن يساعده على التعليم، إلى أن تنحل له الشبهات، وقد حكي عن بعض الأمم السالفة أنهم كانوا يختبرون المتعلم مدة في أخلاقه، فإن وجدوا فيه خلقاً ردّياً منعوه التعلم أشد المنع. وقالوا إنه يستعين بالعلم على مقتضى الخلق الردي، فيصير العلم آلة شرّ في حقه، وإن وجدوه مهذب الأخلاق قيدوه في دار العلم، وعلّموه وما أطلقوه قبل الاستكمال، خيفة أن يقتصر على البعض، ولا تكمل نفسه، فيفسد به دينه ودين غيره، وبهذا الاختبار قيل: " نعوذ بالله من نصف متكلم ونصف طبيب. فذلك يفسد الدين وهذا يفسد الحياة الدنيا ". الوظيفة الثامنة: أن يكون المعلم للعلم العملي، أعني الشرعيات، عاملاً بما يعلمه، فلا يكذّب مقاله بحاله، فينفر الناس عن الاسترشاد والرشد. وذلك أن العمل مدرك بالبصر، والعلم بالبصيرة، وأصحاب الأبصار أكثر من أرباب البصائر.

فليكن عنايته بتزكية أعماله أكثر منه بتحسين علمه ونشره. وكل طبيب تناول شيئاً وزجر الناس عنه، وقال: " لا تتناولوه فإنه سمّ "، يحمل على الهزؤ والسفه. وإنما هو الذي اعتقد فيه أنه أنفع الأشياء يريد أن يستأثر به، فينقلب النهي إغراء وتحريضاً. والمتعظ من الواعظ يجري مجرى الطين من النقش، والظل من العود، وكيف ينتقش الطين بما لا نقش فيه، وكيف يستوي الظل، والعود أعوج؟ ولذلك قيل: لاَ تَنْه عَنْ خُلْقٍ وَتَأت مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيم بل قال الله تعالى: (أَتَأْمُرونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَونَ أَنْفُسَكُمْ) . ولذلك قيل: وزر العالم في معاصيه أكثر من وزر غيره، لأنه يقتدى به، فيحمل أوزاراً مع أوزاره. كما قال عليه السلام: " من سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ". فعلى كل عاص في كل معصية وظيفة واحدة، وهو تركها وترك الاظهار، كي لا يتبعه الناس، فإذا أظهر فقد ترك واجبين، وإن أخفى فقد ترك أحد الواجبين. ولذلك قال علي رضي الله عنه:

" قصم ظهري رجلان، جاهل متنسك، وعالم متهتك، فالجاهل يغر الناس بنسكه والعالم يغرهم بتهتكه ". بيان تناول المال وما في كسبه من الوظائف اعلم أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وأن الدنيا مزرعة للآخرة، ففيها الخير النافع وفيها السم الناقع. ومثالها مثال حية يأخذها الراقي ويستخرج منها الترياق، ويأخذها الغافل فيقتله سمّها من حيث لا يدري. وقيل: المال من الخيرات المتوسطة، فإنه ينفع من وجه ويضرّ من وجه، فلم يكن من بد الاقتصار على النافع منه، والاحتراز من المهلك منه.

وأصل ذلك معرفة رتبة المال من المقاصد، فإن أصل الأمور كلها العلم بحقائق الأشياء. فنقول: على طالب السعادة الآخروية وظائف في حق المال، من حيث جهة الدخل وجهة الخرج، وقدر المتناول بالنية الواجبة في تناوله. الوظيفة الأولى: معرفة رتبته، فقد سبق أن المقتنيات المرغوب فيها ثلاثة: نفسية ثم بدنية ثم خارجية. والخارجية أدناها رتبة، والمال من جملة الخارجية، وأدناها الدراهم والدنانير، فإنهما خادمان ولا خادم لهما، إذ النفس تخدم العلم الفضائل النفسية لتحصّلها، والبدن يخدم النفس، فيكون آلة، والمطاعم والملابس تخدم البدن، والدراهم والدنانير تخدم المطاعم والملابس. وقد سبق أن المقصود من المطاعم إبقاء البدن، ومن البدن تكمل النفس. فمن عرف هذا الترتيب وراعاه، فقد عرف قدر المال، ووجه رتبته،

وعرف وجه شرفه، من حيث هو ضرورة كمال النفس. ومن عرف غاية الشيء واستعمله لتلك الغاية، فقد أحسن إلى الغاية، وعند ذلك يقتصر على قدر الحاجة الموصلة إلى الغاية، فلا يركن إليه معتكفاً بكنه همته عليه. وبهذا النظر ينكشف له الشبه في ذم الله تعالى المال في مواضع حيث قال: (إِنّما أَمْوِالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَة) ، ومدحه حيث امتن به فقال: (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِين) . فإنه من حيث كونه وسيلة للآخرة محمود، ومن حيث كونه صارفاً عنها مذموم، ولذلك قال عليه السلام: " نعم المال الصالح ". وقال تعالى (لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأولئكَ هُمُ الخَاسِرُون) . وكيف لا يكون خاسراً من يجمع الشعير لدابته، فيضع الدابة ويشتغل بتنقية الشعير، وهو الخسران،

بل مثال الناس كلهم في الاغترار برهرة الدنيا، والاعتكاف على لزوم لذاتها، مثل راكبي سفينة متوجهين إلأى أفضل بلدة، ينال فيها أعلى رتبة، فأفضت بهم السفينة إلى جزيرة ذات أسود وأساود، فأمروا بالخروج تهيئة للطهارة، وأن يكونوا على حذر من غوائال الجزيرة، فرأوا حجراً مزبرجاً، وزهراً منوّراً، فأعجبهم ذلك وشغفوا به، فتباعدوا عن المركب، ونسوا المركب والمقصد، وبقوا لا هين، حتى سارت السفينة وجنّ عليهم الليل، فثارت عليهم الأسود تفترسهم، والأساود تنتهشهم، ولم يغن عنهم حجرهم وزهرهم شيئا. فيقول واحد منهم: (يَا لَيْتَني كُنْتُ تُرَاباً) ، والآخر يقول: (مَا أَغْنَى عَنّي مَالِيه هَلَكَ عَنّي سُلْطَانِيَه) . والآخر يقول: يا حسرتاً على ما فرطت في جنب الله، ولم يبق بأيديهم إلا حسرة وندامة لا آخر لها، ومجاورة الأفاعي والأسود مع الخزي والنكال. فهذا بعيينه مثال المغترين بمتاع الدنيا. ولهذا الخطر العظيم استعاذ الخليل إبراهيم وقال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنيّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) ، وعنى به هذين الحجرين، الذهب والفضة، إذ رتبة النبوة أجل من أن يخشى فيها أن تعتقد الإلهية في شيء من الحجارة. ولهذا قال الإمام علي:

