مغامرات حاجي بابا الإصفهاني/24
خطأ لوا في وحدة:Header على السطر 208: attempt to concatenate a nil value.
الفصل الرابع والعشرون. اللقاء مع زينب الجميلة التي تحكي له عن حياتها في بيت حريم الطبيب
[عدل]قلت لنفسي وأنا أفرك عيني: «إذن، الآن وقعت في العشق؟ حسناً، سنرى إلام سيفضي ذلك. سأعرف الليلة من هي وما هي، وإن كانت ملك يمين الحكيم فليخرب بيته، وسألقنه درساً كيف يحافظ على ممتلكاته. الزواج بالتأكيد غير وارد، فمن يزوجني وليس معي ما أشتري به سروالاً لنفسي، ناهيك عن تكاليف حفل الزفاف؟ إن شاء الله سأتزوج يوماً ما، متى نجحت في جمع بعض المال؛ أما الآن فسألعب بالحب، ولتقع تكاليف ذلك على الحكيم.»
وبهذه النية في قلبي نهضت ولبست بعناية أكبر من المعتاد، ومشطت شعري أكثر من عادتي، وربطت نطاقي بأناقة بالغة وارتديت قبعتي وميّلتها إلى جنب. وبعد توضيب فراشي حملته إلى قاعة الخدم وخرجت من البيت لكي أستحم وأجهز نفسي على أكمل وجه من أجل اللقاء الغرامي المرتقب. ذهبت إلى الحمام حيث قضيت أغلب الصباح وأنا أغني، وضيّعت باقي الوقت حتى ساعة اللقاء وأنا أتسكع في أرجاء المدينة بلا غاية ولا هدف.
وأخيراً اقترب المساء وبلغت لهفتي ذروتها وبقيت أنتظر بفارغ الصبر نهاية العشاء وقررت أنني بعد ذلك سأشكو من صداع وأتخذه عذراً للانصراف إلى الراحة. ومن سوء حظي تأخر الحكيم في بلاط الشاه، وبما أن الخدم يأكلون ما تبقى من عشائه بقيت مقيداً حتى وقت متأخر، وعندما حانت تلك اللحظة صرت في عرواء الانتظار: آخر ومضات النهار صبغت غرب السماء بشفق أحمر، وأشرق القمر، عندما صعدت إلى السطح وفراشي تحت إبطي. رميته أرضاً وفردته على عجل واندفعت وقلبي يدق إلى الجدار المتهدم ونظرت فوقه ببالغ الحذر. ولكن، يا خيبتي! لم يكن هناك إلا أوراق التبغ في أكوام والسلال المتناثرة هنا وهناك، وكأن عملاً بدأ ولم ينته. تلفتُّ حولي، إلا أن زينب لم تكن موجودة. سعلت مرة أو مرتين: لا جواب. وكان الصوت الوحيد الذي يصل إلى أذني هو صوت امرأة الحكيم يوبِّخ أحداً ما في البيت. ومع أن حدة صوتها كانت تثقب الجدران، لم أستطع أن أتبيّن ما كان سبب غضبها، حتى انطلقت صاحبته إلى الباحة وازداد صراخها أكثر:
«أي عمل تتحدثين عنه يا بنت الشيطان؟ من قال لك أن تذهبي إلى الحمام؟ وما شغلك في المقبرة؟ وكأنني أنا خادمتك وأنت لا عمل لك سوى التسلية والمتعة! لماذا لم تكملي عملك؟ لن تأكلي ولن تشربي ولن تنامي حتى تكمليه، فاذهبي واكمليه فوراً! وإذا عدتِ قبل أن تكمليه فوالله، بالله، وحياة النبي، سأضربك حتى تنسلخ أظافرك!»
وسمعت صوت تدافع وحركة أقدام خفيفة ورأيت عشيقة قلبي تمضي إلى الشرفة وهي تظهر الامتعاض، بعد أن كنت قد يئست من رؤية وجهها المبارك. فقلت في قلبي: «ما أعجب الحب! كيف يشحذ الذكاء وما أخصب حيله! لقد سمعت تواً كيف دبرت فاتنتي كل شيء من أجل هذا اللقاء لكي لا نخشى أن يقطعه أحد. رأتني، ولكنها لم تظهر ذلك حتى هدأت العاصفة في الأسفل؛ ثم، عندما ساد الصمت تماماً، تقدمت نحوي، والقارئ لن يخطئ إذا توقع أنني اندفعت نحوها حالاً. أنتم، يا من عرفتم العشق، يمكنكم أن تتصوروا نشوتنا، إذ أن الكلام عاجز عن وصفها.
