موافقات الشاطبي - الجزء الثاني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

2

5 بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كتاب المقاصد والمقاصد التي ينظر فيها قسمان أحدهما يرجع إلى قصد الشارع والآخر يرجع إلى قصد المكلف فالأول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء ومن جهة قصده في وضعها للإفهام ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها فهذه أربعة أنواع 6 ولنقدم قبل الشروع في المطلوب مقدمة كلامية مسلمة في هذا الموضع وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادا وليس هذا موضع ذلك وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة ألبتة كما أن أفعاله كذلك وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين ولما اضطر في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية أثبت ذلك على أن العلل بمعنى العلامات المعرفة للأحكام خاصة ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل وهو الأصل رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقال في أصل الخلقة وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون 7 الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى كقوله بعد آية الوضوء ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم وقال في الصيام كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون وفي الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال في القبلة فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة وفي الجهاد أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وفي القصاص ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب وفي التقرير على التوحيد ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين والمقصود التنبيه وإذا دل الإستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة ومن هذه الجملة ثبت القياس والإجتهاد فلنجر على مقتضاه ويبقى البحث في كون ذلك واجبا أو غير واجب موكولا إلى علمه فنقول والله المستعان 8 النوع الأول في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة وفيه مسائل المسألة الأولى تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام أحدها أن تكون ضرورية والثاني أن تكون حاجية والثالث أن تكون تحسينية فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين والحفظ لها يكون بأمرين أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها وذلك عبارة عن مراعتها من جانب الوجود والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان 9 والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات وما أشبه ذلك والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود وإلى حفظ النفس والعقل أيضا لكن بواسطة العادات والجنايات ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم والعبادات والعادات قد مثلت والمعاملات ما كان راجعا إلى مصلحة الإنسان مع غيره كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض بالعقد على الرقاب 10 أو المنافع أو الأبضاع والجنايات ما كان عائدا على ما تقدم بالإبطال فشرع فيها ما يدرأ ذلك الإبطال ويتلافى تلك المصالح كالقصاص والديات للنفس والحد للعقل وتضمين قيم الأموال للنسل والفطع والتضمين للمال وما أشبه ذلك ومجموع الضروريات خمسة وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملة وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب فإذا لم تراع دخل 11 على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات ففي العبادات كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر وفي العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا وما أشبه ذلك وفي المعاملات كالقراض والمساقاة والسلم وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات كثمرة الشجر ومال العبد وفي الجنايات كالحكم باللوث والتدمية والقسامة وضرب الدية على العاقلة وتضمين الصناع وما أشبه ذلك وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان ففي العبادات كإزالة النجاسة وبالجملة الطهارات كلها وستر العورة وأخذ الزينة والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات وأشباه ذلك وفي العادات كآداب الأكل والشرب ومجانبة المآكل النجاسات والمشارب المستخبثات والإسراف والاقتار في المتناولات وفي المعاملات كالمنع من بيع النجاسات وفضل الماء والكلأ وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة وسلب المرأة 12 منصب الإمامة وإنكاح نفسها وطلب العتق وتوابعه من الكتابة والتدبير وما أشبهها وفي الجنايات كمنع قتل الحر بالعبد أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد وقليل الأمثلة يدل على ما سواها مما هو في معناها فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين المسألة الثانية كل مرتبة من هذه المراتب ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة مما لو فرضنا فقده لم يخل بحكمتها الأصلية فأما الأولى فنحو التماثل في القصاص فإنه لا تدعو إليه ضرورة ولا تظهر فيه شدة حاجة ولكنه تكميلي وكذلك نفقة المثل وأجرة المثل وقراض المثل والمنع من النظر إلى الأجنبية وشرب قليل المسكر ومنع الربا والورع اللاحق في المتشابهات وإظهار شعائر الدين كصلاة الجماعة في الفرائض والسنن وصلاة الجمعة والقيام بالرهن والحميل والإشهاد في 13 البيع إذا قلنا إنه من الضروريات وأما الثانية فكاعتبار الكفء ومهر المثل في الصغيرة فإن ذلك كله لا تدعو إليه حاجة مثل الحاجة إلى أصل النكاح في الصغيرة وإن قلنا إن البيع من باب الحاجيات فالإشهاد والرهن والحميل من باب التكملة ومن ذلك الجمع بين الصلاتين في السفر الذي تقصر فيه الصلاة وجمع المريض الذي يخاف أن يغلب على عقله فهذا وأمثاله كالمكمل لهذه المرتبة إذ لو لم يشرع لم يخل بأصل التوسعة والتخفيف وأما الثالثة فكآداب الأحداث ومندوبات الطهارات وترك إبطال الأعمال المدخول فيها وإن كانت غير واجبة والإنفاق من طيبات المكاسب والإختيار في الضحايا والعقيقة والعتق وما أشبه ذلك ومن أمثلة هذه المسألة أن الحاجيات كالتتمة للضروريات وكذلك التحسينات كالتكملة للحاجيات فإن الضروريات هي أصل المصالح حسبما يأتي تفصيل ذلك بعد هذا إن شاء الله المسألة الثالثة كل تكملة فلها من حيث هي تكملة شرط وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها 14 فلا يصح اشتراطها عند ذلك لوجهين أحدهما أن في إبطال الأصل إبطال التكملة لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع الموصوف فإذا كان اعتبار الصفة يؤدي إلى ارتفاع الموصوف لزم من ذلك ارتفاع الصفة أيضا فاعتبار هذه التكملة على هذا الوجه مؤد إلى عدم اعتبارها وهذا محال لا يتصور وإذا لم يتصور لم تعتبر التكملة واعتبر الأصل من غيرمزيد والثاني أنا لو قدرنا تقديرا أن المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية لكان حصول الأصلية أولى لما بينهما من التفاوت وبيان ذلك أن حفظ المهجة مهم كلى وحفظ المروءات مستحسن فحرمت النجاسات حفظا للمروءات وإجراء لأهلها على محاسن العادات فإن دعت الضرورة إلى إحياء المهجة بتناول النجس كان تناوله أولى وكذلك أصل البيع ضروري ومنع الغرر والجهالة مكمل فلو اشترط نفي الغرر جملة لانحسم باب البيع وكذلك الإجارة ضرورية أو حاجية واشتراط حضور العوضين في المعاوضات من باب التكميلات ولما كان ذلك ممكنا في بيع الأعيان من غير عسر منع من بيع المعدوم إلا في السلم وذلك في الإجارات ممتنع فاشتراط وجود المنافع فيها وحضورها يسد باب المعاملة بها والإجارة محتاج 15 إليها فجازت وإن لم يحضر العوض أو لم يوجد ومثله جار في الإطلاع على العورات للمباضعة والمداواة وغيرهما وكذلك الجهاد مع ولاة الجور قال العلماء بجوازه قال مالك لو ترك ذلك لكان ضررا على المسلمين فالجهاد ضروري والوالي فيه ضروري والعدالة فيه مكملة للضرورة والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال لم يعتبر ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي وكذلك ما جاء من الأمر بالصلاة خلف الولاة السوء فإن في ترك ذلك ترك سنة الجماعة والجماعة من شعائر الدين المطلوبة والعدالة مكملة لذلك المطلوب ولا يبطل الأصل بالتكملة ومنه إتمام الأركان في الصلاة مكمل لضروراتها فإذا أدى طلبه إلى أن لا تصلي كالمريض غير القادر سقط المكمل أو كان في اتمامها حرج ارتفع الحرج عمن لم يكمل وصلى على حسب ما أوسعته الرخصة وستر العورة من باب محاسن 16 الصلاة فلو طلب على الإطلاق لتعذر أداؤها على من لم يجد ساترا إلى أشياء من هذا القبيل في الشريعة تفوق الحصر كلها جار على هذا الأسلوب وانظر فيما قاله الغزالي في الكتاب المستظهري في الإمام الذي لم يستجمع شروط الإمامة واحمل عليه نظائره المسألة الرابعة المقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية فلو فرض إختلال الضروري بإطلاق لاختلا باختلاله بإطلاق ولا يلزم من إختلالهما إختلال الضروري بإطلاق نعم قد يلزم من إختلال التحسيني بإطلاق إختلال الحاجي بوجه ما وقد يلزم من إختلال الحاجي بإطلاق إختلال الضروري بوجه ما فلذلك إذا حوفظ على الضروري فينبغي المحافظة على الحاجي وإذا حوفظ على الحاجي فينبغي أن يحافظ على التحسيني إذا ثبت أن التحسيني يخدم الحاجي وأن الحاجي يخدم الضروري فإن الضروري هو المطلوب فهذه مطالب خمسة لا بد من بيانها أحدها أن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي والثاني أن إختلال الضروري يلزم منه إختلال الباقيين بإطلاق والثالث أنه لا يلزم من إختلال الباقيين إختلال الضروري والرابع أنه قد يلزم من إختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق إختلال الضروري بوجه ما 17 والخامس أنه ينبغي المحافظة على الحاجي وعلى التحسيني للضروري بيان الأول أن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة المذكورة فيما تقدم فإذا اعتبر قيام هذا الوجود الدنيوي مبنيا عليها حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود أعني ما هو خاص بالمكلفين والتكليف وكذلك الأمور الأخروية لا قيام لها إلا بذلك فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى ولو عدم المكلف لعدم من يتدين ولو عدم العقل لارتفع التدين ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء ولو عدم المال لم يبق عيش وأعني بالمال ما يقع عليه الملك واستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها وما يؤدي إليها من جميع المتمولات فلو ارتفع ذلك لم يكن بقاء وهذا كله معلوم لا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا وأنها زاد للآخرة وإذا ثبت هذا فالأمور الحاجية إنما هي حائمة حول هذا الحمى إذ هي تتردد على الضروريات تكملها بحيث ترتفع في القيام بها واكتسابها المشقات وتميل بهم فيها إلى التوسط والإعتدال في الأمور حتى تكون جارية على وجه لا يميل إلى إفراط ولا تفريط وذلك مثل ما تقدم في اشتراط عدم الغرر والجهالة في البيوع وكما نقول في رفع الحرج عن المكلف بسبب المرض حتى يجوز له الصلاة قاعدا أو مضطجعا ويجوز له ترك الصيام في وقته إلى زمان صحته وكذلك ترك المسافر الصوم 18 وشطر الصلاة وسائر ما تقدم في التمثيل وغير ذلك فإذا فهم هذا لم يرتب العاقل في أن هذه الأمور الحاجية فروع دائرة حول الأمور الضرورية وهكذا الحكم في التحسينية لأنها تكمل ما هو حاجي أو ضروري فإذا كملت ما هو ضروري فظاهر وإذا كملت ما هو حاجي فالحاجي مكمل للضروري والمكمل للمكمل مكمل فالتحسينية إذا كالفرع للأصل الضروري ومبني عليه بيان الثاني يظهر مما تقدم لأنه إذا ثبت أن الضروري هو الأصل المقصود وأن ما سواه مبني عليه كوصف من أوصافه أو كفرع من فروعه لزم من اختلاله اختلال الباقيين لأن الأصل إذا اختل اختل الفرع من باب أولى فلو فرضنا ارتفاع أصل البيع من الشريعة لم يكن اعتبار الجهالة والغرر وكذلك لو ارتفع أصل القصاص لم يمكن اعتبار المماثلة فيه فإن ذلك من أوصاف القصاص ومحال أن يثبت الوصف مع انتفاء الموصوف وكما إذا سقط عن المغمى عليه أو الحائض أصل الصلاة لم يمكن أن يبقى عليهما حكم القراءة فيها أو التكبير أو الجماعة أو الطهارة الحدثية أو الخبثية ولو فرض أن ثم حكما هو ثابت لأمر فارتفع ذلك الأمر ثم بقي الحكم مقصودا لذلك الأمر كان هذا فرض محال ومن هنا يعرف مثلا أن الصلاة إذا ارتفعت ارتفع ما هو تابع لها ومكمل من القراءة والتكبير والدعاء وغير ذلك لأنها من أوصاف الصلاة بالفرض فلا يصح أن يقال إن أصل الصلاة هو المرتفع وأوصافها بخلاف ذلك وكذلك نقول إذا كان أصل الصلاة منهيا عنه قصدا أو الصيام كذلك كالنهي عن الصلاة في طرفي النهار والنهي عن الصيام في العيد فكل ما تتصف به من مكملاتها مندرج تحت أصل النهي من حيث نهي عن أصل الصلاة التي لها هيئة اجتماعية في الوقوع لأن النهي عن العبادة المخصوصة من حيث هي كذلك 19 ولا تكون منهيا عنها إلا بمجموع أفعالها وأقوالها فاندرجت المكملات تحت النهي باندراج الكل ولا يقال إن لهذه الأشياء حقائق في أنفسها لا تكون منهيا عنها بذلك الإعتبار فلا يلزم أن تكون منهيا عنها مطلقا وإذا لم تكن منيها عنها على الإطلاق لم يلزم ارتفاعها بارتفاع ما هي تابعة له فلا يلزم من إختلال الأصل إختلال الفرع كما أصلت وأيضا فإن الوسائل لها مع مقاصدها هذه النسبة كالطهارة مع الصلاة وقد تثبت الوسائل شرعا مع انتفاء المقاصد كجر الموس في الحج على رأس من لا شعر له فالأشياء إذا كان لها حقائق في أنفسها فلا يلزم من كونها وضعت مكملة أن ترتفع بارتفاع المكمل لأنا نقول إن القراءة والتكبير وغيرهما لها اعتباران اعتبار من حيث هي من أجزاء الصلاة واعتبار من حيث أنفسها فأما اعتبارها من الوجه الثاني فليس الكلام فيه وإنما الكلام في اعتبارها من حيث هي أجزاء مكملة للصلاة وبذلك الوجه صارت بالوضع كالصفة مع الموصوف ومن المحال بقاء الصفة مع انتفاء الموصوف إذ الوصف معنى لا يقوم بنفسه عقلا فكذلك ما كان في الإعتبار مثله فإذا كان كذلك لم يصح القول ببقاء المكمل مع انتفاء المكمل وهو المطلوب وكذلك الصوم وأشباهه وأما مسألة الوسائل فأمر آخر ولكن إن فرضنا كون الوسيلة كالوصف للمقصود بكونه موضوعا لأجله فلا يمكن والحال هذه أن تبقى الوسيلة مع انتفاء المقصد إلا أن يدل دليل على الحكم ببقائها فتكون 20 إذ ذاك مقصودة لنفسها وإن انجر مع ذلك أن تكون وسيلة إلى مقصود آخر فلا امتناع في هذا وعلى ذلك يحمل إمرار الموس على شعر من لا شعر له وبهذه القاعدة يصح القول بإمرار الموس على رأس من ولد مختونا بناء على أن ثم ما يدل على كون الإمرار مقصودا لنفسه وإلا لم يصح فالقاعدة صحيحة وما اعترض به لا نقض فيه عليها والله أعلم بغيبه وأحكم بيان الثالث أن الضروري مع غيره كالموصوف مع أوصافه ومن المعلوم أن الموصوف لا يرتفع بارتفاع بعض أوصافه فكذلك في مسألتا لأنه يضاهيه مثال ذلك الصلاة إذا بطل منها الذكر أو القراءة أو التكبير أو غير ذلك مما يعد من أوصافها لأمر لا يبطل أصل الصلاة وكذلك إذا ارتفع اعتبار الجهالة والغرر لا يبطل أصل البيع كما في الخشب والثوب المحشو والجوز والقسطل والأصول المغيبة في الأرض كالجزر واللفت وأسس الحيطان وما أشبه ذلك وكذا لو ارتفع اعتبار المماثلة في القصاص لم يبطل أصل القصاص وأقرب الحقائق إليه الصفة مع الموصوف فكما أن الصفة لا يلزم من بطلانها بطلان الموصوف بها كذلك ما نحن فيه اللهم إلا ان تكون الصفة ذاتية بحيث صارت جزءا من ماهية الموصوف فهي إذ ذاك ركن من أركان الماهية وقاعدة من قواعد ذلك الأصل وينخرم الأصل بانخرام قاعدة من قواعده كما في الركوع والسجود ونحوهما في الصلاة فإن الصلاة تنخرم من أصلها بانخرام شيء منها بالنسبة إلى القادر عليها هذا لا نظر فيه والوصف الذي شأنه هذا ليس من المحسنات ولا من 21 الحاجيات ولا من الضروريات لا يقال إن من أوصاف الصلاة مثلا الكمالية أن لا تكون في دار مغصوبة وكذلك الذكاة من تمامها أن لا تكون بسكين مغصوبة وما أشبهه ومع ذلك فقد قال جماعة ببطلان أصل الصلاة وأصل الذكاة فقد عاد بطلان الوصف بالبطلان على الموصوف لأنا نقول من قال بالصحة في الصلاة والذكاة فعلى هذا الأصل المقرر بني ومن قال بالبطلان فبنى على اعتبار هذا الوصف كالذاتي فكأن الصلاة في نفسها منهي عنها من حيث كانت أركانها كلها التي هي أكوان غصبا لأنها أكوان حاصلة في الدار المغصوبة وتحريم الأصل إنما يرجع إلى تحريم الأكوان فصارت الصلاة نفسها منهيا عنها كالصلاة في طرفي النهار والصوم في يوم العيد وكذلك الذكاة حين صارت السكين منهيا عن العمل بها لأن العمل بها غصب كان هذا العمل المعين وهو الذكاة منهيا عنه فصار أصل الذكاة منهيا عنه فعاد البطلان إلى الأصل بسبب بطلان وصف ذاتي بهذا الاعتبار ويتصور هنا النظر في أبحاث هي منشأ الخلاف في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ولكنها غير قادحة في أصلنا المذكور إذ لا يتصور فيه خلاف لأن أصله عقلي وإنما يتصور الخلاف في إلحاق الفروع به أو عدم إلحاقها به بيان الرابع من أوجه أحدها أن كل واحدة من هذه المراتب لما كانت مختلفة في تأكد الاعتبار فالضروريات آكدها ثم تليها الحاجيات والتحسينات وكان مرتبطا بعضها ببعض كان في إبطال الأخف جرأة على ما هو آكد منه ومدخل للإخلال به فصار الأخف كأنه حمى للآكد والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه فالمخل بما هو مكمل كالمخل بالمكمل من هذا الوجه 22 ومثال ذلك الصلاة فإن لها مكملات وهي هنا سوى الأركان والفرائض ومعلوم أن المخل بها متطرق للإخلال بالفرائض والأركان لأن الأخف طريق إلى الأثقل ومما يدل على ذلك ما في الحديث من قوله عليه السلام كالراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه وفي الحديث لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده وقول من قال إني لأجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أحرمها وهوأصل مقطوع به متفق عليه ومحل ذكره القسم الثاني من هذا الكتاب فالمتجرىء على الأخف بالإخلال به معرض للتجرؤ على ما سواه فكذلك المتجرىء على الإخلال بها يتجرأ على الضروريات فإذا قد يكون في إبطال الكمالات بإطلاق إبطال الضروريات بوجه ما ومعنى ذلك أن يكون تاركا للمكملات ومخلا بها باطلاق بحيث لا يأتي بشيء منها وإن أتى بشيء منها كان نزرا أو يأتي بجملة منها إن تعددت إلا ان الأكثر هو المتروك والمخل به ولذلك لو اقتصر المصلي على ما هو فرض في الصلاة لم يكن في صلاته ما يستحسن وكانت إلى اللعب أقرب ومن هنا يقول بالبطلان في ذلك من يقوله وكذلك نقول في البيع إذا فات فيه ما هو من المكملات كانتفاء الغرر والجهالة أوشك أن لا يحصل للمتعاقدين أو لأحدهما مقصود فكان وجود العقد كعدمه بل قد يكون عدمه أحسن من وجوده وكذلك سائر النظائر والثاني أن كل درجة بالنسبة إلى ما هو آكد منها كالنفل بالنسبة إلى ما هو فرض فستر العورة واستقبال القبلة بالنسبة إلى أصل الصلاة كالمندوب 23 إليه وكذلك قراءة السورة والتكبير والتسبيح بالنسبة إلى أصل الصلاة وهكذا كون المأكول والمشروب غير نجس ولا مملوك للغير ولا مفقود الذكاة بالنسبة إلى أصل إقامة البنية وإحياء النفس كالنفل وكذلك كون المبيع معلوما ومنتفعا به شرعا وغير ذلك من أوصافه بالنسبة إلى أصل البيع كالنافلة وقد تقرر في كتاب الأحكام أن المندوب إليه بالجزء ينتهض أن يصير واجبا بالكل فالإخلال بالمندوب مطلقا يشبه الإخلال بالركن من أركان الواجب لأنه قد صار ذلك المندوب بمجموعه واجبا في ذلك الواجب فكذلك إذا أخل بما هو بمنزلته أو شبيه به فمن هذا الوجه أيضا يصح أن يقال إن إبطال المكملات بإطلاق قد يبطل الضروريات بوجه ما والثالث أن مجموع الحاجيات والتحسينيات ينتهض أن يكون كل واحد منهما كفرد من أفراد الضروريات وذلك أن كمال الضروريات من حيث هي ضروريات إنما يحسن موقعه حيث يكون فيها على المكلف سعة وبسطة من غير تضييق ولا حرج وحيث يبقى معها خصال معاني العادات ومكارم الأخلاق موفرة الفصول مكملة الأطراف حتى يستحسن ذلك أهل العقول فإذا أخل بذلك لبس قسم الضروريات لبسة الحرج والعنت واتصف بضد ما يستحسن في العادات فصار الواجب الضروري متكلف العمل وغير صاف في النظر الذي وضعت عليه الشريعة وذلك ضد ما وضعت عليه وفي الحديث بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فكأنه لو فرض فقدان 24 المكملات لم يكن الواجب واقعا على مقتضى ذلك وذلك خلل في الواجب ظاهر أما إذا كان الخلل في المكمل للضروري واقعا في بعض ذلك وفي يسيرمنه بحيث لا يزيل حسنه ولا يرفع بهجته ولا يغلق باب السعة عنه فذلك لا يخل به وهو ظاهر والرابع أن كل حاجي وتحسيني إنما هو خادم للأصل الضروري ومؤنس به ومحسن لصورته الخاصة إما مقدمة له أو مقارنا أو تابعا وعلى كل تقدير فهو يدور بالخدمة حواليه فهو أحرى أن يتأدى به الضروري على أحسن حالاته وذلك أن الصلاة مثلا إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجه إليه فإذا أحضر نية التعبد أثمر الخضوع والسكون ثم يدخل فيها على نسقها بزيادة السورة خدمة لفرض أم القرآن لأن الجميع كلام الرب المتوجه إليه وإذا كبر وسبح وتشهد فذلك كله تنبيه للقلب وإيقاظ له أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه والوقوف بين يديه وهكذا إلى آخرها فلو قدم قبلها نافلة كان ذلك تدريجا للمصلي واستدعاء للحضور ولو أتبعها نافلة أيضا لكان خليقا باستصحاب الحضور في الفريضة وفى الإعتبار في ذلك أن جعلت أجزاء الصلاة غير خالية من ذكر مقرون بعمل ليكون اللسان والجوارح متطابقة على شىء واحد وهو الحضور مع الله فيها بالإستكانة والخضوع والتعظيم والإنقياد ولم يخل موضع من الصلاة من قول أو عمل لئلا يكون ذلك فتحا لباب الغفلة ودخول وساوس الشيطان فأنت ترى أن هذه المكملات الدائرة حول حمى الضروري خادمة له ومقوية لجانبه فلو خلت عن ذلك أو عن أكثره لكان خللا فيها وعلى هذا 25 الترتيب يجرى سائر الضروريات مع مكملاتها لمن اعتبرها بيان الخامس ظاهر مما تقدم لأنه إذا كان الضروري قد يختل بإختلال مكملاته كانت المحافظة عليها لأجله مطلوبة ولأنه إذا كانت زينة لا يظهر حسنه إلا بها كان من الأحق أن لا يخل بها وبهذا كله يظهر أن المقصود الأعظم في المطالب الثلاثة المحافظة على الأول منها وهو قسم الضروريات ومن هنالك كان مراعي في كل ملة بحيث لم تختلف فيه الملل كما اختلفت في الفروع فهى أصول الدين وقواعد الشريعة وكليات الملة المسألة الخامسة المصالح المثبوتة في هذه الدار ينظر فيها من جهتين من جهة مواقع الوجود ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها فأما النظر الأول فإن المصالح الدنيوية من حيث هى موجودة هنا لا يتخلص كونها مصالح محضة وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق حتى يكون منعما على الإطلاق وهذا في مجرد الإعتياد لا يكون لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق قلت أو كثرت تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها كالأكل والشرب واللبس والسكني والركوب والنكاح وغير ذلك فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود إذ ما 26 من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثير ويدلك عل ذلك ما هو الأصل وذلك أن هذه الدار وضعت على الإمتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق وأصل ذلك الأخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص قال الله تعالى ونبلوكم بالشر والخير فتنة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وما في هذا المعنى وقد جاء في الحديث حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات فلهذا لم يخلص في الدنيا لأحد جهة خالية من شركة الجهة الأخرى فإذا كان كذلك فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفا وإذا غلبت الجهة الأخرى فهى المفسدة المفهومة عرفا ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة الراجحة فإن رجحت المصلحة فمطلوب ويقال فيه إنه مصلحة وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروب عنه ويقال إنه مفسدة على ما جرت به العادات في مثله فإن خرج عن مقتضى العادات فله نسبة أخرى وقسمة غير هذه القسمة هذا وجه النظر في المصلحة الدنيوية والمفسدة الدنيوية من حيث مواقع الوجود في الأعمال العادية وأما النظر الثانى فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعا فالمصلحة إذا كانت هى الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الإعتياد فهى المقصودة 27 شرعا ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية في الدنيا فإن تبعها مفسدة أو مشقة فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه وكذلك المفسدة إذا كانت هى الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الإعتياد فرفعها هو المقصود شرعا ولأجله وقع النهي ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي في مثلها حسبما يشهد له كل عقل سليم فإن تبعتها مصلحة أو لذة فليست هى المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل بل المقصود ما غلب في المحل وما سوى ذلك ملغي في مقتضى النهي كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعا أو المفاسد المعتبرة شرعا هى خالصة غير مشوبة بشىء من المفاسد لا قليلا ولا كثيرا وإن توهم أنها مشوبة فليست في الحقيقة الشرعية كذلك لأن المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة إنما المراد بها ما يجري في الإعتياد الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضى التفات الشارع إليها على الجملة وهذا المقدار هو الذى قيل إنه غير مقصود للشارع في شرعية الأحكام والدليل على ذلك أمران أحدهما أن الجهالة المعلومة لو كانت مقصودة للشارع أعني معتبرة عند الشارع لم يكن الفعل مأمورا به بإطلاق ولا منهيا عنه بإطلاق بل كان يكون مأمورا به من حيث المصلحة ومنهيا عنه من حيث المفسدة ومعلوم قطعا أن الأمر ليس كذلك 28 وهذا يتبين في أعلى المراتب في الأمر والنهي كوجوب الإيمان وحرمة الكفر ووجوب إحياء النفوس ومنع إتلافها وما أشبه ذلك فكان يكون الإيمان الذى لا أعلى منه في مراتب التكليف منهيا عنه من جهة مافيه من كسر النفس من إطلاقها وقطعها عن نيل أغراضها وقهرها تحت سلطان التكليف الذى لا لذة فيه لها وكان الكفر الذى يقتضى إطلاق النفس من قيد التكليف وتمتعها بالشهوات من غير خوف مأمور به أو مأذونا فيه لأن الأمور الملذوذة والمخرجة عن القيود القاهرة مصلحة على الجملة وكل هذا باطل محض بل الإيمان مطلوب بإطلاق والكفر منهى عنه بإطلاق فدل على أن جهة المفسدة بالنسبة إلى طلب الإيمان وجهة المصلحة بالنسبة إلى النهي عن الكفران غير معتبرة شرعا وإن ظهر تأثيرها عادة وطبعا والثانى أن ذلك لو كان مقصود الإعتبار شرعا لكان تكليف العبد كله تكليفا بما لا يطاق وهو باطل شرعا أما كون تكليف ما لا يطاق باطلا شرعا فمعلوم في الأصول وأما بيان الملازمة فلأن الجهة المرجوحة مثلا مضادة في الطلب للجهة الراجحة وقد أمر مثلا بإيقاع المصلحة الراجحة لكن على وجه يكون فيه منهيا عن إيقاع المفسدة المرجوحة فهو مطوب بإيقاع الفعل ومنهى عن إيقاعه معا والجهتان غير منفكتين لما تقدم من أن المصالح والمفاسد غير متمحضة فلا بد في إيقاع الفعل أو عدم إيقاعه من توارد الأمر والنهي معا فقد قيل له افعل ولا تفعل لفعل واحد أي من وجه واحد في الوقوع وهو عين تكليف ما لا يطلق لا يقال إن المصلحة قد تكون غير مأمور بها ولكن مأذونا فيها فلا يجتمع الأمر والنهي معا فلا يلزم المحظور لأنا نقول إن هذا لا يطرد في جميع المصالح فإن المصلحة كما يصح أن تكون مأذونا فيها يصح أن تكون مأمورا بها وإن سلم ذلك فالإذن مضاد للأمر والنهي 29 معا فإن التخيير مناف لعدم التخيير وهما واردان على الفعل الواحد فورود الخطاب بهما معا خطاب بما لا يستطاع إيقاعه على الوجه المخاطب به وهو ما أردنا بيانه وليس هذا كالصلاة في الدار المغصوبة لإمكان الإنفكاك بأن يصلى في غير الدار وهذا ليس كذلك فإن قيل إن هذا التقدير مشير لما ذهب إليه الفلاسفة ومن تبعهم من أن الشر ليس بمقصود الفعل وإنما االمقصود الخير فإذا خلق الله تعالى خلقا ممتزجا خيره بشره فالخير هو الذى خلق الخلق لأجله ولم يخلق لأجل الشر وإن كان واقعا به كالطبيب عندهم إذا سقى المريض الدواء المر البشع المكروه فلم يسقه إياه لأجل ما فيه من المرارة والأمر المكروه بل لأجل ما فيه من الشفاء والراحة وكذلك الإيلام بالقصد والحجامة وقطع العضو المتأكل إنما قصده بذلك جلب الراحة ودفع المضار فكذلك عندهم جميع ما في الوجود من المفاسد المسببة عن أسبابها فما تقدم شبيه بهذا من حيث قلت إن الشارع مع قصده التشريع لأجل المصلحة لا يقصد وجه المفسدة مع أنها لازمة للمصلحة وهو أيضا مشير إلى مذاهب المعتزلة القائلين بأن الشرور والمفاسد غير مقصودة الوقوع وأن وقوعها إنما هو على خلاف الإرادة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فالجواب أن كلام الفلاسفة إنما هو في القصد الخلقي التكويني وليس كلامنا فيه وإنما كلامنا في القصد التشريعي وقد تبين الفرق بينهما في موضعه من كتاب الأوامر والنواهى ومعلوم أن الشريعة وضعت لمصالح الخلق 30 بإطلاق حسبما تبين في موضعه فكل ما شرع لجلب مصلحة أو دفع مفسدة فغير مقصود فيه ما يناقض ذلك وإن كان واقعا بالوجود فبالقدرة القديمة وعن الإرادة القديمة لا يعزب عن علم الله وقدرته وإرادته شيء من ذلك كله في الأرض ولا في السماء وحكم التشريع أمر آخر له نظر وترتيب آخر على حسب ما وضعه والأمر والنهي لا يستلزمان إرادة الوقوع أو عدم الوقوع وإنما هذا قول المعتزلة وبطلانه مذكور في علم الكلام فالقصد التشريعي شيء والقصد الخلقي شيء آخر لا ملازمة بينهما فصل وأما إذا كانت المصلحة أو المفسدة خارجة عن حكم الإعتياد بحيث لو انفردت لكانت مقصودة الإعتبار للشارع ففي ذلك نظر ولا بد من تمثيل ذلك ثم تخليص الحكم فيه بحول الله مثاله أكل الميتة للمضطر وأكل النجاسات والخبائث اضطرارا وقتل القاتل وقطع القاطع وبالجملة العقوبات والحدود للزجر وقطع اليد المتأكلة وقلع الضرس الوجعة والإبلام بقطع العروق والقصد وغير ذلك للتداوي وما أشبه ذلك من الأمور التي انفردت عما غلب عليها لكان النهي عنها متوجها وبالجملة كل ما تعارضت فيه الأدلة فلا يخلو أن تتساوى الجهتان أو تترجح إحداهما على الأخرى فإن تساوتا فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الاخر إذ اظهر التساوي بمقتضى الأدلة ولعل هذا غير واقع في الشريعة وإن فرض وقوعه 31 فلا ترجيح إلا بالتشهي من غير دليل وذلك في الشرعيات باطل باتفاق وأما أن قصد الشارع متعلق بالطرفين معا طرف الإقدام وطرف الإحجام فغير صحيح لأنه تكليف ما لا يطاق إذ قد فرضنا تساوي الجهتين على الفعل الواحد فلا يمكن أن يؤمر به وينهى عنه معا ولا يكون أيضا القصد غير متعلق بواحدة منهما إذ قد فرضنا أن توارد الأمر والنهي معا وهما علمان على القصد على الجملة حسبما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى إذ لا أمر ولا نهي من غير اقتضاء فلم يبق إلا أن يتعلق بإحدى الجهتين دون الأخرى ولم يتعين ذلك للمكلف فلا بد من التوقف وأما إن ترجحت إحدى الجهتين على الأخرى فيمكن أن يقال إن قصد الشارع متعلق بالجهة الأخرى إذ لو كان متعلقا بالجهة الأخرى لما صح الترجيح ولكان الحكم كما إذا تساوت الجهتان فيجب الوقف وذلك غير صحيح مع وجود الترجيح ويمكن أن يقال إن الجهتين معا عند المجتهد معتبرتان إذ كل واحدة منهما يحتمل أن تكون هي المقصودة للشارع ونحن إنما كلفنا بما ينقدح عندنا أنه مقصود للشارع لا بما هو مقصوده في نفس الأمر فالراجحة وإن ترجحت لا تقطع إمكان 32 كون الجهة الأخرى هي المقصودة للشارع إلا أن هذا الإمكان مطرح في التكليف إلا عند تساوي الجهتين وغير مطرح في النظر ومن هنا نشأت قاعدة مراعاة الخلاف عند طائفة من الشيوخ والإمكان الأول جار على طريقة المصوبين والثاني جار على طريقة المخطئين وعلى كل تقدير فالذي يلخص من ذلك أن الجهة المرجوحة غير مقصودة الإعتبار شرعا عند اجتماعها مع الجهة الرجحة إذ لو كانت مقصودة للشارع لاجتمع الأمر والنهي معا على الفعل الواحد فكان تكليفا بما لا يطاق وكذلك يكون الحكم في المسائل الإجتهادية كلها سواء علينا أقلنا إن كل مجتهد مصيب أم لا فلا فرق إذا بين ما كان من الجهات المرجوحة جاريا على الإعتياد أو خارجا عنه فالقياس مستمر والبرهان مطلق في القسمين وذلك ما أردنا بيانه فإن قيل أفلا تكون الجهة المغلوبة مقصودة للشارع بالقصد الثاني فإن مقاصد الشارع تنقسم إلى دينك هكذا وإن في الكتاب الضربين فالجواب أن القصد الثاني إنما يثبت إذا لم يناقض القصد الأول فإذا ناقضه لم يكن مقصودا بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني وهذا مذكور في موضعه من هذا الكتاب وبالله التوفيق المسألة السادسة لما كانت المصالح والمفاسد على ضربين دنيوية وأخروية وتقدم الكلام على الدنيوية اقتضى الحال الكلام في المصالح والمفاسد الأخروية فنقول إنها على ضربين أحدهما أن تكون خالصة لا امتزاج لأحد القبيلين بالآخر كنعيم أهل الجنان وعذاب أهل الخلود في النيران أعاذنا الله من النار وأدخلنا الجنة 33 برحمته والثاني أن تكون ممتزجة وليس ذلك إلا بالنسبة إلى من يدخل النار من الموحدين في حال كونه