" يا حميراء، غريّ غيري، ويا بويضاء غرّي غيري ". ولذلك شبّه عليه السلام طلاب الدنانير والدراهم المشغوفين بهما بعبدة الحجارة، فقال: " تعس عبد الدراهم، تعس عبد الدنانير، ولا انتعش، وإذا شيك فلا انتقش ". الوظيفة الثانية: في مراعاة جهة الدخل والخرج. فالدخل إما بالاكتساب، وإما بالبخت. أما البخت فميراث، أو وجود كنز، أو حصول عطية من غير سؤال. وأما الكسب، فجهاته معلومة. ومن أخذ من حيث كان مذموماً شرعاً، فلا ينبغي أن يأخذ إلا من وجهه. والوجوه الطيبة معلومة من الشرع، فإن وجد حلالاً طيباً فليأخذه، وإن كان حراماً محضاً، فليتجنبه. فإن قدر على الحلال المطلق، من غير تعب فليترك. فإن كان يقدر على الحلال المطلق، ولكن بعد طول التعب واستغراق الوقت، فإن كان من العبّاد العاملين بالجوارح، مع اعتقاد عامي مصمّم فليشتغل بطلب الحلال، فإن تعبه في طلب الحلال عبادة، كتعبه في سائر العبادات. وإن كان من أصحاب القلوب وأرباب العلوم وكان يتعطل عليه ما هو بصدده، لو استغرق أوقاته في الحلال المطلق فليأخذ من الذي يتيسّر قدر حاجته،

فإن المحظور المحض قد ينقلب مباحاً، خوفاً من محظور آخر أشرّ منه. فمن غصّ بلقمة، فله أن يتناول الخمر حذراً من فوات النفس. والعلم وعمل القلب لا يوازيه غيره. فالكل خدم له. فكما يباح إتلاف مال الغير على النفس، بل يحل تناول لحم الخنزير، فكذلك في محل الشبهة يتساهل في التحضير على العلم، وعند هذا قد يثور شغب الجاهل مهما تناول العلم، ما زجر عنه الجاهل، إذ لا يدرك الجاهل تفاوت هذه الدقيقة بينهما. وليكن العالم متلطفاً في ذلك، كيلا يحرك سلاسل الشيطان. الوظيفة الثالثة: في المقدار المأخوذ. ومهما عرفت أن المال هذا دائر، فمعناه مقدار الحاجة المذكورة ولا غنى بك عن ملبس ومسكن ومطعم. وفي كل واحد ثلاث مراتب: أدنى وأوسط وأعلى.

وأدنى المسكن ما يقل من الأرض، من رباط أو مسجد أو وقف، كيفما كان، وأوسطه ملك لا تزاحم فيه، فتقدر على أن تخلو فيه بنفسك ويبقى معك عمرك، وهو على أقل الدرجات من حسن البناء، وكثرة المرافق، هو حد الكفاية، وأعلاه دار فيحاء فسيحة، مزينة البناء، كثيرة المرافق، وتتبعها زيادات لا تنحصر، على ما يرى عليه أرباب الدنيا، وأولو الرتب. والأول هو قدر الضرورة، إذ المقصود من المسكن أرض تقلّك، يحيط بها حائط يمنع عنك السباع، ويظل عليك سقف، يمنع المطر وحر الشمس ولا يقنع به المتوكلون. والأوسط هو حدّ الكفاية، وما بعده خارج عن حدّ الدين وإقبال على أمر الدنيا، أعني الاشتغال بزينتها. فأما الجلوس فيها، مع الغفلة عنها، دون ابتهاج بها وطمأنينة إليها، فمن المباحات. وأما صرف الأوقات إلى تزيينها، فمباح للعوام على لسان الفقه، الذي عقد لضرور جهل العوام، وقصورهم عن مشافهتهم بالمنع منه. فأما في طريق التصوف فحرام، وأعني بالتصوف ما خلق الإنسان له من سلوك سبيل القرب إلى الله تعالى. والعبادات لا مناقشة فيها، ولذلك قيل:

مباحات الصوفية فريضة، وفريضتهم مباحات، أي يقتصرون على قدر الضرورة من المباح، ويواظبون على الفرائض، كما يواظبون على هذه فهي عندهم كالمباحات. وأما المطعم، فهو الأصل العظيم، إذ المعدة مفتاح الخيرات والشرور. ولهذا أيضاً ثلاث مراتب، أدناها قدر الضرورة، وهو ما يسدّ الرمق، ويبقى معه البدن وقوة العبادة. وذلك يمكن تقليله بالعادة، تارة بتقليل الطعام شيئاً فشيئاً، حتى يتعوّد الصبر عنه عشرة أيام وعشرين. وقد انتهى الزهّاد في القدر كل يوم إلى حمّصة، وبعضهم في الوقت عشرين يوماً، وقيل أربعين، وهذه رتبة عظيمة، يقلّ من يستقل بها. فإن لم يقدر عليه، فالدرجة الوسطى، وهي في ثلث البطن، كما ذكرناه من قبل. ولا ينبغي أن يزيد على القدر الذي حدده الشرع، فالزيادة عليه بطنة. ثم يقتصر أيضاً من نوعه على الوسط كما اقتصر من قدره على الوسط، فنعم السعيد من قنع بقدر الكفاية من الجملة، ولكن النظر يختلف في قدر الكفاية إلى الوقت،

فرب إنسان هو فارغ القلب من قوت يومه، مشغول القلب بعده، وينتهي حرصه إلى أن يقدّر لنفسه عمراً طويلاً، ويريد أن يفرغ قلبه طول عمره. ثم قد يقدر له حوائج، فيطلب الاستظهار بالخزائن، وهو الضلال المحض. والمدّخر بالإضافة إلى المستقبل ثلاث درجات، وأدناها قوت يوم وليلة، وأعلاها ما يجاوز سنة، وأوسطها قوت سنة. وأرفع الدرجات درجة من لم يلتفت إلى غده، وقصر همته على يومه، ومن يومه على ساعته، ومن ساعته على نفسه، وقدر نفسه كل لحظة مرتحلاً من الدنيا مستعداً للارتحال. ومن لم يشتغل بهذا، أو كان فارغ القلب عن قوت سنة، فاشتغل بما وراءه كان من المطرودين المذكورين بقوله: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدُه) . وأما الملبس فكذلك فيه ثلاث درجات، فأدناها من حيث القدر ما يستر العورة، أو الجملة المعتاد سترها من أدنى الأنواع وأخشنها.

وبالإضافة إلى الوقت ما يبقى يوماً وليلة، كما نقل عن عمر رضي الله تعالى عنه، أونه رقع قميصه بورق شجر، فقيل له: هذا لا يبقى، فقال: " أو أحيا إلى أن يفنى ". وأوسطه ما يليق بمثل حاله، من غير تنعم وترفّه ولا ملبوس حرام كأبريسم غالب. وأعلاه جمع الثياب وطلب الترفه بها، على ما عليه جماهير أهل الدنيا. وأما المنكح، فإنه يزيد في حق من تاقت نفسه إلى الوقاع، ويحسبه تزيد الحاجة. وقد ذكرنا ما يحمد من المنكح وما يذمّ. وفيما ذكرناه مقنع. ومن ساعده من هذه الأمور قدر كفايته ثم اشتغل قلبه بغيره، كان مغبوناً بل معلوناً. قال عليه السلام: " من صبح آمناً في شربه، معافى في بدنه، وله قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ". وذلك لأن الدنيا بلاغ إلى الآخرة، وهذا القدر كاف في البلغة، فالباقي فضل على الكفاية وزيادة، ووجودها في حق العاقل كعدمها.