عرفت من صديقتي الحبيبة أنها ابنة زعيم كردي وقع في الأسر مع كامل أسرته وماشيته عندما كانت طفلة صغيرة، وبعد تعاقب أحداثٍ وعدتني أن تحكيها لي لاحقاً انتهت إلى يد الطبيب فصارت جاريةً له.
وبعد أن هدأت نار انفعالاتنا المتوهجة شيئاً فشيئاً، أطلقت الفتاة العنان لمشاعر الغضب تجاه المعاملة التي تعرضت لها، وصاحت: «آه! هل سمعت كيف تسميني تلك الامرأة؟ امرأة بلا دين ولا إيمان! هذه هي معاملتها لي على الدوام: تشتمني باستمرار، وأصبحتُ أقل من كلب. الجميع يوبخني، ولا أحد يصاحبني، كبدي تحول إلى ماء وروحي ذبلت. لماذا يسمونني ابنة الشيطان؟ نعم، أنا كردية، وأنا يزيدية.1 صحيح أننا نخاف من الشيطان، ومن لا يخاف منه؟ ولكنني لست ابنته. آه، لو لاقيتها في جبالنا لأريتها ماذا يمكن أن تفعل بها فتاة كردية!»
حاولت أن أواسيها بما في وسعي وأن أقنعها أن تكظم غيظها حتى تسنح لها فرصة طيبة للانتقام. إلا أنها كانت يائسة من أن فرصة كهذه ستأتي يوماً لأن كل ما تفعله كان يخضع لمراقبة شاملة، وحتى إذا تحركت من غرفة إلى أخرى تدري سيدتها بهذا. وأخبرتني بالقصة أن الحكيم، وهو رجل من عائلة متواضعة، قد تزوج بأمر من الشاه واحدة من جواريه التي طردها من قصره بسبب خطأ ارتكبته، ولم تجلب للطبيب إلا سوء خلقها وتكبرها العظيم الآتي من ذكرياتها عن ماضيها حين كان لها نفوذ في البلاط. ولهذا تعتبر زوجها الحالي رخيصاً كالتراب تحت قدميها وتبقيه في حالة خضوع تام لها. فهو لا يجرؤ على الجلوس أمامها إلا إذا سمحت له بذلك، وهي نادراً ما تسمح. كما أن غيرتها الفائقة تجعلها تشك في جميع الجواري في بيت الحريم. والطبيب من جانبه طموح وسعيد بترقيته، إلا أنه ينقاد وراء أهوائه ويتأثر بفتنة جواريه الجميلات، وزينب نفسها، كما قالت لي، غرض اهتمامه ومن ثم هدف لغيرة زوجته التي لا تدع نظرة ولا إشارة ولا كلمة تفوتها. بيت الحريم مليء بالمؤامرات والمكايد والتجسس، وعندما تذهب السيدة نفسها إلى المسجد أو إلى الحمام تأخذ ترتيبات دقيقة لتوزيع الجواري من حيث الزمان والمكان والفرصة وكأنها تقوم بترتيب حفل زفاف.