في النار خاصة فإذا أدخل الجنة برحمة الله رجع إلى القسم الأول وهذا كله حسبما جاء في الشريعة إذ ليس للعقل في الأمور الأخروية مجال وإنما تتلقى أحكامها من السمع أما كون هذا القسم الثاني ممتزجا فظاهر لأن النار لا تنال منهم مواضع السجود ولا محل الإيمان وتلك مصلحة ظاهرة وأيضا فإنما تأخذهم على قدر أعمالهم وأعمالهم لم تتمحض للشر خاصة فلا تأخذهم النار أخذ من لا خير في عمله على حال وهذا كاف في حصول المصلحة الناشئة من الإيمان والأعمال الصالحة ثم الرجاء المعلق بقلب المؤمن راحة ما حاصلة له مع التعذيب فهي تنفس عنه من كرب النار إلى غير ذلك من الأمور الجزئية الآتية في الشريعة من استقراها ألفاها وأما كون الأول محضا فيدل عليه من الشريعة أدلة كثيرة كقوله تعالى لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وقوله فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار الآية وقوله لا يموت فيها ولا يحيى وهو أشد ما هنالك إلى سائر ما يدل على الإبعاد من الرحمة وفي الجنة آيات آخر وأحاديث تدل على أن لا عذاب ولا مشقة ولا مفسدة كقوله إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين إلى قوله لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين وقوله سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين إلى غير ذلك مما هو معلوم وقد بين ذلك ربنا بقوله في الجنة أنت رحمتي وفي النار أنت عذابي 34 فسمى هذه بالرحمة مبالغة وهذه بالعذاب مبالغة فإن قيل كيف يستقيم هذا وقد ثبت أن في النار دركات بعضها أشد من بعض كما أنه جاء في الجنة أن فيها درجات بعضها فوق بعض وجاء في بعض أهل النار أنه في ضحضاح مع أنه من المخلدين وجاء أن في الجنة من يحرم بعض نعيمها كالذي يموت مدمن خمر ولم يتب منها وإذا كانت دركات الجحيم أعاذنا الله منها بعضها أشد فالذي دون الأشد أخف من الأشد والخفة مما يقتضيه وصف الرحمة التي تحصل مصلحة ما وأيضا فالقدر الذي وصل إليه العذاب بالنسبة إلى ما يتوهم فوقه خفيف كما أنه شديد بالنسبة إلى ما هو دونه وإذا تصورت الخفة ولو بنسبة ما فهي مصلحة في ضمن مفسدة العذاب كما أن درجات الجنة كذلك في الطرف الآخر فإن الجزاء على حسب العمل وإذا كان عمل الطاعة قليلا بسبب كثرة المخالفة كان الجزاء على تلك النسبة ومعلوم أن رتبة آخر من يدخل الجنة ليست كرتبة من لم يعص الله قط ودأب على الطاعات عمره وإنما ذلك لأجل عمل الأول السببي فكان جزاؤه على الطاعة في الآخرة نعيما كدره عليه كثرة المخالفة وهذا معنى ممازجة المفسدة فإذا كان كذلك فالقسمان معا قسم واحد فالجواب أنه لا يصح في المنقول ألبتة أن تكون الجنة ممتزجة النعيم بالعذاب ولا أن فيها مفسدة ما بوجه من الوجوه هذا مقتضى نقل الشريعة نعم العقل لا يحيل ذلك فإن أحوال الآخرة ليست جارية على مقتضيات العقول كما أنه لا يصح أن يقال في النار إن فيها للمخلدين رحمة تقتضي مصلحة ما ولذلك قال تعالى لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون فلا حالة هنالك ليستريحوا إليها وإن قلت كيف وهي دار العذاب عياذا بالله منها وما جاء في حرمان الخمر فذلك راجع إلى معنى المراتب فلا يجد من يحرمها ألما بفقدها 35 كما لا يجد الجميع ألما بفقد شهوة الولد أما المخرج إلى الضحضاح فأمر خاص كشهادة خزيمة وعناق أبي بردة ولا نقض بمثل ذلك على الأصول الإستقرائية القطعية غير أنه يجب النظر هنا في وجه تفاوت الدرجات والدركات لما ينبني على ذلك من الفوائد الفقهية لا من جهة أخرى وذلك أن المراتب وإن تفاوتت لايلزم من تفاوتها نقيض ولا ضد ومعنى هذا أنك إذا قلت فلان عالم فقد وصفته بالعلم وأطلقت ذلك عليه إطلاقا بحيث لا يستراب في حصول ذلك الوصف له على كماله فإذا قلت وفلان فوقه في العلم فهذا الكلام يقتضى أن الثاني حاز رتبة في العلم فوق رتبة الأول ولا يقتضى أن الأول متصف بالجهل ولو على وجه ما فكذلك إذا قلت مرتبة الأنبياء في الجنة فوق مرتبة العلماء فلا يقتضى ذلك للعلماء نقصا من النعيم ولا غضا من المرتبة بحيث يداخله ضده بل العلماء منعمون نعيما لا نقص فيه والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فوق ذلك في النعيم الذي لا نقص فيه وكذلك القول في العذاب بالنسبة إلى المنافقين وغيرهم كل في العذاب لا يداخله راحة ولكن بعضهم أشد عذابا من بعض ولأجل ذلك لما سئل النبي عن خير دور الأنصار أجاب بما عليه الأمر في ترتيبهم في الخيرية بقوله خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو الحرث بن الخزرج ثم بنو ساعدة ثم قال وفى كل دور الأنصار خير رفعا لتوهم الضد من حيث كانت أفعل التفصيل 36 قد تستعمل على ذلك الوجه كقوله تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ونحو ذلك فلم يكن تفضيله عليه الصلاة والسلام بعض دور الأنصار على بعض تنقيصا بالمفضول ولو قصد ذلك لكان أقرب إلى الذم منه إلى المدح وقد بين الحديث هذا المعنى المقرر فإن في آخره فلحقنا سعد ابن عبادة فقال ألم تر أن نبي الله خير الأنصار فجعلنا خيرا فقال أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الأخيار لكن التقديم في الترتيب يقتضي رفع المزية ولا يقتضي اتصاف المؤخر بالضد لا قليلا ولا كثيرا وكذلك يجري حكم التفضيل بين الأشخاص وبين الأنواع وبين الصفات وقد قال الله تعالى تلك الرسل فصلنا بعضهم على بعض ولقد فضلنا بعض النبيين عل بعض وفي الحديث المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير وحاصل هذا أن ترتيب أشخاص النوع الواحد بالنسبة إلى حقيقة النوع لا يمكن وإنما يكون بالنسبة إلى ما يمتاز به بعض الأشخاص من الخواص والأوصاف الخارجة عن حقيقة ذلك النوع وهذا معنى حسن جدا من تحققه هانت عليه معضلات ومشكلات في فهم الشريعة كالتفضيل بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وزيادة الإيمان ونقصانه وغير ذلك من الفروع الفقهية والمعاني الشرعية التي زلت بسبب الجهل بها أقدام كثير من الناس وبالله التوفيق 37 المسألة السابعة إذا ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية وذلك على وجه لا يختل لها به نظام لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تخل أحكامها لم يكن التشريع موضوعا لها إذ ليس كونها مصالح إذا ذاك بأولى من كونها مفاسد لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا وكليا وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال وكذلك وجدنا الأمر فيها والحمد لله وأيضا فسيأتي بيان أن الأمور الثلاثة كلية في الشريعة لا تختص على الجملة وإن تنزلت إلى الجزئيات فعلى وجه كلي وإن خصت بعضا فعلى نظر الكلي كما أنها إن كانت كلية فليدخل تحتها الجزئيات فالنظر الكلي فيها منزل للجزئيات وتنزله للجزئيات لا يخرم كونه كليا وهذا المعنى إذا ثبت دل على كمال النظام في التشريع وكمال النظام فيه يأبى أن ينخرم ما وضع له وهو المصالح المسألة الثامنة المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية 38 أو درء مفاسدها العادية والدليل على ذلك أمور أحدها ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت وقد قال ربنا سبحانه ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن الآية والثاني ما تقدم معناه من أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار 39 عادة كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع كما نقول إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الإحياء بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها أو اتلافها وإحياء المال كان إحياؤها أولى فإن عارض إحياؤها إماتة الدين كان إحياء الدين أولى وإن أدى إلى إماتتها كما جاء في جهاد الكفار وقتل المرتد وغير ذلك وكما إذا عارض إحياء نفس واحدة إماتة نفوس كثيرة في المحارب مثلا كان إحياء النفوس الكثيرة أولى وكذلك إذا قلنا الأكل والشرب فيه إحياء النفوس وفيه منفعة ظاهرة مع أن فيه من المشاق والآلام في تحصيله ابتداء وفى استعماله حالا وفي لوازمه وتوابعه انتهاء كثيرا ومع ذلك فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا لا من حيث أهواء النفوس حتى إن العقلاء قد اتفقوا على هذا النوع في الجملة وإن لم يدركوا من تفاصيلها قبل الشرع ما أتى به الشرع فقد اتفقوا في الجملة على اعتبار إقامة الحياة الدنيا لها أو للآخرة بحيث منعوا من اتباع جملة من أهوائهم بسبب ذلك هذا وإن كانوا بفقد الشرع عل غير شيء فالشرع لما جاء بين هذا كله وحمل المكلفين عليه طوعا أو كرها ليقيموا أمر دنياهم لآخرتهم والثالث أن المنافع والمضار عامتها أن تكون اضافية لا حقيقية ومعنا كونها اضافية أنها منافع أو مضار في حال دون حال وبالنسبة إلى شخص دون شخص أو وقت دون وقت فالأكل والشرب مثلا منفعة للإنسان ظاهرة ولكن عند وجود داعية الأكل وكون المتناول لذيذا طيبا لا كريها ولا مرا وكونه لا يولد ضررا عاجلا ولا آجلا وجهة اكتسابه لا يلحقه به ضرر 40 عاجل ولا آجل ولا يلحق غيره بسببه أيضا ضرر عاجل ولا آجل وهذه الأمور قلما تجتمع فكثير من المنافع تكون ضررا على قوم لا منافع أو تكون ضررا في وقت أو حال ولا تكون ضررا في آخر وهذا كله بين في كون المصالح والمفاسد مشروعة أو ممنوعة لإقامة هذه الحياة لا لنيل الشهوات ولو كانت موضوعة لذلك لم يحصل ضرر مع متابعة الأهواء ولكن ذلك لا يكون فدل على أن المصالح والمفاسد لا تتبع الأهواء والرابع أن الإغراض في الأمر الواحد تختلف بحيث إذا نفذ غرض بعض وهو منتفع به تضرر آخر لمخالفة غرضه فحصول الإختلاف في الأكثر يمنع من أن يكون وضع الشريعة على وفق الأغراض وإنما يستتب أمرها بوضعها على وفق المصالح مطلقا وافقت الأغراض أو خالفتها فصل وإذا ثبت هذا انبنى عليه قواعد منها أنه لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الأذن وفي المضار المنع كما قرره الفخر الرازي إذ لا يكاد يوجد انتفاع حقيقي ولا ضرر حقيقي وإنما عامتها أن تكون إضافية 41 والمصالح والمفاسد إذا كانت راجعة إلى خطاب الشارع وقد علمنا من خطابه أنه يتوجه بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات حتى يكون الإنتفاع المعين مأذونا فيه وقت أو حال أو بحسب شخص وغير مأذون فيه إذا كان على غير ذلك فكيف يسوغ إطلاق هذه العبارة أن الأصل في المنافع الإذن وفى المضار المنع وأيضا فإذا كانت المنافع لا تخلو من مضار وبالعكس فكيف يجتمع الإذن والنهي على الشىء الواحد وكيف يقال إن في الأصل في الخمر مثلا الإذن من حيث منفعة الإنتشاء والتشجيع وطرد الهموم والأصل فيها أيضا المنع من حيث مضرة سلب العقل والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهما لا ينفكان أويقال الأصل في شرب الدواء المنع لمضرة شربه لكراهته وفظاعته ومرارته والأصل فيه الإذن لأجل الإنتفاع به وهما غير منفكين فيكون الأصل في ذلك كله الإذن وعدم الإذن معا وذلك محال فإن قيل المعتبر عند التعارض الراجح فهو الذي ينسب إليه الحكم وما سواه في حكم المغفل المطرح فالجواب أن هذا مما يشد ما تقدم إذ هو دليل على أن المنافع ليس أصلها الإباحة بإطلاق وأن المضار ليس أصلها المنع بإطلاق بل الأمر في ذلك راجع إلى ما تقدم وهو ما تقوم به الدنيا للآخرة وإن كان في الطريق ضرر ما متوقع أو نفع ما مندفع 42 ومنها أن القرافي أورد إشكالا في المصالح والمفاسد ولم يجب عنه وهو عنده لازم لجميع العلماء المعتبرين للمصالح والمفاسد فقال المراد بالمصلحة والمفسدة إن كان مسماهما كيف كانا فما من مباح إلا وفيه في الغالب مصالح ومفاسد فإن أكل الطيبات ولبس اللينات فيها مصالح الأجساد ولذات النفوس وآلام ومفاسد في تحصيلها وكسبها وتناولها وطبخها وإحكامها وإجادتها بالمضغ وتلويث الأيدي إلى غير ذلك مما لو خير العاقل بين وجوده وعدمه لاختار عدمه فمن يؤثر وقد النيران وملابسة الدخان وغير ذلك فيلزم أن لا يبقى مباح ألبتة وإن أرادوا ما هو أخص من مطلقهما مع أن مراتب الخصوص متعددة فليس بعضها أولى من بعض ولأن العدول عن أصل المصلحة والمفسدة تأباه قواعد الإعتزال فإنه سفه ولا يمكنهم أن يقولوا إن ضابط ذلك أن كل مصلحة توعد الله على تركها وكل مفسدة توعد الله على فعلها هي المقصودة وما أهمله الله تعالى غير داخل في مقصودنا فنحن نريد مطلق المعتبر من غير تخصيص فيندفع الإشكال لأنا نقول الوعيد عندكم والتكليف تابع للمصلحة والمفسدة ويجب 43 عندكم بالعقل أن يتوعد الله على ترك المصالح وفعل المفاسد فلو استفدتم المصالح والمفاسد المعتبرة من الوعيد لزم الدور ولو صحت الإستفادة في المصالح والمفاسد للزمكم أن تجوزوا أن يرد التكليف بترك المصالح وفعل المفاسد وتنعكس الحقائق حينئذ فإن المعتبر هو التكليف فأي شىء كلف الله به كان مصلحة وهذا يبطل أصلكم قال وأما حظ أصحابنا من هذا الإشكال فهو أن يتعذر عليهم أن يقولوا إن الله تعالى راعي مطلق المصلحة ومطلق المفسدة على سبيل التفضيل لأن المباحات فيها ذلك ولم يراع بل 44 يقولون إن الله ألغى بعضها في المباحات واعتبر بعضها وإذا سئلوا عن ضابط المعتبر مما ينبغي أن لا يعتبر عسر الجواب بل سبيلهم استقراء المواقع فقط وهذا وإن كان يخل بنمط من الإطلاع على بعض أسرار الفقه غير أنهم يقولون يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ويعتبر الله يشاء ويترك ما يشاء لا غيره في ذلك وأما المعتزلة الذين يوجبون ذلك عقلا فيكون هذا الأمر عليهم في غاية الصعوبة لأنهم إذا فتحوا هذا الباب تزلزلت قواعد الإعتزال هذا ما قاله القرافي وأنت إذا راجعت أول المسألة وما تقدم قبلها لم يبق لهذا الإشكال موقع أما على مذهب الأشاعرة فإن استقراء الشريعة دل على ما هو المعتبر مما ليس بمعتبر لكن على وجه يحصل ضوابط ذلك والدليل القاطع في ذلك استقراء أحوال الجارين على جادة الشرع من غير إخلال بالخروج في جريانها على الصراط المستقيم وإعطاء كل ذي حق حقه من غير إخلال بنظام ولا هدم لقاعدة من قواعد الإسلام وفى وقوع الخلل فيها بمقدار ما يقع من المخالفة في حدود الشرع وذلك بحسب كل باب من أبواب الشرع وكل أصل من أصول التكليف فإذا حصل ذلك للعلماء الراسخين حصل لهم به ضوابط في كل باب 45 علىما يليق به وهو مذكور في كتبهم ومبسوط في علم أصول الفقه وأما على مذهب المعتزلة فكذلك أيضا لأنهم إنما يعتبرون المصالح والمفاسد بحسب ما أداهم إليه العقل في زعمهم وهو الوجه الذي يتم به صلاح العالم على الجملة والتفصيل في المصالح أو ينخرم به في المفاسد وقد جعلوا الشرع كاشفا لمقتضى ما ادعاه العقل عندهم بلا زيادة ولا نقصان فلا فرق بينهم وبين الأشاعرة في محصول المسألة وإنما اختلفوا في المدرك واختلافهم فيه لا يضر في كون المصالح معتبرة شرعا ومنضبطة في أنفسها وقد نزع إلى هذا المعنى أيضا في كلامه على العزيمة والرخصة حين فسرها 46 الإمام الرازي بأنها جواز الإقدام مع قيام المانع قال هو مشكل لأنه يلزم أن تكون الصلوات والحدود والتعازير والجهاد والحج رخصة إذ يجوز الإقدام على ذلك كله وفيه مانعان ظواهر النصوص المانعة إلزامه كقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وفى الحديث لا ضرر ولا ضرار وذلك مانع من وجوب هذه الأمور والآخر أن صورة الإنسان مكرمة لقوله ولقد كرمنا بنىآدم لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم وذلك يناسب أن لا يهلك بالجهاد ولا يلزمه المشاق والمضار وأيضا الإجارة رخصة من بيع المعدوم والسلم كذلك والقراض والمساقاة رخصتان لجهالة الأجرة والصيد رخصة لأكل الحيوان بدمه ولم تعد منها واستقراء الشريعة يقتضي أن لا مصلحة إلا وفيها مفسدة وبالعكس وإن قلت على العد كالكفر والإيمان فما ظنك بغيرهما وعلى هذا ما في الشريعة حكم إلا وهو مع المانع الشرعي لأنه لا يمكن أن 47 يراد بالمانع ما سلم عن المعارض الراجح فإن أكل الميتة وغيره وجد فيه معارض راجح على مفسدة الميتة فحينئذ ما المراد إلا المانع المغمور بالراجح وحينئذ تندرج جميع الشريعة لأن كل حكم فيه مانع مغمور بمعارضه ثم ذكر أن الذي استقر عليه حاله في شرحي التنقيح والمحصول العجز عن ضبط الرخصة وما تقدم إن شاء الله تعالى يغني في الموضع مع ما ذكر في الرخصة في كتاب الأحكام ومنها أن هذه المسألة إذا فهمت حصل بها فهم كثير من آيات القرآن وأحكامه كقوله تعالى هو الذى خلق لكم ما في الأرض جميعا وقوله وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه وقوله قل 48 من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية وما كان نحو ذلك من أنها ليست على مقتضى ظاهرها بإطلاق بل بقيود تقيدت بها حسبما دلت عليه الشريعة في وضع المصالح ودفع المفاسد والله أعلم ومنها أن بعض الناس قال إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع وأما الدنيوية فتعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات قال ومن أراد أن يعرف المناسبات في المصالح والمفاسد راجحها من مرجوحها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشارع لم يرد به ثم يبنى عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا التعبدات التي لم يوقف على مصالحها أو مفاسدها هذا قوله وفيه بحسب ما تقدم نظر أما أن ما يتعلق بالآخرة لا يعرف إلا بالشرع فكما قال وأما ما قال في الدنيوية فليس كما قال من كل وجه بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض ولذلك لما جاء الشرع بعد زمان فترة تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الإستقامة وخروجهم عن مقتضى العدل في الأحكام ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق لم يحتج في الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة خاصة وذلك لم يكن وإنما جاء بما يقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة معا وإن كان قصده بإقامة الدنيا للآخرة فليس بخارج عن كونه قاصدا لإقامة مصالح الدنيا حتى يتأتى فيها سلوك طريق الآخرة وقد بث في ذلك من التصرفات وحسم من أوجه الفساد التي كانت جارية ما لا مزيد عليه فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل اللهم إلا أن يريد هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها بعد وضع الشرع أصولها فذلك لا نزاع فيه 49 المسألة التاسعة كون الشارع قاصدا للمحافظة على القواعد الثلاث الضرورية والحاجية والتحسينية لا بد عليه من دليل يستند إليه والمستند إليه في ذلك إما أن يكون دليلا ظنيا أو قطعيا وكونه ظنيا باطل مع أنه أصل من أصول الشريعة بل هو أصل أصولها وأصول الشريعة قطعية حسبما تبين في موضعه فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية ولو جاز إثباتها بالظن لكانت الشريعة مظنونة أصلا وفرعا وهذا باطل فلا بد أن تكون قطعية فأدلتها قطعية بلا بد فإذا ثبت هذا فكون هذا الأصل مستندا إلى دليل قطعي مما ينظر فيه فلا يخلو أن يكون عقليا أو نقليا فالعقلي لا موقع له هنا لأن ذلك راجع إلى تحكيم العقول في الأحكام الشرعية وهو غير صحيح فلا بد أن يكون نقليا والأدلة النقلية إما أن تكون نصوصا جاءت متواترة السند لا يحتمل متنها التأويل على حال أولا فإن لم تكن نصوصا أو كانت ولم ينقلها أهل التواتر فلا يصح استناد مثل هذا إليها لأن ما هذه صفته لا يفيد القطع وإفادة القطع هوالمطلوب وإن كانت نصوصا لا تحتمل التأويل ومتواترة السند فهذا مفيد للقطع إلا أنه متنازع في وجوده بين العلماء والقائل بوجوده مقر بأنه لا يوجد في كل مسألة تفرض في الشريعة بل يوجد في بعض المواضع دون بعض ولم يتعين أن مسألتنا من المواضع التي جاء فيها دليل قطعي والقائل بعدم وجوده في الشريعة يقول إن التمسك بالدلائل النقلية إذا 50 كانت متواترة موقوف على مقدمات عشر كل واحدة منها ظنية والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنيا فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو وعدم الإشتراك وعدم المجاز وعدم النقل الشرعي أوالعادي وعدم الإضمار وعدم التخصيص للعموم وعدم التقييد للمطلق وعدم الناسخ وعدم التقديم والتأخير وعدم المعارض العقلي وجميع ذلك أمور ظنية ومن المعترفين بوجوده من اعترف بأن الدلائل في أنفسها لا تفيد قطعا لكنها إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة فقد تفيد اليقين وهذا لا يدل قطعا على أن دليل مسألتنا من هذا القبيل لأن القرائن المفيدة لليقين غير لازمة لكل دليل وإلا لزم أن تكون أدلة الشرع كلها قطعية وليس كذلك باتفاق وإذا كانت لا تلزم ثم وجدنا أكثر الأدلة الشرعية ظنية الدلالة أو المتن والدلالة معا ولا سيما مع افتقار الأدلة إلى النظر في جميع ما تقدم دل ذلك على أن اجتماع القرائن المفيدة للقطع واليقين نادر على قول المقرين بذلك وغير موجود على قول الآخرين فثبت أن دليل هذه المسألة على التعيين غير متعين ولا يقال إن الإجماع كاف وهو دليل قطعي لأنا نقول هذا أولا مفتقر إلى نقل الإجماع على اعتبار تلك القواعد الثلاث شرعا نقلا متواترا عن جميع أهل الإجماع وهذا يعسر إثباته ولعلك لا تجده ثم نقول ثانيا إن فرض وجوده فلا بد من دليل قطعي يكون مستندهم ويجتمعون على أنه قطعي فقد يجتمعون على دليل ظني فتكون المسألة ظنية لا قطعية فلا تفيد اليقين لأن الإجماع إنما يكون قطعيا على 51 فرض اجتماعهم على مسألة قطعية لها مستند قطعي فإن اجتمعوا على مستند ظني فمن الناس من خالف في كون هذا الإجماع حجة فإثبات المسألة بالإجماع لا يتخلص وعند ذلك يصعب الطريق إلى إثبات كون هذه القواعد معتبرة شرعا بالدليل الشرعي القطعي وإنما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر هو روح المسألة وذلك أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد ممن ينتمي إلى الإجتهاد من أهل الشرع وأن اعتبارها مقصود للشارع ودليل ذلك استقراء الشريعة والنظر في أدلتها الكلية والجزئية وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الإستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض مختلفة الأغراض بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم وشجاعة علي رضي الله عنه وما أشبه ذلك فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص ولا على وجه مخصوص بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات والمطلقات والمقيدات والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة في كل باب من أبواب الفقه وكل نوع من أنواعه حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة وعلى هذا السبيل أفاد خبر التواتر العلم إذ لو اعتبر فيه آحاد المخبرين لكان إخبار كل واحد منهم عل فرض عدالته مفيدا للظن فلا يكون اجتماعهم يعود بزيادة على إفادة الظن لكن للإجتماع خاصية ليست للإفتراق فخبر واحد مفيد للظن مثلا فإذا انضاف إليه آخر قوي الظن وهكذا خبر آخر وآخر حتى يحصل بالجميع القطع الذي لا يحتمل النقيض فكذلك هذا إذ 52 لا فرق بينهما من جهة إفادة العلم بالمعنى الذي تضمنته الأخبار وهذا بين في كتاب المقدمات من هذا الكتاب فإذا تقرر هذا فمن كان من حملة الشريعة الناظرين في مقتضاها والمتأملين لمعانيها سهل عليه التصديق بإثبات مقاصد الشارع في إثبات هذه القواعد الثلاث المسألة العاشرة هذه الكليات الثلاث إذا كانت قد شرعت للمصالح الخاصة بها فلا يرفعها تخلف آحاد الجزئيات ولذلك أمثلة أما في الضروريات فإن العقوبات مشروعة للإزدجار مع أنا نجد من يعاقب فلا يزدحر عما عوقب عليه ومن ذلك كثير وأما في 53 الحاجيات فكالقصر في السفر مشروع للتخفيف وللحوق المشقة والملك المترفه لا مشقة له والقصر في حقه مشروع والقرض أجيز للرفق بالمحتاج مع أنه جائز أيضا مع عدم الحاجة وأما في التحسينيات فإن الطهارة شرعت للنظافة على الجملة مع أن بعضها على خلاف النظافة كالتيمم فكل هذا غير قادح في أصل المشروعية لأن الأمر الكلي إذا ثبت فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا وأيضا فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت هذا شأن الكليات الإستقرائية واعتبر ذلك بالكليات العربية فإنها أقرب شيء إلى ما نحن فيه لكون كل واحد من القبيلين أمرا وضعيا لا عقليا وإنما يتصور أن يكون تخلف بعض الجزئيات قادحا في الكليات العقلية كما نقول ما ثبت للشيء ثبت لمثله عقلا فهذا لا يمكن فيه التخلف ألبتة إذ لو تخلف لم يصح الحكم بالقضية القائلة ما ثبت للشيء ثبت لمثله فإذا كان كذلك فالكلية في الإستقرائيات صحيحة وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات وأيضا فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لحكم خارجة عن مقتضى الكلي فلا تكون داخلة تحته أصلا أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا دخولها 54 أو داخلة عندنا لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى فالملك المترفه قد يقال إن المشقة تلحقه لكنا لا نحكم عليه بذلك لخفائها أو نقول في العقوبات التي لم يزدجر صاحبها إن المصلحة ليست الإزدجار فقط بل ثم أمر آخر وهو كونها كفارة لأن الحدود كفارات لأهلها وإن كانت زحرا أيضا على إيقاع المفاسد وكذلك سائر ما يتوهم أنه خادم للكلي فعلى كل تقدير لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح المسألة الحادية عشرة مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة لاتختص بباب دون باب ولا بمحل دون محل ولا بمحل وفاق دون محل خلاف وبالجملة الأمر في المصالح مطرد مطلقا في كليات الشريعة وجزئياتها ومن الدليل على ذلك ما تقدم في الإستدلال على مطلق المصالح وأن الأحكام مشروعة لمصالح العباد ولو اختصت لم تكن موضوعة للمصالح على الإطلاق لكن البرهان قام على ذلك فدل على أن المصالح فيها غير مختصة وقد زعم بعض المتأخرين وهو القرافي أن القول بالمصالح إنما يستمر على القول بأن المصيب في مسائل الإجتهاد واحد لأن القاعدة العقلية أن الراجح 55 يستحيل أن يكون هو الشيء والنقيض بل متى كان أحدهما راجحا كان الآخر مرجوحا وهذا يقتضى أن يكون المصيب واحدا وهو المفتي بالراجح وغيره يتعين أن يكون مخطئا لأنه مفت بالمرجوح فتتناقض قاعدة المصوبين مع القول بالقياس وأن الشرائع تابعة للمصالح هذا ما قال ونقل عن شيخه ابن عبد السلام في الجواب أنه يتعين على هؤلاء أن يقولوا إن هذه القاعدة لا تكون إلا في الأحكام الإجماعية أما في مواطن الخلاف فلم يكن الصادر عن الله تعالى أن الحكم تابع للراجح في نفس الأمر بل فيما في الظنون فقط كان راجحا في نفس الأمر أو مرجوحا وسلم أن قاعدة التصويب تأبى قاعدة مراعاة المصالح لتعين الراجح وكان يقول يتعين على القائل بالتصويب 56 أن يصرف الخطأ في حديث الحاكم إلى الأسباب للإتفاق على أن الخطأ يقع فيها وحمل كلام الشارع على المتفق عليه أولى هذا ما نقل عنه ويظهر أن القاعدة جارية على كلا المذهبين لأن الأحكام على مذهب التصويب إضافية إذ حكم الله عندهم تابع لنظر المجتهد والمصالح تابعة للحكم أو متبوعة له فتكون المصالح أو المفاسد في مسائل الخلاف ثابتة بحسب ما في نفس الأمر عند المجتهد وفي ظنه ولا فرق هنا بين المخطئة والمصوبة فإذا غلب على ظن المالكي أن ربا الفضل في الخضر والفواكه الرطبة جائز فجهة المصلحة عنده هي الراجحة وهي كذلك في نفس الأمر في ظنه لأنها عنده خارجة عن حكم الربا المحرم فالمقدم على التفاضل فيها مقدم على ماهو جائز وما هو جائز لا ضرر فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة بل فيه مصلحة لأجلها أجيز وإذا غلب على ظن الشافعي أن الربا فيها غير جائز فهي عنده داخلة تحت حكم الربا المحرم وجهة المصلحة عنده هي المرجوحة لا الراجحة وهي كذلك في نفس الأمر على ما ظنه فلا ضرر لاحق به في الدنيا وفي الآخرة فحكم المصوب ههنا حكم المخطىء 57 وإنما يكون التناقض واقعا إذا عد الراجح مرجوحا من ناظر واحد بل هو من ناظرين ظن كل واحد منهما العلة التي بني عليها الحكم موجودة في المحل بحسب ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه لا ما هو عليه في نفسه إذ لا يصح ذلك إلا في مسائل الأجماع فههنا اتفق الفريقان وإنما اختلفا بعد فالمخطئة حكمت بناء على أن ذلك الحكم هو ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه والمصوبة حكمت بناء على أن لا حكم في نفس الأمر بل هو ما ظهر الآن وكلاهما بأن حكمه على علة مظنون بها أنها كذلك في نفس الأمر ويتفق ههنا من يقول باعتبار المصالح لزوما أو تفصيلا وكذلك من قال إن المصالح والمفاسد من صفات الأعيان أو ليست من صفات الأعيان وهذا مجال يحتمل بسطا أكثر من هذا وهو من مباحث أصول الفقه وإذا ثبت لم يفتقر إلى الإعتذار الذي اعتذر به ابن عبد السلام وارتفع إشكال المسألة والحمد لله وتأمل فإن الجويني نقل اتفاق المعتزلة على القول بالتصويب اجتهادا 58 وحكما وذلك يقتضى تصور اجتماع قاعدة التصويب عندهم مع القول بالتحسين والتقبيح العقلي وأن ذلك راجع إلى الذوات فكلام القرافي مشكل على كل تقدير والله أعلم المسألة الثانية عشرة إن هذه الشريعة المباركة معصومة كما أن صاحبها معصوم وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة ويتبين ذلك بوجهين أحدهما الأدلة الدالة على ذلك تصريحا وتلويحا كقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وقوله كتاب أحكمت آياته وقد قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته فأخبر أنه يحفظ آياته ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها ولا يداخلها التغيير ولا التبديل والسنة وإن لم تذكر فإنها مبينة له ودائرة حوله فهي منه وإليه ترجع في معانيها فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد بعضه بعضا ويشد بعضه بعضا وقال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا حكى أبو عمرو الداني في طبقات القراء له عن أبي الحسن بن المنتاب قال 59 كنت يوما عند القاضي أبي إسحق إسماعيل بن إسحق فقيل له لم جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن فقال القاضي قال الله عز وجل في أهل التوراة بما استحفظوا من كتاب الله فوكل الحفظ إليهم فجاز التبديل عليهم وقال في القرآن إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فلم يجز التبديل عليهم قال علي فمضيت إلى أبي عبد الله المحاملي فذكرت له الحكاية فقال ما سمعت كلاما أحسن من هذا وأيضا ما جاء من حوادث الشهب أمام بعثة النبي ومنع الشياطين من استراق السمع لما كانوا يزيدون فيما سمعوا من أخبار السماء حيث كانوا يسمعون الكلمة فيزيدون معها مائة كذبة أو أكثر فإذا كانوا قد منعوا من ذلك في السماء فكذلك في الأرض وقد عجزت الفصحاء اللسن عن الإتيان بسورة من مثله وهو كله من جملة الحفظ والحفظ دائم إلى أن تقوم الساعة فهذه الجملة تدلك على حفظ الشريعة وعصمتها عن التغيير والتبديل والثاني الإعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله إلى الآن وذلك أن الله عز وجل وفر دواعي الأمة للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل أما القرآن الكريم فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر فضلا عن القراء الأكابر وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة فقيض الله لكل علم رجالا حفظه على أيديهم فكان منهم قوم يذهبون الأيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب حتى قرروا لغات الشريعة من القرآن والحديث وهو الباب الأول من أبواب فقه الشريعة إذ أوحاها الله إلى رسوله عل لسان العرب ثم قيض رجالا يبحثون عن تصاريف هذه اللغات في النطق فيها رفعا 60 ونصبا وجرا وجزما وتقديما وتأخيرا وإبدالا وقلبا وإتباعا وقطعا وإفرادا وجمعا إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها في الإفراد والتركيب واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان فسهل الله بذلك الفهم عنه في كتابه وعن رسوله في خطابه ثم قيض الحق سبحانه رجالا يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله وعن أهل الثقة والعدالة من النقلة حتى ميزوا بين الصحيح والسقيم وتعرفوا التواريخ وصحة الدعاوي في الأخذ لفلان عن فلان حتى استقر الثابت المعمول به من أحاديث رسول الله وكذلك جعل الله العظيم لبيان السنة عن البدعة ناسا من عبيده بحثوا عن أغراض الشريعة كتابا وسنة وعما كان عليه السلف الصالحون وداوم عليه الصحابة والتابعون وردوا على أهل البدع والأهواء حتى تميز اتباع الحق عن اتباع الهوى وبعث الله تعالى من عباده قراء أخذوا كتابه تلقيا من الصحابة وعلموه لمن يأتي بعدهم حرصا على موافقة الجماعة في تأليفه في المصاحف حتى يتوافق الجميع على شيء واحد ولا يقع في القرآن اختلاف من أحد من الناس ثم قيض الله تعالى ناسا يناضلون عن دينه ويدفعون الشبه ببراهينه فنظروا في ملكوت السموات والأرض واستعملوا الأفكار وأذهبوا عن أنفسهم ما يشغلهم عن ذلك ليلا ونهارا واتخذوا الخلوة أنيسا وفازوا بربهم جليسا حتى نظروا إلى عجائب صنع الله في سمواته وأرضه وهم العارفون من خلقه والواقفون مع أداء حقه فإن عارض دين الإسلام معارض أو جادل فيه خصم مناقض غبروا في وجه شبهاته بالأدلة القاطعة فهم جند الإسلام وحماة الدين 61 وبعث الله من هؤلاء سادة فهموا عن الله وعن رسول الله فاستنبطوا أحكاما فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب والسنة تارة من نفس القول وتارة من معناه وتارة من علة الحكم حتى نزلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك وهكذا جرى الأمر في كل علم توقف فهم الشريعة عليه أو أحتيج في إيضاحها إليه وهوعين الحفظ الذي تضمنته الأدلة المنقولة وبالله التوفيق المسألة الثالثة عشرة كما أنه إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أوالحاجيات أو التحسينيات فلا ترفعها آحاد الجزئيات كذلك نقول إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي وذلك الجزئيات فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن لا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع والدليل على ذلك أمور منها ورود العتب على التارك في الجملة من غير عذر كترك الصلاة أو الجماعة أو الجمعة أو الزكاة أو الجهاد أو مفارقة الجماعة لغير أمر مطلوب أو مهروب عنه كان العتب وعيدا أو غيره كالوعيد بالعذاب وإقامة الحدود في الواجبات والتجريح في غير الواجبات وما أشبه ذلك ومنها أن عامة التكاليف من هذا الباب لأنها دائرة على القواعد الثلاث والأمر والنهي فيها قد جاء حتما وتوجه الوعيد على فعل المنهي عنه منها أو ترك المأمور به من غير اختصاص ولا محاشاة إلا في مواضع الأعذار التي تسقط أحكام الوجوب أو التحريم وحين كان ذلك كذلك دل على أن الجزئيات داخلة مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها 62 ومنها أن الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي لم يصح الأمر بالكلي من أصله لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات فتوجه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى تكليف ما لا يطاق وذلك ممنوع الوقوع كما سيأتي إن شاء الله فإذا كان لا يحصل إلا بحصول الجزئيات فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات وأيضا فإن المقصود بالكلي هنا أن تجرى أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف وإهمال القصد في الجزيئات يرجع إلى إهمال القصد في الكلي فإنه مع الإهمال لا يجري كليا 63 بالقصد وقد فرضناه مقصودا هذا خلف فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات وليس البعض في ذلك أولى من البعض فانحتم القصد إلى الجميع وهو المطلوب فإن قيل هذا يعارض القاعدة المتقدمة أن الكليات لا يقدح فيها تخلف آحاد الجزئيات فالجواب أن القاعدة صحيحة ولا معارضة فيها لما نحن فيه فإن ما نحن فيه معتبر من حيث السلامة من العارض المعارض فلا شك في انحتام القصد إلى الجزئي وما تقدم معتبر من حيث ورود العارض على الكلي حتى إن تخلف الجزئي هنالك إنما هو من جهة المحافظة على الجزئي في كليه من جهة أخرى كما نقول إن حفظ النفوس مشروع وهذا كلي مقطوع بقصد الشارع إليه ثم شرع القصاص حفظا للنفوس فقتل النفس في القصاص محافظة عليها بالقصد ويلزم من ذلك تخلف جزئي من جزئيات الكلي المحافظ عليه وهو إتلاف هذه النفس لعارض عرض وهو الجناية على النفس فإهمال هذا الجزئي في كليه من جهة المحافظة على جزئي في كليه أيضا وهو النفس المجني عليها فصار عين اعتبار الجزئي في كليه هو عين إهمال الجزئي لكن في المحافظة على كليه من وجهين وهكذا سائر ما يرد من هذا الباب 64 فعلى هذا تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى الكلي إن كان لغير عارض فلا يصح شرعا وإن كان لعارض فذلك راجع إلى المحافظة على ذلك الكلي من جهة أخرى أو على كلي آخر فالأول يكون قادحا تخلفه في الكلي والثاني لا يكون تخلفه قادحا النوع الثاني في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام ويتضمن مسائل المسألة الأولى إن هذه الشريعة المباركة عربية لا مدخل فيها للألسن العجمية وهذا وإن كان مبينا في أصول الفقه وأن القرآن ليس فيه كلمة أعجمية عند جماعة من الأصوليين أو فيه ألفاظ أعجمية تكلمت بها العرب وجاء القرآن على وفق ذلك فوقع فيه المعرب الذي ليس من أصل كلامها فإن هذا البحث على هذا الوجه غير مقصود هنا وإنما البحث المقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة لأن الله تعالى يقول إنا أنزلناه قرآنا عربيا وقال بلسان عربي مبين وقال لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين وقال ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي إلى غير ذلك مما يدل على أنه عربي وبلسان العرب لا أنه أعجمي ولا بلسان العجم فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهم ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة هذا هو المقصود من المسألة 65 وأما كونه جاءت فيه ألفاظ من ألفاظ العجم أو لم يجىء فيه شىء من ذلك فلا يحتاج إليه إذا كانت العرب قد تكلمت به وجرى في خطابها وفهمت معناه فإن العرب إذا تكلمت به صار من كلامها ألا ترى أنها لا تدعه على لفظه الذي كان عليه عند العجم إلا إذا كانت حروفه في المخارج والصفات كحروف العرب وهذا يقل وجوده وعند ذلك يكون منسوبا إلى العرب فأما إذا لم تكن حروفه كحروف العرب أو كان بعضها كذلك دون بعض فلا بد لها من أن تردها إلى حروفها ولا تقبلها على مطابقة حروف العجم أصلا ومن أوزان الكلم ما تتركه على حاله في كلام العجم ومنها ما تتصرف فيه بالتغيير كما تتصرف في كلامها وإذا فعلت ذلك صارت تلك الكلم مضمومة إلى كلامها كالألفاظ المرتجلة والأوزان المبتدأة لها هذا معلوم عند أهل العربية لا نزاع فيه ولا إشكال ومع ذلك فالخلاف الذي يذكره المتأخرون في خصوص المسألة لا ينبني عليه حكم شرعي ولا يستفاد منه مسألة فقهية وإنما يمكن فيها أن توضع مسألة كلامية ينبني عليها اعتقاد وقد كفى الله مؤونة البحث فيها بما استقر عليه كلام أهل العربية في الأسماء الأعجمية فإن قلنا إن القرآن نزل بلسان العرب وإنه عربي وإنه لا عجمه فيه فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه وبالعام يراد به الخاص والظاهر يراد به غير الظاهر 66 وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره وتتكلم بالكلام ينبىء أوله عن آخره أو آخره عن أوله وتتكلم بالشىء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة وتسمى الشىء الواحد بأسماء كثيرة والأشياء الكثيرة بإسم واحد وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شىء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها فإذا كان كذلك فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم لاختلاف الأوضاع والأساليب والذي نبه علىهذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام في رسالته الموضوعة في أصول الفقه وكثير ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ فيجب التنبه لذلك وبالله التوفيق المسألة الثانية للغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة علىمعان نظران أحدهما من جهة كونها ألفاظ وعبارات مطلقة دالة علىمعان مطلقة وهى الدلالة الأصلية والثاني من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة علىمعان خادمة وهي الدلالة التابعة فالجهة الأولى هي التي يشترك فيها جميع الألسنة وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين ولا تختص بأمة دون أخرى فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام تأتي له ما أراد من غير كلفة ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأولين ممن ليسوا من أهل اللغة العربية وحكاية كلامهم ويتأتى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها وهذا لا إشكال فيه 67 وأما الجهة الثانية فهي التي يختص بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الإخبار فإن كل خبر يقتضى في هذه الجهة أمورا خادمة لذلك الإخبار بحسب المخبر والمخبر عنه والمخبر به ونفس الإخبار في الحال والمساق ونوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء والإيجاز والإطناب وغير ذلك وذلك أنك تقول في ابتداء الأخبار قام زيد إن لم تكن ثم عناية بالمخبر عنه بل بالخبر فإن كانت العناية بالمخبر عنه قلت زيد قام وفى جواب السؤال أو ما هو منزل تلك المنزلة إن زيدا قام وفى جواب المنكر لقيامه والله إن زيدا قام وفى إخبار من يتوقع قيامه أو الإخبار بقيامه قد قام زيد أو زيد قد قام وفى التنكيت على من ينكر إنما قام زيد ثم يتنوع أيضا بحسب تعظيمه أو تحقيره أعني المخبر عنه وبحسب الكناية عنه والتصريح به وبحسب ما يقصد في مساق الأخبار وما يعطيه مقتضى الحال إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها وجميع ذلك دائر حول الإخبار بالقيام عن زيد فمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ليست هى المقصود الأصلي ولكنها من مكملاته ومتمماته وبطول الباع في هذا النوع يحسن مساق الكلام إذا لم يكن فيه منكر وبهذا النوع الثاني اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص القرآن لأنه يأتي مساق القصة في بعض السور على وجه وفى بعضها على وجه آخر وفى ثالثة على وجه ثالث وهكذا ما تقرر فيه من الإخبارات لا بحسب النوع الأول إلا إذا سكت عن بعض التفاصيل في بعض ونص عليه في بعض وذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال والوقت وما كان ربك نسيا 68 فصل وإذا ثبت هذا فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير أن يترجم كلاما من الكلام العربي بكلام العجم على حال فضلا عن أن يترجم القرآن وينقل إلى لسان غير عربي إلا مع فرض استواء اللسانين في اعتباره عينا كما إذا استوى اللسانان في استعمال ما تقدم تمثيله ونحوه فإذا ثبت ذلك في اللسان المنقول إليه مع لسان العرب أمكن أن يترجم أحدهما إلى الآخر وإثبات مثل هذا بوجه بين عسير جدا وربما أشار إلى شىء من ذلك أهل المنطق من القدماء ومن حذا حذوهم من المتأخرين ولكنه غير كاف ولا مغن في هذا المقام وقد نفى ابن قتيبة إمكان الترجمة في القرآن يعني على هذا الوجه الثاني فأما على الوجه الأول فهو ممكن ومن جهته صح تفسير القرآن وبيان معناه للعامة ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه وكان ذلك جائزا باتفاق أهل الإسلام فصار هذا الإتفاق حجة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي فصل وإذا اعتبرت الجهة الثانية مع الأولى وجدت كوصف من أوصافها لأنها كالتكملة للعبارة والمعنى من حيث الوضع للإفهام وهل تعد معها كوصف من الأوصاف الذاتية أو هي كوصف غير ذاتي في ذلك نظر وبحث ينبني عليه من المسائل الفروعية جملة إلا أن الإقتصار على ما ذكر فيها كاف فإنه كالأصل لسائر الأنظار المتفرعة فالسكوت عن ذلك أولى وبالله التوفيق 69 المسالة الثالثة هذه الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك فهو أجرى على اعتبار المصالح ويدل على ذلك أمور أحدها النصوص المتواترة اللفظ والمعنى كقوله تعالى هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم وقوله فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته وفى الحديث بعثت إلى أمة أمية لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين والأمي منسوب إلى الأم وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره فهو على أصل خلقته التي ولد عليها وفى الحديث 70 نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقد فسر معنى الأمية في الحديث أي ليس لنا علم بالحساب ولا الكتاب ونحوه قوله تعالى وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك وما أشبه هذا من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنة الدالة على أن الشريعة موضوعة على وصف الأمية لأن أهلها كذلك والثاني أن الشريعة التي بعث بها النبي الأمي إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا فإن كان كذلك فهو معنى كونها أمية أي منسوبة إلى الأميين وإن لم تكن كذلك لزم أن تكون على غير ما عهدوا فلم تكن لتنزل من أنفسهم منزلة ما تعهد وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها فلا بد أن تكون على ما يعهدون والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية فالشريعة إذا أمية والثالث أنه لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزا الله تبارك وتعالى رضي الله عنهن الرب عز وجل 71 ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم هذا على غير ما عهدنا إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام من حيث إن كلامنا معروف مفهوم عندنا وهذا ليس بمفهوم ولا معروف فلم تقم الحجة عليهم به ولذلك قال سبحانه ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أاعجمى وعربى فجعل الحجة على فرض كون القرآن أعجميا ولما قالوا إنما يعلمه بشر رد الله عليهم بقوله لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربى مبين لكنهم أذعنوا لظهور الحجة فدل على أن ذلك لعلمهم به وعهدهم بمثله مع العجز عن مماثلته وأدلة هذا المعنى كثيرة فصل واعلم أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق واتصاف بمحاسن شيم فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه وأبطلت ما هو باطل وبينت منافع ما ينفع من ذلك ومضار ما يضر منه فمن علومها علم النجوم وما يختص بها من الإهتداء في البر والبحر واختلاف الأزمان باختلاف سيرها وتعرف منازل سير النيرين وما يتعلق بهذا المعنى وهو معنى مقرر في أثناء القرآن في مواضع كثيرة كقوله تعالى وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر وقوله وبالنجم هم يهتدون وقوله والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار الآية وقوله 72 هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب وقوله وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة الآية وقوله ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وقوله يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وما أشبه ذلك 73 ومنها علوم الأنواء وأوقات نزول الأمطار وإنشاء السحاب وهبوب الرياح المثيرة لها فبين الشرع حقها من باطلها فقال تعالى هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده الأية وقال أفرأيتم الماء الذى تشربون أانتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون وقال وأنزلنا من المعصرات ماءا ثجاجا وقال وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون خرج الترمذي قال رسول الله وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قال شكركم تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا وفى الحديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي الحديث في الأنواء وفى الموطأ مما انفرد به إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة وقال عمر بن الخطاب للعباس وهو على المنبر والناس تحته كم بقى من نوء الثريا فقال له العباس بقي من نوئها كذا وكذا فمثل هذا مبين للحق من الباطل في أمر الأنواء والأمطار وقال تعالى وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه الآية وقال والله الذى أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها إلى كثير من هذا ومنها علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية وفى القرآن من ذلك ما هو كثير وكذلك في السنة ولكن القرآن احتفل في ذلك وأكثره من الأخبار بالغيوب التي لم يكن للعرب بها علم لكنها من جنس ما كانوا ينتحلون 74 قال تعالى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم الآية وقال تعالى تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا وفى الحديث قصة أبيهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في بناء البيت وغير ذلك مما جرى ومنها ما كان أكثره باطلا أو جميعه كعلم العيافة والزجر والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطيرة فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل ونهت عنه كالكهانة والزجر وخط الرمل وأقرت الفأل لا من جهة تطلب الغيب فإن الكهانة والزجر كذلك وأكثر هذه الأمور تحرص على علم الغيب من غير دليل فجاء النبى بجهة من تعرف علم الغيب مما هو حق محض وهو الوحي والإلهام وأبقى للناس من ذلك بعد موته عليه السلام جزء من النبوة وهو الرؤيا الصالحة وأنموذج من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة ومنها علم الطب فقد كان في العرب منه شىء لا على ما عند الأوائل بل مأخوذ من تجاريب الأميين غير مبنى على علوم الطبيعة التي يقررها الأقدمون وعلى ذلك المساق جاء في الشريعة لكن وجه جامع شاف 75 قليل يطلع منه على كثير فقال تعالى كلوا واشربوا ولا تسرفوا وجاء في الحديث التعريف ببعض الأدوية لبعض الأدواء وأبطل من ذلك ما هو باطل كالتداوي بالخمر والرقي التي اشتملت على ما لا يجوز شرعا 76 ومنها التفنن في علم فنون البلاغة والخوض في وجوه الفصاحة والتصرف في أساليب الكلام وهو أعظم منتحلاتهم فجاءهم بما أعجزهم من القرآن الكريم قال تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ومنها ضرب الأمثال وقد قال تعالى ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل إلا ضربا واحدا وهو الشعر فأن الله نفاه وبرأ الشريعة منه قال تعالى في حكايته عن الكفار أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين أي لم يأت بشعر فإنه ليس بحق ولذلك قال وما علمناه الشعر وما ينبغي له الآية وبين معنى ذلك في قوله تعالى والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون فظهر أن الشعر ليس مبنيا على أصل ولكنه هيمان على غير تحصيل وقول لا يصدقه فعل وهذا مضاد لما جاءت به الشريعة إلا ما استثنى الله تعالى فهذا أنموذج ينبهك على ما نحن بسبيله بالنسبة إلىعلوم العرب الأمية وأما ما يرجع إلى الإتصاف بمكارم الأخلاق وما ينضاف إليها فهو أول ما خوطبوا به وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية من حيث كان آنس لهم وأجري على ما يتمدح به عندهم كقوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وايتآء ذي القربى إلى آخرها وقوله تعالى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا إلى انقضاء تلك الخصال وقوله قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده وقوله قل إنما حرم ربي 77 الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى لكن أدرج فيها ما هو أولى من النهي عن الإشراك والتكذيب بأمور الآخرة وشبه ذلك مما هو المقصود الأعظم وأبطل لهم ما كانوا يعدونه كرما وأخلاقا حسنة وليس كذلك أو فيه من المفاسد ما يربى على المصالح التي توهموها كما قال تعالى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ثم بين ما فيها من المفاسد خصوصا في الخمر والميسر من إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهذا في الفساد أعظم مما ظنوه فيهما صلاحا لأن الخمر كانت عندهم تشجع الجبان وتبعث البخيل على البذل وتنشط الكسالى والميسر كذلك كان عندهم محمودا لما كانوا يقصدون به من إطعام الفقراء والمساكين والعطف على المحتاجين وقد قال تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما والشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق ولهذا قال عليه السلام بعثت لأتمم مكارم الأخلاق إلا أن مكارم الأخلاق إنما كانت على ضربين أحدهما ما كان مألوفا وقريبا من المعقول المقبول كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به ثم لما رسخوا فيه تمم لهم ما بقي وهو الضرب الثاني وكان منه ما لا يعقل معناه من أول وهلة فأخر حتى كان من آخره تحريم الربا وما أشبه ذلك وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق وهو الذي كان معهودا عندهم على الجملة 78 ألا ترى أنه كان للعرب أحكام عندهم في الجاهلية أقرها الإسلام كما قالوا في القراض وتقدير الدية وضربها على العاقلة وإلحاق الولد بالقافة والوقوف بالمشعر الحرام والحكم في الخنثى وتوريث الولد للذكر مثل حظ الأنثيين والقسامة وغير ذلك مما ذكره العلماء ثم يقول لم يكتف بذلك حتى خوطبوا بدلائل التوحيد فيما يعرفون من سماء وأرض وجبال وسحاب ونباب وبدلائل الآخرة والنبوة كذلك ولما كان الباقي عندهم من شرائع الأنبياء شيء من شريعة إبراهيم عليه السلام أبيهم خوطبوا من تلك الجهة ودعوا إليها وأن ما جاء به محمد هي تلك بعينها كقوله تعالى ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا وقوله ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا الآية غير أنهم غيروا جملة منها وزادوا واختلفوا فجاء تقويمها من جهة محمد وأخبروا بما أنعم الله عليهم مما هو لديهم وبين أيديهم وأخبروا عن نعيم الجنة وأصنافه بما هو معهود في تنعماتهم في الدنيا لكن مبرأ من الغوائل والآفات التي تلازم التنعيم الدنيوي كقوله وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود إلى آخر الآيات وبين من مأكولات الجنة ومشروباتها ما هو معلوم عندهم كالماء واللبن والخمر والعسل والنخيل والأعناب وسائر ما هو عندهم مألوف دون الجوز واللوز والتفاح والكمثرى وغير ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم بل أجمل ذلك في لفظ الفاكهة وقال تعالى 79 ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن فالقرآن كله حكمة وقد كانوا عارفين بالحكمة وكان فيهم حكماء فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله وكان فيهم أهل وعظ وتذكير كقس بن ساعدة وغيره ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل ومن تأمل القرآن وتأمل كلام العرب في هذه الأمور الثلاثة وجد الأمر سواء إلا ما اختص به كلام الله من الخواص المعروفة وسر في جميع ملابسات العرب هذا السير تجد الأمر كما تقرر وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أمية لم تخرج عما ألفته العرب المسألة الرابعة ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب ينبني عليه قواعد منها أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أوالمتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وجميع مانظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح وإلى هذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه ولم يبلغنا أنه 80 تكلم أحد منهم في شىء من هذا المدعي سوى ما تقدم وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة وما يلي ذلك ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة إلا أن ذلك لم يكن فدل على أنه غير موجود عندهم وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشىء مما زعموا نعم تضمن علوما هي من جنس علوم العرب أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الإهتداء بإعلامه والإستنارة بنوره أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء وقوله ما فرطنا في الكتاب من شىء ونحو ذلك وبفواتح السور وهي مما لم يعهد عند العرب وبما نقل عن الناس فيها وربما حكى من ذلك عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه وغيره أشياء فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد أو 81 المراد بالكتاب في قوله ما فرطنا في الكتاب من شىء اللوح المحفوط ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا كعدد الجمل الذي تعرفوه من أهل الكتاب حسبما ذكره أصحاب السير أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تاويلها إلا الله تعالى وغير ذلك وأما تفسيرها بما عهد به فلا يكون ولم يدعه أحد ممن تقدم فلا دليل فيها على ما ادعوا وما ينقل عن علي أو غيره في هذا لا يثبت فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه ويجب الإقتصار في الإستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة فبه يوصل إلى علم 82 ماأودع من الأحكام الشرعية فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه وتقول على الله ورسوله فيه والله أعلم وبه التوفيق فصل ومنها أنه لابد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة وإن لم يكن ثم عرف فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه وهذا جار في المعانى والألفاظ والأساليب مثال ذلك أن معهود العرب أن لا ترى الألفاظ تعبدا عند محافظتها على المعانى وإن كانت تراعيها أيضا فليس أحد الأمرين عندها بملتزم بل قد تبنى على أحدهما مرة وعلى الآخر أخرى ولا يكون ذلك قادحا في صحة كلامها واستقامته والدليل على ذلك أشياء أحدها خروجها في كثير من كلامها عن أحكام القوانين المطردة والضوابط المستمرة وجريانها في كثير من منثورها على طريق منظومها وإن لم يكن بها حاجة وتركها لما هو أولى في مراميها ولا يعد ذلك قليلا فى 83 كلامها ولاضعيفا بل هو كثير قوي وإن كان غيره أكثر منه والثانى أن من شأنها الاستغناء ببعض الألفاظ عما يراد فيها أو يقاربها ولا يعد ذلك اختلافا ولا اضطرابا إذ كان المعنى المقصود عل استقامة والكافى من ذلك نزول القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف وفى هذا المعنى من الأحاديث وكلام السلف العارفين بالقرآن كثير وقد استمر أهل القراءات على أن يعملوا بالروايات التى صحت عندهم مما وافق المصحف وأنهم في ذلك قارئون للقرآن من غير شك ولا إشكال وإن كان بين القراءين ما يعده الناظر ببادئ الرأي اختلافا في المعنى لأن معنى الكلام من أوله إلى آخره على استقامة لا تفاوت فيه بحسب مقصود الخطاب مالك و ملك وما يخدعون إلا أنفسهم وما يخادعون إلا أنفسهم لنبوئنهم من الجنة غرفا لنثوينهم من الجنة غرفا إلى كثير من هذا لأن جيمع ذلك لا تفاوت فيه بحسب فهم ما أريد من الخطاب وهذا كان عادة العرب ألا ترى ما حكى ابن جنى عن عيسى بن عمر وحكى عن غيره أيضا قال سمعت ذا الرمة ينشد وظاهر لها من يابس الشخث واستعن عليها الصبا واجعل يديك لها سترا فقلت أنشدتنى من بائس فقال يابس وبائس واحد فأنت ترى ذا الرمة لم يعبأ بالاختلاف بين البؤس واليبس لما كان معنى البيت قائما على الوجهين وصوابا على كلتا الطريقتين وقد قال في رواية أبي العباس 84 الأحول البؤس واليبس واحد يعنى بحسب قصد الكلام لا بحسب تفسير اللغة وعن أحمد بن يحيى قال أنشدنى ابن الأعرابي وموضع زير لا أريد مبيته كأنى به من شدة الروع آنس فقال له شيخ من أصحابه ليس هكذا أنشدتنا وموضع ضيق فقال سبحان الله تصحبنا منذ كذا وكذا ولا تعلم أن الزير والضيق واحد وقد جاءت أشعارهم على روايات مختلفة وبألفاظ متباينة يعلم من مجموعها أنهم كانوا لا يلتزمون لفظا واحدا على الخصوص بحيث يعد مرادفة أو مقاربة عيبا أو ضعفا إلا في مواضع مخصوصة لا يكون ما سواه من المواضع محمولا عليها وإنما معهودها الغالب ما تقدم والثالث أنها قد تهمل بعض أحكام اللفظ وإن كانت تعتبره على الجملة كما استقبحوا العطف على الضمير المرفوع المتصل مطلقا ولم يفرقوا بين ما له لفظ وما ليس له لفظ فقبح قمت وزيد كما قبح قام وزيد وجمعوا في الردف بين عمود ويعود من غير استكراه وواو عمود أقوى في المد وجمعوا بين سعيد وعمود مع اختلافهما وأشباه ذلك من الأحكام اللطيفة التى تقتضيها الألفاظ في قياسها النظري لسكنها تهملها وتوليها جانب الإعراض وما ذلك إلا لعدم تعمقها في تنقيح لسانها والرابع أن الممدوح من كلام العرب عند أرباب العربية ما كان بعيدا عن تكلف الاصطناع ولذلك إذا اشتغل الشاعر العربي بالتنقيح اختلف في الأخذ عنه فقد كان الأصمعي يعيب الخطيئة واعتذر عن ذلك بأن قال وجدت شعره كله جيدا فدلنى على أنه كان يصنعه وليس هكذا الشاعر 85 المطبوع إنما الشاعر المطبوع الذى يرمى بالكلام على عواهنه جيده على رديئة وما قاله هو الباب المنتهج والطريق المهيع عند أهل اللسان وعلى الجملة فالأدلة على هذا المعنى كثيرة ومن زوال كلام العرب وقف من هذا على علم وإذا كان كذلك فلا يستقيم للمتكلم في كتاب الله أو سنة رسول الله أن يتكلف فيهما فوق ما يسعه لسان العرب وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتنى العرب به الوقوف عند ما حدته فصل ومنها أنه إنما يصح في مسلك الأفهام والفهم ما يكون عاما لجميع العرب فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه بحسب الألفاظ والمعانى فإن الناس في الفهم وتأتى التكليف فيه ليسوا على وزان واحد ولا متقارب إلا أنهم يتقاربون في الأمور الجمهورية وما والاها وعلى ذلك جرت مصالحهم في الدنيا ولم يكونوا بحيث يتعمقون في كلامهم ولا في أعمالهم إلا بمقدار ما لا يخل بمقاصدهم اللهم إلا أن يقصدوا أمرا خاصا لأناس خاصة فذاك كالكنايات الغامضة والرموز البعيدة التى تخفى عن الجمهور ولاتخفى عمن قصد بها وإلا كان خارجا عن حكم معهودها فكذلك يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة بحيث تكون معانيه مشتركة لجميع العرب ولذلك أنزل القرآن على سبعة أحرف واشتركت فيه اللغات حتى كانت قبائل العرب تفهمه 86 وأيضا فمقتضاه من التكليف لا يخرج عن هذا النمط لأن الضعيف ليس كالقوى ولا الصغير كالكبير ولا الأنثى كالذكر بل كل له حد ينتهى إليه في العادة الجارية فأخذوا بما يشترك الجمهور في القدرة عليه وألزموا ذلك من طريقهم بالحجة القائمة والموعظة الحسنة ونحو ذلك ولو شاء الله لألزمهم ما لا يطيقون ولكلفهم بغير قيام حجة ولا إتيان ببرهان ولا وعظ ولا تذكير ولطوقهم فهم ما لا يفهم وعلم ما لم يعلم فلا حجر عليه في ذلك فإن حجة الملك قائمة قل فلله الحجة البالغة لكن الله سبحانه خاطبهم من حيث عهدوا وكلفهم من حيث لهم القدرة على ما به كلفوا وغذوا في أثناء ذلك بما يستقيم به منآدهم ويقوى به ضعيفهم وتنتهض به عزائمهم من الوعد تارة والوعيد أخرى والموعظة الحسنة أخرى وبيان مجارى العادات فيمن سلف من الأمم الماضية والقرون الخالية إلى غير ذلك مما في معناه حتى يعلموا أنهم لم ينفردوا بهذا الأمر دون الخلق الماضين بل هم مشتركون في مقتضاه ولايكونون مشتركين إلا فيما لهم منة على تحمله وزادهم تخفيفا دون الأولين وأجرى فوقهم فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم وقد خرج الترمذى وصححه عن أبي بن كعب قال لقى رسول الله جبريل فقال يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذى لم يقرأ كتابا قط قال يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف 87 فالحاصل أن الواجب في هذا المقام إجراء الفهم في الشريعة على وزان الاشتراك الجمهوري الذى يسع الأميين كما يسع غيرهم فصل ومنها أن يكون الاعتناء بالمعانى المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعانى وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد والمعنى هو المقصود ولا أيضا كل المعانى فإن المعنى الإفرادي قد لايعبأ به إذا كان المعنى التركيبى مفهوما دونه كما لم يعبأ ذو الرمة ببائس ولا يابس اتكالا منه على أن حاصل المعنى مفهوم وأبين من هذا ما في جامع الإسماعيلي المخرج على صحيح البخارى عن أنس ابن مالك أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قرأ فاكهة وأبا قال ما الأب ثم قال ما كلفنا هذا أو قال ما أمرنا بهذا وفيه أيضا عن أنس أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله فاكهة وأبا ما الأب فقال عمر نهينا عن التعمق والتكلف ومن المشهور تأديبه لضبيع حين كان يكثر السؤال عن المرسلات و العاصفات ونحوهما وظاهر هذا كله أنه إنما نهى عنه لأن المعنى التركيبي معلوم على الجملة ولا ينبنى على فهم هذه الأشياء حكم تكليفي فرأى أن الإشتغال به عن غيره مما هو أهم منه تكلف ولهذا أصل في الشريعة صحيح نبه عليه قوله تعالى ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب إلى آخر الآية فلو كان فهم اللفظ الإفرادي يتوقف عليه فهم التركيبي لم يكن تكلفا بل هو مضطر إليه كما روى عن عمر نفسه في قوله تعالى أو يأخذهم على تخوف 88 فإنه سئل عنه على المنبر فقال له رجل من هذيل التخوف عندنا التنقص ثم أنشده تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن فقال عمر أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم فليس بين الخبرين تعارض لأن هذا قد توقف فهم معنى الآية عليه بخلاف الأول فإذا كان الأمر هكذا فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب لأنه المقصود والمراد وعليه ينبنى الخطاب ابتداء وكثيرا ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذى ينبغى فتستبهم على الملتمس وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب فيكون عمله في غير معمل ومشيه على غير طريق والله الواقى برحمته فصل ومنها أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمى تعقلها ليسعه الدخول تحت حكمها أما الإعتقادية بأن تكون من القرب للفهم والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور من كان منهم ثاقب الفهم أو بليدا فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة ولم تكن أمية وقد ثبت كونها كذلك فلا بد أن تكون المعانى المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ وأيضا فلو لم تكن كذلك لزم بالنسبة إلى الجمهور تكليف ما لا يطاق وهو غير واقع كما هو مذكور في الأصول ولذلك تجد الشريعة لم تعرف من الأمور 89 الآلهية إلا بما يسع فهمه وأرجت غير ذلك فعرفته بمقتضى الأسماء والصفات وحضت على النظر في المخلوقات إلى أشباه ذلك وأحالت فيما يقع فيه الاشتباه على قاعدة عامة وهو قوله تعالى ليس كمثله شىء وسكتت عن أشياء لا تهتدى إليها العقول نعم لا ينكر تفاضل الإداركات على الجملة وإنما النظر في القدر المكلف به ومما يدل على ذلك أيضا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يبلغنا عنهم من الخواض في هذه الأمور ما يكون أصلا للباحثين والمتكلفين كما لم يأت ذلك عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام وكذلك التابعون المقتدى بهم لم يكونوا إلا على ما كان عليه الصحابة بل الذى جاء عن النبي وعن أصحابه النهى عن الخوض في الأمور الإلهية وغيرها حتى قال لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خالق