الوظيفة الرابعة: في الخرج والإنفاق. وكما للدخل وجه معين، فكذا الخرج فلا بد من مراعاة التركيب فيه، فالإنفاق محمود ومذموم كالأخذ، والمحمود منه ما يكسب صاحبه العدالة، وهو الصدقة المفروضة، والإنفاق على العيال. ومنه ما يكسب الجرية والفضيلة، وهو إيثار الغير على النفس، على الوجه المندوب إليه شرعاً. والمذموم ضربان: إفراط وتفريط. فالإفراط الإنفاق أكثر مما يجب، بحيث لا يحتمله حاله، فيما لا يجب، والإخلال بالهم، والصرف إلى ما دونه. والتفريط المنع عما يجب الصرف إليه، والنقصان من القدر الذي يليق بالحال. ومهما أخذ العبد المال من وجهه، ووضعه في وجهه، كان محموداً مأجوراً. فإن قلت: فمن وسع الله عليه المال، فأخذه وإنفاقه بالمعروف أولى، أو الإعراض عن أخذه؟ فاعلم أن الناس قد اختلفوا في هذا، فقالوا: الناس ثلاثة أصناف، صنف هم المنهمكون في الدنيا بلا التفاف إلى العقبى، إلا باللسان وحديث النفس وهم الأكثرون. وقد سموا في كتاب الله عبدة الطاغوت

وشرّ الدواب ونحوها. وصنف مخالفون لهم غاية المخالفة، اعتكفوا بكنه هممهم على العقبى، ولم يلتفتوا أصلاً إلى الدنيا، وهم النساك. وصنف ثالث متوسطون، وفوا الدارين حقهما، وهم الأفضلون عند المحققين، لأن بهم قوام أسباب الدنيا والآخرة، ومنهم عامة الأنبياء عليهم السلام، إذ بعضهم الله عز وجل، لإقامة مصالح العباد في المعاش والمعاد. وقيل ثلاثتهم المراد بقوله تعالى: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً، فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَة، وَأَصْحَابُ المشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ المشْأَمَةِ، والسَّابِقُونَ السَّابِقُون) . فالمراعي للدنيا والدين، كما يجب وعلى ما يجب، جامعاً بينهما، خليفة الله في أرضه، فهو السابق عند قوم. فإن قلت فقد قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدونَ) ، فاعلم أن مراعاة مصالح العباد من جملة العبادة، بل هي أفضل العبادات. قال عليه السلام: " الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ".

فإن قلت: فقد قال بعض المحققين: الناس ثلاثة، رجل شغله معاده عن معاشه، فهو من الفائزين، ورجل شغله معاشه عن معاده، فهو من الهالكين، ورجل مشتغل بهما، وذلك درجة المخاطرين، والفائز أحسن حالاً من المخاطر، فاعلم أن فيه سراً، وهو أن المنازل الرفيعة لا تنال إلا باقتحام الأخطار. وإنما هذا الكلام ذكر تحذيراً وتنبيهاً على خطر الخلافة لله تعالى في أمر عباده، حتى لا يترشح لها من لا يقدر عليها. وقد حكي أن بعض أولاد الملوك العادلة عظمت رتبته في العلم والحكمة، فاعتزل الناس وزهد في الدنيا، فكتب إليه بعض الملوك: قد اعتزلت ما نحن فيه، فإن علمت إن ما اخترته أفضل، فعرفنا لنذر ما نحن فيه، ولا تحسبني أقبل منك قولاً بلا حجة. فكتب إليه: إعلم إنا عبيد لرب رحيم، بعثنا إلى حرب عدو، وعرفنا أن المقصد من ذلك قهره أو السلامة منه. فلما قربنا من الزحف، صرنا ثلاثة أقسام: متخوف طلب السلامة منه، فاعتزل عنه، فالتزم ترك الملامة وإن لم يكتسب المحمدة، ومتهور قدم على غير بصيرة، فجرحه العدو وقهره واستجلب بذلك سخط ربه،

وشجاع أقبل على بصيرة فقاتل وأبلى واجتهد، فهو الفائز التام الفوز. وإني لما وجدتني ضعيفاً، رضيت بأدنى الهمتين وأدون المنزلتين. فكن أيها الملك من أفضل الطوائف، تكن من أكرمهم عند الله، وهذا الكلام يكشف عن حقيقة الأمر فيه، وينبّهعلى صحة ذلك قوله تعالى: (وَابْتَغ فِيما آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ) . وإنما يمكن الإحسان بإدخال السرور على قلوب المسلمين بالمال، ولكن الخطر فيه عظيم، فإنه ربما يشتغل من ضعفت بصيرته بما فيه ضرره من حيث لا يدري، فلخطره وجبت المبالغة في الزجر عنه. الوظيفة الخامسة: أن تكون نيته صالحة في الأخذ والترك، فيأخذ ما يأخذه ليستعين به على العبادة ويأكل ليتقوى به على العبادة، ويترك ما يترك زهداً فيه واستحقاراً له، فقد قال عليه السلام: " من طلب رزقه على ما سنّ فهو جهاد "، وقال عليه السلام لابن مسعود: "

إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى اللقمة يضعها في فم امرأته ". وأراد بالمؤمن من يعرف حقائق الأمور، فيقصد بما يتعاطاه وجه الله والاستعانة على سلوك طريقه. وعند هذا يتبين أنه ليس الزاهد من لا مال له، بل الزاهد من ليس مشغولاً بالمال، وإن كان له أموال العالمين. ولذلك قال الإمام علي رضي الله عنه: " إن رجلاً أخذ جميع ما في الأرض، وأراد به وجه الله فليس براغب ". فليكن جميع حركاتك وسكناتك لله، بأن تكون حركتك مقصورة على عبادة، أو على ما يعين على عبادة، ولا يستغني العباد عنه، كالأكل وقضاء الحاجة مثلاً، فإنهما معينان على العبادة، وهما أبعد الحركات عن العبادة. وعند هذا يكون الكامل النفس في تناول الدنيا كالراقي الحاذق في مسّ الحية متقياً سمّها ومستخرجاً جوهرها، والعامي إذا تشبه به، ونظر إليه ظن أنه أخذها مستحسناً شكلها وصورتها، مستليناً مسها، مستصحباً إياها، فإذا ظن ذلك أخذها، وتقلدها فقتلته. وقد شبهت الدنيا بها، فقيل: الدنيا كحية تنفث السموم النواقع، وإن لان ملمسها. وكما يستحيل أن يتشبه الأعمى بالبصير في تخطي قلل الجبال وأطراف البحار والطرق المشوكة، فمحال أن يتشبّه