فاجأني هذا الكلام لأنني لم أر داخل الأندرون إلا ما أتذكره منذ كنت صبياً في بيت أبي، وأثارت حكاية الجميلة زينب فضولي وازداد بزيادة التفاصيل في روايتها عن حياتها في بيت الطبيب. قالت:
«في الأندرون خمس جوارٍ ما عدا السيدة. هناك شيرين، الجارية الجورجية؛ ثم نور جهان2 الأمة الحبشية؛ وفاطمة الطباخة، وليلى العجوز الفهرمانة؛ أما أنا فخادمة الخانم، كما يخاطبون سيدتنا: أعتني بنركيلتها وأغلي لها القهوة وأقدم لها الوجبات وأذهب معها إلى الحمام وأساعدها في ارتداء ملابسها ونزعها وأحضر لباسها وأنشر وأفرك وأسحق وأنخل التبغ وأقف أمامها. شيرين الجورجية هي الصندوقدار، أي مدبِّرة المنزل، وهي تعتني بملابس سيدي وسيدتي بل ملابس الجميع؛ وتشرف على النفقات وتقوم على توفير المؤن كلها، وهي المسؤولة عن أواني الفخار والفضة وغيرها، أي تحت يدها كل ما هو ثمين أو هام للأسرة. ونور جهان السوداء مسؤولة عن الفرش، وهي تقوم بكل الأعمال الخسيسة مثل نشر السجاد وكنس الغرف ورش الماء في الباحة ومساعدة الطباخة وإيصال الرسائل والأمانات والأغراض، أي أنها تحت أمر الجميع. أما ليلى العجوز فهي الفهرمانة وتقوم على الجواري الشابات، وهي تقوم بالأعمال خارج البيت وتنفذ ما تكلفها بها الخانم في أندرونات الجيران، كما عليها أن تتجسس على ما يفعله الحكيم. ونمضي أيامنا في خصامات شرسة، وفي كل ساعة تكون كل اثنتين منا في صداقة قوية ضد الاثنتين الأخريين. وحالياً أنا في حرب ضروس مع الجورجية التي وجدتْ منذ فترة أن سعدها تركها فدبرت تميمةً من درويش، وحالما حصلت عليها أهدتها الخانم في اليوم التالي سترة جديدة، ما أثار غيرتي لدرجة أنني ذهبت إلى الدرويش فطلبت منه رقعة تضمن لي زوجاً أحسَدُ عليه، وفي المساء نفسه رأيتك على الشرفة. تصور كم كانت سعادتي! ولكن هذا أثار الحسد بيني وبين شيرين، فصار بيننا عداوة لدودة، وقد نصبح فجأة صديقتين من جديد. وأنا الآن في أعز صداقة مع نور جهان، وهي تبلغ الخانم عن أي هفوة ترتكبها غريمتي. مثلاً، وصلتنا منذ أيام بقلاوة فاخرة من إحدى جواري الشاه في البلاط هدية إلى سيدتنا؛ وأكلت الجرذان أغلبها، ولكننا قلبنا الأمر بحيث أن الجورجية هي المذنبة، فلاقت ضرباً على قدميها بأمر من الخانم ومن يد نور جهان. كسرت الفنجان المفضل لسيدتي، فوقع اللوم على شيرين، فاضطرت إلى شراء فنجان آخر بدلاً منه. أعرف أنها تتآمر علي، لأنها تتناجى باستمرار مع ليلى، وهي في هذه الأيام حبيبة سيدتنا. وأحاول ألا آكل ولا أشرب أي شيء لمسته يداها خوفاً من السم، وهي تعاملني بالمثل. لم يصل كرهنا لبعضنا إلى درجة التسميم، ولكن هذه هي ترتيبات الحذر المعتادة في جميع بيوت الحريم. لم نصل إلا مرة واحدة إلى المشاجرة حين أثارت في قلبي غضباً عارماً بأنها بصقت وقالت «اللعنة على الشيطان»، وأنت تعرف أنها أكبر شتيمة عند اليزيديين. فانقضضت عليها وأنا أسبها بكل الشتائم التي تعلمتها بالفارسية وبدأت أنتف شعر رأسها خصالاً كاملة. وفصلت بيننا ليلى التي جلبت حصتها من الشتائم وبقينا نتشاتم ونتلاعن حتى جفت حلوقنا وبحت أصواتنا. لم نتشاجر بعد ذلك، ولكن العداوة بقيت كما هي، وتسعى شيرين إلى إيذائي بكل ما تيسر لها من وسائل.»
بقيت زينب تحكي لي قصص الحريم حتى الفجر، وعندما سمعنا أصوات المؤذنين يدعون إلى صلاة الصبح من المساجد رأينا أنه من الحكمة أن نفترق بعد أن تواعدنا باللقاء مع كل الحذر والحيطة، واتفقنا أنها متى استطاعت أن تؤمن فرصة لنلتقي بأمان ستعلق حجابها على فرع الشجرة في وسط الباحة، والتي يمكن أن أراها من شرفتي؛ وإن لم أجده هناك أعرف أن لقاءنا غير ممكن.