كل شئ فمن خلق الله وثبت النهى عن كثرة السؤال وعن تكلف مالا يعنى عاما في الاعتقادات والعمليات وأخبر مالك أن من تقدم كانوا يكرهون الكلام إلا فيما تحته عمل وإنما يريد ما كان من الأشياء التى لا تهتدى العقول لفهمها مما سكت عنه أو مما وقع نادرا من المتشابهات محالا به على آية التنزيه وعلى هذا فالتعمق في البحث فيها وتطلب ما لا يشترك الجمهور في فهمه خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية فإنه ربما جمحت النفس إلى طلب ما لا يطلب منها فوقعت في ظلمة لا انفكاك لها منها ولله در القائل وللعقول قوى تستن دون مدى إن تعدها ظهرت فيها اضطرابات ومن طماح النفوس إلى ما لم تكلف به نشأت الفرق كلها أو أكثرها وأما العمليات فمن مراعاة الأمية فيها أن وقع تكليفهم بالجلائل في الأعمال والتقريبات في الأمور بحيث يدركها الجمهور كما عرف أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم كتعريفها بالظلال وطلوع الفجر والشمس وغروبها وغروب الشفق وكذلك في الصيام في قوله تعالى حتى يتبين 90 لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولما كان فيهم من حمل العبارة على حقيقتها نزل من الفجر وفى الحديث إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم وقال نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا وقال لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ولم يطالبنا بحساب مسير الشمس مع القمر في المنازل لأن ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومها ولدقة الأمر فيه وصعوبة الطريق إليه وأجرى لنا غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين وعذر الجاهل فرفع عنه الإثم وعفا عن الخطأ إلى غير ذلك من الأمور المشتركة للجمهور فلا يصح الخروج عما حد في الشريعة ولا تطلب ما وراء هذه الغاية فإنها مظنة الضلال ومزلة الأقدام 91 فإن قيل هذا مخالف لما نقل عنهم من تدقيق النظر في مواقع الأحكام ومظان الشبهات ومجارى الرياء والتصنع للناس ومبالغتهم في التحرز من الأمور المهلكات التى هى عند الجمهور من الدقائق التى لا يهتدى إلى فهمها والوقوف عليها إلا الخواص وقد كانت عندهم عظائم وهي مما لا يصل إليها الجمهور وأيضا لو كانت كذلك لم يكن للعلماء مزية على سائر الناس وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم خاصة وعامة وكان للخاصة من الفهم في الشريعة ما لم يكن للعامة وإن كان الجميع عربا وأمة أمية وهكذا سائر القرون إلى اليوم فكيف هذا وأيضا فإن الشريعة قد اشتملت على ما تعرفه العرب عامة وما يعرفه العلماء خاصة وما لا يعلمه إلا الله تعالى وذلك المتشابهات فهى شاملة لما يوصل إلى فهمه على الإطلاق وما لا يوصل إليه على الإطلاق وما يوصل إليه البعض دون البعض فأين الاختصاص بما يليق بالجمهور خاصة فالجواب أن يقال أما المتشابهات فإنها من قبيل غير ما نحن فيه لأنها إما راجعة إلى أمور آلهية لم يفتح الشارع لفهمها بابا غير التسليم والدخول تحت آية التنزيه وإما راجعة إلى قواعد شرعية فتتعارض أحكامها وهذا خاص مبنى على عام هو ما نحن فيه وذلك أن هذه الأمور كلها يجاب عنها بأوجه أحدها أنها أمور أضافية لم يتعبد بها أول الأمر للأدلة المتقدمة وإنما هى أمور تعرض لمن تمرن في علم الشريعة وزاول أحكام التكليف وامتاز عن الجمهور بمزيد فهم فيها حتى زايل الأمية من وجه فصار تدقيقه في الأمور الجليلة بالنسبة إلى غيره ممن لم يبلغ درجته فنسبته إلى ما فهمه نسبة العامي إلى ما فهمه 92 والنسبة إذا كانت محفوظة فلا يبقى تعارض بين ما تقدم وما ذكر في السؤال والثانى أن الله تعالى جعل أهل الشريعة على مراتب ليسوا فيها على وزان واحد ورفع بعضهم فوق بعض كما أنهم في الدنيا كذلك فليس من له مزيد في فهم الشريعة كمن لا مزيد له لكن الجميع جار على أمر مشترك والاختصاصات فيها هبات من الله لا تخرج أهلها عن حكم الاشتراك بل يدخلون مع غيرهم فيها ويمتازون هم بزيادات في ذلك الأمر المشترك بعينه فإن امتازوا بمزيد الفهم لم يخرجهم ذلك عن حكم الاشتراك فإن ذلك المزيد أصله الأمر المشترك كما نقول إن الورع مطلوب من كل أحد على الجملة ومع ذلك فمنه ما هو من الجلائل كالورع عن الحرام البين والمكروه البين ومنه ما ليس من الجلائل عند قوم وهو منها عند قوم آخرين فصار الذين عدوه من الجلائل داخلين في القسم الأول على الجملة وإن كانوا قد امتازوا عنهم بالورع عن بعض ما لا يتورع عنه القسم الأول بناء على الشهادة بكون الموضع متأكدا لبيانه أو غير متأكد لدقته وهكذا سائر المسائل التى يمتاز بها الخواص عن العوام لا تخرج 93 عن هذا القانون فقد بان أن الجميع جارون على حكم أمر مشترك مفهوم للجمهور على الجملة والثالث أن ما فيه التفاوت إنما تجده في الغالب في الأمور المطلقة في الشريعة التى لم يوضع لها حد يوقف عنده بل وكلت إلى نظر المكلف فصار كل أحد فيها مطلوبا بإداركه فمن مدرك فيها أمرا قريبا فهو المطلوب منه ومن مدرك فيها أمرا هو فوق الأول فهو المطلوب منه وربما تفاوت الأمر فيها بحسب قدرة المكلف على الدوام فيما دخل فيه وعدم قدرته فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه لم يؤمر بها بل بما هو دونها ومن كان قادرا على ذلك كان مطلوبا وعلى هذا السبيل يعتبر ما جاء مما يظن أنه مخالف لما تقدم والله أعلم فلهذا المعنى بعينه وضعت العمليات على وجه لا تخرج المكلف إلى مشقة يمل بسببها أو إلى تعطيل عاداته التى يقوم بها صلاح دنياه ويتوسع بسببها في نيل حظوظه وذلك أن الأمي الذى لم يزاول شيئا من الأمور الشرعية ولا العقلية وربما اشمأز قلبه عما يخرجه عن معتاده بخلاف من كان له بذلك عهد ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا ولم تنزل دفعة واحدة وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له مالك لا 94 تنفذ الأمور فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق قال له عمر لا تعجل يا بنى فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة وإنى أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعوه جملة ويكون من ذا فتنة وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادى فكان ما كان أجرى بالمصلحة وأجرى على جهة التأنيس وكان أكثرها على أسباب واقعة فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع وكانت أقرب فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع وكانت أقرب إلى التأنيس حين كانت تنزل حكما حكما وجزئية جزئية لأنها إذا نزلت كذلك لم ينزل حكم إلا والذى قبله قد صار عادة واستأنست به نفس المكلف الصائم عن التكليف وعن العلم به رأسا فإذا نزل الثانى كانت النفس أقرب للانقياد له ثم كذلك في الثالث والرابع ولذلك أيضا أونسوا في الابتداء بأن هذه الملة ملة إبراهيم عليه السلام كما يؤنس الطفل في العمل بأنه من عمل أبيه يقول تعالى ملة أبيكم إبراهيم ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه إلى غير ذلك من الآيات فلو نزلت دفعة واحدة لتكاثرت التكاليف على المكلف فلم يكن لينقاد إليها انقياده إلى الحكم الواحد أو الأثنين وفى الحديث الخير عادة وإذا اعتادت النفس فعلا ما من أفعال الخير حصل له به نور في قلبه وانشرح به صدره فلا يأتي فعل ثان إلا وفى النفس له القبول هذا في عادة الله في أهل الطاعة وعادة 95 أخرى جارية في الناس أن النفس أقرب انقيادا إلى فعل يكون عندها فعل آخر من نوعه ومن هنا كان عليه الصلاة والسلام يكره أضداد هذا ويحب ما يلائمه فكان يحب الرفق ويكره العنف وينهى عن التعمق والتكلف والدخول تحت ما لا يطاق حمله لأن هذا كله أقرب إلى الانقياد وأسهل في التشريع للجمهور المسألة الخامسة إذا ثبت أن للكلام من حيث دلالته على المعنى اعتبارين من جهة دلالته على المعنى الأصلى ومن جهة دلالته على المعنى التبعي الذى هو خادم للأصل كان من الواجب أن ينظر في الوجه الذى تستفاد منه الأحكام وهل يختص بجهة المعنى الأصلي أو يعم الجهتين معا أما جهة المعنى الأصلي فلا إشكال في صحة اعتبارها في الدلالة على الأحكام بإطلاق ولا يسع فيه خلاف على حال ومثال ذلك صيغ الأوامر والنواهى والعمومات والخصوصات وما أشبه ذلك مجردا من القرائن الصارفة لها عن مقتضى الوضع الأول وأما جهة المعنى التبعي فهل يصح اعتبارها في الدلالة على الأحكام من حيث يفهم منها معان زائدة على المعنى الأصلي أم لا هذا محل تردد ولكل واحد من الطرفين وجه من النظر فللمصحح أن يستدل بأوجه أحدهما أن هذا النوع إما أن يكون معتبرا في دلالته على ما دل عليه أولا ولا يمكن عدم اعتباره لأنه إنما أتى به لذلك المعنى فلا بد من اعتباره فيه وهو زائد على المعنى الأصلي وإلا لم يصح فإذا كان هذا المعنى يقتضى حكما شرعيا لم يمكن إهماله واطراحه كما لا يمكن ذلك بالنسبة إلى النوع الأول فهو إذا معتبر وهو المطلوب 96 والثاني أن الإستدلال بالشريعة على الأحكام إنما هو من جهة كونها بلسان العرب لا من جهة كونها كلاما فقط وهذا الإعتبار يشمل ما دل بالجهة الأولى وما دل بالجهة الثانية هذا وإن قلنا إن الثانية مع الأولى كالصفة مع الموصوف كالفصل والخاص فذلك كله غير ضائر وإذا كان كذلك فتخصيص الأولى بالدلالة على الأحكام دون الثانية تخصيص من غير مخصص وترجيح من غير مرجح وذلك كله باطل فليست الأولى إذ ذاك بأولى للدلالة من الثانية فكان اعتبارهما معا هو المتعين والثالث أن العلماء قد اعتبروها واستدلوا على الأحكام من جهتها في مواضع كثيرة كما استدلوا على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوما بقوله عليه السلام تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلى والمقصود الإخبار بنقصان الدين لا الإخبار بأقصى المدة ولكن المبالغة اقتضت ذكر ذلك ولو تصورت الزيادة لتعرض لها واستدل الشافعي على تنجيس الماء القليل بنجاسة لا تغيره بقوله عليه السلام إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها الحديث 97 فقال لولا أن قليل النجاسة ينجس لكان توهمه لا يوجب الإستحباب فهذا الموضع لم يقصد فيه بيان حكم الماء القليل تحله قليل النجاسة لكنه لازم مما قصد ذكره وكاستدلالهم على تقدير أقل مدة الحمل ستة أشهر أخذا من قوله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا مع قوله وفصاله في عامين فالمقصد في الآية الأولى بيان مدة الأمرين جيمعا من غير تفصيل ثم بين في الثانية مدة الفصال قصدا وسكت عن بيان مدة الحمل وحدها قصدا فلم يذكر له مدة فلزم من ذلك أن أقلها ستة أشهر وقالوا في قوله تعالى فالآن باشروهن إلى قوله تعالى حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود الآية إنه يدل على جواز الإصباح جنبا وصحة الصيام لأن إباحة المباشرة إلى طلوع الفجر تقتضى ذلك وإن لم يكن مقصود البيان لأنه لازم من القصد إلى بيان إباحة المباشرة والأكل والشرب واستدلوا على أن الولد لا يملك بقوله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون وأشباه ذلك من الآيات فإن المقصود بإثبات العبودية لغير الله وخصوصا للملائكة نفى اتخاذ الولد لا أن الولد لا يملك لكنه 98 لزم من نفي الولادة وأن لا يكون المنسوب إليها إلا عبدا إذ لا موجود إلا رب أو عبد واستدلوا على ثبوت الزكاة في قليل الحبوب وكثيرها بقوله عليه الصلاة والسلام فيما سقت السماء العشر الحديث مع أن المقصود تقدير الجزء المخرج لا تعيين المخرج منه ومثله كل عام نزل على سبب فإن الأكثر على الأخذ بالتعميم اعتبارا بمجرد اللفظ والمقصود وإن كان السبب على الخصوص واستدلوا على فساد البيع وقت النداء بقوله تعالى وذروا البيع مع أن المقصود إيجاب السعي لا بيان فساد البيع وأثبتوا القياس الجلي قياسا كإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق مع 99 أن المقصود في قوله عليه السلام من أعتق شركا له في عبد مطلق الملك لا خصوص الذكر إلى غير ذلك من المسائل التى لا تحصى كثرة وجميعها تمسك بالنوع الثانى لا بالنوع الأول وإذا كان كذلك ثبت أن الاستدلال من جهته صحيح مأخوذ به وللمانع أن يستدل أيضا بأوجه أحدها أن هذه الجهة إنما هى بالفرض خادمة للأولى وبالتبع لها فدلالتها على معنى إنما يكون من حيث هى مؤكدة للأولى ومقوية لها وموضحة لمعناها وموقعة لها من الأسماع موقع القبول ومن العقول موقع الفهم كما نقول في الأمر الآتى للتهديد أو التوبيخ كقوله اعملوا ما شئتم وقوله ذق إنك أنت العزيز الكريم فإن مثل هذا لم يقصد به الأمر وإنما هو مبالعة في التهديد أو الخزي فلذلك لم يقبل أن يؤخذ منه حكم في باب الأوامر ولا يصح أن يؤخذ وكما نقول في نحو واسأل القرية التى كنا فيها إن المقصود سل أهل القرية ولكن جعلت القرية مسئولة مبالغة في الاستيفاء بالسؤال وغير 100 ذلك فلم ينبن على إسناد السؤال للقرية حكم وكذلك قوله خالدين فيها ما دامت السموات والأرض بناء على القول بأنهما تفنيان ولا تدومان لما كان المقصود به الإخبار بالتأبيد لم يوخذ منه انقطاع مدة العذاب للكفار إلى أشياء من هذا المعنى لا يؤتى على حصرها وإذا كان كذلك فليس لها من الدلالة على المعنى الذي وضعت له أمر زائد على الإيضاح والتأكيد والتقوية للجهة الأولى فإذا ليس لها خصوص حكم يؤخذ منها زائدا على ذلك بحال والثانى أنه لو كان لها موضع خصوص حكم يقرر شرعا دون الأولى لكانت هى الأولى إذ كان يكون تقرير ذلك المعنى مقصودا بحق الأصل فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى لا من الثانية وقد فرضناه من الثانية هذا خلف لا يمكن لا يقال إن كونها دالة بالتبع لا ينفى كونها دالة بالقصد وإن كان القصد ثانيا كما نقول في المقاصد الشرعية إنها مقاصد أصلية ومقاصد تابعة والجميع مقصود للشارع ويصح من المكلف القصد إلى المقاصد التابعة مع الغفلة عن الأصلية 101 وينبنى على ذلك في أحكام التكليف حسبما يأتي بعد إن شاء الله فكذلك نقول هنا إن دلالة الجهة الثانية لا تمنع قصد المكلف إلى فهم الأحكام منها لأن نسبتها من فهم الشريعة نسبة تلك من الأخذ بها عملا وإذا اتحدت النسبة كان التفريق بينهما غير صحييح ولزم من اعتبار إحداهما اعتبار الأخرى كما يلزم من إهمال إحداهما إهمال الأخرى لأنا نقول هذا إن سلم من أدل الدليل على ما تقدم لأنه إذا كان النكاح بقصد قضاء الوطر مثلا صحيحا من حيث كان مؤكد للمقصود الأصلي من النكاح وهو النسل فغفلة المكلف عن كونه مؤكدا لا يقدح في كونه مؤكدا في قصد الشارع فكذلك نقول في مسألتنا إن الجهة الثانية من حيث القصد في اللسان العربي إنما هى مؤكدة للأولى في نفس ما دلت عليه الأولى وما دلت عليه هو المعنى الأصلي فالمعنى التبعي راجع إلى المعنى الأصلي ويلزم من هذا أن لا يكون في المعنى التبعى زيادة على المعنى الأصلي وهو المطلوب وأيضا فإن بين المسألتين فرقا وذلك أن النكاح بقصد قضاء الوطر إن كان داخلا من وجه تحت المقاصد التابعة للضروريات فهو داخل من وجه آخر تحت الحاجيات لأنه راجع إلى قصد التوسعة على العباد في نيل مآربهم وقضاء أوطارهم ورفع الحرج عنهم وإذا دخل تحت أصل الحاجيات صح افراده بالقصد من هذه الجهة ورجع إلى كونه مقصودا لا بالتبعية بخلاف مسألتنا فإن الجهة التابعة لا يصح افرادها بالدلالة على معنى غير التأكد للأولى لأن العرب ما وضعت كلامها على ذلك إلا بهذا القصد فلا يمكن الخروج عنه إلى غيره والثالث أن وضع هذه الجهة على أن تكون تبعا للأولى يقتضى أن ما تؤديه من المعنى لا يصح أن يؤخذ إلا من تلك الجهة فلو جاز أخذه من غيرها لكان خروجا بها عن وضعها وذلك غير صحيح ودلالتها على حكم زائد على ما في الأولى خروج لها عن كونه تبعا للأولى فيكون استفاده الحكم من جهتها على 102 غير فهم عربي وذلك غير صحيح فما أدى إليه مثله وما ذكر من استفادة الأحكام بالجهة الثانية غير مسلم وإنما هى راجعة إلى أحد أمرين إما إلى الجهة الأولى وإما إلى جهة ثالثة غير ذلك فأما مدة الحيض فلا نسلم أن الحديث دال عليها وفيه النزاع ولذلك يقول الحنفية أن أكثرها عشرة أيام وأن سلم فليس ذلك من جهة دلالة اللفظ بالوضع وفيه الكلام ومسألة الشافعي في نجاسة الماء من باب القياس أو غيره وأفل مدة الحمل مأخوذ من الجهة الأولى لا من الجهة الثانية وكذلك مسألة الإصباح جنبا إذ لا يمكن غير ذلك وأما كون الولد لا يملك فالاستدلال عليه بالآية ممنوع وفيه النزاع وما ذكر مسالة الزكاة فالقائل بالتعميم إنما بني على أن العموم مقصود ولم يبن على أنه غير مقصود وإلا كان تناقضا لأن أدلة الشريعة إنما أخذ منها الأحكام الشرعية بناء على أنه هو مقصود الشارع فكيف يصح الاستدلال بالعموم مع الاعتراف بأن ظاهره غير مقصود وهكذا العام الوارد على سبب من غير فرق ومن قال بفسخ البيع وقت النداء بناء على قوله تعالى وذروا البيع فهو عنده مقصود لا ملغى وإلا لزم 103 التناقض في الأمر كما ذكر وكذلك شأن القياس الجلى لم يجعلوا دخول الأمة في حكم العبد بالقياس إلا بناء على أن العبد هو المقصود بالذكر بخصوصه وهكذا سائر ما يفرض في هذا الباب فالحاصل أن الاستدلال بالجهة الثانية على الأحكام لا يثبت فلا يصح إعماله ألبتة وكما أمكن الجواب عن الدليل الثالث كذلك يمكن في الأول والثانى فإن في الأول مصادرة على المطلوب لأنه قال فيه فإذا كان المعنى المدلول عليه يقتضى حكما شرعيا فلا يمكن إهماله وهذا عين مسألة النزاع والثانى مسلم ولكن يبقى النظر في استقلال الجهة الثانية بالدلالة على حكم شرعي وهو المتنازع فيه فالصواب إذا القول بالمنع مطلقا والله أعلم فصل قد تبين تعارض الأدلة في المسألة وظهر أن الأقوى من الجهتين جهة المانعين فاقتضى الحال أن الجهة الثانية وهي الدالة على المعنى التبعي لا دلالة لها على حكم شرعي زائد ألبتة لكن يبقى فيها نظر آخر ربما أخال أن لها دلالة على معان زائدة على المعنى الأصلي هي آداب شرعية وتخلقات حسنة يقر بها كل ذي عقل سليم فيكون لها اعتبار في الشريعة فلا تكون الجهة الثانية خالية عن الدلالة جملة وعند ذلك يشكل القول بالمنع مطلقا وبيان ذلك يحصل بأمثلة سبعة أحدها أن القرآن أتى بالنداء من الله تعالى للعباد ومن العباد لله سبحانه إما حكاية وإما تعليما فحين أتى بالنداء من قبل الله للعباد جاء بحرف النداء المقتضى للعبد ثابتا غير محذوف كقوله تعالى يا عبادى الذين آمنوا إن أرضى واسعة قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا يا أيها الناس يا أيها الذين آمنوا فإذا أتى 104 بالنداء من العباد إلى الله تعالى جاء من غير حرف نداء ثابت بناء على أن حرف النداء للتنبيه في الأصل والله منزه عن التنبيه وأيضا فإن أكثر حروف النداء للبعيد ومنها يا التي هي أم الباب وقد أخبر الله تعالى أنه قريب من الداعي خصوصا لقوله تعالى وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب الآية ومن الخلق عموما لقوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم وقوله ونحن أقرب إليه من حبل الوريد فحصل من هذا التنبيه على أدبين أحدهما ترك حرف النداء والآخر استشعار القرب كما أن في إثبات الحرف في القسم الآخر التنبيه على معنين إثبات التنبيه لمن شأنه الغفلة والإعراض والغيبة وهو العبد والدلالة على ارتفاع شأن المنادى وأنه منزه عن مداناة العباد إذ هو في دنوه عال وفى علوه دان سبحانه والثاني أن نداء العبد للرب نداء رغبة وطلب لما يصح شأنه فأتى في النداء القرآني بلفظ الرب في عامة الأمر تنبيها وتعليما لأن يأتي العبد في دعائه بالإسم المقتضى للحال المدعو بها وذلك أن الرب في اللغة هو القائم بما يصلح المربوب فقال تعالى في معرض بيان دعاء العباد ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا إلى آخرها ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وإنما أتى قوله تعالى وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك من غير إتيان بلفظ الرب لأنه لا مناسبة بينه وبين ما دعوا به بل هو مما ينافيه بخلاف 105 الحكاية عن عيسى عليه السلام في قوله قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء الآية فإن لفظ الرب فيها مناسب جدا والثالث أنه أتى فيه الكناية في الأمور التي يسحبا من التصريح بها كما كنى عن الجماع باللباس والمباشرة وعن قضاء الحاجة بالمجىء من الغائط وكما قال في نحوه كانا يأكلان الطعام فاستقر ذلك أدبا لنا استنبطناه من هذه المواضع وإنما دلالتها على هذه المعاني بحكم التبع لا بالأصل والرابع أنه أتى فيه بالالتفات الذي ينبىء في القرآن عن أدب الإقبال من الغيبة إلى الحضور بالنسبة إلى العبد إذا كان مقتضى الحال يستدعيه كقوله تعالى الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ثم قال إياك نعبد وبالعكس إذا اقتضاه الحال أيضا كقوله تعالى حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وتأمل في هذا المساق معنى قوله تعالى عبس وتولى أن جاءه الأعمى حيث عوتب النبى بهذا المقدار من هذا العتاب لكن على حال تقتضى الغيبة التي شأنها أخف بالنسبة إلى المعاتب ثم رجع الكلام إلى الخطاب إلا أنه بعتاب أخف من الأول ولذلك ختمت الآية بقوله كلا إنها تذكرة والخامس الأدب في ترك التنصيص على نسبة الشر إلى الله تعالى وإن كان هو الخالق لكل شىء كما قال بعد قوله قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء إلى قوله بيدك الخير ولم يقل بيدك الخير والشر وإن كان قد ذكر القسمين معا لأن نزع الملك والإذلال بالنسبة إلى من لحق ذلك به شر ظاهر نعم قال في أثره إنك على كل شىء قدير تنبيها في الجملة على أن الجميع خلقه حتى جاء في الحديث عن النبى 106 والخير في يديك والشر ليس إليك وقال إبراهيم عليه السلام الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين الخ فنسب إلى رب العالمين الخلق والهداية والإطعام والسقي والشفاء والإماتة والإحياء وغفران الخطيئة دون ما جاء في أثناء ذلك من المرض فإنه سكت عن نسبته إليه والسادس الأدب في المناظرة أن لا يفاجئ بالرد كفاحا دون التقاضي بالمجاملة والمسامحة كما في قوله تعالى وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين وقوله قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين قل إن افتريته فعلى إجرامي وقوله قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون لأن ذلك أدعى إلى القبول وترك العناد وإطفاء نار العصبية والسابع الأدب في إجراء الأمور على العادات في التسببات وتلقي الأسباب منها وإن كان العلم قد أتى من وراء ما يكون أخذا من مساقات الترجيات العادية كقوله تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ومن هذا الباب جاء نحو قوله تعالى لعلكم تتقون لعلكم تذكرون وما أشبه ذلك فإن الترجي والإشفاق ونحوهما إنما تقع حقيقة ممن لا يعلم عواقب الأمور والله تعالى عليم بما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون ولكن جاءت هذه الأمور على المجرى المعتاد في أمثالنا فكذلك ينبغي لمن كان عالما بعاقبة أمر بوجه من وجوه العلم الذي هو خارج عن معتاد الجمهور أن يحكم فيه عند العبارة عنه بحكم غير العالم دخولا في غمار العامة وإن بان عنهم 107 بخاصية يمتاز بها وهو من التنزلات الفائقة الحسن في محاسن العادات وقد كان رسول الله يعلم بأخبار كثير من المنافقين ويطلعه ربه على أسرار كثير منهم ولكنه كان يعاملهم في الظاهر معاملة يشترك معهم فيها المؤمنون لإجتماعهم في عدم انخرام الظاهر فما نحن فيه نوع من هذا الجنس والأمثلة كثيرة فإذا كان كذلك ظهر أن الجهة الثانية يستفاد بها أحكام شرعية وفوائد عملية ليست داخلة تحت الدلالة بالجهة الأولى وهو توهين لما تقدم اختياره والجواب أن هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني وإنما استفيد من جهة أخرى وهي جهة الإقتداء بالأفعال النوع الثالث في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقضاها ويحتوي على مسائل المسألة الأولى ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا ولا معنى لبيان ذلك ههنا فإن الأصوليين قد تكفلوا بهذه الوظيفة ولكن نبني عليها ونقول إذا ظهر من الشارع في بادىء الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه فقول 108 الله تعالى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون وقوله في الحديث كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل وقوله لا تمت وأنت ظالم وما كان نحو ذلك ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة وهو الإسلام وترك الظلم والكف عن القتل والتسليم لأمر الله وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل ومنه ما جاء في حديث أبي طلحة حيث ترس على رسول الله يوم أحد وكان عليه الصلاة والسلام يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة لا تشرف يا رسول الله لا يصيبوك الحديث فقوله لا يصيبوك من هذا القبيل المسألة الثانية إذا ثبت هذا فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطلب برفعها ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها فإنه من تكليف ما لا 109 يطاق كما لا يطلب بتحسين ما قبح من خلقة جسمه ولا تكميل ما نقص منها فإن ذلك غير مقدور للإنسان ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبا له ولا نهيا عنه ولكن يطلب قهر النفس عن الجنوح إلى ما لا يحل وإرسالها بمقدار لاعتدال فيما يحل وذلك راجع إلى ما ينشأ من الأفعال من جهة تلك الأوصاف مما هو داخل تحت الإكتساب المسألة الثالثة إن ثبت بالدليل أن ثم أوصافا تماثل ما تقدم في كونها مطبوعا عليها الإنسان فحكمها حكمها لأن الأوصاف المطبوع عليها ضربان منها ما يكون ذلك فيه مشاهدا محسوسا كالذي تقدم ومنها ما يكون خفيا حتى يثبت بالبرهان فيه ذلك ومثاله العجلة فإن ظاهر القرآن أنها مما طبع الإنسان عليه لقوله تعالى خلق الإنسان من عجل وفي الصحيح أن إبليس لما رأى آدم أجوف علم أنه خلق خلقا لا يتمالك وقد جاء أن الشجاعة والجبن غرائز وجبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها إلى أشياء من هذا القبيل وقد جعل منها الغضب وهو معدود عند الزهاد من المهلكات وجاء يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب وإذا ثبت هذا فالذي تعلق به الطلب ظاهرا من الإنسان على ثلاثة أقسام أحدها ما لم يكن داخلا تحت كسبه قطعا وهذا قليل كقوله 110 ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون وحكمه أن الطلب به مصروف إلى ما تعلق به والثاني ما كان داخلا تحت كسبه قطعا وذلك جمهور الأفعال المكلف بها التي هي داخلة تحت كسبه والطلب المتعلق بها عل حقيقته في صحة التكليف بها سواء علينا أكانت مطلوبة لنفسها أم لغيرها والثالث ما قد يشتبه أمره كالحب والبغض وما في معناها فحق الناظر فيها أن ينظر في حقائقها فحيث ثبتت له من القسمين حكم عليه بحكمه والذي يظهر من أمر الحب والبغض والجبن والشجاعة والغضب والخوف ونحوها أنها داخلة على الإنسان اضطرارا إما لأنها من أصل الخلقة فلا يطلب إلا بتوابعها فإن ما في فطرة الإنسان من الأوصاف يتبعها بلا بد أفعال اكتسابية فالطلب وارد على تلك الأفعال لا على ما نشأت عنه كما لا تدخل القدرة ولا العجز تحت الطلب وإما لأن لها باعثا من غيره فتثور فيه فيقتضى لذلك أفعالا أخر فإن كان المثير لها هو السابق وكان مما يدخل تحت كسبه فالطلب يرد عليه كقوله تهادوا تحابوا فيكون كقوله أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمه مرادا به التوجه إلى النظر في نعم الله تعالى على العبد وكثرة إحسانه إليه وكنهيه عن النظر المثير للشهوة الداعية إلى ما لا يحل وعين الشهوة لم ينه عنه وإن لم يكن المثير لها داخلا تحت كسبة فالطلب يرد على اللواحق كالغضب المثير لشهوة الإنتقام كما يثير النظر شهوة الوقاع 111 فصل ومن هذا الملمح فقه الأوصاف الباطنة كلها أو أكثرها من الكبر والحسد وحب الدنيا والجاه وما ينشأ عنها من آفات اللسان وما ذكره الغزالي في ربع المهلكات وغيره وعليه يدل كثير من الأحاديث وكذلك فقه الأوصاف الحميدة كالعلم والتفكر والاعتبار واليقين والمحبة والخوف والرجاء وأشباهها مما هو نتيجة عمل فإن الأوصاف القلبية لا قدرة للإنسان على إثباتها ولا نفيها أفلا ترى أن العلم وإن كان مطلوبا فليس تحصيله بمقدور أصلا فإن الطالب إذا توجه نحو مطلوب إن كان من الضروريات فهو حاصل ولا يمكنه الإنصراف عنه وإن كان غير ضرورى لم يمكن تحصيله إلا بتقديم النظر وهو المكتسب دون نفس العلم لأنه داخل عليه بعد النظر ضرورة لأن النتيجة لازمة للمقدمتين فتوجيه النظر فيه هوالمكتسب فيكون المطلوب وحده وأما العلم على أثر النظر فسواء علينا قلنا إنه مخلوق لله تعالى كسائر المسببات مع أسبابها كما هو رأى المحققين أم لم نقل ذلك فالجميع متفقون على أنه غير داخل تحت الكسب بنفسه وإذا حصل لم يمكن إزالته على حال وهكذا سائر ما يكون وصفا باطنا إذا اعتبرته وجدته على هذا السبيل وإذا كانت على هذا الترتيب لم يصح التكليف بها أنفسها وإن جاء في الظاهر ما يظهر منه ذلك فمصروف إلى غير ذلك مما يتقدمها أويتأخر عنها أو يقارنها والله أعلم المسألة الرابعة الأوصاف التى لا قدرة للإنسان على جلبها ولا دفعها بأنفسها على ضربين أحدهما ما كان نتيجة عمل كالعلم والحب في نحو قوله أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمة 112 والثانى ما كان فطريا ولم يكن نتيجة عمل كالشجاعة والجبن والحلم والأناة المشهود بهما في أشج عبد القيس وما كان نحوها فالأول ظاهر أن الجزاء يتعلق بها في الجملة من حيث كانت مسببات عن أسباب مكتسبة وقد مر في كتاب الأحكام أن الجزاء يتعلق بها وإن لم تدخل تحت قدرته ولا قصدها وكذلك أيضا يتعلق بها الحب والبغض على ذلك الترتيب والثانى وهو ما كان منها فطريا ينظر فيه من جهتين أدهما من جهة ما هى محبوبة للشارع أو غير محبوبة له والثانية من جهة ما يقع عليها ثواب أو لا يقع فأما النظر الأول فإن ظاهر النقل أن الحب والبغض يتعلق بها ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة وفى بعض الروايات أخبره أنه مطبوع عليهما وفى بعض الحديث الشجاعة والجبن غرائز وجاء إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية وفى الحديث الأرواح جنود مجندة فما 113 تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وهذا معنى التحاب والتباغض وهو غير مكتسب وجاء في الحديث وجبت محبتى للمتحابين في وقد حمل حديث أبي هريرة يرفعه المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير على أن يكون المراد بالقوة شدة البدن وصلابة الأمر والضعف خلاف ذلك وجاء إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها وجاء يطبع المؤمن على كل خلق إلا الخيانة والكذب وقال تعالى خلق الإنسان من عجل وجاء في معرض الذم والكراهية ولذلك كان ضد العجل محبوبا وهو الأناة ولا يقال إن الحب والبغض يتعلقان بما ينشأ عنهما من الأفعال لأن ذلك أولا خروج عن الظاهر بغير دليل وثانيا أنهما يصح 114 تعلقهما بالذوات وهى أبعد عن الأفعال من الصفات كقوله تعالى فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه الآية أحبوا الله لماغذاكم به من نعمه و من الإيمان الحب في الله والبغض في الله ولا يسوغ في هذه المواضع أن يقال إن المراد حب الأفعال فقط فكذلك لا يقال في الصفات إذا توجه الحب إليها في الظاهر إن المراد الأفعال فصل وإذا ثبت هذا فيصح أيضا أن يتعلق الحب والبغض بالأفعال كقوله تعالى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم أبغض الحلال إلى الله الطلاق ليس أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه وهذا كثير وإذا قلت أحب الشجاع وأكره الجبان فهذا حب وكراهة يتعلقان بذات موصوفة لأجل ذلك الوصف نحو قوله تعالى والله يحب المحسنين والله يحب الصابرين إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وفى القرآن أيضا إن الله لا يحب كل مختال فخور والله لا يحب الظالمين وفى الحديث إن الله يبغض الحبر السمين فإذا الحب والبغض مطلق في الذوات والصفات والأفعال 115 فتعلقهما بها تعلق بالماهية من حيث إنها ذات أو صفة أو فعل وأما النظر الثانى وهو أن يقال هل يصح أن يتعلق بتلك الأوصاف وهى غير المقدورة للإنسان إذا اتصف بها الثواب والعقاب أما لا يصح هذا يتصور في ثلاثة أوجه أحدها أن لا يتعلق بها ثواب ولا عقاب والثانى أن يتعلقا معا بها والثالث أن يتعلق بها أحدهما دون الآخر أما هذا الأخير فيؤخذ النظر فيه من النظر في الوجهين لأنه مركب منهما فأما الأول فيستدل عليه بوجهين أحدهما أن الأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها لا يكلف بإزالتها ولا بجلبها شرعا لأنه تكليف بما لا يطاق وما لا يكلف به لا يثاب عليه ولا يعاقب لأن الثواب والعقاب تابع للتكليف شرعا فالأوصاف المشار إليها لا ثواب عليها ولا عقاب والثانى أن الثواب والعقاب على تلك الأوصاف إما أن يكون من جهة ذواتها من حيث هى صفات أو من جهة متعلقاتها فإن كان الأول لزم في كل صفة منها أن تكون مثابا عليها كانت صفة محبوبة أو مكروهة شرعا ومعاقبا عليها أيضا كذلك لأن ما وجب للشىء وجب لمثله وعند ذلك يجتمع الضدان على الصفة الواحدة من جهة واحدة وذلك محال وإن كان من حيث متعلقاتها فالثواب والعقاب على المتعلقات وهى الأفعال والتروك لا عليها فثبت أنها في أنفسها لا يثاب عليها ولا يعاقب وهو المطلوب 116 وأما الثانى فيستدل عليه أيضا بأمرين أحدهما أن الأوصاف المذكورة قد ثبت تعلق الحب والبغض بها والحب والبغض من الله تعالى إما أن يراد بهما نفس الإنعام أو الانتقام فيرجعان إلى صفات الأفعال على رأي من قال بذلك وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام فيرجعان إلى صفات الذات لأن نفس الحب والبغض المفهومين في كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى وهذا رأي طائفة أخرى وعلى كلا الوجهين فالحب والبغض راجعان إلى نفس الإنعام أو الانتقام وهما عين الثواب والعقاب فالأوصاف المذكورة إذا يتعلق بها الثواب والعقاب والثانى أنا لو فرضنا أن الحب والبغض لا يرجعان إلى الثواب والعقاب فتعلقهما بالصفات إما أن يستلزم الثواب والعقاب أو لا فإن استلزم فهو المطلوب وإن لم يستلزم فتعلق الحب والبغض إما للذات وهو محال وإما لأمر راجع إلى الله تعالى وهو محال لأن الله غني عن العالمين تعالى أن يفتقر لغيره أو يتكمل بشىء بل هو الغني على الإطلاق وذو الكمال بكل اعتبار وإما للعبد وهو الجزاء إذ لا يرجع للعبد إلا ذلك 117 وأمر ثالث وهو أنه لو سلم أنها محبوبة أو مكروهة من جهة متعلقاتها وهو الأفعال فلا يخلو أن يكون الجزاء على تلك الأفعال مع الصفات مثل الجزاء عليها بدون تلك الصفات أو لا فإن كان الجزاء متفاوتا فقد صار للصفات قسط من الجزاء وهو المطلوب وإن كان متساويا لزم أن يكون فعل أشج عبد القيس حين صاحبه الحلم والأناة مساويا لفعل من لم يتصف بهما وإن استويا في الفعل وذلك غير صحيح لما يلزم عليه أن يكون المحبوب عند الله مساويا لما ليس بمحبوب واستقراء الشريعة يدل على خلاف ذلك وأيضا يلزم أن يكون ما هو محبوب ليس بمحبوب وبالعكس وهو محال فثبت أن للوصف حظا من الثواب أو العقاب وإذا ثبت أن له حظا ما من الجزاء ثبت مطلق الجزاء فالأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها مجازى عليها وذلك ما أردنا وما تقدم ذكره من الأدلة على أنه لا يثاب عليها مشكل أما الأول فإن الثواب والعقاب مع التكليف لا يتلازمان فقد يكون الثواب والعقاب على غير المقدور للمكلف وقد يكون التكليف ولا ثواب ولا عقاب فالأول مثل المصائب النازلة بالإنسان اظطرارا علم بها أو لم يعلم 118 والثانى كشارب الخمر ومن أتى عرافا فإنه جاء أن الصلاة لا تقبل منه أربعين يوما ولا أعلم أحدا من أهل السنة يقول بعدم إجزاء صلاته إذا استكملت أركانها وشروطها ولا خلاف أيضا في وجوب الصلاة على كل مسلم عدلا كان أو فاسقا وإذا لم يتلازما لا يصح هذا الدليل وأما الثانى فقد اعترضه الدليل الثالث الدال على الجزاء فقوله إن الجزاء وقع على العمل أو الترك إن أراد به مجردا كما يقع دون الوصف فقد ثبت بطلانه وإن أراد به مع اقتران الوصف فقد صار للوصف أثر في الثواب والعقاب وذلك دليل دال على صحة الجزاء عليه لا على نفيه ولصاحبه المذهب الأول أن يعترض على الثانى في أدلته أما الأول فإنه إذا صار معنى الحب والبغض إلى الثواب والعقاب امتنع أن يتعلقا بما هو غير مقدور وهو الصفات والذوات المخلوق عليها وأما الثانى فإن القسمة غير منحصرة إذ من الجائز أن يتعلقا لأمر راجع للعبد غير الثواب أو العقاب وذلك كونه اتصف بما هو حسن أو قبيح في مجارى العادات وأما الثالث فإن الأفعال لما كانت ناشئة عن الصفات فوقوعها على حسبها في الكمال أو النقصان فنحن نستدل بكمال الصنعة على كمال الصانع 119 وبالضد فكذلك ههنا وعند ذلك يختص الثواب بالأفعال ويكون التفاوت راجعا إلى تفاوتها لا إلى الصفات وهو المطلوب فالحاصل أن النظر يتجاذبه الطرفان ويحتمل تحقيقه بسطا أوسع من هذا ولا حاجة إليه في هذا الموضع وبالله التوفيق المسألة الخامسة تقدم الكلام على التكليف بما لا يدخل تحت مقدور المكلف وبقى النظر فيما يدخل تحت مقدوره لكنه شاق فهذا موضعه فإنه لا يلزم إذا علمنا من قصد الشارع نفى التكليف بما لا يطاق أن نعلم منه نفى التكليف بأنواع المشاق ولذلك ثبت في الشرائع الأول التكليف بالمشاق ولم يثبت فيها التكليف بما لا يطاق وأيضا فإن التكليف بما لا يطاق قد منعه جماعة عقلاء بل أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهما وأما المعتزلة فذلك أصلهم بخلاف التكليف بما يشق فإذا كان كذلك فلا بد من النظر في ذلك بالنسبة إلى هذه الشريعة الفاضلة ولا بد قبل الخوض في المطلوب من النظر في معنى المشقة وهى في أصل اللغة من قولك شق على الشىء يشق شقا ومشقة إذا أتعبك ومنه قوله تعالى لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس والشق هو الإسم من المشقة وهذا المعنى إذا أخذ مطلقا من غير نظر إلى الوضع العربي اقتضى أربعة أوجه اصطلاحية أحدها أن يكون عاما في المقدور عليه وغيره فتكليف ما لا يطاق 120 يسمى مشقة من حيث كان تطلب الإنسان نفسه بحمله موقعا في عناء وتعب لا يجدى كالمقعد إذا تكلف القيام والإنسان إذا تكلف الطيران في الهواء وما أشبه ذلك فحين اجتمع مع المقدور عليه الشاق الحمل إذا تحمل في نفس المشقة سمي العمل شاقا والتعب في تكلف حمله مشقة والثانى أن يكون خاصا بالمقدور عليه إلا أنه خارج عن المعتاد في الأعمال العادية بحيث يشوش على النفوس في تصرفها ويقلقها في القيام بما فيه تلك المشقة إلا أن هذا الوجه على ضربين أحداهما أن تكون المشقة مختصة بأعيان الأفعال المكلف بها بحيث لو وقعت مرة واحدة لوجدت فيها وهذا هو الموضع الذى وضعت له الرخص المشهورة في اصطلاح الفقهاء كالصوم في المرض والسفر والإتمام في السفر وما أشبه ذلك والثانى أن لا تكون مختصة ولكن إذا نظر إلى كليات الأعمال والدوام عليها صارت شاقة ولحقت المشقة العامل بها ويوجد هذا في النوافل وحدها إذا تحمل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجه ما إلا أنه في الدوام يتعبه حتى يحصل للنفس بسببه ما يحصل لها بالعمل مرة واحدة في الضرب الأول وهذا هو الموضع الذى شرع له الرفق والأخذ من العمل بما لا يحصل مللا حسبما نبه عليه نهيه عليه الصلاة والسلام عن الوصال وعن التنطع والتكلف وقال خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا وقوله القصد القصد تبلغوا والأخبار هنا كثيرة وللتنبيه عليها موضع آخر فهذه مشقة ناشئة من أمر كلى وفى الضرب الأول ناشئة من أمر جزئي 121 والوجه الثالث أن يكون خاصا بالمقدور عليه وليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد في الأعمال العادية ولكن نفس التكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التكليف شاق على النفس ولذلك أطلق عليه لفظ التكليف وهو في اللغة يقتضى معنى المشقة لأن العرب تقول كلفته تكليفا إذا حملته أمرا يشق عليه وأمرته به وتكلفة الشئ إذا تحملته على مشقة وحملت الشىء تكلفته إذا لم تطقه إلا تكلفا فمثل هذا يسمى مشقة بهذا الاعتبار لأنه إلقاء بالمقاليد ودخول في أعمال زائدة على ما اقتضته الحياة الدنيا والرابع أن يكون خاصا بما يلزم عما قبله فإن التكليف إخراج للمكلف عن هوى نفسه ومخالفة الهوى شاقة على صاحب الهوى مطلقا ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء وذلك معلوم في العادات الجارية في الخلق فهذه خمسة أوجه من حيث النظر إلى المشقة في نفسها انتظمت في أربعة فأما الأول فقد تخلص في الأصول وتقدم ما يتعلق به وأما الثانى وهى المسألة السادسة فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه والدليل على ذلك أمور أحدها النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم وقوله ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما 122 حملته على الذين من قبلنا الآية وفى الحديث قال الله تعالى قد فعلت وجاء لا يكلف الله نفسا إلا وسعها يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وما جعل عليكم في الدين من حرج يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الأنسان ضعيفا ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم الآية وفى الحديث بعثت بالحنيفية السمحة وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما وإنما قال ما لم يكن إثما لأن ترك الإثم لا مشقة فيه من حيث كان مجرد ترك إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى ولو كان قاصدا للمشقة لما كان مريدا لليسر ولا للتخفيف ولكان مريدا للحرج والعسر وذلك باطل والثانى ما ثبت أيضا من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومما علم من دين الأمة ضرورة كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات في الاضطرار فإن هذا النمط يدل قطعا على مطلق رفع الحرج والمشقة وكذلك ما جاء من النهى عن التعمق والتكليف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال ولو كان الشارع قاصدا للمشقة في التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف والثالث الإجماع على عدم وقوعه وجودا في التكليف وهو يدل 123 على عدم قصد الشارع إليه ولو كان واقعا لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف وذلك منفى عنها فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير كان الجمع بينهما تناقضا واختلافا وهى منزهة عن ذلك وأما الثالث وهي المسألة السابعة فإنه لا ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة كما لا يسمى في العادة مشقة طلب المعاش بالتحرف وسائر الصنائع لأنه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه كسلان ويذمونه بذلك فكذلك المعتاد في التكاليف وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التى لا تعد مشقة عادة والتى تعد مشقة وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه وإلى وقوع خلل في صاحبه في نفسه أو ماله أو حال من أحواله فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد وإن لم يكن فيها شىء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة مشقة وإن سميت كلفة فأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار في أكله وشربه وسائر تصرفاته ولكن جعل له قدرة عليها بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره لا أن يكون هو تحت قهر التصرفات فكذلك التكاليف فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من المشقة وإذا تقرر هذا فما تضمن التكليف الثابت على العباد من المشقة المعتادة أيضا ليس بمقصود الطلب للشارع من جهة نفس المشقة بل من جهة ما في ذلك من 124 المصالح العائدة على المكلف والدليل على ذلك ما تقدم في المسالة قبل هذا فإن قيل ما تقدم لا يدل على عدم القصد إلى المشقة في التكليف لأوجه أحدها أن نفس تسميته تكليفا يشعر بذلك إذ حقيقته في اللغة طلب ما فيه كلفة وهى المشقة فقول الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها معناه لا يطلبه بما يشق عليه مشقة لا يقدر عليها وإنما يطلبه بما تتسع له قدرته عادة فقد ثبت التكليف بما هو مشقة فقصد الأمر والنهي يستلزم بلا بد طلب المشقة والطلب إنما تعلق بالفعل من حيث هو مشقة لتسمية الشرع له تكليفا فهى إذا مقصودة له وعلى هذا النحو يتنزل قوله وما جعل عليكم في الدين من حرج وأشباهه والثانى أن الشرع عالم بما كلف به وبما يلزم عنه ومعلوم أن مجرد التكليف يستلزم المشقة فالشارع عالم بلزوم المشقة من غير انفكاك فإذا يلزم أن 125 يكون الشارع طالبا للمشقة بناء على أن القاصد إلى السبب عالما بما يتسب عنه قاصد للمسبب وقد مر تقرير هذه المسألة في كتاب الأحكام فاقتضى أن الشارع قاصد للمشقة هنا والثالث أن المشقة في الجملة مثاب عليها إذا لحقت في أثناء التكليف مع قطع النظر عن ثواب التكليف كقوله تعالى ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله إلى آخر الآية وقوله والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وما جاء في كثرة الخطا إلى المساجد وأن أعظمهم أجرا أبعدهم دارا وما جاء في إسباغ الوضوء على المكارة وقد نبه على ذلك أيضا قوله تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم الآية وذلك لما في القتال من أعظم المشقات حتى قال تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وأشباه ذلك فإذا كانت المشقات من حيث هى مشقات مثابا عليها زيادة على معتاد التكليف دل على أنها مقصود له وإلا فلو لم يقصدها لم يقع عليها ثواب كسائر الأمور التى لم يكلف بها فأوقعها المكلف باختياره حسبما هو مذكور في المباح في كتاب الأحكام فدل هذا كله على قصد الشارع لطلب المشقة بالتكليف وهو المطلوب فالجواب عن الأول أن التكليف إذا وجه على المكلف يمكن القصد فيه على وجهين أحدهما أن يقصد إليه من جهة ما هو مشقة والثانى أن يقصد إليه من جهة ما هو مصلحة وخير للمكلف عاجلا وآجلا فأما الثانى فلا شك في أنه مقصود الشارع بالعمل والشريعة كلها ناطقة بذلك كما تقدم أول هذا الكتاب وأما الأول فلا نسلم أنه قصد ذلك والقصد أن لا يلزم اجتماعهما فإن الطبيب يقصد بسقي الدواء المر البشع والإيلام بقصد 126 العروق وقطع الأعضاء المتآكلة نفع المريض لا إيلامه وإن كان على علم من حصول الإيلام فكذلك يتصور في قصد الشارع إلى مصالح الخلق بالتكليف في العاجلة والآجلة والإجماع على أن الشارع يقصد بالتكليف المصالح على الجملة فالنزاع في قصده للمشقة وإنما سمى تكليفا باعتبار ما يلزمه على عادة العرب في تسمية الشيء لما يلزمه وإن كان في الإستعمال غير مقصود حسبما هو معلوم في علم الإشتقاق من غير أن يكون ذلك مجازا بل على حقيقة الوضع اللغوي والجواب عن الثاني أن العلم بوقوع المسبب عن السبب وإن ثبت أنه يقوم مقام القصد إليه في حق المكلف فإنما هو جار مجرى القصد من بعض الوجوه أعني في الأحكام الشرعية من جهة ما هو بالتسبب متعد على الجملة لا من جهة ما هو قاصد للمفسدة الواقعة إذ قد فرضناه لم يقصد إلا منفعة نفسه وإذا كان غير قاصد فهو المطلوب هنا في حق الشارع إذ هو قاصد نفس المصلحة لا ما يلزم في طريقها من بعض المفاسد وقد تقدم لهذا تقرير في كتاب الأحكام وسيأتي بسطه في حق المكلف بعد هذا إن شاء الله وأيضا لو لزم من قصد الشارع إلى التكليف بما يلزم عنه مفسدة في طريق المصلحة قصده إلى إيقاع المفسدة شرعا لزم بطلان ما تقدم البرهان على صحته من وضع الشريعة للمصالح لا للمفاسد ولزم في خصوص مسألتنا أن يكون قاصدا 127 لرفع المشقة وإيقاعها معا وهو محال باطل عقلا وسمعا وأيضا فلا يمتنع قصد الطبيب لسقي الدواء المر وقطع الأعضاء المتآكلة وقلع الأضراس الوجعة وبط الجراحات وأن يحمي المريض ما يشتهبه وإن كان يلزم منه إذاية المريض لأن المقصود إنما هو المصلحة التي هي أعظم وأشد في المراعاة من مفسدة الإذاء التي هي بطريق اللزوم وهذا شأن الشريعة أبدا فإذا كان التكليف على وجه فلا بد منه وإن أدى إلى مشقة لأن المقصود المصلحة فالتكليف أبدا جار على هذا المهيع فقد علم من الشارع أن المشقة ينهى عنها فإذا أمر بما تلزم عنه فلم يقصدها إذ لو كان قاصدا لها لما نهى عنها ومن هنا لا يسمى ما يلزم عن الأعمال العاديات مشقة عادة وتحصيله أن التكليف بالمعتادات وما هو من جنسها لا مشقة فيه كما تقدم فما يلزم عن التكليف لا يسمى مشقة فضلا عن أن يكون العلم بوقوعها يستلزم طلبها أو القصد إليها والجواب عن الثالث أن الثواب حاصل من حيث كانت المشقة لا بد من وقوعها لزوما عن مجرد التكليف وبها حصل العمل المكلف به ومن هذه الجهة يصح أن تكون كالمقصود لا أنها مقصودة مطلقا فرتب الشارع في مقابلتها أجرا زائدا على أجر إيقاع المكلف به ولا يدل هذا على أن النصب مطلوب أصلا ويؤيد هذا أن الثواب يحصل بسبب المشقات وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب كما يؤجر الإنسان ويكفر عنه من سيآته بسبب ما يلحقة من المصائب والمشقات كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام ما يصيب 128 المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله به من سيئآته وما أشبه ذلك وأيضا فالمباح إذا علم أنه ينشأ عنه ممنوع لا يكون العلم بذلك كالقصد إلى نفس الممنوع وكذلك يتفق على منع القصد إلى نفس الممنوع اللازم عن المباح ويختلفون إذا لم يقصد إليه وهو عالم به وسيأتى تقريره إن شاء الله تعالى فصل ويترتب على هذا أصل آخر وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظرا إلى عظم أجرها وله أن يقصد العمل الذى يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل أما هذا الثانى فلأنه شأن التكليف في العمل كله لأنه إنما يقصد نفس العمل المترتب عليه الأجر وذلك هو قصد الشارع يوضع التكليف به وما جاء على موافقة قصد الشارع هو المطلوب 129 وأما الأول فإن الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في التصرفات كما يذكر في موضعه إن شاء الله فلا يصلح منها إلا ما وافق قصد الشارع فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل فالقصد إلى المشقة باطل فهو إذا من قبيل ما ينهى عنه وما ينهى عنه لا ثواب فيه بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض فإن قيل هذا مخالف لما في الصحيح من حديث جابر قال خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله فقال لهم إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد قالوا نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك فقال بنى سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم وفى رواية فقالوا ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا وفى رواية عن جابر قال كانت ديارنا نائية عن المسجد فأردنا أن نبيع بيوتنا فنتقرب من المسجد فنهانا رسول الله فقال إن لكم بكل خطوة درجة وفى رقائق ابن المبارك عن أبي موسى الأشعري أنه كان في سفينة في البحر مرفوع شعراعها فإذا رجل يقول يا أهل السفينه قفوا سبع مرار فقلنا ألا ترى على أي حال نحن ثم قال في السابعة لقضاء قضاه الله على نفسه أنه من عطش لله نفسه في يوم من أيام الدنيا شديد الحر كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة فكان أبو موسى يتتبع اليوم المعمعاني الشديد الحر فيصومه 130 وفى الشريعة من هذا مايدل على أن قصد المكلف إلى التشديد على نفسه في العبادة وسائر التكاليف صحيح مثاب عليه فإن أولئك الذين أحبوا الانتقال أمرهم عليه الصلاة والسلام بالثبوت لأجل عظم الأجر بكثرة الخطا فكانوا كرجل له طريقان إلى العمل أحدهما سهل والآخر صعب فأمر بالصعب ووعد على ذلك بالأجر بل جاء نهيهم عن ذلك إرشادا إلى كثرة الأجر وتأمل أحوال أصحاب الأحوال من الأولياء فإنهم ركبوا في التعبد إلى ربهم أعلى ما بلغته طاقتهم حتى كان من أصلهم الأخذ بعزائم العلم وترك الرخص جملة فهذا كله دليل على خلاف ما تقدم وفى الصحيح أيضا عن أبي بن كعب قال كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله قال فتوجعنا له فقلنا له يا فلان لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض فقال أم والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت رسول الله قال فحملت به حتى أتيت نبى الله فأخبرته قال فدعاه فقال له مثل ذلك وذكر أنه يرجو له في أثره الأجر فقال له النبى إن لك ما احتسبت فالجواب أن نقول أولا إن هذه أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي والظنيات لا تعارض القطعيات فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات وثانيا إن هذه الأحاديث لا دليل فيها على قصد نفس المشقة فالحديث الأول قد جاء في البخاري ما يفسره فإنه زاد فيه وكره أن تعرى المدينة قبل 131 ذلك لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها وقد روى عن مالك بن أنس أنه كان أولا نازلا بالعقيق ثم نزل إلى المدينة وقيل له عند نزوله العقيق لم تنزل العقيق فإنه يشق بعده إلى المسجد فقال بلغني أن النبى كان يحبه ويأتيه وأن بعض الأنصار أرادوا النقلة منه إلى قرب المسجد فقال له النبي أما تحتسبون خطاكم فقد فهم مالك أن قوله ألا تحتسبون خطاكم ليس من جهة إدخال المشقة ولكن من جهة فضيلة المحل المنتقل عنه وأما حديث ابن المبارك فإنه حجة من عمل الصحابي إذا صح سنده عنه ومع ذلك فإنما فيه الإخبار بأن عظم الأجر ثابت لمن عظمت مشقة العبادة عليه 132 كالوضوء عند الكريهات والظمأ والنصب في الجهاد فإذا اختيار أبي موسى رضى الله عنه للصوم في اليوم الحار كاختيار من اختار الجهاد على نوافل الصلاة والصدقة ونحو ذلك لا أن فيه قصد التشديد على النفس ليحصل الأجر به وإنما فيه قصد الدخول في عبادة عظم أجرها لعظم مشقتها فالمشقة في هذا القصد تابعة لا متبوعة وكلامنا إنما هو فيما إذا كانت المشقة في القصد غير تابعة وكذلك حديث الأنصاري ليس فيه ما يدل على قصد التشديد وإنما فيه دليل عى قصد الصبر على مشقة بعد المسجد ليعظم أجره وهكذا سائر ما في هذا المعنى وأما شأن أرباب الأحوال فمقاصدهم القيام بحق معبودهم مع اطراح النظر في حظوظ نفوسهم ولا يصح أن يقال إنهم قصدوا مجرد التشديد على النفوس واحتمال المشقات لما تقدم من الدليل عليه ولما سياتي بعد إن شاء الله وثالثا إن ما اعترض به معارض بنهي رسول الله الذين أرادوا التشديد بالتبتل حين قال أحدهم أما أنا فأصوم ولا أفطر وقال الآخر أما أنا فأقوم الليل ولا أنام وقال الآخر أما أنا فلا آتي النساء فأنكر ذلك عليهم وأخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك كله وقال من رغب عن سنتي فليس مني وفى الحديث ورد النبي التبتل على عثمان بن مظعون ولو أذن له لا ختصينا ورد على من نذر أن يصوم قائما في الشمس فأمره بإتمام صيامه ونهاه عن القيام في الشمس 133 وقال هلك المتنطعون ونهيه عن التشديد شهير في الشريعة بحيث صار أصلا فيها قطعيا فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس كان قصد المكلف إليه مضادا لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به فإذا خالف قصده قصد الشارع بطل ولم يصح وهذا واضح وبالله التوفيق فصل وينبنى أيضا على ما تقدم أصل آخر وهو أن الأفعال المأذون فيها إما وجوبا أو ندبا أو إباحة إذا تسبب عنها مشقة فإما أن تكون معتادة في مثل ذلك العمل أو لا تكون معتادة فإن كانت معتادة فذلك الذى تقدم الكلام عليه وأنه ليست المشقة فيه مقصودة للشارع من جهة ما هى مشقة وإن لم تكن معتادة فهى أولى أن لا تكون مقصودة للشارع ولا يخلو عند ذلك أن تكون حاصلة بسبب المكلف واختياره مع أن ذلك العمل لا يقتضيها بأصله أو لا فإن كانت حاصلة بسببه كان ذلك منهيا عنه وغير صحيح في التعبد به لأن الشارع لا يقصد الحرج فيما أذن فيه ومثال هذا حديث الناذر للصيام قائما في الشمس ولذلك قال مالك في أمر النبى له بإتمام الصوم وأمره له بالقعود والاستظلال أمره أن يتم ما كان لله طاعة ونهاه عما كان لله 134 معصية لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببا للتقرب إليه ولا لنيل ما عنده وهو ظاهر إلا أن هذا النهي مشروط بأن تكون المشقة أدخلها على نفسه مباشره لا بسبب الدخول في العمل كما في المثال فالحكم فيه بين وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض الغير القادر على الصوم أو الصلاة قائما والحاج لا يقدر على الحج ماشيا أو راكبا إلا بمشقة خارجة عن المعتاد في مثل العمل فهذا هو الذى جاء فيه قوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وجاء فيه مشروعية الرخص ولكن صاحب هذا إن عمل بالرخصة فذاك ويمكن أن يكون عاملا لمجرد حظ نفسه وأن يكون قبل الرخصة من ربه تلبية لإذنه وإن لم يعمل بالرخصة فعلى وجهين أحدهما أن يعلم أو يظن أنه يدخل عليه في نفسه أو جسمه أو عقله أو عادته فساد يتحرج به ويعنت ويكره بسببه العمل فهذا أمر ليس له وكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن ولكنه لما دخل في العمل دخل عليه ذلك فحكمه الإمساك عما أدخل عليه المشوش وفى مثل هذا جاء ليس من البر الصيام في السفر وفى نحوه نهى عن الصلاة وهو بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان وقال لا يقض القاضى وهو غضبان وفى القرآن لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إلى أشباه ذلك مما نهى عنه بسبب عدم استيفاء 135 العمل المأذون فيه على كماله فإن قصد الشارع المحافظة على عمل العبد ليكون خالصا من الشوائب والإبقاء عليه حتى يكون في ترفه وسعة حال دخوله في ربقة التكليف والثانى أن يعلم أن يظن أنه لا يدخل عليه ذلك الفساد ولكن في العمل مشقة غير معتادة فهذا أيضا موضع لمشروعية الرخصة على الجملة ويتفصل الأمر فيه في كتاب الأحكام والعلة في ذلك أن زيادة المشقة مما ينشأ عنها العنت بل المشقة في نفسها هى العنت والحرج وإن قدر على الصبر عليها فهى مما لا يقدر على الصبر عليه عادة إلا أن هنا وجها ثالثا وهو أن تكون المشقة غير معتادة لكنها صارت بالنسبة إلى بعض الناس كالمعتادة ورب شىء هكذا فإن أرباب الأحوال من العباد والمنقطعين إلى الله تعالى المعانين على بذل المجهود في التكاليف قد خصوا بهذه الخاصية وصاروا معانين على ما انقطعوا إليه ألا ترى إلى قوله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين فجعلها كبيرة على المكلف واستثنى الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله صلى الله عيله وسلم فهو الذى كانت قرة عينه في الصلاة حتى كان يستريح إليها من تعب الدنيا وقام حتى تفطرت قدماه فإذا كان كذلك فمن خص بوراثته في هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية وهذا القسم يستدعى كلاما يكون فيه مد بعض نفس فإنه موضع مغفل قل من تكلم عليه مع تأكده في أصول الشريعة 136 فصل فأعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين أحدهما الخوف من الانقطاع من الطريق وبغض العبادة وكراهة التكليف وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله والثانى خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلا عنها وقاطعا بالمكلف دونها وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء فانقطع عنهما فأما الأول فإن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة حفظ فيها على الخلق قلوبهم وحبها لهم بذلك فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم ألا ترى إلى قوله تعالى واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم إلى آخرها فقد أخبرت الآية أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله وزينه في قلوبنا بذلك وبالوعد الصادق بالجزاء عليه وفى الحديث عليكم من 137 الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وفى حديث قيام رمضان أما بعد فإنه لم يخف على شأنكم ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها وفى حديث الحولاء بنت تويت حين قالت له عائشة رضي الله عنها هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل فقال عليه الصلاة والسلام لا تنام الليل خذوا من العمل ما تطيقون فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا وحديث أنس دخل رسول الله المسجد وحبل ممدود بين ساويتين فقال ما هذا قالوا حبل لزينب تصلى فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد وحديث معاذ حين قال له النبي عليه الصلاة والسلام أفتان أنت يا معاذ حين أطال الصلاة بالناس وقال إن منكم منفرين فأيكم من صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة ونهى عن الوصال رحمة لهم ونهى عن النذر وقال إن الله يستخرج به من البخيل وإنه لا يغنى من قدر الله شيئا أو كما قال لكن هذا كله معلل معقول المعنى بما دل عليه ما تقدم من السآمة والملل والعجز وبغض الطاعة وكراهيتها وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها عن النبي أنه قال إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله فإن 138 المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وقالت عائشة رضى الله عنها نهاهم النبي عن الوصال رحمة لهم قالوا إنك تواصل فقال إنى لست كهيئتكم إني أبيت يطعمنى ربي ويسقيني وحاصل هذا كله أن النهي لعلة معقولة المعنى مقصودة للشارع وإذا كان كذلك فالنهي دائر مع العلة وجودا وعدما فإذا وجد ما علل به الرسول كان النهي متوجها ومتجها وإذا لم توجد فالنهي مفقود إذ الناس في هذا الميدان على ضربين ضرب يحصل له بسبب إدخال نفسه في العمل تلك المشقة الزائدة على المعتاد فيؤثر فيه أو في غيره فسادا أو تحدث له ضجرا ومللا وقعودا عن النشاط إلى ذلك العمل كما هو الغالب في المكلفين فمثل هذا لا ينبغي أن يرتكب من الأعمال ما فيه ذلك بل يترخص فيه بحسب ما شرع له في الترخيص إن كان مما لا يجوز تركه أو يتركه إن كان مما له تركه وهو مقتضى التعليل ودليله قوله عليه الصلاة والسلام لا يقض القاضى وهو غضبان وقوله إن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا وهو الذى أشار به عليه الصلاة والسلام على عبد الله بن عمرو بن العاص حين بلغه أنه يسرد الصوم وقد قال بعد الكبر ليتني قبلت رخصة رسول الله 139 والضرب الثانى شأنه أن لا يدخل عليه ذلك الملل ولا الكسل لوازع هو أشد من المشقة أو حاد يسهل به الصعب أو لما له في العمل من المحبة ولما حصل له فيه من اللذة حتى خف عليه ما ثقل على غيره وصارت تلك المشقة في حقه غير مشقة بل يزيده كثرة العمل وكثرة العناء فيه نورا وراحة أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره كما جاء في الحديث أرحنا بها يا بلال وفى الحديث حبب إلى من دنياكم ثلاث قال وجعلت قرة عيني في الصلاة وقال لما قام حتى تورمت أو تفطرت قدماه أفلا أكون عبدا شكورا وقيل له عليه الصلاة والسلام أنأخذ عنك في الغضب والرضى قال نعم وهو القائل في حقنا لا يقضى القاضى وهو 140 غضبان وهذا وإن كان خاصا به فالدليل صحيح وجاء في هذا المعنى من احتمال المشقة في الأعمال والصبر عليها دائما كثير ويكفيك من ذلك ما جاء عن الصحابة والتابعين ومن يليهم رضى الله عنهم ممن اشتهر بالعلم وحمل الحديث والاقتداء بعد الاجتهاد كعمر وعثمان وأبي موسى الأشعري وسعيد بن عامر وعبد الله بن الزبير ومن التابعين كعامر بن عبد قيس وأويس ومسروق وسعيد بن المسيب والأسود بن يزيد والربيع بن خثيم وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن راهب قريش وكمنصور بن زاذان ويزيد بن هرون وهشيم وزر بن حبيش وأبي عبد الرحمن السلمي ومن سواهم ممن يطول ذكرهم وهم في اتباع السنة والمحافظة عليها ما هم ومما جاء عن عثمان رضي الله عنه أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله وكم من رجل منهم صلى الصبح بوضوء العشاء كذا وكذا سنة وسرد الصيام كذا وكذا سنة وروى عن ابن عمر وابن الزبير أنهما كانا يواصلان الصيام وأجاز مالك صيام الدهر وكان أويس القرني يقوم ليلة حتى يصبح ويقول بلغني أن لله عبادا سجودا أبدا ونحوه عن عبد الله بن الزبير وعن الأسود بن يزيد أنه كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى يخضر جسده ويصفر فكان علقمة يقول له ويحك لم تعذب هذا الجسد فيقول إن الأمر جد وعن ابن سيرين أن امرأة مسروق قالت كان يصلى حتى تورمت قدماه فربما جلست أبكي خلفه مما أراه يصنع بنفسه وعن الشعبي قال غشي على مسروق في يوم 141 صائف وهو صائم فقالت له ابنته أفطر قال ما أردت بي قالت الرفق قال يا بنية إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة إلى سائر ما ذكر عن الأولين من الأعمال الشاقة التى لا يطيقها إلا الأفراد هيأهم الله لها وهيأها لهم وحببها إليهم ولم يكونوا بذلك مخالفين للسنة بل كانوا معدودين في السابقين جعلنا الله منهم وذلك لأن العلة التى لأجلها نهى عن العمل الشاق مفقودة في حقهم فلم ينتهض النهي في حقهم كما أنه لما قال لا يقض القاضي وهو غضبان وكان وجه النهي وعلته تشويش الفكر عن استيفاء الحجج اطرد النهي مع كل ما يشوش الفكر وانتفى عند انتفائه حتى إنه منتف مع وجود الغضب اليسير الذى لا يشوش وهذا صحيح مليح فالضرب الأول حاله حال من يعمل بحكم عهد الإسلام وعقد الإيمان من غير زائد والثانى حاله حال من يعمل بحكم غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة فالخوف سوط سائق والرجاء حاد قائد والمحبة تيار حامل فالخائف يعمل مع وجود المشقة غير أن الخوف مما هو أشق يحمل على الصبر على ما هو أهون وإن كان شاقا والراجى يعمل مع وجود المشقة أيضا غير أن الرجاء في تمام الراحة يحمل على الصبر على تمام التعب والمحب يعمل ببذل المجهود شوقا إلى المحبوب فيسهل عليه الصعب ويقرب عليه البعيد ويفنى القوي ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ولا قام بشكر النعمة ويعمر الأنفاس ولا يرى أنه قضى نهمته وكذلك الخوف على النفس أو العقل أو المال يمنع من العمل المسبب لذلك إن كان لخيرة الإنسان ويرخص له فيه إن كان لازما له حتى لا يحصل في مشقة ذلك لأن فيه تشويش النفس كما تقدم ولكن العمل الحاصل والحالة هذه هل يكون مجزئا أم لا إذا خاف تلف نفسه أو عضو من أعضائه أو عقله هذا مما فيه نظر يطلع على حقيقة الأمر فيه من قاعدة الصلاة في الدار المغصوبة 142 وقد نقل منع الصوم إذا خاف التلف به عن مالك والشافعي وأنه لا يجزئه إن فعل ونقل المنع في الطهارة عند خوف التلف والانتقال إلى التيمم وفى خوف المرض أو تفلف المال احتمال والشاهد للمنع قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم وإذا كان منهيا عن هذه الأشياء وأشباهها بسبب الخوف لا من جهة إيقاع نفس تلك العبادات فالأمران مفترقان فإن إدخال المشقة الفادحة على النفس يعقل النهي عنها مجردة عن الصلاة والصلاة يعقل الأمر بها مجردة عن المشقة فصارت ذات قولين وأيضا فيدخل فيها النظر من قاعدة أخرى وهى أن يقال هل قصد الشارع رفع المشقة لأجل أن ذلك حق لله أم لأجل أنها حق للعبد فإن قلنا إنها حق لله فيتجه المنع حيث وجهه الشارع وقد رفع الحرج في الدين فالدخول فيما فيه الحرج مضاد لذلك الرفع وإن قلنا إنه حق للعبد فإذا سمح العبد لربه بحظه كانت عبادته صحيحة ولم يتمحض النهي