العامي بالكامل في تناول الدنيا. وإذا تؤمل ملك سليمان وما أوتي مع رتبة النبوة، علم أن الزهد زهد النفس، لا خلو اليد. وكيف تضّر الدنيا بالأنبياء والأولياء، وهم يعرفون ضرها ونفعها ورتبتها في الوجود، ويعلمون أن للإنسان في وجوده ثلاث منازل: منزلة في بطن أمه، ومنزلة في فضاء العالم، ومنزلة بعد الموت. والدنيا في مثال رباط بني، وينتهي إلى المسافر في المنزل الأوسط، وقد هيئت فيه أسباب وأوان وأقوات ليستعين بها المسافر، وينتفع بها انتفاعه بالعارية والمنحة، ويخليها لمن يلتحق بعده، فيأخذها بشكر ويتركها بانشراح صدر. وقد انتهى إلى الرباط جماعة من الحمقى فظنواأن هذا المنزل وطن، وإلا هذه الأسباب ليست عارية وإنما هي موهبة مؤبدة، فصاروا لا يخرجونها من أيديهم إلا بكسر اليد ونزع الروح. وقيل إن مثل الناس فيما أعطوا من الدنيا كمثل رجل هيأ داراً، وهو يدعو أقواماً إلى داره على الترتيب، واحداً بعد واحد، فأدخل واحداً داره، فقدم إليه طبق ذهب، عليه بخور ورياحين ليشمه ويتركه لمن يلحقه، لا ليتملكه، فجهل رسمه فظنّ أنه وهب له، فلما استرجع منه، ضجر وتفجع. ومن كان عالماً انتفع به، وشكره وردّه بانشراح صدر فهذه وظائف المباشرة لأموال الدنيا.

بيان الطريق في نفي الغم في الدنيا مهما كان الإنسان آمناً في سربه، معافى في بدنه، وله قوت يومه، فحزنه وغمه بسبب أمر الدنيا أمارة نقصانه وحماقته، فإن غمه ليس يخلو إما أن يكون تأسفاً على ماضٍ، أو خوفاً من مستقبل، أو حزناً على سبب حاضر في الحال. فإن كان على فائت فالعاقل بصير بأن الجزع لا ما فات لا يلم شعثاً، ولا يرم انتكث. وما لا حيلة له، فالغم عليه خرق. ولذلك قال تعالى: (ِلَكْيلا تَأسُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) . وقال الشاعر: وهل جزع مجد عليّ فأجزعا. وإن كان حاضر، فأما أن يكون حسداً لوصول نعمة إلى من يعرفه، أو يكون حزناً للفقر، وفقدان المال والجاه، وأسباب الدنيا. وسبب هذا الجهل بغوائل الدنيا وسمومها، ولو عرفها معرفتها لشكر الله تعالى على كونه من المخففين، دون المثقلين.

ولو فكّر العاشق في منتهى حسن الذي يعشقه، لم يعشقه، إذ يعلم أن الدنيا حمالة المصائب، كدرة المشارب، تورث للبرية أنواع البلية، مع كل لقمة غصمة، فما أحد فيها، إلا وهو في كل حال غرض لأسهم ثلاثة، سهم نقمة وسهم رزية وسهم منية: تناضِلهُ الأوقاتِ مِنْ كلِّ جَانبٍ ... فَتخطئهُ طَوراً وطَوراً تصيبهُ فمن كان معتبراً بما يتجدد كل يوم من ارتجاع النعم من أربابها، وحلول القوارع بأصحابها، وشدة اغتمامهم بفقدها، لم يتأسف على فواتها. ولذلك قيل لبعضهم: لم لا تغتم؟ قال: لأني لا أقتني ما يغمني فقده. ومهما أمعن الإنسان فكره في غفلة أرباب الدنيا عن الآخرة وكثرة مصائبهم فيها، تسلى عنها، وهان عليه تركها. وكان بعض الصوفية وظّف على نفسه كل يوم أن يحضر دار المرضى " أي البيمارستان " ليشاهدهم، ويشاهد عللهم ومنحهم، ويحضر حبس السلطان أيضاً، ويشاهد أرباب الجنايات ومجيئهم لإقامة العقوبات، وأيضاً يحضر المقابر، فيشاهد أرباب العزاء وسفهم على

ما لا ينفع، مع اشتغال الموتى بما هم فيه، كان يعود إلى بيته بالشكر طول النهار على نعم الله عليه في تخليصه من كل البلايا. وحق للإنسان في الدنيا أن ينظر أبداً ما عاش إلى من هو دونه، ليشكر، وفي الدين إلى من هو فوقه، ليشمّر. والشيطان إذا استولى نكس هذا النظر وعكسه. فإذا قيل له: لمَ تتعاطى هذا الفعل القبيح؟ اعتذر بأن بلاناً يتعاطى ما هو أكبر منه، مع أنه ليس في المعصية، ولا في الكفر مناظرة. وإذا قيل له: لما لا تقنع بهذا الموجود؟ فيقول: فلان أغنى مني، فلم أصبر على ما ليس يصبر عنه؟ وهذا عين الضلال والجهل المحض. ومهما التقى الهم بهذا العائق، بطل غمّ الحسد. فمن أنعم الله عليه بنعمة، فإن كان يستحقها، لم يغتم به وإن كان لا يستحقها، فوبالها عليه أكثر من نفعها. فأما إن كان الغم في الأمر المستقبل، فإن كان على أمر ممتنع كونه أو واجب كونه، مثل الموت فعلاجه محال. وإن كان ممكناً كونه نظر، فإن كان لا يقبل الدفع، كالموت قبل الهرم، فالحزن له حماقة.

وإن كان قابلاً للدفع، فلا معنى للغم، بل ينبغي أن يحتال الدفعبعقل غير مشوب بحزن. فإذا فعل ما قدر عليه، من تمهيد حيل الدفع، بقي ساكن القلب، منظراً لقضاء الله وقدره عالماً بأنه لا مرد لما قضاه، فيتلقاه بصبر، إن لم يندفع ويتحقق إن ما قدر فهو كائن. ويتذكر قوله تعالى: (ما أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ في الأرض وَلا في أَنْسِكُمْ إلا في كتابٍ مِنْ قَبْل أن نَبْرأهَا) الآية. وإنما حرض الناس على تهيئة أسباب الدنيا، منشأه الغرور وحسن الظن بانحسار الآفات وتقدم صفاء الأوقات، وهيهات، ثم هيهات! قال الإمام علي، رضي الله عنه: " ما قال الناس لقوم طوبى لكم، إلا وقد خبأهم الدهر ليوم سوء ". وصدق الشاعر، فيما قال: إنّ الليالي لم تُحسنْ إلى أحَدٍ ... إلاّ أسَاءَتْ إليهِ بَعْدَ إحْسَانِ وما قصر أبو منصور الثعالبي في وصف الدنيا، حيث قال: تَسَلِّ الدّنيا وَلاَ تَخطبنّها ... ولا تخطبنّ قتاله من تناكَح فليسَ يفي مرجوّهاً بمخوفها ... ومكروهها لما تدبَّرت راجح لقد قالَ فيها الواصِفونَ فأكثروا ... وَعندِي لَها وصفٌ لعمري صالح سلاف قصاراه زعاف، ومركب ... شهي، إذا استلذذته فهو جامح وشخصٌ جميلُ يونقُ الناس حسنهُ، ... ولكن له أسرار سوء قبائح فالعاقل، إذا أمعن النظر في هذه الأمور، خفّ على قلبه أكثر الغموم، إلا إذا كانت العلاقة قد استحكمت بينه وبين معشوق،

من آدمي أو مال أو عقار، أو حرفة، أو رياسة أو ولاية، أو امر من الأمور، فلا خلاص له عن غمومها، إلا بعد قطع العلائق عنها. ولا يمكن ذلك إلا بكفّ النفس عنها تدريجياً، والاشتغال بغيرها، وإن كان ذلك الغير أيضاً مما يجانسها في وجوب التباعد عنه، ولكن لا بأس بغسل الدم بالدم، إذا كان الأول أشد لصوقاً والتزاقاً، وهذه من دقائق الرياضيات، فإن النزوع عما وقع الألف به دفعة واحدة عسر، بل ممتنع. ولذلك يرقى الصبي الذي يعلم الأدب بالترغيب في اللعب بالصولجان والطيور، ثم يكفّ عن اللعب بالترغيب في الثروة والمال، والتزيين بالثياب الجميلة وغيرها، ثم يرقيه من ذلك بالترغيب في المحمدة والثناء، ونيل الكرامة والرئاسة، ثم يرقيه بالترغيب في سعادة الآخرة، ويكون الرئاسة آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين. ولقد كانت هذه المعالجة بأمور محذورة في نفسها، ولكن مطلوبة بالإضافة إلى ما هو شرّ منها، وكأنها منازل وأطوار الآدمي يرتقي فيها واحداً، ولا يمكن الخلاص إلا بهذا التدريج، فليراع ذلك في كل صفة استولت على النفس، واشتدت علاقتها، وبقطع العلائق تمحّى الغموم.

بيان نفي الخوف من الموت للإنسان حالتان، حالة قبل الموت، وحالة بعد الموت. أما قبل الموت، فينبغي أن يكون الإنسان فيها دائم الذكر للموت، كما قال عليه السلام: " أكثروا من ذكر هازم اللذات، فإنه ما ذكره أحد في ضيق إلا وسعه عليه، ولا في سعة إلا ضيقها عليه ". والناس فيها قسمان: غافل وهو الأحمق الحقيقي الذي لا يتفكر في الموت وما بعده إلا نظراً، في حال أولاده وتركاته عند موته، ولا ينظر ويتدبر في أحوال نفسه، ولكن لا يتذكر إلا إذا رأى جنازة فيقول بلسانه: (إنا لله وَإِنَّا إِليهِ راجِعُون) ، ولا يرجع إلى الله عز وجل بأفعاله إلا بأقواله، فيكون كاذباً في أقواله تحقيقاً. وأما العاقل الكيس فلا يفارقه ذكر الموت، كالمسافر إلى مقصد الحاج مثلاً، فإنه لا يفارقه ذكر المقصد، وأشغال المنازل في الحط والترحال لا تنسيه مقصوده. وعلى الجملة، فذكر الموت يطرد فضول الأمل، ويكف غرب المنى، فتهون المصائب ويحول بين الإنسان وبين الطغيان.

ومن ذكر الموت، تتولد القناعة بما رزق والمبادرة إلى التوبة، وترك المحاسدة والحرص على الدنيا والنشاط في العبادة، وينبغي أن يكون المتراخي عن عبادته، ألا يصبح يوماً إلا ويقدّر أنه سيموت تقديراً للموت العاجل، فإنه ممكن. ومهما قدّر الموت بعد سنين، لم يحرص على العبادة، ولم تفتر رغبته في الدنيا، بل لا ينبغي أن يهمل نفسه أكثر من يوم، فيصبح كل يوم على تقدير الاستعداد للرحلة نهاراً. فكل من ينتظر أن يدعوه ملك من الملوك كل ساعة، فينبغي أن يكون مستعداً للإجابة، فإن لم يكن فربما يأتيه الرسول، وهو غافل فيحرم عن السعادة. وما من وقت، إلا ويرى فيه الموت ممكناً، فإن قلت: الموت فجأة بعيد، قلت: فإذا وقع المرض، فالموت غير بعيد. وذلك يمكن في أقل من يوم، ولا يكون بعيداً. وأما الاغتمام لأجل الموت، فليس من العقل أيضاً، فإن ذلك الغم لا يخلو من أربعة أوجه: إما لشهوة بطنه وفرجه، وإما على ما يخلّفه من ماله، وإما على جهله بحاله بعد الموت وماله، وإما لخوفه على ما قدّمه من عصيانه. فإن كان ذلك لشهوة بطنه وفرجه، فهو كمشتهي داء ليقابله بداء مثله، فإن معنى لذة الطعام إزالة ألم الجوع، ولذلك إذا

زال الجوع وامتلأت المعدة، كره عين ما اشتهاه، كمن يشتهي القعود في الشمس ليناله الحر، حتى يتلذذ بالرجوع إلى الظل، وكن يشتهي الحبس في حمام حار، ليدرك لذة ماء الثلج، إذا شربه، وهو عين الرقاعة والخرق. وإن كان ذلك على ما يخالفه من ماله، فهو بجهله بخساسة الدنيا وحقارتها، بالإضافة إلى الملك الكبير والنعيم المقيم الموعود للمتقين. وإن كان ذلك لجهله بعاقبة أمره بعد الموت، فعليه أن يطلب العلم الحقيقي، الذي يكشف له حال الإنسان بعد موته، كما قال حارثة للنبي صلى الله عليه وسلم: " كأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتلا عنون فيها "، وهذا العلم إنما يحصل بالبحث عن حقيقة النفس وماهيتها، ووجه علاقتها بالبدن، ووجه خاصيتها التي خلقت لها، ووجه التذاذه بخاصيته وكماله، مع معرفة الرذائل المانعة له من كماله، وقد نبه الشرع عليه في مواضع كثيرة، وأمر بالتفكر في النفس، كما أمر بالتفكر في ملكوت السموات والأرض. وإن كان ذلك لما سبق من عصيانه، فلا ينفع الغم فيه، بل المداواة، وهو المبادرة إلى التوبة وإصلاح ما فرط من أمره، بل مثاله في الاغتمام وترك التدارك مثل من فتح عرق من عروقه، وقد خرج بعض دمه، وهو قادر على تعصيبه وحفظ حشاشه،

فأهمله وجلس متأسفاً على خروج ما خرج من دمه. وذلك أيضاً من الحماقة فإن الفائت لا تدارك له، ولا ينفع فه التأسف، فليشتغل بالمستقبل. الحالة الثانية حال الإنسان عند الموت، والناس عنده ثلاثة أقسام: الأول ذو بصيرة، علم أن الموت يعتقه، والحياة تسترقه، وإن الإنسان، وإن طال في الدنيا مكثه، فهو كخطفه برق، لمعت في أكناف السماء، ثم عادت للاختفاء. فلا يثقل عليه الخروج من الدنيا، إلا بقدر ما يفوت من خدمة ربه، عز وجل، والازدياد من تقربه والاشفاق مما يقول أو يقال له. كما قال بعضهم، لما قيل له: لم تجزع؟ قال: لأني أسلك طريقاً لم أعهده، وأقدم على رب لم أره ولا أدري ما أقول وما يقال لي. ومثل هذا الشخص لا ينفر من الموت بل إذا عجز عن زيادة العبادة ربما اشتاق إليه. وقال بعضهم في مناجاته: إلهي إن سألتك الحياة في دار الممات فقد رغبت في البعد عنك وزهدت في القرب منك. فقد قال نبيك وصفيك صلى الله عليه وسلم: " من حب لقاء الله أحب الله لقاءه