عن تلك العبادة والذى يرجح هذا الثانى أمور منها أن قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم وقد دل بإشارته على أن ذلك من جهة الرفق بالعباد لقوله تعالى إن الله كان بكم رحيما يشير بذلك إلى رفع الحرج عنهم لأنه أرفق بهم وأيضا فقوله وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وأشباهها من الآيات الدالة على وضع الشريعة لمصالح العباد ومنها ما تقدم من الأدلة على رفع الحرج وإردة اليسر فإنما يكون النهي منتهضا مع فرض الحرج والعسر فإذا فرض ارتفاع ذلك بالنسبة إلى قوم ارتفع النهي ومما يخص مسألتنا قيام النبي حتى تفطرت قدماه أو تورمت قدماه والعبادة إذا صارت إلى هذا الحد شقت ولا بد ولكن المرفى طاعة 143 الله يحلو للمحبين وهو عليه الصلاة والسلام كان إمامهم وكذلك جاء عن السلف ترداد البكاء حتى عميت أعينهم وقد روى عن الحسن بن عرفة قال رأيت يزيد بن هرون بواسط وهو من أحسن الناس عينين ثم رأيته بعين واحدة ثم رأيته وقد ذهبت عيناه فقلت له يا أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان فقال ذهب بهما بكاء الأسحار وما تقدم في احتمال مطلق المشقة عن السلف الصالح عاضد لهذا المعنى فإذا من غلب جانب حق الله تعالى منع بإطلاق ومن غلب جانب حق العبد لم يمنع بإطلاق ولكن جعل ذلك إلى خيرته فصل وأما الثانى فإن المكلف مطلوب بأعمال ووظائف شرعية لا بد له منها ولا محيص له عنها يقوم فيها بحق ربه تعالى فإذا أوغل في علم شاق فربما قطعة عن غيره ولا سيما حقوق الغير التي تتعلق به فيكون عبادته أو عمله الداخل فيه قاطعا عما كلفه الله به فيقصر فيه فيكون بذلك ملوما غير معذور إذ المراد منه القيام بجميعها على وجه لا يخل بواحدة منها ولا بحال من أحواله فيها ذكر البخاري عن أبي جحيفة قال آخى النبي بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء وهي زوجة متبذلة فقال لها ما شأنك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال له كل فإني صائم فقال ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال نم فنام ثم ذهب ليقوم فقال نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان قم الآن فصلينا 144 فقال له سلمان إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فأتى النبي فذكر له ذلك فقال النبي صدق سلمان وقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ أفتان أنت أو أفاتن أنت ثلاث مرات فلولا صليت فسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة وكان الشاكي به رجل أقبل بناضحين وقد جنح الليل فوافق معاذا يصلي فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ فقرأ سورة البقرة والنساء فانطلق الرجل انظره في البخاري وكذلك حديث إني لأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي الحديث ويروى عن محمد بن صالح أنه دخل صوامع المنقطعين ومواضع المتعبدين فرأى رجلا يبكي بكاء عظيما بسبب أن فاتته صلاة صلاةالصبح في الجماعة لإطالة الصلاة من الليل وأيضا فقد يعجز الموغل في بعض الأعمال عن الجهاد أو غيره وهو من أهل الغناء فيه ولهذا قال في الحديث في داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى وقيل لابن مسعود رضى الله عنه وإنك لتقل الصوم فقال إنه يشغلني عن قراءة القرآن وقراءة القرآن أحب إلي منه ونحو هذا ما حكى 145 عياض عن ابن وهب أنه آلى أن يصوم يوم عرفة أبدا لأنه كان في الموقف يوما صائما وكان شديد الحر فاشتد عليه قال فكان الناس ينتظرون الرحمة وأنا أنتظر الإفطار وكره مالك إحياء الليل كله وقال لعله يصبح مغلوبا وفي رسول الله أسوة ثم قال لا بأس به ما لم يضر ذلك بصلاة الصبح فإن كان يأتيه الصبح وهو نائم فلا وإن كان وهو به فتور أو كسل فلا بأس به فإذا ظهرت علة النهي عن الإيغال في العمل وأنه يسبب تعطيل وظائف كما أنه يسبب الكسل والترك ويبغض العبادة فإذا وجدت العلة أو كانت متوقعة نهي عن ذلك وإن لم يكن شئ من ذلك فالإيغال فيه حسن وسبب القيام بالوظائف مع الإيغال ما تقدم في الوجه الأول من غلبة الخوف أو الرجاء أوالمحبة فإن قيل دخول الإنسان في العمل وإيغاله فيه وإن كان له وازع الخوف أو حادي الرجاء أوحامل المحبة لا يمكن معه استيفاء أنواع العبادات ولا يتأتى له أن يكون قائما الليل صائما النهار واطئا أهله إلى اشباه ذلك من مواصلة الصيام مع القيام على الكسب للعيال أو القيام بوظائف الجهاد على كمالها وكذلك إدامة الصلاة مع إعانة العباد وإغاثة اللهفان وقضاء حوائج الناس وغير ذلك من الأعمال بل كثير منها تضاد أعمالا أخر بحيث لا يمكن الإجتماع فيها وقد لا تضادها ولكن تؤثر فيها نقصا وتزاحم الحقوق على المكلف معلوم غير مجهول فكيف يمكن القيام بجميع الحقوق أو بأكثرها والحالة هذه ولهذا جاء من يشاد هذا الدين يغلبه وأيضا فإن سلم مثل هذا في أرباب الأحوال 146 ومسقطى الحظوظ فكيف الحال مع إثباتها والسعي فيها والطلب لها فالجواب أن الناس كما تقدم ضربان أحدهما أرباب الحظوظ وهؤلاء لا بد لهم من استيفاء حظوظهم المأذون لهم فيها شرعا لكن بحيث لا يخل بواجب عليهم ولا يضر بحظوظهم فقد وجدنا عدم الترخص في مواضع الترخص بالنسبة إليهم موقعا في مفسدة أو مفاسد يعظم موقعها شرعا وقطع العوائد المباحة قد يوقع في المحرمات وكذلك وجدنا المرور مع الحظوظ مطلقا خروجا عن ربقة العبودية لأن المسترسل في ذلك على غير تقييد ملق حكمة الشرع عن نفسه وذلك فساد كبير ولرفع هذا الاسترسال جاءت الشرائع كما أن ما في السموات وما في الأرض مسخر للإنسان فالحق الذي جاءت به الشريعة هو الجمع بين هذين الأمرين تحت نظر العدل فيأخذ في الحظوظ ما لم يخل بواجب ويترك الحظوظ ما لم يؤد الترك إلى محظور ويبقى في المندوب والمكروه على توازن فيندب إلى فعل المندوب الذي فيه حظه كالنكاح مثلا وينهى عن المكروه الذى لاحظ فيه عاجلا كالصلاة في الأوقات المكروهة وينظر في المندوب الذي لاحظ له فيه وفي المكروه الذي له فيه حظ أعني الحظ العاجل فإن كان ترك حظه في المندوب يؤدي 147 لما يكره شرعا أو لترك مندوب هو أعظم أجرا كان استعماله الحظ وترك المندوب أولى كترك التمتع بزوجته المؤدي إلى التشوف إلى الأجنبيات حسبما نبه عليه حديث إذارأى أحدكم امرأة فأعجبته الخ وكذلك ترك الصوم يوم عرفة أو لأجل أن يقوى على قراءة القرآن وفي الحديث إنكم قد استقبلتم عدوكم والفطر اقوى لكم وكذلك إن كان ترك المكروه الذي له فيه حظ يؤدي إلى ما هو أشد كراهة منه غلب الجانب الأخف كما قال الغزالي إنه ينبغي أن يقدم طاعة الوالدين في تناول المتشابهات على التورع عنها مع عدم طاعتهما فإن تناول المتشابهات للنفس فيها حظ فإذا كان فيها اشتباه طلب التورع عنها وكره تناولها لأجله فإن كان في تناولها رضى الوالدين رجح جانب الحظ هنا بسبب ما هو أشد في الكراهية وهو مخالفة الوالدين ومثله ما روى عن مالك أن طلب الرزق في شبهة أحسن من الحاجة إلى الناس فالحاصل أن الحظوظ لأصحاب الحظوظ تزاحم الأعمال فيقع الترجيح بينها فإذا تعين الراجح ارتكب وترك ما عداه وبسط هذه الجملة هي عمدة كلام الفقهاء في تفاريع الفقه والثاني أهل إسقاط الحظوظ وحكمهم حكم الضرب الأول في الترجيح 148 بين الأعمال غير أن سقوط حظوظهم لعزوب أنفسهم عنها منع الخوف عليهم من الإنقطاع وكراهية الأعمال ووفقهم في الترجيح بين الحقوق وأنهضهم من الأعمال بما لم ينهض به غيرهم فصاروا أكثر أعمالا وأوسع مجالا في الخدمة فيسعهم من الوظائف الدينية المتعلقة بالقلوب والجوارح ما يستعظمه غيرهم ويعده في خوارق العادات وأما أنه يمكنهم القيام بجميع ما كلفه العبد وندب إليه على الجملة فمعتذر إلا في المنهيات فإنه ترك بإطلاق ونفي أعمال لا أعمال والنفي العام ممكن الحصول بخلاف الإثبات العام ولما سقطت حظوظهم صارت عندهم لا تزاحم الحقوق إلا من حيث الأمر كقوله إن لنفسك عليك حق وحقه من حيث هو حق له ضعيف عنده أو ساقط فصار غيره عنده أقوى من حظ نفسه فحظه أيضا آخر الأشياء المستحقة وإذا سقطت الحظوظ لحق ما هو بدل عنها لأن زمان طلب الحظ لا يبقى خاليا فدخل فيه من الأعمال كثير وإذا عمل على حظه من حيث الأمر فهو عبادة كما سيأتي فصار عبادة بعد ما كان عادة فهو ساقط من جهته ثابت من جهة الأمر كسائر الطاعات ومن هنا صار مسقط الحظ أعبد الناس بل يصير أكثر عمله في الواجبات وهنا مجال رحب له موضع غير هذا فصل ما تقدم ذكره إنما هو فيما كان من الأعمال يتسبب عنه مشقة وهو من المأذون فيه فإن كان غير مأذون فيه وتسبب عنه مشقة فادحة فهو أظهر في المنع من ذلك التسبب لأنه زاد على ارتكاب النهي إدخال العنت والحرج على نفسه 149 إلا أنه قد يكون في الشرع سببا لأمر شاق على المكلف ولكن لا يكون قصد من الشارع لإدخال المشقة عليه وإنما قصد الشارع جلب مصلحة أو درء مفسدة كالقصاص والعقوبات الناشئة عن الأعمال الممنوعة فإنها زجر للفاعل وكف له عن مواقعة مثل ذلك الفعل وعظة لغيره أن يقع في مثله أيضا وكون هذا الجزاء مؤلما وشاقا مضاه لكون قطع اليد المتأكلة وشرب الدواء البشيع مؤلما وشاقا فكما لا يقال للطبيب إنه قاصد للإيلام بتلك الأفعال فكذلك هنا فإن الشارع هو الطبيب الأعظم والأدلة المتقدمة في أن الله لم يجعل في الدين من حرج ولا يريد جعله فيه ويشبه هذا ما في الحديث من قوله ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له من الموت لأن الموت لما كان حتما على المؤمن وطريقا إلى وصوله إلى ربه وتمتعه بقربه في دار القرار صار في القصد إليه معتبرا وصار من جهة المساءة فيه مكروها وقد يكون لاحقا بهذا المعنى النذور التي يشق على الإنسان الوفاء بها لأن المكلف لما أريح من مقتضياتها كان التزامها مكروها فإذا وقع وجب الوفاء بها من حيث هى عبادات وإن شقت كما لزمت العقوبات بناء على التسبب فيها حتى إذا كانت النذور فيما ليس بعبادة أو كانت في عبادة لا تطاق وشرعت لها تخفيفات أو كانت مصادمة لأمر ضروري أو حاجي في الدين سقطت كما إذا حلف بصدقه ماله فإنه يجزئه الثلث أو نذر المشي إلى مكة راجلا فلم يقدر فإنه يركب ويهدى أو كما إذا نذر أن لا يتزوج أو لا يأكل الطعام فإنه يسقط حكمه إلى أشباه ذلك 150 فانظر كيف صحبه الرفق الشرعي فيما أدخل نفسه فيه من المشقات فعلى هذا كون الشارع لا يقصد إدخال المشقة على المكلف عام في المأمورات والمنهيات ولا يقال إنه قد جاء في القرآن فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فسمي الجزاء اعتداء وذلك يقتضى القصد إلى الاعتداء ومدلوله المشقة الداحلة على المعتدى لأنا نقول تسمية الجزاء المرتب على الاعتداء اعتداء مجاز معروف مثله في كلام العرب وفى الشريعة من هذا كثير كقوله تعالى الله يستهزىء بهم ومكروا ومكر الله إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا إلى أشباه ذلك فلا اعتراض بمثل ذلك فصل وقد تكون المشقة الداخلة على المكلف من خارج لا بسببه ولا بسبب دخوله في عمل تنشأ عنه فههنا ليس للشارع قصد في بقاء ذلك الألم وتلك المشقة والصبر عليها كما أنه ليس له قصد في التسبب في إدخالها على النفس غير أن المؤذيات والمؤلمات خلقها الله تعالى ابتلاء للعباد وتمحيصا وسلطها عليهم كيف شاء ولما شاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وفهم من مجموع الشريعة الإذن في دفعها على الإطلاق رفعا للمشقة اللاحقة وحفظا على الحظوظ التى أذن لهم فيها بل أذن في التحرز منها عند توقعها وإن لم تقع تكملة لمقصود العبد وتوسعة عليه وحفظا على تكميل الخلوص في التوجه إليه والقيام بشكر النعم فمن ذلك الإذن في دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد وفى التداوى عند وقوع الأمراض وفى التوقي من كل مؤذ آدميا كان أو غيره والتحرز من المتوقعات حتى يقدم العدة لها وهكذا سائر ما يقوم به عيشه في هذه الدار 151 من درء المفاسد وجلب المصالح ثم رتب له مع ذلك دفع المؤلمات الأخروية وجلب منافعها بالتزام القوانين الشرعية كما رتب له ذلك فيما يتسبب عن أفعاله وكون هذا مأذونا فيه معلوم من الدين ضرورة إلا أن هذا الدفع المأذون فيه إن ثبت انحتامه فلا إشكال في علمنا أن الشارع قصد رفع تلك المشقة كما أوجب علينا دفع المحاربين والساعين على الإسلام والمسلمين بالفساد وجهاد الكفار القاصدين لهدم الإسلام وأهله ولا يعتبر هنا جهة التسليط والإبتلاء لأنا قد علمنا بإيجاب الدفع أن ذلك ملغي في التكليف وإن كان ممتبرا في العقد الإيماني كما لا تعتبر جهة التكليف ابتداء وإن كان في نفسه ابتلاء لأنه طاعة أو معصية من جهة العبد خلق للرب فالفعل والترك فيه بحسب ما يخلق الله في العبد فليس له في الأصل حيلة إلا الاستسلام لأحكام القضاء والقدر فكذلك هنا وأما إن لم يثبت انحتام الدفع فيمكن اعتبار جهة التسليط والابتلاء وأن ذلك الشاق مرسل من المسلط المبلي فيستسلم العبد للقضاء ولذلك لما لم يكن التداوي محتما تركه كثير من السلف الصالح وأذن عليه الصلاة والسلام في البقاء على حكم المرض كما في حديث السوداء المجنونة التى سألت النبي أن يدعو لها فخيرها في الأجر مع البقاء على حالتها أو زوال ذلك وكما 152 فى الحديث ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون ويمكن اعتبار جهة الحظ بمقتضى الإذن ويتأيد بالندب كما في التداوى حيث قال عليه الصلاة والسلام تداوو فإن الذى أنزل الداء أنزل الدواء وأما إن ثبت الإباحة فالأمر أظهر وهنا انقضى الكلام على الوجه الثالث من أوجه المشقات المفهومة من إطلاق اللفظ وبقي الكلام على الوجه الرابع وذلك مشقة مخالفة الهوى وهى 153 المسألة الثامنة وذلك أن مخالفة ما تهوى الأنفس شاق عليها وصعب خروجها عنه ولذلك بلغ أهل الهوى في مساعدته مبالغ لا يبلغها غيرهم وكفى شاهدا على ذلك حال المحبين وحال من بعث إليهم رسول الله من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم ممن صمم على ما هو عليه حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال ولم يرضوا بمخالفة الهوى حتى قال تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم الآية وقال إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس وقال أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم وما أشبه ذلك ولكن الشارع إنما قصد بوضع الشريعة إخراج المكلف عن اتباع هواه حتى يكون عبدا لله فإذا مخالفة الهوى ليست من المشقات المعتبرة في التكليف وإن كانت شاقة في مجاري العادات إذ لو كانت معتبرة حتى يشرع التخفيف لأجل ذلك لكان ذلك نقضا لما وضعت الشريعة له وذلك باطل فما أدى إليه مثله وبيان هذا المعنى مذكور بعد إن شاء الله المسألة التاسعة كما أن المشقة تكون دنيوية كذلك تكون أخروية فإن الأعمال إذا كان الدخول فيها يؤدي إلى تعطيل واجب أو فعل محرم فهو أشد مشقة باعتبار الشرع من المشقة الدنيوية التى هي غير مخلة بدين واعتبار الدين مقدم على 154 اعتبار النفس وغيرها في نظر الشرع وكذلك هنا فإذا كان كذلك فليس للشارع قصد في إدخال المشقة من هذه الجهة وقد تقدم من الأدلة التىيدخل تحتها هذا المطلوب ما فيه كفاية المسألة العاشرة قد تكون المشقة الناشئة من التكليف تختص بالمكلف وحده كالمسائل المتقدمة وقد تكون عامة له ولغيره وقد تكون داخلة على غيره بسببه ومثال العامة له ولغيره كالوالى المفتقر إليه لكونه ذا كفاية فيما أسند إليه إلا أن 155 الولاية تشغله عن الانقطاع إلى عبادة الله والأنس بمناجاته فإنه إذا لم يقم بذلك عم الفساد والضرر ولحقه من ذلك ما يلحق غيره ومثال الداخلة على غيره دونه كالقاضي والعالم المفتقر إليهما إلا أن الدخول في الفتيا والقضاء يجرهما إلى ما لا يجوز أو يشغلهما عن مهم ديني أو دنيوي وهما إذا لم يقوما بذلك عم الضرر غيرهما من الناس فقد نشأ هنا عن طلبهما لمصالحهما المأذون فيها والمطلوبة منهما فساد عام وعلى كل تقدير فالمشقة من حيث هي غير مقصود للشارع تكون غير مطلوبة ولا العمل المؤدي إليها مطلوبا كما تقدم بيانه فقد نشأ هنا نظر في تعارض مشقتين فإن المكلف إن لزم من اشتغاله بنفسه فساد ومشقة لغيره فيلزم أيضا من الاشتغال بغيره فساد ومشقة في نفسه وإذا كان كذلك تصدى النظر في وجه اجتماع المصلحتين مع انتفاء المشقتين إن أمكن ذلك وإن لم يمكن فلا بد من الترجيح فإذا كانت المشقة العامة أعظم اعتبر جانبها وأهمل جانب الخاصة وإن كان بالعكس فالعكس وإن لم يظهر ترجيح فالتوقف كما سيأتي ذكره في كتاب التعارض والترجيح إن شاء الله 156 المسألة الحادية عشرة حيث تكون المشقة الواقعة بالمكلف في التكليف خارجة عن معتاد المشقات في الأعمال العادية حتى يحصل بها فساد ديني أو دنيوي فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة وعلى ذلك دلت الأدلة المتقدمة ولذلك شرعت فيها الرخص مطلقا وأما إذا لم تكن خارجة عن المعتاد وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها من الأعمال العادية فالشارع وإن لم يقصد وقوعها فليس بقاصد لرفعها أيضا والدليل على ذلك أنه لو كان قاصدا لرفعها لم يكن بقاء التكليف معها لأن كل عمل عادي أو غير عادي يستلزم تعبا وتكليفا على قدره قل أو جل إما في نفس العمل المكلف به وإما في خروج المكلف عما كان فيه إلى الدخول في عمل التكليف وإما فيهما معا فإذا اقتضى الشرع رفع ذلك التعب كان ذلك اقتضاء لرفع العمل المكلف به من أصله وذلك غير صحيح فكان مما يستلزمه غير صحيح إلا أن هنا نظرا وهو أن التعب والمشقة في الأعمال المعتادة مختلفة بإختلاف تلك الأعمال فليست المشقة في صلاة ركعتي الفجر كالمشقة في ركعتي الصبح ولا المشقة في الصلاة كالمشقة في الصيام ولا المشقة في الصيام كالمشقة في الحج ولا المشقة في ذلك كله كالمشقة في الجهاد إلى غير ذلك من أعمال التكليف ولكن كل عمل في نفسه له مشقة معتادة فيه توازي مشقة مثله من الأعمال العادية فلم تخرج عن المعتاد على الجملة ثم إن الأعمال المعتادة ليست المشقة فيها تجري على وزان واحد في كل وقت في كل مكان وعلى كل حال فليس 157 إسباغ الوضوء في السبرات يساوي إسباغه في الزمان الحار ولا الوضوء مع حضرة الماء من غير تكلف في استقائه يساويه مع تجشم طلبه أو نزعه من بئر بعيدة وكذلك القيام إلى الصلاة من النوم في قصر الليل أو في شدة البرد مع فعله على خلاف ذلك وإلى هذا المعنى أشار القرآن بقوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله بعد قوله ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون إلى آخرها وقوله وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ثم مدح الله من صبر على ذلك وصدق في وعده بقوله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه الآية وقصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم في تخلفهم عن غزوة تبوك ومنع رسول الله صلى الله وسلم من مكالمتهم وإرجاء أمرهم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وكذلك ما جاء في نكاح الإماء عند خشية العنت ثم 158 قال وأن تصبروا خيرا لكم إلى أشباه ذلك مما يدل على أن المشقة قد تبلغ في الأعمال المعتادة ما يظن أنه غير معتاد ولكنه في الحقيقة معتاد ومشقته في مثلها مما يعتاد إذ المشقة في العمل الواحد لها طرفان وواسطة طرف أعلى بحيث لو زاد شيئا لخرج عن المعتاد وهذا لا يخرجه عن كونه معتادا وطرف أدنى بحيث لو نقص شيئا لم يكن ثم مشقة تنسب إلى ذلك العمل وواسطه هى الغالب والأكثر فإذا كان كذلك فكثيرا مما يظهر مبادئ الرأي من المشقات أنها خارجة عن المعتاد لا يكون كذلك لمن كان عارفا بمجاري العادات وإذا لم تخرج عن المعتاد لم يكن للشارع قصد في رفعها كسائر المشقات المعتادة في الأعمال الجارية على العادة فلا يكون فيها رخصة وقد يكون الموضع مشتبها فيكون محلا للخلاف فحيث قال الله تعالى انفروا خفافا وثقالا ثم قال إلا تنفروا يعذكم عذابا أليما كان هذا موضع شدة لأنه يقتضى أن لا رخصة أصلا في التخلف إلا أنه بمقتضى الأدلة على رفع الحرج محمول على أقصى الثقل في الأعمال المعتادة بحيث يتأتى النفير ويمكن الخروج وقد كان اجتمع في غزوة تبوك أمران شدة الحر وبعد الشقة زائدا على مفارقة الظلال واستدرار الفواكه والخيرات وذلك كله زائد في مشقة الغزو زيادة ظاهرة ولكنه غير مخرج لها عن المعتاد فلذلك لم يقع في ذلك رخصة فكذلك أشباهها وقد قال تعالى ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم وقد قال ابن عباس في قوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج 159 إنما ذلك سعة الإسلام ما جعل الله من التوبة والكفارات وقال عكرمة ما أحل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وعن عبيد بن عمير أنه جاء في ناس من قومه إلى ابن عباس فسأله عن الحرج فقال أولستم العرب ثم قال ادع لي رجلا من هذيل فقال ما الحرج فيكم قال الحرجة من الشجر ما ليس له مخرج قال ابن عباس ذلك الحرج ما لا مخرج له فانظر كيف جعل الحرج ما لا مخرج له وفسر رفعه بشرع التوبة والكفارات وأصل الحرج الضيق فما كان من معتادات المشقات في الأعمال المعتاد مثلها فليس بحرج لغة ولا شرعا كيف وهذا النوع من الحرج وضع لحكمة شرعية وهى التمحيص والاختبار حتى يظهر في الشاهد ما علمه الله في الغائب فقد تبين إذا ما هو من الحرج مقصود الرفع وما ليس بمقصود الرفع والحمد لله فصل قال ابن العربي إذا كان الحرج في نازلة عامة في الناس فإنه يسقط وإذا كان خاصا لم يعتبر عندنا وفى بعض أصول الشافعي اعتباره انتهى ما قال وهو مما ينظر فيه فإنه إن عني بالخاص الحرج الذى في أعلى مراتب المعتاد فالحكم كما قال ولا ينبغي أن يختلف فيه لأنه إن كان من المعتاد فقد ثبت أن المعتاد لا إسقاط فيه وإلا لزم في أصل التكليف فإن تصور وقوع اختلاف فإنما هو مبنى على أن ذلك الحرج من قبيل المعتاد أو من قبيل الخارج عن المعتاد لا أنه مختلف فيه مع الاتفاق على أنه من أحدهما وأيضا فتسميته خاصا يشاح فيه فإنه بكل اعتبار عام غير خاص إذ ليس مختصا ببعض المكلفين على التعيين دون بعض وأن عني بالحرج ما هو خارج عن المعتاد ومن جنس ما تقع فيه الرخصة والتوسعة فالعموم والخصوص فيه أيضا مما يشكل فهمه فإن السفر مثلا سبب للحرج مع تكميل الصلاة والصوم وقد شرع فيه التخفيف فهذا عام والمرض 160 قد شرع فيه التخفيف وهو ليس بعام بمعنى أنه لا يسوغ التخفيف في كل مرض إذ من المرضى من لا يقدر على إكمال الصلاة قائما أو قاعدا ومنهم من يقدر على ذلك ومنهم من يقدر على الصوم ومنهم من لا يقدر فهذا يخص كل واحد من المكلفين في نفسه ومع ذلك فقد شرع فيه التخفيف على الجملة فالظاهر أنه خاص ولكن لا يخالف فيه مالك الشافعي إلا أن يكونوا جعلوا هذا من الحرج العام عند تقييد المرض بما يحصل فيه الحرج غير المعتاد فيرجع إذ ذاك إلى قسم العام ولا يخالف فيه مالك الشافعي أيضا وعند ذلك يصعب تمثيل الخاص وإلا فما من حرج يعد أن يكون له تخفيف مشروع باتفاق أو باختلاف إلا وهو عام وإن اتفق أن لا يقع منه في الوجود إلا فرد واحد وإن قدر أن يكون التشريع له وحده أو لقوم مخصوصين فهذا غير متصور في الشريعة إلا ما اختص به النبي أو خص به أحد من أصحابه كتضحية أبي بردة بالعناق الجذعة وشهادة خزيمة فذلك مختص بزمان النبوة دون ما بعد ذلك فإن قيل لعله يريد بالخصوص والعموم ما كان عاما للناس كلهم وما كان خاصا ببعض الأقطار أو بعض الأزمان أو بعض الناس وما أشبه ذلك فالجواب أن هذا أيضا مما ينظر فيه فإن الحرج بالنسبة إلى النوع أو الصنف عام في ذلك الكلي لا خاص لأن حقيقة الخاص ما كان الحرج فيه خاصا ببعض الأشخاص المعينين أو بعض الأزمان المعينة أو الأمكنة المعينة وكل ذلك إنما يتصور في زمان النبوة أو على وجه لا يقاس عليه غيره كنهيه عن 161 ادخار لحوم الأضاحي زمن الدافة وكتخصيص الكعبة بالإستقبال والمساجد الثلاثة بما اشتهر من فضلها على سائر المساجد فتصور مثل هذا في مسألة ابن العربي غير متأت فإن قيل ففى النوع أو الصنف خصوص من حيث هو نوع أو صنف داخل تحت جنس شامل له ولغيره قيل وفيه أيضا عموم من جهة كونه شاملا لمتعدد لا ينحصر فليس أحد الطرفين وهو الخصوص أولى به من الطرف الآخر وهو العموم بل جهة العموم أولى لأن الحرج فيها كلي بحيث لو لحق نوعا آخر أو صنفا آخر للحق به في الحكم فنسبة ذلك النوع أو الصنف إلى سائر الأنواع أو الأصناف الداخلة تحت الجنس الواحد نسبة بعض أفراد ذلك الجنس في لحوق المرض أو السفر إلى جميع أفراده فإن ثبت الحكم في بعضها ثبت في البعض وإن سقط سقط في البعض وهذا متفق عليه بين الإمامين فمسألتنا ينبغي أن يكون الأمر فيها كذلك فإن قيل لعله يريد بذلك ما كان مثل التغير اللاحق للماء بما لا ينفك عنه غالبا وهوم عام كالتراب والطحلب وشبه ذلك أو خاص كما إذا كان عدم الإنفكاك خاصا ببعض المياه فإن حكم الأول ساقط لعمومه والثاني مختلف فيه لخصوصه وكذلك اختلف في ماء البحر هل هو طهور أم لا لأنه متغير خاص وكالتغير بتفتت الأوراق في المياه خصوصا ففيه خلاف والطلاق قبل النكاح إن كان عاما سقط وإن كان خاصا ففيه خلاف كما إذا قال كل امرأة 162 أتزوجها من بني فلان أو من البلد الفلاني أو من السودان أو من البيض أو كل بكر أتزوجها أو كل ثيب وما أشبه ذلك فهي طالق ومثله كل أمة اشتريتها فهي حرة هو بالنسبة إلى قصد الوطء من الخاص كما لو قال كل حرة أتزوجها طالق وبالنسبة إلى قصد مطلق الملك من العام فيسقط فإن قال فيه كل أمة اشتريتها من السودان كان خاصا وجرى فيه الخلاف وأشباه ذلك من المسائل فالجواب أن هذا ممكن وهو أقرب ما يؤخذ عليه كلامه إلا أن نص الخلاف في هذه الأشياء وأشباهها عن مالك بعدم الاعتبار وعن الشافعي بالاعتبار يجب أن يحقق في هذه الأمثلة وفى غيرها بالنسبة إلى علم الفقه لا بالنسبة إلى نظر الأصول إلا أنه إذا ثبت الخلاف فهو المراد ههنا والنظر الأصولي يقتضي ما قال فإن الحرج العام هو الذى لا قدرة للانسان في الإنفكاك عنه كالأمثلة المتقدمة فأما إذا أمكن الانفكاك عنه فليس بحرج عام بإطلاق إلا أن الانفكاك عنه قد يكون فيه حرج آخر وإن كان أخف إذ لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة لاختلاف أحوال الناس في ذلك وأيضا فكما لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة كذلك لا يطرد مع وجودها فكان بهذا الاعتبار ذا نظرين فصارت المسألة ذات طرفين وواسطة الطرف العام الذى لا انفكاك عنه في العادة الجارية ويقابله طرف خاص يطرد الانفكاك عنه من غير حرج كتفير هذا الماء بالخل والزعفران ونحوه وواسطة دائرة بين الطرفين هي محل نظر واجتهاد والله أعلم 163 المسألة الثانية عشرة الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه الداخل تحب كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال بل هو تكليف جار على موازنة تقتضى في جميع المكلفين غاية الإعتدال كتكاليف الصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة وغير ذلك مما شرع ابتداء على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل كقوله تعالى ويسألونك ماذا ينفقون يسألونك عن الخمر والميسر وأشباه ذلك فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين كان التشريع رادا إلى الوسط الأعدل لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الإعتدال فيه فعل الطبيب الرفيق يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته وقوة مرضه وضعفه حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقا في التدبير وسطا لائقا به في جميع أحواله أو لا ترى أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب التعريف 164 بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود لأجلهم ولحصول منافعهم ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم وتكمل بها تصرفاتهم كقوله تعالى الذى جعل لكم الأرض فراشا والسمآء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وقوله الله الذى خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماءا فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره إلى قوله وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وقوله هو الذى أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون إلى آخر ما عد لهم من النعم ثم وعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا وبالعذاب إن تمادوا على ما هم عليه من الكفر فلما عاندوا وقابلوا النعم بالكفران وشكوا في صدق ما قيل لهم أقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته فلما لم يلتفتوا إليها لرغبتهم في العاجلة أخبروا بحقيقتها وأنها في الحقيقة كلا شئ لأنها زائلة فانية وضربت لهم الأمثال في ذلك كقوله تعالى إنما مثل الحياة الدنيا كمآء أنزلناه من السماء الآية وقوله إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وقوله وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون بل لما آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها أو نظرا إلى هذا المعنى فقال عليه الصلاة والسلام 165 إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرات الدنيا ولما لم يظهر ذلك ولا مظنته قال تعالى قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هى للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة وقال يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ووقع لأهل الإسلام النهي عن الظلم والوعيد فيه والتشديد وقال تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ولما قال عليه الصلاة والسلام آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان شق ذلك عليهم إذ لا يسلم أحد من شئ منه ففسره عليه الصلاة والسلام لهم حين أخبروه بكذب وإخلاف وخيانة مختصة بأهل الكفر وكذلك لما نزل وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية شق عليهم فنزل لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقارف 166 بعضهم بارتداد أو غيره وخاف أن لا يغفر له فسئل في ذلك رسول الله فأنزل الله قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية ولما ذم الدنيا ومتاعها هم جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا وينقطعوا إلى العبادة فرد ذلك عليهم رسول الله وقال من رغب عن سنتي فليس مني ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة والمال والولد هي الدنيا واقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها ولم يزهدهم ولا أمرهم بتركها إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك وما سواه فلا ومن غامض هذا المعنى أن الله تعالى أخبر عما يجازى به المؤمنين في الآخرة وأنه جزاء لأعمالهم فنسب إليهم أعمالا وأضافها إليهم بقوله جزاء بما كانوا يعملون ونفى المنة به عليهم في قوله فلهم أجر غير ممنون فلما منوا بأعمالهم قال تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين فأثبت المنة عليهم على ما هو الأمر في نفسه لأنه مقطع حق وسلب عنهم ما أضاف إلى الآخرين بقوله أن هداكم للإيمان كذلك أيضا أى فلولا الهداية لم يكن ما مننتم به 167 وهذا يشبه في المعنى المقصود حديث شراج الحرة حين تنازع فيه الزبير ورجل من الأنصار فقال عليه السلام إسق يا زبير فأمره بالمعروف وأرسل الماء إلى جارك فقال الرجل إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله عليه وسلم ثم قال إسق يا زبير حتى يرجع الماء إلى الجدر واستوفى له حقه فقال الزبير إن هذه الآية نزلت في ذلك فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الآية وهكذا تجد الشريعة أبدا في مواردها ومصادرها وعلى نحو من هذا الترتيب يجري الطبيب الماهر يعطي الغذاء ابتداء على ما يقتضيه الاعتدال في توافق مزاج المغتذي مع مزاج الغذاء ويخبر من سأله عن بعض المأكولات التي يجهلها المغتذي أهو غذاء أم سم أم غير ذلك فإذا أصابته علة بانحراف بعض الأخلاط قابله في معالجته على مقتضى انحرافه في الجانب الآخر ليرجع إلى الاعتدال وهو المزاج الأصلي والصحة المطلوبة وهذا غاية الرفق وغاية الإحسان والإنعام من الله سبحانه فصل فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في االطرف الآخر فطرف التشديد وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر يؤتي به في مقابلة من غلب عليه الإنحلال في الدين 168 وطرف التخفيف وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص يؤتي به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحا ومسلك الاعتدال واضحا وهو الأصل الذي يرجع إليه والمعقل الذي يلجأ إليه وعلى هذا إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدين من مال عن التوسط فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى وعليه يجري النظر في الورع والزهد وأشباههما وما قابلها والتوسط يعرف بالشرع وقد يعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقلاء كما في الإسراف والإقتار في النفقات النوع الرابع في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة ويشتمل على مسائل المسألة الأولى المقصد شرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا 169 والدليل على ذلك أمور أحدها النص الصريح الدال على أن العباد خلقوا للتعبد لله والدخول تحت أمره ونهيه كقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون وقوله تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك وقوله يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ثم شرح هذه العبادة في تفاصيل السورة كقوله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن إلى قوله وأولئك هم المتقون وهكذا إلى تمام ما ذكر في السورة من الأحكام وقوله واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعباد على الإطلاق وبتفاصيلها على العموم فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال والانقياد إلى أحكامه على كل حال وهو معنى التعبد لله والثانى ما دل على ذم مخالفة هذا القصد من النهي أولا عن مخالفة أمر الله وذم من أعرض عن الله وإيعادهم بالعذاب العاجل من العقوبات الخاصة بكل صنف من أصناف المخالفات والعذاب الآجل في الدار الآخرة وأصل ذلك اتباع الهوي والإنقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة والشهوات الزائلة فقد جعل الله اتباع الهوى مضادا للحق وعده قسيما له كما في قوله تعالى يا دواد إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله الآية وقال تعالى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هى المأوى وقال في قسيمه وأما من خاف مقام ربه ونهىالنفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وقال وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فقد حصر الأمر في شيئين الوحى وهو الشريعة والهوى فلا ثالث لهما وإذا كان كذلك فهما متضادان وحين تعين الحق في الوحى توجه للهوى 170 ضده فاتباع الهوى مضاد للحق وقال تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وقال ولو اتبع الحق أهوائهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن وقال أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم وقال أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم وتأمل فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه وقد روى هذا المعنى عن ابن عباس أنه قال ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى والثالث ما علم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى والمشي مع الأغراض لما يلزم في ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك الذى هو مضاد لتلك المصالح وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته وسار حيث سارت به حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها أو كان له شريعة درست كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم وإطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا من إقامة صلاح الدنيا وهى التى يسمونها السياسة المدينة فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة وهو أظهر من أن يستدل عليه وإذا كان كذلك لم يصح لأحد أن يدعى على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهى العباد وأغراضهم إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة أما الوجوب والتحريم فظاهر مصادمتها لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار إذ يقال له افعل كذا كان لك فيه غرض أم لا ولا تفعل كذا كان لك فيه غرض 171 أم لا فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق وهوى باعث على مقتضى الأمر أو النهي فبالعرض لا بالأصل وأما سائر الأقسام وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره فهى راجعة إلى إخراجها عن اختياره ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه اختيار وغرض وقد لا يكون فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار بل في رفعه مثلا كيف يقال إنه داخل تحت اختياره فكم من صاحب هوى يود لو كان المباح الفلاني ممنوعا حتى إنه لو وكل إليه مثلا تشريعه لحرمه كما يطرأ للمتنازعين في حق وعلى تقدير أن اختياره وهواه في تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول حتى لو فرض جعل ذلك إليه لأوجبه ثم قد يصير الأمر في ذلك المباح بعينه على العكس فيحب الآن ما يكره غدا وبالعكس فلا يستتب في قضية حكم على الإطلاق وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشئ الواحد فينخرم النظام بسبب فرط اتباع الأغراض والهوى فسبحان الذى أنزل في كتابه ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن فإذا إباحة المباح مثلا لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف إلا من حيث كان قضاء من الشارع وإذ ذاك يكون اختياره تابعا لوضع الشارع وغرضه مأخوذا من تحت الإذن الشرعى لا بالاسترسال الطبيعي وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعيه هواه حتى يكون عبدا لله فإن قيل وضع الشرائع إما أن يكون عبثا أو لحكمة فالأول باطل باتفاق وقد قال تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وقال وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين 172 ما خلقناهما إلا بالحق وإن كان لحكمة ومصلحة فالمصلحة إما أن تكون راجعة إلى الله تعالى أو إلى العباد ورجوعها إلى الله محال لأنه غني ويستحيل عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلام فإيبق إلا رجوعها إلى العباد وذلك مقتضى أغراضهم لأن كل عاقل إنما يطلب مصلحة نفسه وما يوافق هواه في دنياه وأخراه والشريعة تكلفت لهم بهذا المطلب في ضمن التكليف فكيف ينفى أن توضع الشريعة على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم وأيضا فقد تقدم بيان أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد وثبتت لهم حظوظهم تفضلا من الله تعالى على ما يقوله المحققون أو وجوبا على ما يزعمه المعتزلة وإذا ثبت هذا من مقاصد الشارع حقا كان ما ينافيه باطلا فالجواب أن وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد فهى عائدة علهيم بحسب أمر الشارع وعلى الحد الذى حده لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك فالأوامر والنواهي مخرجة له عن داوعي طبعه واسترسال أغراضه حتى يأخذها من تحت الحد المشروع وهذا هو المراد وهو عين مخالفة الأهواء والأغراض أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في العاجل والآجل فصحيح ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجا عن حدود الشرع ولا أن يكون متناولا لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع وهذا ظاهر وبه يتبين أن لا تعارض بين هذا الكلام وبين ما تقدم لأن ما تقدم نظر في ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة وذلك ما أردنا ههنا 173 فصل فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد منها أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير فهو باطل بإطلاق لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه وداع يدعو إليه فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق لأنه خلاف الحق بإطلاق فهذا العمل باطل بإطلاق بمقتضى الدلائل المتقدمة وتأمل حديث ابن مسعود رضى الله عنه في الموطأ إنك في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه قليل من يسأل كثير من يعطي يطيلون في الصلاة ويقصرون في الخطبة يبدءون أعمالهم قبل أهوائهم وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده كثير من يسأل قليل من يعطي يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة يبدءون فيه أهواءهم قبل أعمالهم فأما العبادات فكونها باطلة ظاهر وأما العادات فذلك من حيث عدم ترتب الثواب على مقتضى الأمر والنهي فوجودها في ذلك وعدمها سواء وكذلك الإذن في عدم أخذ المأذون فيه من جهة المنعم به كما تقدم في كتاب الأحكام وفى هذا الكتاب وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق الأمر أوالنهي أو التخيير فهو صحيح وحق 174 لأنه قد أتى به من طريقه الموضوع له ووافق فيه صاحبه قصد الشارع فكان كله صوابا وهو ظاهر وأما إن امتزج فيه الأمران فكان معمولا بهما فالحكم للغالب والسابق فإن كان السابق أمر الشارع بحيث قصد العامل نيل غرضه من الطريق المشروع فلا إشكال في لحاقه بالقسم الثانى وهو ما كان المتبع فيه مقتضى الشرع خاصة لأن طلب الحظوظ والأغراض لا ينافي وضع الشريعة من هذه الجهة لأن الشريعة موضوعة أيضا لمصالح العباد فإذا جعل الحظ تابعا فلا ضرر على العامل إلا أن هنا شرطا معتبرا وهو أن يكون ذلك الوجه الذى حصل أو يحصل به غرضه مما تبين أن الشارع شرعه لتحصيل مثل ذلك الغرض وإلا فليس السابق فيه أمر الشارع وبيان هذا الشرط مذكور في موضعه وإن كان الغالب والسابق هو الهوى وصار أمر الشارع كالتبع فهو لاحق بالقسم الأول وعلامة الفرق بين القسمين تحري قصد الشارع وعدم ذلك فكل عمل شارك العامل فيه هواه فانظر فإن كف هواه ومقتضى شهوته عند نهي الشارع فالغالب والسابق لمثل هذا أمر الشارع وهواه تبع وإن لم يكف عند ورود النهي عليه فالغالب والسابق له الهوى والشهوة وإذن الشارع تبع لا حكم له عنده فواطىء زوجته وهى طاهر محتمل أن يكون فيه تابعا لهواه أو لإذن الشارع فإن حاضت فانكف دل على أن هواه تبع وإلا دل على أنه السابق فصل ومنها أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء في ضمن المحمود لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفا 175 أما أولا فإنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي لأنه مضاد لها وأما ثانيا فإنه إذا اتبع واعتيد ربما أحدث للنفس ضراوة وأنسا به حتى يسري معها في أعمالها ولا سيما وهو مخلوق معها ملصق بها في الأمشاج فقد يكون مسبوقا بالإمتثال الشرعي فيصير سابقا له وإذ صار سابقا له صار العمل الإمتثالي تبعا له وفى حكمه فبسرعة ما يصير صاحبه إلى المخالفة ودليل التجربة حاكم هنا وأما ثالثا فإن العامل بمقتضى الإمتثال من نتائج عمله الالتذاذ بما هو فيه والنعيم بما يجتنيه من ثمرات الفهوم وانفتاح مغاليق العلوم وربما أكرم ببعض الكرامات أو وضع له القبول في الأرض فانحاش الناس إليه وحلقوا عليه وانتفعوا به وأموه لأغراضهم المتعلقة بدنياهم وأخراهم إلى غير ذلك مما يدخل على السالكين طرق الأعمال الصالحة من الصلاة والصوم وطلب العلم والخلوة للعبادة وسائر الملازمين لطرق الخير فإذا دخل عليه ذلك كان للنفس به بهجة وأنس وغنى ولذة ونعيم بحيث تصغر الدنيا وما فيها بالنسبة إلى لحظة من ذلك كما قال بعضهم لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف أو كما قال وإذا كان كذلك فلعل النفس تنزع إلى مقدمات تلك النتائج فتكون سابقة للأعمال وهو باب السقوط عن تلك الرتبة والعياذ بالله هذا وإن كان الهوى المحمود ليس بمذموم على الجملة فقد يصير إلى المذموم على الإطلاق ودليل هذا المعنى مأخوذ من استقراء أحوال السالكين وأخبار الفضلاء والصالحين فلا حاجة إلى تقريره ههنا 176 فصل ومنها أن اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه فتصير كالآلة المعدة لإقتناص أغراضه كالمرائى يتخذ الأعمال الصالحة سلما لما في أيدي الناس وبيان هذا ظاهر ومن تتبع مآلات اتباع الهوى في الشرعيات وجد من المفاسد كثيرا وقد تقدم في كتاب الأحكام من هذا المعنى جملة عند الكلام على الالتفات إلى المسببات في أسبابها ولعل الفرق الضالة المذكورة في الحديث أصل ابتداعها اتباع أهوائها دون توخي مقاصد الشرع المسألة الثانية المقاصد الشرعية ضربان مقاصد أصلية ومقاصد تابعة فأما المقاصد الأصلية فهى التى لاحظ فيها للمكلف وهى الضروريات المعتبرة في كل ملة وإنما قلنا إنها لا حظ فيها للعبد من حيث هى ضرورية لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة لا تختص بحال دون حال ولا بصورة دون صورة ولا بوقت دون وقت لكنها تنقسم إلى ضرورية عينية وإلى ضرورية كفائية فأما كونها عينية فعلى كل مكلف في نفسه فهو مأمور بحفظ دينه اعتقادا وعملا وبحفظ نفسه قياما بضرورية حياته وبحفظ عقله حفظا لمورد الخطاب 177 من ربه إليه وبحفظ نسله التفاتا إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار ورعيا له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة بالرحمة على المخلوق من مائه وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لحجر عليه ولحيل بينه وبين اختياره فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ محكوما عليه في نفسه وإن صار له فيها حظ فمن جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي وأما كونها كفائية فمن حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين لتستقيم الأحوال العامة التى لا تقوم الخاصة إلا بها إلا أن هذا القسم مكمل للأول فهو لاحق به في كونه ضروريا إذ لا يقوم العيني إلا بالكفائى وذلك أن الكفائى قيام بمصالح عامة لجميع الخلق فالمأمور به من تلك الجهة مأمور بما لا يعود عليه من جهته تخصيص لأنه لم يؤمر إذ ذاك بخاصة نفسه فقط وإلاصار عينيا بل بإقامة الوجود وحقيقته أنه خليفة الله فىعباده على حسب قدرته وما هيء له من ذلك فإن الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه والقيام بجميع أهله فضلا عن أن يقوم بقبلة فضلا عن أن يقوم بمصالح أهل الأرض فجعل الله الخلق خلائف في إقامة الضروريات العامة حتى قام الملك في الأرض ويدلك على أن هذا المطلوب الكفائي معرى من الحظ شرعا أن القائمين به في ظاهر الأمر ممنوعون من استجلاب الحظوظ لأنفسهم بما قاموا به من 178 ذلك فلا يجوز لوال أن يأخذ أجره ممن تولاهم على ولايته عليهم ولا لقاض أن يأخذ من المقضى عليه أوله أجره على قضائه ولا لحاكم على حكمه ولا لمفت على فتواه ولا لمحسن على إحسانه ولا لمقرض على قرضه ولا ما أشبه ذلك من الأمور العامة التى للناس فيها مصلحة عامة ولذلك امتنعت الرشا والهدايا المقصود بها نفس الولاية لأن استجلاب المصلحة هنا مؤد إلى مفسدة عامة تضاد حكمة الشريعة في نصب هذه الولايات وعلى هذا المسلك يجرى العدل في جميع الأنام ويصلح النظام وعلى خلافة يجرى الجور في الأحكام وهدم قواعد الإسلام وبالنظر فيه يتبين أن العبادات العينية لا تصح الإجازة عليها ولا قصد المعاوضة فيها ولا نيل مطلوب دنيوى بها وأن تركها سبب للعقاب والأدب وكذلك النظر في المصالح العامة موجب تركها للعقوبة لأن في تركها أي مفسدة في العالم وأما المقاصد التابعة فهى التى روعي فيها حظ المكلف فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات والاستمتاع بالمباحات وسد 179 الخلات وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواع من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما أمكنه وكذلك خلق له الشهوة إلى النساء لتحركه إلى اكتساب الأسباب الموصلة إليها وكذلك خلق له الاستضرار بالحر والبرد والطوارق العارضة فكان ذلك داعية إلى اكتساب اللباس والمسكن ثم خلق الجنة والنار وأرسل الرسل مبينة أن الاستقرار ليس ههنا وأنما هذه الدار مزرعة لدار أخرى وأن السعادة الأبدية والشقاوة الأبدية هنالك لكنها تكتسب أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حده الشارع أو بالخروج عنه فأخذ المكلف في استعمال الأمور الموصلة إلى تلك الأغراض ولم يجعل له قدرة على القيام بذلك وحده لضعفه عن مقاومة هذه الأمور فطلب التعاون بغيره فصار يسعى في نفع نفسه واستقامة حاله بنفع غيره فحصل الانتفاع للمجموع بالمجموع وإن كان كل أحد إنما يسعى في نفع نفسه فمن هذه الجهة صارت المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها ولو شاء الله لكلف بها مع الإعراض عن الحظوظ أو لكلف بها مع سلب الدواعي المجبول عليها لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة وجعل الإكتساب لهذه الحظوظ مباحا لا ممنوعا لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولو شاء لمنعنا في الإكتساب الأخروى القصد إلى الحظوظ فإنه المالك وله الحجة البالغة ولكنه رغبنا في القيام بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا وعجل لنا من ذلك حظوظا كثيرة نتمتع بها في طريق ما كلفنا به فبهذا اللحظ قيل إن هذه المقاصد توابع وإن تلك هي الأصول فالقسم الأول يقتضيه محض العبودية والثاني يقتضيه لطف المالك بالعبيد 180 المسألة الثالثة قد تحصل إذا أن الضروريات ضربان أحدهما ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود كقيام الإنسان بمصالح نفسه وعياله في الإقتيات واتخاذ السكن والمسكن واللباس وما يلحق بها من المتممات كالبيوع والإجارات والأنكحة وغيرها من وجوه الإكتساب التي تقوم بها الهياكل الإنسانية والثاني ما ليس فيه حظ عاجل مقصود كان من فروض الأعيان كالعبادات البدنية والمالية من الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج وما أشبه ذلك أو من فروض الكفايات كالولايات العامة من الخلافة والوزارة والنقابة والعرافة والقضاء وإمامة الصلوات والجهاد والتعليم وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لمصالح عامة إذا فرض عدمها أو ترك الناس لها انخرم النظام فأما الأول فلما كان للانسان في حظ عاجل وباعث من نفسه يستدعيه إلى طلب ما يحتاج إليه وكان ذلك الداعي قويا جدا بحيث يحمله قهرا على ذلك لم يؤكد عليه الطلب بالنسبة إلى نفسه بل جعل الإحتراف والتكسب والنكاح على الجملة مطلوبا طلب الندب لا طلب الوجوب بل كثيرا ما يأتي في معرض 181 الإباحة كقوله وأحل الله البيع فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم قل من حرم زينة الله التى اخرج لعباده والطيبات من الرزق كلوا من طيبات ما رزقناكم وما أشبه ذلك مع أن لو فرضنا أخذ الناس له كأخذ المندوب بحيث يسعهم جميعا الترك لأثموا لأن العالم لا يقوم إلا بالتدبير والإكتساب فهذا من الشارع كالحوالة على ما في الجبلة من الداعي الباعث على الإكتساب حتى إذا لم يكن فيه حظ أو جهة نازع طبعي أوجبه الشرع عينا أو كفاية كما لو فرض هذا في نفقة الزوجات والأقارب وما أشبه ذلك فالحاصل أن هذا الضرب قسمان قسم يكون القيام باالمصالح فيه بغير واسطة كقيامه بمصالح نفسه مباشرة وقسم يكون القيام بالمصالح فيه بواسطة الحظ في الغير كالقيام بوظائف الزوجات والأولاد والإكتساب بما للغير فيه مصلحة كالإجارات والكراء والتجارة وسائر وجوه الصنائع والإكتساب فالجميع يطلب الإنسان بها حظه فيقوم بذلك حظ الغير خدمة دائرة بين الخلق كخدمة بعض أعضاء الإنسان بعضا حتى تحصل المصلحة للجميع ويتأكد الطلب فيما فيه حظ الغير على طلب حظ النفس المباشر وهذه حكمة بالغة ولما كان النظر هكذا وكانت جهة الداعي كالمتروكة إلى ما يقتضيه وكان ما يناقض الداعي ليس له خادم بل هو على الضد من ذلك أكدت 182 جهة الكف هنا بالزجر والتأديب في الدنيا والإبعاد بالنار في الآخرة كالنهي عن قتل النفس والزنى والخمر وأكل الربا وأكل أموال اليتامى وغيرهم من الناس بالباطل والسرقة وأشباه ذلك فإن الطبع النازع إلى طلب مصلحة الإنسان ودرء مفسدته يستدعي الدخول في هذه الأشياء وعلى هذا الحد جرى الرسم الشرعي في قسم الكفاية من الضرب الثاني أو أكثر أنواعه فإن عز السلطان وشرف الولايات ونخوة الرياسة وتعظيم المأمورين للآمر مما جبل الإنسان على حبه فكان الأمر بها جاريا مجرى الندب لا الإيجاب بل جاء ذلك مقيدا بالشروط المتوقع خلافها وأكد النظر في مخالفة الداعي فجاء كثير من الآيات والأحاديث في النهي عما تنزع إليه النفس فيها كقوله تعالى يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إلى آخرها وفي الحديث لا تطلب الإمارة فإنك إن طلبتها باستشراف نفس وكلت إليها أو كما قال وجاء النهي عن غلوم الأمراء وعن عدم النصح في الإمارة لما كان هذا كله على خلاف الداعي من النفس ولم يكن هذا كله دليلا على عدم الوجوب في الأصل بل الشريعة كلها دالة على أنها في مصالح الخلق من أوجب الواجبات 183 وأما قسم الأعيان فلما لم يكن فيه حظ عاجل مقصود اكد القصد إلى فعله بالإيجاب ونفيه بالتحريم وأقيمت عليه العقوبات الدنيوية وأعني بالحظ المقصود ما كان مقصود الشارع بوضعه السبب فإنا نعلم أن الشارع شرع الصلاة وغيرها من العبادات لا لنحمد عليها ولا لننال بها في الدنيا شرفا وعزا أو شيئا من حطامها فإن هذا ضد ما وضعت له العبادات بل هي خالصة لله رب العالمين ألا لله الدين الخالص وهكذا شرعت أعمال الكفاية لا لينال بها عز السلطان ونخوة الولاية وشرف الأمر والنهي وإن كان قد يحصل ذلك بالتبع فإن عز المتقي لله في الدنيا وشرفه على غيره لا ينكر وكذلك ظهور العزة في الولايات موجود معلوم ثابت شرعا من حيث يأتي تبعا للعمل المكلف به وهكذا القيام بمصالح الولاة من حيث لا يقدح في عدالتهم حسبما حده الشارع غير منكر ولا ممنوع بل هو مطلوب متأكد فكما يجب على الوالي القيام بمصالح العامة فعلى العامة القيام بوظائفه من بيوت أموالهم إن احتاج إلى ذلك وقد قال تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك الآية وقال ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وفي الحديث من طلب العلم تكفل الله برزقه إلى غير ذلك مما يدل على أن قيام المكلف بحقوق الله سبب لإنجاز ما عند الله من الرزق فصل فقد تحصل من هذا أن ما ليس فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل له فيه 184 حظه بالقصد الثاني من الشارع وما فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل فيه العمل المبرأ من الحط وبيان ذلك في الأول ما ثبت في الشريعة أولا من حظ نفسه وماله وما وراء ذلك من احترام أهل التقوى والفضل والعدالة وجعلهم عمدة في الشريعة في الولايات والشهادات وإقامةالمعالم الدينية وغير ذلك زائدا إلى ما جعل لهم من حب الله وحب أهل السموات لهم ووضع القبول لهم في الأرض حتى يحبهم الناس ويكرمونهم ويقدمونهم على أنفسهم وما يخصون به من انشراح الصدور وتنوير القلوب وإجابة الدعوات والإتحاف بأنواع الكرامات وأعظم من ذلك ما في الحديث مسندا إلى رب العزة من آذى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وأيضا فإذا كان من هذا وصفه قائما بوظيفة عامة لا يتفرغ بسببها لأموره الخاصة به في القيام بمصالحه ونيل حظوظه وجب على العامة أن يقوموا له بذلك ويتكفلوا له بما يفرغ باله للنظر في مصالحهم من بيوت أموالهم المرصدة لمصالحهم إلى ما أشبه ذلك مما هو راجع إلى نيل حظه على الخصوص فأنت تراه لا يعرى عن نيل حظوظه الدنيوية في طريق تجرده عن حظوظه وماله في الآخرة من النعيم أعظم وأما الثاني فإن اكتساب الإنسان لضرورياته في ضمن قصده إلى المباحات التي يتنعم بها ظاهر فإن أكل المستلذات ولباس اللينات وركوب الفارهات ونكاح الجميلات قد تضمن سد الخلات والقيام بضرورة الحياة وقد مر أن إقامة الحياة من حيث هو ضروري لاحظ فيه 185 وأيضا فإن في اكتسابه بالتجارات وأنواع البياعات والإجارات وغير ذلك مما هو معاملة بين الخلق قياما بمصالح الغير وإن كان في طريق الحظ فليس فيه من حيث هو حظ له يعود عليه منه غرض إلا من جهة ما هو طريق إلى حظه وكونه طريقا ووسيلة غير كونه مقصودا في نفسه وهكذا نفقته على أولاده وزوجته وسائر من يتعلق به شرعا من حيوان عاقل وغير عاقل وسائر ما يتوسل به إلى الحظ المطلوب والله أعلم فصل وإذا نظرنا إلى العموم والخصوص في اعتبار حظوظ المكلف بالنسبة إلى قسم الكفاية وجدنا الأعمال ثلاثة أقسام قسم لم يعتبر فيه حظ المكلف بالقصد الأول على حال وذلك الولايات العامة والمناصب العامة للمصالح العامة وقسم اعتبر فيه ذلك وهو كل عمل كان فيه مصلحة الغير في طريق مصلحة الإنسان في نفسه كالصناعات والحرف العادية كلها وهذا القسم في الحقيقة راجع إلى مصلحة الإنسان واستجلابه حظه في خاصة نفسه وإنما كان استجلاب المصلحة العامة فيه بالعرض وقسم يتوسط بينهما فيتجاذبه قصد الحظ ولحظ الأمر الذى لاحظ فيه وهذا ظاهر في الأمور التى لم تتمحض في العموم وليست خاصة ويدخل تحت هذا ولاية أموال الأيتام والأحباس والصدقات والأذان وما أشبه ذلك فإنها من حيث العموم يصح فيها التجرد من الحظ ومن حيث الخصوص وأنها كسائر الصنائع الخاصة بالإنسان في الاكتساب يدخلها الحظ ولا تنافض في هذا فإن جهة الأمر بلاحظ غير وجه الحظ فيؤمر انتدابا أن يقوم به 186 لحظ ثم يبذل له الحظ في موطن ضرورة أو غير ضرورة حين لا يكون ثم قائم بالانتداب وأصل ذلك في والي مال اليتيم قوله تعالى ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وانظر ما قاله العلماء في أجرة القسام والناظر في الأحباس والصدقات الجارية وتعليم العلوم على تنوعها ففى ذلك ما يوضح هذا القسم المسألة الرابعة ما فيه حظ العبد محضا من المأذون فيه يتأتى تخليصه من الحظ فيكون العمل فيه لله تعالى خالصا فإنه من قبيل ما أذن فيه أو أمر به فإذا تلقى الإذن بالقبول من حيث كان المأذون فيه هدية من الله للعبد صار مجردا من الحظ كما أنه إذا لبى الطلب بالإمتثال من غير مراعاة لما سواه تجرد عن الحظ وإذا تجرد من الحظ ساوى ما لا عوض عليه شرعا من القسم الأول الذى لاحظ فيه للمكلف وإذا كان كذلك فهل يلحق به في الحكم لما صار ملحقا به في القصد هذا 187 مما ينظر فيه ويحتمل وجهين من النظر أحدهما أن يقال إنه يرجع في الحكم إلى ما ساواه في القصد لأن قسم الحظ هنا قد صار عين القسم الأول بالقصد وهو القيام بعبادة من العبادات مختصة بالخلق في إصلاح أقواتهم ومعايشهم أو صار صاحبه على حظ من منافع الخلق يشبه الخزان على أموال بيوت الأموال والعمال في أموال الخلق فكما لا ينبغي لصاحب القسم الأول أن يقبل من أحد هدية ولا عوضا على ما ولى عليه ولا على ما تعبد به كذلك ههنا لا ينبغى له أن يزيد على مقدار حاجته يقتطعه من تحت يده كما يقتطع الوالي ما يحتاج إليه من تحت يده بالمعروف وما سوى ذلك يبذله من غير عوض إما بهدية أو صدقة أو إرفاق أو إعراء أو ما أشبه ذلك أو يعد نفسه في الأخذ كالغير يأخذ الغير لأنه لما صار كالوكيل على 188 غيره والقيم بمصالح عد نفسه مثل ذلك الغير لأنها نفس مطلوب إحياؤها علىالجملة ومثل هذا محكى التزامه عن كثير من الفضلاء بل هو محكى عن الصحابة والتابعين رضى الله عنهم فإنهم كانوا في الاكتساب ماهرين ودائبين ومتابعين لأنواع الاكتسابات لكن لا ليدخروا لأنفسهم ولا ليحتجنوا أموالهم بل لينفقوها في سبيل الخيرات ومكارم الأخلاق وما ندب الشرع إليه وما حسنته العوائد الشرعية فكانوا في أموالهم كالولاة على بيوت الأموال وهم في كل ذلك على درجات حسبما تنصه أخبارهم فهذا وجه يقتضى أنهم لما صاروا عاملين لغير حظ عاملوا هذه الأعمال معاملة ما لاحظ فيه ألبتة ويدل على أن هذا مراعى على الجملة وإن قلنا بثبوت الحظ أن طلب الإنسان لحظه حيث أذن له لا بد فيه من مراعاة حق الله وحق المخلوقين فإن طلب الحاجة إذا كان مقيدا بوجود الشروط الشرعية وانتقاء الموانع الشرعية ووجود الأسباب الشرعية على الإطلاق والعموم وهذا كله لاحظ فيه للمكلف من حيث هو مطلوب به فقد خرج في نفسه عن مقتضى حظه ثم إن معاملة الغير في طريق حظ النفس تقتضي ما أمر به من الإحسان إليه في المعاملة والمسامحة في المكيال والميزان والنصيحة على الإطلاق وترك الغش كله وترك المغابنة غبنا يتجاوز الحد المشروع وأن لا تكون المعاملة عونا له على ما يكره شرعا فيكون طريقا إلى الإثم والعدوان إلى غير ذلك من الأمور التى لا تعود على طالب حظه بحظ أصلا فقد آل الأمر في طلب الحظ إلى عدم الحظ 189 هذا والإنسان بعد في طلب حظه قصدا فكيف إذا تجرد عن حظه في أعماله فكما لا يجوز له أخذ عوض على تحري المشروع في الأعمال لا بالنسبة إلى العبادات ولا إلى العادات وهو مجمع عليه فكذلك فيما صار بالقصد كذلك وأيضا فإن فرض هذا القصد لا يتصور مع فرض طلب الحظ وإذا كان كذلك فهي داخلة في حكم ما لا يتم الواجب إلا به فإن ثبت أنه مطلوب بما يقتضى سلب الحظ فهو مطلوب بما لا يتم ذلك المطلوب إلا به سواء علينا أقلنا إنه مطلوب به طلبا شرعيا أم لا فحكمه على الجملة لا يعدو أن يكون حكم ما ليس فيه حظ ألبتة وهذا ظاهر فالشارع قد طلب النصيحة مثلا طلبا 190 جازما بحيث جعله الشارع عمدة الدين بقوله الدين النصيحة وتوعد على تركه في مواضع فلو فرضنا توقفها على العوض أو حظ عاجل لكانت موقوفة على اختيار الناصح والمنصوح وذلك يؤدي إلى أن لا يكون طلبها جازما وأيضا الإيثار مندوب إليه ممدوح فاعله فكونه معمولا به على عوض لا يتصور أن أن يكون إيثارا لأن معنى الإيثار تقديم حظ الغير على حظ النفس وذلك لا يكون مع طلب العوض العاجل وهكذا سائر المطلوبات العادية والعبادية فهذا وجه نظري في المسألة يمكن القول بمقتضاه والوجه الثانى أن يقال أنه يرجع في الحكم إلى أصله من الحظ لأن الشارع قد أثبت لهذا العامل حظه في عمله وجعله المقدم على غيره حتى إنه إن أراد أن يستبد بجميعه كان سائغا وكان له أن يدخره لنفسه أو يبذله لمصلحة نفسه في الدنيا أو في الآخرة فهى هدية الله إليه فكيف لا يقبلها وهو إن أخذها بالإذن وعلى مقتضى حدود الشرع فإنما أخذ ما جعل له فيه حظ ومن حيث جعل له وبالقصد الذى أبيح له القصد إليه وأيضا فالحدود الشرعية وإن لم يكن له في العمل بمقتضاها حظ فهى وسيلة وطريق إلى حظه فكما لم يحكم للمقصد بحكم الوسيلة فيما تقدم قبل هذه المسألة من أخذ الإنسان ما ليس 191 له في العمل به حظ لأنه وسيلة إلى حظه كالمعاوضات فكذلك لا يحكم هنا للمأذون فيه من الحظ بحكم ما توسل به إليه وقد وجدنا من السلف الصالح رحمهم الله كثيرا يدخرون الأموال لمصالح أنفسهم ويأخذون في التجارة وغيرها بمقدار ما يحتاجون إليه في أنفسهم خاصة ثم يرجعون إلى عبادة ربهم حتى إذا نفد ما اكتسبوه عادوا إلى الاكتساب ولم يكونوا يتخذون التجارة أو الصناعة عبادة لهم على ذلك الوجه بل كانوا يقتصرون على حظوظ أنفسهم وإن كانوا إنما يفعلون ذلك من حيث التعفف والقيام بالعبادة فذلك لا يخرجهم عن زمرة الطالبين لحظوظهم وما ذكر أولا عن السلف الصالح ليس بمتعين فيما تقدم لصحة حمله على أن المقصود بذلك التصرف حظوظ أنفسهم من حيث أثبتها الشارع لهم فيعملون في دنياهم على حسب ما يسعهم من الحظوظ ويعملون في أخراهم كذلك فالجميع مبني على إثبات الحظوظ وهو المطلوب وإنما الغرض أن تكون الحظوظ مأخوذة من جهة مما حد الشارع من غير تعد يقع في طريقها وأيضا فإنما حدث الحدود في طريق الحظ أن لا يخل الإنسان بمصلحة غيره فيتعدى ذلك إلى مصلحة نفسه فإن الشارع لم يضع تلك الحدود إلا لتجري المصالح على أقوم سبيل بالنسبة إلى كل أحد في نفسه ولذلك قال تعالى من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وذلك عام في أعمال الدنيا والآخرة 192 وقال فمن نكث فإنما ينكث على نفسه وفي أخبار النبي بعد ذكر الظلم وتحريمه يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ولا يختص مثل هذا بالآخرة دون الدنيا ولذلك كانت المصائب النازلة بالإنسان بسبب ذنوبه لقوله وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم وقال فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم والأدلة على هذا تفوت الحصر فالإنسان لا ينفك عن طلبه حظه في هذه الأمور التي هي طريق إلى نيل حظه وإذا ثبت هذا تبين أن هذا القسم لا يساوي الأول في امتناع الحظوظ العاجلة جملة وقد يمكن الجمع بين الطريقين وذلك أن الناس في أخذ حظوظهم على مراتب منهم من لا يأخذها إلا بغير تسببه فيعمل العمل أو يكتسب الشئ فيكون فيه وكيلا على التفرقة على خلق الله بحسب ما قدر ولا يدخر لنفسه من ذلك شيئا بل لا يجعل من ذلك حظا لنفسه من الحظوظ إما لعدم تذكره لنفسه لاطراح حظها حتى يصير عنده من قبيل ما ينسى وإما قوة يقين بالله لأنه عالم به وبيده ملكوت السموات والأرض وهو حسبه فلا يخيبه أو عدم التفات إلى حطه يقينا بأن رزقه على الله فهو الناظر له بأحسن مما ينظر لنفسه أو أنفة من الإلتفات إلى حظه مع حق الله تعالى أو لغير ذلك من المقاصد الواردة على أصحاب الأحوال وفي مثل هؤلاء جاء ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة 193 وقد نقل عن عائشة رضى الله عنها أن ابن الزبير بعث لها بمال في غرارتين قال الرواى أراه ثمانين ومائة ألف فدعت بطبق وهى يومئذ صائمة فجعلت تقسمه بين الناس فأمست وما عندها من ذلك درهم فلما أمست قالت يا جارية هلمى أفطري فجاءتها بخبز وزيت فقيل لها أما استطعت فيما قسمت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه فقالت لا تعنينى لو كنت ذكرتنى لفعلت وخرج مالك أن مسكينا سأل عائشة وهى صائمة وليس في بيتها إلا رغيف فقالت لمولاه لها أعطيه إياه فقالت ليس لك ما تفطرين عليه فقالت أعطيه إياه قالت ففعلت فما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو انسان ما يهدى لنا شاة وكفنها فدعتنى عائشة فقالت كلي من هذا هذا خير من قرصك وروى عنها أنها قسمت سبعين ألفا وهى ترقع ثوبها وباعت ما لها بمائة ألف وقسمته ثم أفطرت على خبز الشعير وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة فلا يأخذ إلا من الملك لأنه قام له اليقين بقسم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه ولا اعتراض على هذا المقام بما تقدم فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيرا من تدبيره لنفسه فإذ دبر لنفسه انحط عن رتبته إلى ما هو دونها وهؤلاء هم أرباب الأحوال ومنهم من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم إن استغنى استعف وإن احتاج أكل بالمعروف وما عدا ذلك صرفه كما يصرف مال اليتيم في منافعه فقد يكون في الحال غنيا عنه فينفقه حيث يجب الإنفاق ويمسكه حيث يجب الإمساك وإن احتاج أخذ منه مقدار كفايته بحسب ما أذن له من غير إسراف ولا إقتار وهذا أيضا براءة من الحظوظ في ذلك الإكتساب فإنه لو أخذ بحظه لحابى نفسه دون غيره وهو لم يفعل بل جعل نفسه كآحاد الخلق فكأنه قسام في الخلق يعد نفسه واحدا منهم 194 وفى الصحيح عن أبي موسى قال قال رسول الله إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد فهم مني وأنا منهم وفى حديث المواخاة بين المهاجرين والأنصار هذا وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل في مغازيه من هذا ما هو