ومن كره لقاء الله فقد كره الله لقاءه ". والثاني رجل رديء البصيرة متلطخ السريرة منهمك في الدنيا منغمس في علائقها، رضي بالحياة الدنيا وطمئن بها ويئس من الدار الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور. فإذا خرج إلى دار الخلود أضر به كما تضر رياح الورد بالجعل. وإذا خرج من قاذورات الدنيا لم يوافقه عالم العلاء ومصباح الملأ الأعلى فكان كما قال الله تعالى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذه أَعْمَى فَهُوَ في الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلّ سَبِيلاً) ، فإن الدنيا سجن الأول وجنة الثاني. والأول كعبد دعاه مولاه فأجابه طوعاً فقدم عليه مسروراً يتوفره على الخدمة، والثاني كعبد آبق رد إلى مولاه مأسوراً وقيد إلى حضرته مقهوراً، فيبقى ناكس الرأس بين يدي مولاه مختزياً من جنايته، وشتان ما بين الحالين. والقسم الثالث رتبة بين الرتبتين: رجل عرف غوائل هذا العالم وكره صحبته ولكن أنس به وألفه، فسبيله سبيل من ألف بيتاً مظلماً قذراً ولم ير غيره. فهو يكره الخروج منه وإن كان قد كره دخوله. فإذا خرج رأى ما أعد الله للصالحين لم يتأسف على

ما كره فواته بل قال: (الحَمْدُ للهِ الّذي أَذْهَبَ عَنّا الحُزْنَ إنّ رَبّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، الّذي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) . ولا يبعد أن يكره الإنسان مفارقة شيء ثم إذا فارقه لا يتأسف عليه، فالصبي وقت الولادة يبكي لما يناله من ألم الانتقال، ثم إذا عقل لم يتمن العود إليه. والموت ولادة ثانية يستفاد بها كما لم يكن قبل، بشرط أن لا يكون قد تقدم ذلك الكمال من الآفات والعوارض ما أبطل قبول المحل للكمال، كما أن الولادة سبب لكمال مغبوط لم يكن عند الاجتنان، بشرط أن لا يكون قد تمكن في رحم الأم من الأسباب والعلل والعوارض ما منع قبول الكمال، ولكون الموت سبب كمال قال بعضهم: ينبغي أن يكون دعاؤنا لعزرائيل عليه السلام وشكرنا له مثل دعاؤنا لجبرائيل وميكائيل وإسرافيل. فإن جبرائيل وميكائيل هما سببان لا علامنا بما فيه خلاصنا من الدنيا ونجاتنا في الآخرة، وذلك بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم، وملك الموت سبب إخراجنا إلى ذلك العالم فحقه عظيم وشكره لازم، وقد حكي عن طائفة من حكماء الأمم السابقة أنهم كانوا

يعظمون رجلاً بالتقديس والتسبيح من حيث اعتقدوا أنه لا يعين على الحياة العرضية، بل هو سبب للهلاك الذي به الخلاص من هذه الدنيا الدنية. بيان علامة المنزل الأول من منازل السائرين إلى الله تعالى: اعلم أن سالك سبيل الله تعالى قليل، والمدعي فيه كثير. ونحن نعرفك علامتين تجعلهما أمام عينيك، وتعتبر بهما نفسك وغيرك. فالعلامة الأولى أن يكون جميع أفعاله الاختيارية موزونة بميزان الشرع، موقوفة على حد توقيفاته، إيراداً وإصداراً، وإقداماً وإحجاماً. إذ لا يمكن سلوك هذا السبيل، إلا بعد التلبس بمكارم الشريعة، كلها ولا يمكن ذلك إلا بعد تهذيب الأخلاق، كما وصفنا من قبل. ولا يتوصل إلى ذلك إلا إذا ترك جملة من المباحات، فكيف يتأتى لمن لم يهجر المحظورات؟ ولا يتوصل إلى ذلك إلا إذا ترك جملة من المباحات، فكيف يتأتى لمن لم يهجر المحظورات؟ ولا يتوصل إليه، ما لم يواظب على جملة من النوافل، فكيف يصل إليه من أهمل الفرائض؟ بل الشرع في تكليفه العالم، اقتصر على فرائض ومحظورات يشترك فيها عوام الناس، بحيث لا يؤدي الاشتغال بها إلى خراب العالم. والسالك في سبيل الله يعرض عن الدنيا إعراضاً، لو ساواه الناس

كلهم، لخرب العالم، فكيف ينال بمجرد الفرائض والواجبات، اقتصاراً عليها دون النوافل؟ ولذلك قال تعالى: (لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً فبي يسمع وبي يبصر) ، وعلى الجملة لا يدعو إلى إهمال الفرائض، واقتحام المحظورات، إلا كسل لازب، أو هوى غالب. وكيف يسلك سبيل الله من هو يعد في إسراء الكسل والهوى؟ فإذا قلت: فسالك سبيل الله من خاض في مجاهدة الكسل والهوى، فأما من فرغ من قهرها، فهو واصل لا سالك، فيقال: هذا عين الغرور وجهل بالطريق والمقصد جميعاً، بل لو محا جميع الصفات الردية عن نفسه، كان نسبته إلى المقصود نسبة من يقصد الحج، وله غرماء متشبثون بأذياله، فقضى ديونهم وقطع علائقهم. فإن الصفات البدنية المستولية على الناس، مثل الغرماء الآخذين بمخنقه، والسباع العادية الطالبة لأقواتها، فإذا محاها ودفعها، فقد دفع العلائق وبعده يستعد لابتداء السلوك. بل هو كمعتدة تطمع أن ينكحها الخليفة فإذا قضت عدتها المانعة من صحة النكاح، ظنت أن الأمور قد نمت. وهيهات، فلم يحصل منها إلا الاستعداد للقبول بدفع المانع، وبقي إقبال الخليفة وإنعامه بالرغبة، وذلك رزق إلهي. فما كل من تطهّر وصل إلى الجمعة، ولا كل من قضت عدتها وصلت إلى ما أرادت. فإن قلت: فإن تنتهي رتبة السالك إلى حد ينحط عنه بعض وظائف العبادات، ولا يضره بعض المحظورات، كما نقل عن بعض

المشايخ من التساهل في هذه الأمور؟ فاعلم أن هذا عين الغرور، وأن المحققين قالوا: لو رأيت إنساناً يمشي على الماء، وهو يتعاطى أمراً يخالف الشرع، فاعلم أنه شيطان، وهو الحق. وذلك أن الشريعة حنيفية سمحة، فمهما مسّت حاجة أو حصلت ضرورة، كان للشرع فيها رخصة. فمن جاوز محل الرخصة، فلا يكون عن ضرورة، بل عن هوى وشهوة. والإنسان ما دام في هذا العالم، لا يؤمن استيلاء الشهوة ودعودها إلى القهر، بعد الإنقهار. فينبغي أن يأخذ منها حذره، فلا يتصور أن يدعو إلى مخالفة الشرع إلا طلب رفاهية ودعة، أو نوع شهوة، أو نوع كسل. وكل ذلك يدل على التصمغ بالأخلاق الردية، المتقاضية لها. فمن زكى نفسه وغذاها بغذاء العلوم الحقيقية، قوي في المواظبة على العبادة بل صارت الصلاة قرة عينه، فصارت خلوة الليل أطيب الأشياء عنده لمناجاة ربه. فهذه العلامة لا بد منها في أول المنازل، وتبقى إلى آخرها، وإن لم يكن لمنازل السير إلى الله تعالى نهاية، وإنما الموت يقطع طريق السلوك، فيبقى كل إنسان بعد الموت على الرتبة التي حصّلها في مدة الحياة، إذ يموت المرء على ما عاش عليه. العلامة الثانية: أن يكون حاضر القلب مع الله، في كل حال حضوراً ضرورياً غير متكلف، بل حضوراً يعظم تلذذه، وأن يكون الحضور إنكسارأ وضراعة وخضوعاً، لما انكشف عنده

من جلال الله وبهائه، ولا يفارق ذلك في أطواره وأحواله، وإن اشتغل بضروريات بدنه من تناول طعام، وقضاء حاجة، وغسل ثوب، وغيره. بل يكون مثاله في جميع الأحوال مثال عاشق، سهر في انتظار معشوقه مدة، وتعب فيه زماناً، ثم قدم عليه معشوقه فاستبشر به، فاستولى عليه قضاء حاجته فلزمه ضرورة مفارقته، وقصد بيت الماء، فيفارقه ببدنه مضطراً، والقلب حاضراً عنده حضوراً، لو خوطب في أثناء ما هو فيه لم يسمعه لشدة استغراق فكره بمعشوقه، ولا يكون ما هو فيه صارفاً عن قرّة عينه، وهو مكره فيه. فالسالك ينبغي أن يكون كذلك في أشغاله الدنيوية، بل لا يكون له شغل سوى ضروريات بدنه، وهو في ذلك مصروف القلب إلى الله عز وجل، مع غاية الإجلال والتواضع، وإذا لم يبعد أن تتحرك شهوة الجماع تحريكاً هذه صفته عند من استولى عليه الشهوة، ووقع في عينه جمال صورة آدمي، خلقت من نطفة قذرة مذرة، ويصير على القرب جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك يحمل العَذرة، فكيف يتعذر ذلك في إدراك جلال الله وجماله الذي لا نهاية له؟ وعلى الجملة، فلا يتم سلوك هذا الطريق إلا بحرص شديد، وإرادة تامة، وطلب بليغ. ومبدأ الحرص والطلب إدراك جمال المطلوب، الموجب للشوق والعشق، ومبدأ درك جمال المطلوب النظر وتحديق بصر العين نحوه إعراضاً عن سائر المبصرات.

فكذلك، بقدر ما يلوع لك من جلال الله عز وجل، ينبعث شوقك وحرصك، وبحسبه يكون سعيك وانبعاثك. ثم قد يزداد العشق بطول الصحبة إذا كان يلوح في أثنائها محاسن أخلاق كانت خفية من قبل، فيتضاعف العشق، فكذلك ما يلوح من بهاء الحضرة الآلهية وجلالها في أول الأمر، ربما كان ضعيفاً بضعف إدراك المريد المبتدئ، ولكن ينبعث منه طلب وشوق، فلا يزال يواظب على الفكر في ذلك الجمال بسببه، فيطلع على مزايا، فيتضاعف في كل وقت عشقه. وكما يطلب العاشق القرب من معشوقه، فكذا المريد يطلب القرب من الله تعالى، لا أن ذلك بقرب بمكان أو بتماس سطوح الأجسام، أو بكمال جمال صورة بأن يصير مبصراً حاضراً في القوة الباصرة صورته. وهذا القرب قرب الكمال لا في المكان، والأمثلة لا تخيل من هذه المعاني إلا شيئاً بعيداً. ولكن تشبيه ذلك بعشق التلميذ استاذه، وطلبه القرب منه في كماله أصدق في التخيل، فإنه يتقرب إليه بحركته في التعلم، ولا يزال يقرب منه قليلاً قليلاً، وغايته رتبته، وقد يكون ذلك ممكناً، وقد يكون في بعض الأحوال متعذراً، ولكن الترقي من الرتبة التي هو بسببها في البعد ممكن، فيزداد قرباً بالنسبة، والبلوغ ههنا غير ممكن. ولكن السفر عن أسفل السافلين، بقصد جهة العلو ممكن. وقد يكون الممثل في عين التلميذ رتبة مقيدة، لا أنه يتلبس بعشق رتبة أستاذه، ولكن يشتاق إلى الترقي درجة درجة، فلا

يتشوق إلى الأقصى دفعة، فإذا نال تلك الرتبة طمحت عينه إلى ما فوقها. فكذلك من ليس عالماً، ينبغي له التشبه بالعلماء، الذين هم ورثة الأنبياء. والعلماء يتشبهون بالأولياء، والأنبياء بالملائكة، حتى تمحى عنهم الصفات البشرية بالكلية، فينقلبون ملائكة في صورة الناس. والملائكة أيضاً لهم مراتب، والأعلى مرتبة معشوق الأدنى ومطمح نظره، والملائكة المقربون هم الذين ليس بينهم وبين الأول الحق واسطة، ولهم الجمال الأطهر والبهاء الأتم، بالنسبة إلى من دونهم من الموجودات الكاملة البهية. ثم كل كمال بالنظر إلى جمال الحضرة الربوبية مستحقر، فهكذا ينبغي أن يعتقد التقرب إلى الله عز وجل، لا بأن تقدره في بيت في الجنة، فتقرب من باب البيت، فيكون قربك بالمكان، تعالى عنه رب الأرباب، ولا بأن تهدي إليه هدية بعبادتك، فيفرح بها ويهتز لها فيرضى عنك، كما يتقرب إلى الملوك، بطلب رضاهم وتحصيل أغراضهم، فيسمى ذلك تقرباً، تعالى الله وتقدس عن المعنى الذي يتصف الملوك به، من السخط والرضى، والابتهاج بالخدمة، والاهتزاز للخضوع، والانقياد والفرح بالمتابعة. واعتقاد جميع ذلك جهل. فإن قلت: فقد اعتقد أكثر العوام ذلك، فما أبعد عن التحصيل من يطلب العنبر من دكان الدبّاغ،