مشهور فالإيثار بالحظوظ محمود غير مضاد لقوله عليه الصلاة والسلام ابدأ بنفسك ثم بمن تعول بل يحمل على الإستقامة في حالتين 195 فهؤلاء والذين قبلهم لم يقيدوا أنفسهم بالحظوظ العاجلة وما أخذوا لأنفسهم لا يعد سعيا في حظ إذ للقصد إليه أثر ظاهر وهو أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره ولم يفعل هنا ذلك بل آثر غيره على نفسه أو سوى نفسه مع غيره وإذا ثبت ذلك كان هؤلاء برءآء من الحظوظ كأنهم عدوا أنفسهم بمنزلة من لم يجعل له حظ وتجدهم في الإجارات والتجارات لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الأجرة حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسبا لغيره لا له ولذلك بالغوا في النصيحة فوق ما يلزمهم لأنهم كانوا وكلاء للناس لا لأنفسهم فأين الحظ هنا بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم وإن جازت كالغش لغيرهم فلا شك أن هؤلاء لاحقون حكما بالقسم الأول بإلزامهم أنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداء ومنهم من لم يبلغ مبلغ هؤلاء بل أخذوا ما أذن لهم فيه من حيث الإذن وامتنعوا مما منعوا منه واقتصروا على الانفاق في كل ما لهم إليه حاجة فمثل هؤلاء بالإعتبار المتقدم أهل حظوظ لكن مأخوذة من حيث يصح أخذها فإن قيل في مثل هذا إنه تجرد عن الحظ فإنما يقال من جهة أنهم لم يأخذوها بمجرد أهوائهم تحرزا ممن يأخذها غير ملاحظ للأمر والنهي وهذا هو الحظ المذموم إذا لم يقف دون ما حد له بل تجرأ كالبهيمة لا تعرف غير المشي في شهواتها ولا كلام في هذا وإنما الكلام في الأول وهو لم يتصرف إلا لنفسه فلا يجعل في حكم الوالى على المصالح العامة على المسلمين بل هو وال على مصلحة نفسه وهو من هذا الوجه ليس بوال عام والولاية العامة هى المبرأة من الحظوظ فالصواب والله أعلم أن أهل هذا القسم معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ فيجوز لهم ذلك بخلاف القسمين الأولين وهما من لا يأخذ بتسبب أو يأخذ به لكن على نسبة القسمة ونحوها 196 المسألة الخامسة العمل إذا وفق المقاصد الشرعية فإنما على المقاصد الأصلية أو المقاصد التابعة وكل قسم من هذين فيه نظر وتفريع فلنضع في كل قسم مسألة فإذا وقع على مقتضى المقاصد الأصلية بحيث راعاها في العمل فلا إشكال في صحته وسلامته مطلقا فيما كان بريئا من الحظ وفيما روعي فيه الحظ لأنه مطابق لقصد الشارع في أصل التشريع إذ تقدم أن المقصود الشرعي في التشريع إخراج المكلف عن داعيه هواه حتى يكون عبدا لله وهذا كاف هنا وينبنى عليه قواعد وفقه كثير من ذلك أن المقاصد الأصلية إذا روعيت أقرب إلى إخلاص العمل وصيرورته عبادة وأبعد عن مشاركة الحظوظ التى تغبر في وجه محض العبودية وبيان ذلك أن حظ الإنسان ليس بواجب أن يراعيه من حيث هو حظه على قولنا إن إثبات الشرع له وإباحة الالتفات إليه إنما هو مجرد تفضل امتن الله به إذ ليس بواجب على الله مراعاة مصالح العبيد وهو أيضا جار على القول بالوجوب العقلي فمجرد قصد الإمتثال للأمر والنهي أو الأذن كاف فى 197 حصول كل غرض في التوجه إلى مجرد خطاب الشارع فالعامل على وفقه ملبيا له برىء من الحظ وفعله واقع على الضروريات وما حولها ثم يندرج حظه في الجملة بل هو المقدم شرعا على الغير فإذا اكتسب الإنسان امتثالا للأمر أو اعتبارا بعلة الأمر وهوالقصد إلى إحياء النفوس على الجملة وإماطة الشرور عنها كان هو المقدم شرعا ابدأ بنفسك ثم بمن تعول أو كان قيامه بما قام به قياما بواجب مثلا ثم نظره في ذلك الواجب قد يقتصر على بعض النفوس دون بعض كمن يقصد القيام بحياة نفسه من حيث هو مكلف بها أو بحياة من تحت نظره وقد يتسع نظره فيكتسب ليحي به من شاء الله وهذا أعم الوجوه وأحمدها وأعودها بالأجر لأن الأول قد يفوته فيه أمور كثيرة وتقع نفقته حيث لم يقصد ويقصد غير ما كسب وإن كان لا يضره أنه لم يكل التدبير إلى ربه وأما الثانى فقد جعل قصده وتصرفه في يد من هو على كل شىء قدير وقصد أن ينتفع بيسيره عالم كبير لا يقدر على حصره وهذا غاية في التحقق بإخلاص العبودية ولا يفوته من حظه شىء بخلاف مراعاة المقاصد التابعة فقد يفوته معها جل هذا أو جميعه لأنه إنما يراعى مثلا زوال الجوع أو العطش أو البرد أو قضاء الشهوة أو التلذذ بالمباح مجردا عن غير ذلك وهذا وإن كان جائزا فليس بعبادة ولا روعي فيه قصد 198 الشارع الأصلي وهو منجر معه ولو روعي قصد الشارع لكان العمل امتثالا فيرجع إل التعلق بمقتضى الخطاب كما تقدم فإذا لم يراع لم يبق إلا مراعاة الحظ خاصة هذا وجه ووجه ثان أن المقاصد الأصلية راجعة إما إلى مجرد الأمر والنهي من غير نظر في شىء سوى ذلك وهو بلا شك طاعة للأمر وامتثال لما أمر لا داخله فيه وإما إلى ما فهم من الأمر من أنه عبد استعمله سيده في سخرة عبيدة فجعله وسيلة وسببا إلى وصول حاجاتهم إليهم كيف يشاء وهذا أيضا لا يخرج عن اعتبار مجرد الأمر فهو عامل بمحض العبودية مسقط لحظه فيها فكأن السيد هو القائم له بحظه بخلاف العامل لحظة فإنه لما لم يقم بذلك من حيث مجرد الأمر ولا من حيث فهم مقصود الأمر ولكنه قام به من جهة استجلاب حظه أو حظ من له فيه حظ فهو إن امتثل الأمر فمن جهة نفسه 199 فالإخلاص على كما له مفقود في حقه والتعبد بذلك العمل منتف وإن لم يمتثل الأمر فذلك أوضح في عدم القصد إلى التعبد فضلا عن أن يكون مخلصا فيه وقد يتخذ الأمر والنهي عاديين لا عباديين إذا غلب عليه طلب حظه وذلك نقص ووجه ثالث وهو أن القائم على المقاصد الأول قائم بعبء ثقيل جدا وحمل كبير من التكليف لا يثبت تحته طالب الحظ في الغالب بل يطلب حظه بما هو أخف وسبب ذلك أن هذا الأمر حالة داخلة على المكلف شاء أو أبى يهدى الله إليها من اختصه بالتقريب من عباده ولذلك كانت النبوة أثقل الأحمال وأعظم التكاليف وقد قال تعالى إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا فمثل هذا لا يكون إلا مع اختصاص زائد بخلاف طالب الحظ فإنه عامل بنفسه وغير مستويين فاعل بربه وفاعل بنفسه فالأول محمول والثانى عامل بنفسه فلذلك فلما تجد صاحب حظ يقوم بتكليف شاق فإن رأيت من يدعي تلك الحال فاطلبه بمطالب أهل ذلك المقام فإن أوفي به فهو ذاك وإلا علمت أنه متقول قلما يثبت عند ما ادعى وإذا ثبت أن صاحب المقاصد الأول محمول فذلك أثر من آثار الإخلاص وصاحب الحظ ليس بمحمول ذلك الحمل إلا بمقدار ما نقص عنده حظه فإذا سقط حظه ثبت قصده في المقاصد الأول وثبت له الإخلاص وصارت أعماله عبادات فإن قيل فنحن نرى كثيرا ممن يسعى في حظه وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين بل قد جاء عن سيد المرسلين أنه كان يحب الطيب والنساء والحلواء والعسل وكان تعجبه الذراع ويستعذب له الماء وأشباه ذلك 200 مما هو اتباع لحظ النفس إذا كان لا يمتنع مما يشتهيه من الحلال بل كان يستعمله إذا وجده وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين وهو أتقى الخلق وأزكاهم وكان خلقه القرآن فهذا في هذا الطرف ونرى أيضا كثيرا ممن يسقط حظ نفسه ويعمل لغيره أو في مصالح العباد بمقتضى ما قدر عليه صادقا في عمله ومع ذلك فليس له في الآخرة من خلاق ككثير من رهبان النصارى وغيرهم ممن تزهد وانقطع عن الدنيا وأهلها ولم يلتفت إليها ولا أخطرها بباله واتخذ العبادة والسعي في حوائج الخلق دأبا وعادة حتى صار في الناس آية وكل ما يعمله مبني على باطل محض وبين هذين الطرفين وسائط لا تحصى تقرب من الفريقين فالجواب من وجهين أحدهما أن ما زعمت ظواهر وغائبات الأمور قد لا تكون معلومة فانظر ما قاله الإسكاف في فوائد الأخبار في قوله عليه الصلاة والسلام حبب إلى من دنياكم ثلاث يلح لك من ذلك المطلع خلاف ما توهمت من طلب الحظ الصرف إلى طلب الحق الصرف ويدل عليه أنه جعل من الثلاث الصلاة وهى أعلى العبادات بعد الإيمان وهكذا يمكن أن يقال في سواها وأيضا فإنه لا يلزم من حب الشىء أن يكون مطلوبا بحظ لأن الحب أمر باطن لا يملك وإنما ينظر فيما ينشأ عنه من الأعمال فمن أين لك أنه كان كان عليه الصلاة والسلام يتناول تلك الأشياء لمجرد الحظ دون أن يتناوله من حيث الأذن وهذا هو عين البراءة من الحظ وإذا تبين هذا في القدوة الأعظم تبين نحوه في كل مقتدى به ممن اشتهرت ولايته وأما الكلام عن الرهبان فلا نسلم أنها مجردة من الحظ بل هى عين الحظ واستهلاك في هوى النفس لأن الإنسان قد يترك حظه في أمر إلى حظ هو أعلى منه كما ترى الناس يبذلون المال في طلب الجاه لأن حظ النفس في الجاه أعلى 201 ويبذلون النفوس في طلب الرياسة حتى يموتوا في طريق ذلك وهكذا الرهبان قد يتركون لذات الدنيا للذة الرياسة والتعظيم فإنها أعلى وحظ الذكر والتعظيم والرياسة والإحترام والجاه القائم في الناس من أعظم الحظوظ التى يستحقر متاع الدنيا في جنبها وذلك أول منهى في مسألتنا فلا كلام فيمن هذا شأنه ولذلك قالوا حب الرياسة آخر ما يخرج من رءوس الصديقين وصدقوا والثانى أن طلب الحظوظ قد يكون مبرءا من الحظوظ وقد لا يكون كذلك والفرق بينهما أن الباعث على طلبه أولا إما أن يكون أمر الشارع أولا فإن كان أمر الشارع فهو الحظ المبرأ المنزه لأن نفسه عنده تنزلت منزلة غيره فكما يكون في مصالح غيره مبرءا عن الحظ كذلك يكون في مصالح نفسه وذلك بمقتضى القصد الأول وهذا شأن من ذكر في السؤال ولا يعد مثل هذا حظا ولا سعيا فيه بحسب القصد لأن القصد التابع إذا كان الباعث عليه القصد الأصلى كان فرعا من فروعه فله حكمه فأما إن لم يرتبط بالقصد الأول فإنه سعى في الحظ وليس ما نحن فيه هكذا وأما شأن الرهبان ومن أشبههم فقد يتفق لهم هذه الحالة وإن كانت فاسدة الوضع فينقطعون في الصوامع والديارات ويتركون الشهوات واللذات ويسقطون حظوظهم في التوجه إلى معبودهم ويعملون في ذلك غاية ما يمكنهم من وجوه التقرب إليه وما يظنون أنه سبب إليه ويعاملونه في الخلق وفى أنفسهم حسبما يفعله المحق في الدين حرفا بحرف ولا أقول إنهم غير مخلصين بل هم مخلصون إلى من عبدوا ومتوجهون صدقا إلى ما عاملوا إلا أن كل ما يعملون مردود عليهم لا ينفعهم الله بشىء منه في الآخرة لأنهم بنوا على غير أصل وجوه يومئذ خاشعة عامله ناصبة تصلى نارا حامية والعياذ بالله ودونهم في ذلك أهل البدع والضلال من أهل هذه الملة وقد جاء في الخوارج 202 ما عملت من قوله عليه الصلاة والسلام في ذي الخويصرة دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم الحديث فأخبر أن لهم عبادة تستعظم وحالا يستحسن ظاهرة لكنه مبني على غير أصل فلذلك قال فيهم يمرقون من الذين كما يمرق السهم من الرمية وأمر عليه الصلاة والسلام بقتلهم ويوجد في أهل الأهواء من هذا كثير وعلى الجملة فالإخلاص في الإعمال إنما يصح خلوصه مع إطرار الحظوظ لكنه إن كان مبنيا على أصل صحيح كان منجيا عند الله وإن كان على أصل فاسد فبالضد ويتفق هذا كثير في أهل المحبة فمن طالع أحوال المحبين رأى اطراح الحظوظ وإخلاص الأعمال لمن أحبوا على أتم الوجوه التى تتهيأ من الإنسان فإذا قد ظهر أن البناء على المقاصد الأصلية أقرب إلى الإخلاص وأن المقاصد التابعة أقرب إلى عدمه ولا أنفيه فصل ويظهر من هنا أيضا أن البناء على المقاصد الأصلية يصير تصرفات المكلف كلها عبادات كانت من قبيل العبادات أو العادات لأن المكلف إذا فهم مراد الشارع من قيام أحوال الدنيا وأخذ في العمل على مقتضى ما فهم فهو إنما يعمل من حيث طلب منه العمل ويترك إذا طلب منه الترك فهو أبدا في إعانة الخلق على ما هم عليه من إقامة المصالح باليد واللسان والقلب 203 أما باليد فظاهر في وجوه الإعانات وأما باللسان فبالوعظ والتذكير بالله أن يكونوا فيما هم عليه مطيعين لا عاصين وتعليم ما يحتاجون إليه في ذلك من إصلاح المقاصد والأعمال وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالدعاء بالإحسان لمحسنهم والتجاوز عن مسيئهم وبالقلب لا يضمر لهم شرا بل يعتقد لهم الخير ويعرفهم بأحسن الأوصاف التى اتصفوا بها ولو بمجرد الإسلام ويعظمهم ويحتقر نفسه بالنسبة إليهم إلى غير ذلك من الأمور القلبية المتعلقة بالعباد بل لا يقتصر في هذا على جنس الإنسان ولكن تدخل عليه الشفقة على الحيوانات كلها حتى لا يعاملها إلا بالتى هى أحسن كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في كل ذي كبد رطبة أجر وحديث تعذيب المرأة في هرة ربطتها وحديث إن الله كتب الإحسان على كل مسلم فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة الحديث إلى أشباه ذلك فالعامل بالمقاصد الأصلية عامل في هذه الأمور في نفسه امتثالا لأمر ربه واقتداء بنبية عليه الصلاة والسلام فكيف لا تكون تصاريف من هذه سبيله عبادة كلها بخلاف من كان عاملا على حظه فإنه إنما يلتفت إلى حظه أو ما كان طريقا إلى حظه وهذا ليس بعبادة على الإطلاق بل هو عامل في مباح إن لم يخل بحق الله أو بحق غيره فيه والمباح لا يتعبد إلى الله به وإن فرضناه قام على 204 حظه من حيث أمره الشارع فهو عبادة بالنسبة إليه خاصة وإن فرضته كذلك فهو خارج عن داعيه حظه بتلك النسبة فصل ومن ذلك أن البناء على المقاصد الأصلية ينقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب إذ المقاصد الأصلية دائرة على حكم الوجوب من حيث كانت حفظا للأمور الضرورية في الدين المراعاة باتفاق وإذا كانت كذلك صارت الأعمال الخارجة عن الحظ دائرة على الأمور العامة وقد تقدم أن غير الواجب بالجزء يصير واجبا بالكل وهذا عامل بالكل فيما هو مندوب بالجزء أو مباح يختل النظام باختلاله فقد صار عاملا بالوجوب فأما البناء على المقاصد التابعة فهو بناء على الحظ الجزئى والجزئي لا يستلزم الوجوب فالبناء على المقاصد التابعة لا يستلزم الوجوب فقد يكون العمل مباحا إما بالجزء وإما بالكل والجزء معا وإما مباحا بالجزء مكروها أو ممنوعا بالكل وبيان هذه الجملة في كتاب الأحكام فصل ومن ذلك أن المقصد الأول إذا تحراه المكلف يتضمن القصد إلى كل ما قصده الشارع في ا لعمل من حصول مصلحة أو درء مفسدة فإن العامل به إنما قصده تلبية أمر الشارع إما بعد فهم ما قصد وإما لمجرد امتثال الأمر وعلى كل تقدير فهو قاصد ما قصده الشارع وإذا ثبت أن قصد الشارع أعم المقاصد 205 وأولها وأنه نور صرف لا يشوبه غرض ولا حظ كان المتلقى له على هذا الوجه آخذا له زكيا وافيا كاملا غير مشوب ولا قاصر عن مراد الشارع فهو حر أن يترتب الثواب فيه للمكلف على تلك النسبة وأما القصد التابع فلا يترتب عليه ذلك كله لأن أخذ الأمر والنهي بالحظ وأخذ العمل بالحظ قد قصره قصد الحظ عن إطلاقه وخص عمومه فلا ينهض نهوض الأول شاهده قاعدة الأعمال بالنيات وقوله عليه الصلاة والسلام الخيل لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذى هى له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كان له حسنات ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه لم يرد أن يسقى به كان ذلك له حسنات فهي له أجر في هذا الوجه من الحديث لصاحب القصد الأول لأنه قصد بارتباطها سبيل الله وهذا عام غير خاص فكان أجره في تصرفاته عاما أيضا غير خاص ثم قال عليه الصلاة والسلام ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهى له ستر فهذا في صاحب الحظ المحمود لما قصد وجها خاصا وهو حظه كان حكمها مقصورا على ما قصد وهو الستر وهو صاحب القصد التابع ثم قال عليه الصلاة والسلام ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فهى على ذلك وزر فهذا في الحظ المذموم المستمد من أصل متابعة الهوى ولا كلام فيه هنا ويجري مجرى العمل بالقصد الأول الاقتداء بأفعال رسول الله صلى الله عليه 206 وسلم أو بالصحابة أو التابعين لأن ما قصدوا يشمله قصد المقتدى في الإقتداء وشاهده الإحالة في النية على نية المقتدى به كما في قول بعض الصحابة في إحرامه بما أحرم به رسول الله فكان حجة في الحكم كذلك يكون في غيره من الأعمال فصل ومن ذلك أن العمل على المقاصد الأصلية يصير الطاعة أعظم وإذا خولفت كانت معصيتها أعظم أما الأول فلأن العامل على وفقها عامل على الإصلاح لجميع الخلق والدفع عنهم على الإطلاق لأنه إما قاصد لجميع ذلك بالفعل وإما قاصر نفسه على امتثال الأمر الذى يدخل تحت قصده كل ما قصده الشارع بذلك الأمر وإذا فعل جوزي على كل نفس أحياها وعلى كل مصلحة عامة قصدها ولا شك في عظم هذا العمل ولذلك كان من أحيا النفس فكأنما أحيا الناس جميعا وكان العالم يستغفر له كل شىء حتى الحوت في الماء بخلاف ما إذا لم يعمل على وفقه فإنما يبلغ ثوابه مبلغ قصده لأن الأعمال بالنيات فمتى كان قصده أعم كان أجره أعظم ومتى لم يعم قصده لم يكن أجره إلا على وزان ذلك وهو ظاهر وأما الثانى فإن العامل على مخالفتها عامل على الإفساد العام وهو مضاد للعامل على الإصلاح العام وقد مر أن قصد الإصلاح العام يعظم به الأجر فالعامل على ضده يعظم به وزره ولذلك كان على ابن آدم الأول كفل من وزر كل من قتل النفس المحترمة لأنه أول من سن القتل وكان من قتل النفس فكأنما قتل الناس جميعا ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها 207 فصل ومن هنا تظهر قاعدة أخرى وهى أن أصول الطاعات وجوامعها إذا تتبعت وجدت راجعة إلى اعتبار المقاصد الأصلية وكبائر الذنوب إذا اعتبرت وجدت في مخالفتها ويتبين لك بالنظر في الكبائر المنصوص عليها وما ألحق بها قياسا فإنك تجده مطردا إن شاء الله المسالة السادسة العمل إذا وقع على وفق المقاصد التابعة فلا يخلو أن تصاحبه المقاصد الأصلية أولا فأما الأول فعمل بالامتثال بلا إشكال وإن كان سعيا في حظ النفس وأما الثانى فعمل بالحظ والهوى مجردا والمصاحبة إما بالفعل ومثاله أن يقول مثلا هذا المأكول أو هذا الملبوس أو هذا الملموس أباح لي الشرع الاستمتاع به فأنا أستمتع بالمباح وأعمل باستجلابه لأنه مأذون فيه وإما بالقوة ومثاله أن يدخل في التسبب إلى ذلك المباح من الوجه المأذون فيه لكن نفس الأذن لم يخطر بباله وإنما خطر له أن هذا يتوصل إليه من الطريق الفلاني فإذا توصل إليه منه فهذا في الحكم كالأول إذا كان الطريق التى توصل إلى المباح من جهته مباحا إلا أن المصاحبة بالفعل أعلى ويجرى غير المباح مجراه في الصورتين 208 فإذا تقرر هذا فبيان كونه عاملا بالحظ والإمتثال أمران أحدهما أنه لو لم يكن كذلك لم يجز لأحد أن يتصرف في أمر عادي حتى يكون القصد في تصرفه مجرد امنثال الأمر من غير سعي في حظ نفسه ولا قصد في ذلك بل كان يمتنع للمضطر أن يأكل الميتة حتى يستحضر هذه النية ويعمل على هذا القصد المجرد من الحظ وهذا غير صحيح باتفاق ولم يأمر الله تعالى ولا رسوله بشئ من ذلك ولا نهى عن قصد الحظوظ في الأعمال العادية على حال مع قصد الشارع للإخلاص في الأعمال وعدم التشريك فيها وأن لا يلحظ فيها غير الله تعالى فدل على ان القصد للحظ في الأعمال إذا كانت عادية لا ينافى أصل الأعمال فإن قيل كيف يتأتى قصد الشارع للإخلاص في الأعمال العادية وعدم التشريك فيها قيل معنى ذلك أن تكون معمولة على مقتضى المشروع لا يقصد بها عمل جاهلي ولا اختراع شيطاني ولا تشبه بغير أهل الملة كشرب الماء أو العسل في صورة شرب الخمر وأكل ما صنع لتعظيم أعياد اليهود أو النصارى وإن صنعه المسلم أو ما ذبح على مضاهاة الجاهلية وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم الشرك كما روى ابن حبيب عن ابن شهاب أنه ذكر له أن إبراهيم بن هشام بن إسمعيل المخزومي أجرى عينا فقال له المهندسون عند ظهور الماء لو أهرقت عليها دما كان أحرى أن لا تغيض ولا تهور فتقتل من يعمل فيها فنحر جزائر حين أرسل الماء فجرى مختلطا بالدم وأمر فصيع له ولأصحابه منها طعام فأكل وأكلوا 209 وقسم سائرها بين العمال فيها فقال ابن شهاب بئس والله ما صنع ما حل له نحرها ولا الأكل منها أما بلغه أن رسول الله نهى أن يذبح للجن لأن مثل هذا وإن ذكر اسم الله عليه مضاه لما ذبح على النصب وسائر ما أهل لغير الله به وكذلك جاء النهي عن معاقرة الأعراب وهي أن يتبارى الرجلان فيعقر كل واحد منهما يجاود به صاحبه فأكثرهما عقرا أجودهما نهى عن أكله لأنه مما أهل لغير الله به قال الخطابي وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان وأوان حوادث يتجدد لهم وفي نحو ذلك من الأمور وخرج أبو داود نهى عليه الصلاة والسلام عن 210 عن طعام المتباريين أن يؤكل وهما المتعارضان ليرى أيهما يغلب صاحبه فهذا وما كان نحوه إنما شرع على جهة أن يذبح على المشروع بقصد مجرد الأكل فإذا زيد فيه هذا القصد كان تشريكا في المشروع ولحظا لغير أمر الله تعالى وعلى هذا وقعت الفتيا من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز وقوله فيها إنها مما أهل لغير الله به وهو باب واسع والثاني أنه لو كان قصد الحظ مما ينافي الأعمال العادية لكان العمل بالطاعات وسائر العبادات رجاء في دخول الجنة أو خوفا من دخول النار عملا بغير الحق وذلك باطل قطعا فيبطل ما يلزم عنه أما بيان الملازمة فلأن طلب الجنة أو الهرب من النار سعي في حظ لا فرق بينه وبين طلب الإستمتاع بما أباحه له الشارع وأذن له فيه من حيث هو حظ إلا أن أحدهما عاجل والآخر آجل والتعجيل والتأجيل في المسألة طردي كالتعجيل والتأجيل في الدنيا لا مناسبة فيه ولما كان طلب الحظ الآجل سائغا كان طلب العاجل أولى بكونه سائغا وأما بطلان التالي فإن القرآن قد جاء بأن من عمل جوزي واعملوا يدخلكم الجنة واتركوا تدخلوا الجنة ولا تعملوا كذا فتدخلوا النار ومن يعمل كذا يجز بكذا وهذا بلا شك تحريك على العمل بحظوظ النفوس فلو كان طلب الحظ قادحا في العمل لكان القرآن مذكرا بما يقدح في العمل وذلك باطل باتفاق فكذلك ما يلزم عنه وأيضا فإن النبي كان يسئل عن العمل الذي يدخل الجنة ويبعد من النار فيخبر به من غير احتراز ولا تحذير من طلب الحظ في ذلك وقد أخبر الله تعالى عمن قال إنما نطعمكم 211 لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا بقولهم إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا وفى الحديث مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما إلى آخر الحديث وهو نص في العمل على الحظ وفى حديث بيعة الأنصار قولهم للنبي اشترط لربك واشترط لنفسك فلما اشترط قالوا فما لنا قال الجنة الحديث وبالجملة فهذا أكثر من أن يحصى وجميعه تحريض على العمل بالحظ وإن لم يقل اعمل لكذا فقد قال اعمل يكن لك كذا فإذا لم يكن مثله قادحا في العبادات فأولى أن لا يكون قادحا في العادات فإن قيل بل مثل هذا قادح في العمل بالنص والمعقول أما المعقول فإن العامل بقصد الحظ قد جعل حظه مقصدا والعمل وسيلة لأنه لو لم يكن مقصدا لم يكن مطلوبا بالعمل وقد فرضناه كذلك هذا خلف وكذلك العمل ولو لم يكن وسيلة لم يطلب الحظ من طريقه وقد فرضناه أنه يعمله ليصل 212 به إلى غيره وهو حظه فهو بالنسبة إلى ذلك الحظ وسيلة وقد تقرر أن الوسائل من حيث هى وسائل غير مقصودة لأنفسها وإنما هى تبع للمقاصد بحيث لو سقطت المقاصد سقطت الوسائل وبحيث لو توصل إلى المقاصد دونها لم يتوسل بها وبحيث لو فرضنا عدم المقاصد جملة لم يكن للوسائل اعتبار بل كانت تكون كالعبث وإذا ثبت هذا فالأعمال المشروعة إذا عملت للتوصل بها إلى حظوظ النفوس فقد صارت غير متعبد بها إلا من حيث الحظ فالحظ هو المقصود بالعمل لا التعبد فاشبهت العمل بالرياء لأجل حظوظ الدنيا من الرياسة والجاه والمال وما أشبه ذلك والأعمال المأذون فيها كلها يصح التعبد بها إذا أخذت من حيث أذن فيها فإذا أخذت من جهة الحظوظ سقط كونها متعبدا بها فكذلك العمل بالأعمال المأمور بها والمتعبد بها كالصلاة والصيام وأشباههما ينبغي أن يسقط التعبد بها وكل عمل من عادة أو عبادة مأمور به فحظ النفس متعلق به فإذا أخذ من ذلك الوجه لا من جهة كونه متعبدا به سقط كونه عبادة فصار مهمل الإعتبار في العبادة فبطل التعبد فيه وذلك معنى كون العمل غير صحيح وأيضا فهذا المأمور أو المنهى بما فيه حظه يا ليت شعرى ما الذى كان يصنع لو ثبت أنه عرى عن الحظوظ هل كان يلزمه التعبد لله بالأمر والنهي أم لا فإذا كان من المعلوم أنه يلزمه فالمأمور به والمنهى عنه بلا بد مقصود في نفسه لا وسيلة وعلى هذا نبه القائل بقوله 213 هب البعث لم تأتنا رسله وجاجحة النار لم تضرم أليس من الواجب المستحق ثناء العباد على المنعم ويعنى بالوجوب بالشرع فإذا جعل وسيلة أخرج عن مقتضى المشروع وصار العمل بالأمر والنهي علىغير ما قصد الشارع والقصد المخالف لقصد الشارع باطل والعمل المبنى عليه مثله فالعمل المبنى على الحظ كذلك وإلى هذا فقد ثبت أن العبد ليس له في نفسه مع ربه حق ولا حجة له عليه ولا يجب عليه أن يطعمه ولا أن يسقيه ولا أن ينعمه بل لو عذب أهل السموات والأرض لكان له ذلك بحق الملك قل فلله الحجة البالغة فإذا لم يكن له إلا مجرد التعبد فحقه أن يقوم به من غير طلب حظ فإن طلب الحظ بالعمل لم يكن قائما بحقوق السيد بل بحظوظ نفسه وأما النصوص الدالة على صحة هذا النظر فالآيات والأحاديث الدالة على إخلاص الأعمال لله وعلى أن ما لم يخلص لله منها فلا يقبله الله كقوله تعالى وما امروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وقوله فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وفى الحديث أنا أغنى الشركاء عن الشرك وفيه فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرآة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه أي ليس له من التعبد لله بالأمر بالهجرة شىء فإن كل أمر ونهي عقل معناه أو لم يعقل معناه ففيه تعبد حسبما يأتي إن شاء الله فالعامل لحظه مسقط لجانب التعبد ولذلك عد جماعة من السلف المتقدمين العامل للأجر خديم السوء وعبد السوء وفى الآثار من ذلك أشياء وقد جمع الأمر كله قوله تعالى ألا لله الدين الخالص 214 وأيضا فقد عد الناس من هذا ما هو قادح في الإخلاص ومدخل للشوب في الأعمال فقال الغزالي كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ويميل إليه القلب قل أو كثر إذا تطرق إلى العمل تكدر به صفوه وقل به إخلاصه قال والإنسان منهمك في حظوظه ومنغمس في شهواته قلما ينفك فعل من أفعاله وعبادة من عباداته عن حظوظ ما وأغراض عاجلة ولذلك من سلم له في عمره خطرة واحده خالصة لوجه الله نجا وذلك لعز الإخلاص وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب بل الخالص هو الذى لا باعث فيه إلا طلب القرب من الله تعالى ثم قال وإنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها قليلها وكثيرها حتى يجرد فيه قصد التقرب فلا يكون فيه باعث سواه قال وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستهتر مستغرق الهم بالآخرة بحيث لم يبق للدنيا في قلبه قرار حتى لا يحب الأكل والشرب أيضا بل تكون رغبته فيه كرغبته في قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الحياة فلا يشتهى الطعام لأنه طعام بل لأنه يقويه على العبادة ويتمنى لو كفى شر الجوع حتى لا يحتاج إلى الأكل فلا يبقى في قلبه حظ في الفضول الزائدة على الضرورة ويكون قدر الضرورة مطلوبا عنده لأنه ضرورة دينية فلا يكون له هم إلا الله تعالى فمثل هذا الشخص لو أكل أو شرب أو قضى حاجته كان خالص العمل صحيح النية في جميع حركاته وسكناته فلو نام مثلا ليريح نفسه ويقوى على العبادة بعده كان نومه عبادة وحاز درجة المخلصين ومن ليس كذلك فباب الإخلاص في الأعمال كالمسدود عليه إلا على سبيل الندور ثم تكلم على باقي المسألة وله في الإحياء من هذا المعنى مواضع يعرفها من زواله فإذا كان كذلك فالعامل الملتفت 215 إلى حظ نفسه على خلاف ما وقع الكلام عليه فالجواب أن ما تعبد العباد به على ضربين أحدهما العبادات المتقرب بها إلى الله بالأصالة وذلك الإيمان وتوابعه من قواعد الإسلام وسائر العبادات والثاني العادات الجارية بين العباد التي في التزامها نشر المصالح بإطلاق وفي مخالفتها نشر المفاسد بإطلاق وهذا هو المشروع لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم وهو القسم الدنيوي المعقول المعنى والأول هو حق الله من العباد في الدينا والمشروع لمصالحهم في الآخرة ودرء المفاسد عنهم فأما الأول فلا يخلو أن يكون الحظ المطلوب دنيويا أو أخرويا فإن كان أخرويا فهذا حظ قد أثبته الشرع حسبما تقدم وإذا ثبت شرعا فطلبه من حيث أثبته صحيح إذ لم يتعد ما حده الشارع ولا أشرك مع الله في ذلك العمل غيره ولا قصد مخالفته إذ قد فهم من الشارع حين رتب على الأعمال جزاء أنه قاصد لوقوع الجزاء على الأعمال فصار العامل ليقع له الجزاء عاملا لله وحده على مقتضى العلم الشرعي وذلك غير قادح في إخلاصه لأنه علم أن العبادة المنجية والعمل الموصل ما قصد به وجه الله لا ما قصد به غيره لأنه عز وجل يقول إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم إلى قوله في جنات النعيم الآية فإذا كان قد رتب الجزاء على العمل المخلص ومعنى كونه مخلصا أن لا يشرك معه في العبادة غيره فهذا قد عمل على وفق ذلك وطلب الحظ ليس 216 بشرك إذ لا يعبد الحظ نفسه وإنما يعبد من بيده بذل الحظ المطلوب وهو الله تعالى لسكن لو أشرك مع الله من ظن بيده بذل حظ ما من العباد فهذا هو الذي أشرك حيث جعل مع الله غيره في ذلك الطلب بذلك العمل والله لا يقبل عملا فيه شرك ولا يرضى بالشرك وليست مسألتنا من هذا فقد ظهر أن قصد الحظ الأخروي في العبادة لا ينافي الإخلاص فيها بل إذا كان العبد عالما بأنه لا يوصله إلى حظه من الآخرة إلا الله تعالى فذلك باعث له على الإخلاص قوي لعلمه أن غيره لا يملك ذلك وأيضا فإن العبد لا ينقطع طلبه للحظ لا في الدنيا ولا في الآخرة على ما نص عليه أبو حامد رحمه الله لأن أقصى حظوظ المحبين التنعم في الآخرة بالنظر إلى محبوبهم والتقرب منه والتلذذ بمناجاته وذلك حظ عظيم بل هو أعظم ما في الدارين وهو راجع إلى حظ العبد من ذلك فإن الله تعالى غني عن العالمين قال تعالى ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين وإلى هذا فإن كون الإنسان يعمل لمجرد امتثال الأمر نادر قليل إن وجد والله عز وجل قد أمر الجميع بالإخلاص والإخلاص البرىء عن الحظوظ العاجلة والآجلة عسير جدا لا يصل إليه إلا خواص الخواص وذلك قليل فيكون هذا المطلوب قريبا من تكليف ما لا يطاق وهذا شديد وعلى أن بعض الأئمة قال إن الإنسان لا يتحرك إلا بحظ والبراءة من الحظوظ صفة إلهية ومن ادعاه فهو كافر قال أبو حامد وما قاله حق ولكن القوم إنما أرادوا به يعني الصوفية البراءة عما يسميه الناس حظوظا وذلك الشهوات 217 الموصوفة في الجنة فقط فأما التلذذ بمجرد المعرفة والمناجاة والنظر إلى وجه الله العظيم فهذا حظ هؤلاء وهذا لا يعده الناس حظا بل يتعجبون منه قال وهؤلاء لو عرضوا عما هم فيه من لذة الطاعة والمناجاة وملازمة الشهود للحضرة الآلهية سرا وجهرا نعيم الجنة لاستحقروها ولم يلتفتوا إليها فحركتهم لحظ وطاعتهم لحظ ولكن حظهم معبودهم دون غيره هذا ما قال وهو إثبات لأعظم الحظوظ ولكن هؤلاء على ضربين أحدهما من يسبق له امتثال أمر الله الحظ فإذا أمر أو نهي لبى قبل حضور الحظ فهم عاملون بالامتثال لا بالحظ وأصحاب هذا الضرب على درجات ولكن الحظ لا يرتفع خطوره على قلوبهم إلا نادرا ولا مقال في صحة إخلاص هؤلاء والثاني من يسبق له الحظ الامتثال بمعنى أنه لما سمع الأمر أو النهي خطر له الجزاء وسبق له الخوف أو الرجاء فلبى داعي الله فهو دون الأول ولكن هؤلاء مخلصون أيضا إذ طلبوا ما أذن لهم في طلبه وهربوا عما أذن لهم في الهرب عنه من حيث لا يقدح في الإخلاص عما تقدم فصل وإن كان الحظ المطلوب بالعبادات ما في الدنيا فهو قسمان قسم يرجع إلى صلاح الهيئة وحسن الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة للعامل بعمله وقسم يرجع إلى نيل حظه من الدنيا وهذا ضربان أحدهما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه مع الغفلة عن مراءآة الناس بالعمل والآخر يرجع إلى المراءآة لينال بذلك مالا أو جاها أو غير ذلك فهذه ثلاثة أقسام أحدها يرجع إلى تحسين الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة فإن كان هذا القصد متبوعا فلا إشكال في أنه رياء لأنه إنما يبعثه على العبادة قصد الحمد وأن يظن به الخير وينجر مع ذلك كونه يصلي فرضه أو نفله وهذا بين وإن كان تابعا فهو محل نظر واجتهاد واختلف العلماء في هذا الأصل فوقع 218 في العتبية في الرجل الذي يصلي لله ثم يقع في نفسه أنه يحب أن يعلم ويحب أن يلقى في طريق المسجد ويكره أن يلقى في طريق غيره فكره ربيعة هذا وعده مالك من قبيل الوسوسة العارضة للإنسان أي أن الشيطان يأتي للإنسان إذ سره مرأى الناس له على الخير فيقول له إنك لمراء وليس كذلك وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يملك وقد قال تعالى وألقيت عليك محبة مني وقال عن إبراهيم عليه السلام واجعل لى لسان صدق في الآخرين وفي حديث ابن عمر وقع في نفسي أنها النخلة فأردت أن أقولها فقال عمر لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا وطلب العلم عبادة قال ابن العربي سألت شيخنا الإمام أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا ما بينوا قال أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات قلت ويلزم ذلك قال نعم لتثبت أمانته وتصح إمامته وتقبل شهادته قال ابن العربي ويقتدى به غيره فهذه الأمور وما كان مثلها تجري هذا المجرى والغزالي يجعل مثل هذا مما لا تتخلص فيه العبادة والثاني ما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه مع الغفلة عن مراءآة الغير وله أمثلة أحدها الصلاة في المسجد للأنس بالجيران أو الصلاة بالليل لمراقبة أو مراصدة أو مطالعة أحوال والثاني الصوم توفيرا للمال أو استراحة من عمل الطعام وطبخه أو احتماء لألم يجده أو مرض يتوقعه أو بطنة تقدمت له والثالث الصدقة