وكيف تطمع في رتبة، وأنت تعرف الحق بالرجال، بل، ت تعرف الحق بالحمر! فلا فرق بين العوام الذين لم يمارسوا العلوم، وبين حمر مستنفرة، فرت من قسورة. أما تراهم كيف اعتقدوا في الله تعالى أنه جالس على العرش تحت مظلة خضراء، إلى تمام ما اعتقدوه في المشتبهات. فأكثر الناس مشبّهة، ولكن التشبيه درجات. منهم من يشبه في الصورة، فيثبت اليد والعين والنزول والانتقال. ومنهم من يثبت السخط والرضى، والغضب والسرور، والله تعالى مقدس عن جميع ذلك. وإنما أطلقت هذه الألفاظ في الشرع على سبيل وبتأويل، يفهمها من يفهمها، وينكرها من ينكرها، ولو تساوى الناس في الفهم لبطل قوله عليه السلام: " رب حامل فقه إلى من أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه "، ولنتجاوز هذا الكلام، فإنه سلسلة المجانين ويحل قيود الشيطان. بيان معنى المذهب واختلاف الناس فيه لعلك تقول كلامك في هذا الكتاب إنقسم إلى ما يطابق مذهب الأشعرية وبعض المتكلمين، ولا يفهم الكلام إلا على مذهب واحد، فما الحق من هذه المذاهب؟

فإن كان الكل حقاً فكيف يتصور هذا، وإن كان بعضه حقاً فما ذلك الحق؟ فيقال لك إذا عرفت حقيقة المذهب لا تنفعك قط، إذا الناس فيه فريقان: فريق يقول المذهب اسم مشترك لثلاث مراتب: إحداها ما يتعصب له في المباهاة والمناظرات، والأخرى ما يسار به في التعليمات والإرشادات، والثالث، ما يعتقده الإنسان في نفسه، مما انكشف له من النظريات. ولكل كامل ثلاثة مذاهب بهذا الاعتبار. فأما المذهب بالاعتبار الأول، فهو نمط الآباء والأجداد، ومذهب المعلم ومذهب أهل البلد، الذي فيه النشوء. وذلك يختلف بالبلاد والأقطار، ويختلف بالعلمين. فمن ولد في بلد المعتزلة أو الأشعرية أو الشفعوية أو الحنفية، انغرس في نفسه منذ صباه التعصب له والذبّ دونه والذم لما سواه. فيقال: هو أشعري المذهب أو معتزلي أو شفعوي أو حنفي، ومعناه أنه يتعصب، أي ينصر عصابة المتظاهرين بالموالاة، ويجري ذلك مجرى تناصر القبيلة بعضهم لبعض. ومبدأ هذا التعصب حرص جماعة على طلب الرياسة باستتباع العوام، ولا تنبعث دواعي العوام إلا بجامع يحمل على التظاهر. فجعلت المذاهب في تفصيل الأديان جامعاً، فانقسمت الناس فرقاً وتحركت غوائل الحسد والمنافسة، فاشتد تعصّبهم واستحكم به تناصرهم،

وفي بعض البلاد لما اتحد المذهب وعجز طلاب الرئاسة عن الاستتباع، وضعوا أموراً وخيّلوا وجوب المخالفة فيها والتعصب لها، كالعلم الأسود والعلم الأحمر، فقال قوم الحق هو الأسود، وقال آخرون لا بل الأحمر، وانتظم مقصود الرؤساء في استتباع العوام بذلك القدر من المخالفة، وظن العوام أن ذلك مهم، وعرف الرؤساء الواضعون غرضهم في الوضع. المذهب الثاني ما ينطبق في الإرشاد والتعليم على من حاءه مستفيداً مسترشداً. وهذا لا يتعين على وجه واحد، بل يختلف بحسب المسترشد، فيناظر كل مسترشد بما يحتمله فهمه فإن وقع له مسترشد تركي أو هندي، أو رجل بليد جلف الطبع، وعلم أنه لو ذكر له أن الله تعالى ليس ذاته في مكان، وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه، لم يلبث أن ينكر وجود الله تعالى، ويكذب به. فينبغي أن يقرر عنده أن الله تعالى على العرش، وأنه يرضيه عبادة خلقه، ويفرح بها فيثيبهم ويدخلهم الجنة عوضاً وجزاء. وإن احتمل أن يذكر له ما هو الحق المبين يكشف له. فالمذهب بهذا الاعتبار يتغير ويختلف، ويكون مع كل واحد على حسب ما يحتمله فهمه.

المذهب الثالث ما يعتقده الرجل سراً بينه وبين الله عز وجل، لا يطلع عليه غير الله تعالى، ولا يذكره إلا مع من هو شريكه في الاطلاع على ما اطلع، أو بلغ رتبة يقبل الاطلاع عليه ويفهمه. وذلك أن يكون المسترشد ذكياً، ولم يكن قد رسخ في نفسه اعتقاد موروث نشأ عليه، وعلى التعصب له، ولم يكن قد انصبغ به قلبه انصباغاً، لا يمكن محوه منه. ويكون مثاله ككاغد: كتب عليه ما غاص فيه ولم يمكن إزالته إلا بحرق الكاغد وخرقه. فهذا رجل فسد مزاجه، ويئس من صلاحه، فإن كل ما يذكر له على خلاف ما سمعه لا يقنعه، بل يحرص على أن لا يقنع بما يذكر ويحتال في دفعه. ولو أصغى غاية الإصغاء، وانصرفت همته إلى الفهم، لكان يشكّ في فهمه، فكيف إذا كان غرضه أن يدفعه ولا يفهمه؟ فالسبيل مع مثل هذا أن يسكت عنه، ويترك على ما هو عليه، فليس هو بأول أعمى هلك بضلالته، فهذا طريق فريق من الناس. وأما الفريق الثاني، وهم الأكثرون، يقولون المذهب واحد، هو المعتقد، وهو الذي ينطق به تعليماً وإرشاداً مع كل آدمي، كيفما اختلفت حاله، وهو الذي يتعصّب له وهو إما مذهب الأشعري أو المعتزلي أو الكرامي،

أو أي مذهب من المذاهب. والأولون يوافقون هؤلاء على أنهم لو سئلوا عن المذهب أنه واحد أو ثلاثة لم يجز أن يذكر أنه ثلاثة، بل يجب ان يقال أنه واحد. وهذا يبطل تعبك بالسؤال عن المذهب، إن كنت عاقلاً، فإن الناس متفقون على النطق بأن المذهب واحد، ثم يتفقون على التعصب لمذهب أبيهم أو معلمهم، أو أهل بلدهم، ولو ذكر ذاكر مذهبه، فما منفعتك فيه ومذهب غيره يخالفه، وليس مع واحد منهم معجزة، يترجح بها جانبه. فجانب الالتفات إلى المذاهب، وأطلب الحق بطريق النظر، لتكون صاحب مذهب، ولا تكن في صورة أعمى تقلّداً قائداً يرشدك إلى طريق وحواليك ألف مثل قائدك ينادون عليك، بأنه أهلكك وأظلك عن سواء السبيل. وستعلم في عاقبة أمرك ظلم قائدك، فلا خلاص إلا في الاستقلال. خُذْ مَا تَراهُ وَدَعْ شَيْئاً سمعتَ به ... في طالعِ الشَمسِ مَا يُغنيكَ عَنْ زُحَل ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، لتنتدب للطلب، فناهيك به نفعاً، إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق. فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر، بقي في العمى والضلال. نعوذ بالله من ذلك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.