معركة الإسلام والرأسمالية (1952)/عداوات حول حكم الإسلام/عداوات المستعمرين
عداوات المستعمرين
يصعب الفصل بين عداء الصليبية للإسلام وعداء الاستعمار. فكلاهما يغذى الآخر ويسنده ويبرره. والإسلام عقيدة استعلاء تكافح الاستعمار حين تستيقظ في نفوس أصحابها؛ ورجعة الحكم إلى الإسلام توقظ هذه الروح بشدة، فتفسد على الاستعمار خطة الاستغلال والاستذلال.
إن الإسلام يحرم على أتباعه أن يخضعوا لأي حكم أجنبي، بل لأي تشريع لا يتفق مع شريعة الإسلام. وتلك عقبة في طريق الاستعمار كؤود. والمستعمرون ليسوا في غفلة مثقفينا الفضلاء، ولا في بلاهة حكامنا النابغين! إنهم يقيمون استمرارهم على دراسات كاملة متشعبة لكل مقومات الشعوب التي يستعمرونها؛ كي يقتلوا بذور المقاومة، أو يتفادوها أو يداروها. وقد قام الاستشراق على هذا الأساس. قام ليساعد الاستعمار من الوجهة العلمية؛ وليمد جذوره في التربية العقلية كذلك. ولكننا نحن هنا نعبد المستشرقين ببلاهة؛ ونعتقد في سذاجة أنهم رهبان العلم والمعرفة، وأنهم بعدوا عن نشأتهم الأولى، وقطعوا صلتهم بالعلة التي نشأوا منها! وبخاصة إذا موه علينا بعضهم بكلمة طيبة تقال عن ديننا وعن نبينا، كي تكون هي الطعم لتستنيم أفكارنا إلى الإيحاء في ناحية أخرى!
وإن الإنسان ليضحك أحيانًا - ولو أنه ضحك مر - و «المثقفون!» فينا يتعالمون بالحديث عن «الإخلاص العلي» للمستشرقين. فإذا خطر لك أن تشكك في براءة هؤلاء القديسين، فأنت إذن غير مثقف! أو متعصب تحشر الدين في كل مجال!
ومرة أخرى نسأل: ألا من للأقزام بمن يقنعهم أنهم ليسوا بعد إلا الأقزام؟!
ولقد كان الإنجليز يعرفون أن جيوش الاحتلال ستترك مصر يومًا ما، إن قريبًا وإن بعيدًا. فلم يكن لهم بد من أسناد للاستعمار غير جيوش الاحتلال. فأقاموا هذه الأسناد في الميدان الاقتصادي لاحتلال الأسواق المصرية، ومحاولة إغلاق الأسواق العالمية الأخرى في وجه الحاصلات المصرية؛ وأقاموها في دنيا المال بتبعية نقدنا لنقدهم أو خزانتهم ... إلخ.
ولكن هذه الأسناد كلها لم تكن لتقوى على البقاء، لولا الاستعمار الروحي والفكري الذي عُني به الاستعمار في خلال القرن الماضي، وما يزال يوليه أكبر عناية في هذه الأيام. لقد ذهب الإنجليز البيض من الدواوين ليحل محلهم «الإنجليز السمر» من المصريين المقربين، المستعمرة أرواحهم وأفكارهم، المصنوعين على عين الاستعمار، لأداء أغراض الاستعمار.. وكانت عناية الإنجليز البيض شديدة بوزارة المعارف بوصفها المشرفة على تكوين الأجيال؛ حتى إذا تركوها اليوم للإنجليز السمر تركوها مطمئنين، فما تزال النظم والبرامج والكتب وطرائق التدريس كلها تعمل للاستعمار الروحي والفكري في نفوس الأجيال. وكلها إيحاءات بنيذ العنصر الديني! وبإقصاء الإسلام لا عن الحكم وحده بل عن الحياة جميعاً.
لقد ربى الاحتلال أجيالا متعاقبة، ما تزال تتكاثر بحكم العقلية المشرفة على وزارة المعارف، تنظر إلى الإسلام على أنه بقية من بقايا التأخر والانحطاط؛ وتعد التجرد منه تجردًا من تهمة الجمود والجهل، ودليلا على «الثقافة!» والتحرر.
وبرامج التاريخ في المدرسة المصرية وكتبه على وجه خاص من أمكر ما يستطيع الاستعمار أن يصنع، ومن أفتك ما يقتل الروح القومية والروح الدينية سواء، فالطالب الثانوي - بل الجامعي - يخرج من دراسة التاريخ - بما في ذلك التاريخ الإسلامي - لا يعرف شيئًا عن فكرة الإسلام الاجتماعية، ونظرته الإنسانية، وكل ما يدرسه غزوات وحروب، ووقائع وأحداث. ينتهي منها إلى أن الإسلام كان معركة حربية، ولم يكن يومًا ما معركة فكرية ولا اجتماعية ولا إنسانية!
وساعد الاستعمار على تشويه الفكرة الإسلامية كلها عامل آخر. عامل لم يكن الاستعمار ليجد أفتك منه ولا أفعل في تشويه الإسلام.
أولئك الذين اصطلح الناس على أن يسموهم رجال دين، من الأشياخ والدراويش؛ يمثلون جمود الفكر، وضيق الأفق، أو يمثلون الخرافة والجهالة، ثم يصبغون ذلك كله بصبغة الدين؛ فيظهرونه بشعًا شائها منفرًا. ثم يرتكبون في سلوكهم الشخصي والاجتماعي جرائم وموبقات شائنة؛ فيذهبون بكرامة الدين وجديته واحترامه؛ وبخاصة حين يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، فيناصرون الاستغلال والطغيان، باسم الإسلام، وباسم القرآن!
وبذلك تعاون التعليم الاستعماري القائم في وزارة المعارف بإشراف مصنوعات الاحتلال المشرفة على البرامج والنظم والمناهج والكتب؛ مع رجال الدين المزعومين، على أن يبلغ الاحتلال غايته، وأن يبلغ الاستعمار الروحي والفكري ذروته، حتى بعد ذهاب الاحتلال!
وفي عناية الإنجليز بوزارة المعارف نضرب مثالاً قريبًا حاضرًا قد لا يلتفت إليه الكثيرون.
لقد كان الإنجليز يعرفون أن في مهر رجلًا اسمه الدكتور طه حسين. وكان الدكتور طه هو الدكتور طه الكاتب الأديب الأستاذ الجامعي كما هو. لم يزد عليه إلا أن أصبح بوما وزيرًا للمعارف.
وكان الإنجليز يعرفون أن ميول الرجل - حسب ثقافته ميول فرنسية. فلما أن صارت إليه وزارة المعارف، أدركوا أن هنالك خطراً على الثقافة الإنجليزية قد يصيبها مع وجود هذا الوزير.
وهنا فقط تذكروا أن طه حسين أديب كبير، يستحق الدعوة إلى انجلترا، والضيافة على الحكومة البريطانية، والمعهد البريطاني؛ والتكريم بالألقاب الجامعية من جامعات الإنجليز. فقط عندما صار وزيرا للمعارف!
إنه الاستعمار يخشى على حبائله في وزارة المعارف أن تنكشف أو أن تتزعزع!
والاستعمار يقوم في وجه الحكم الإسلامي، لغرض معلوم ومفهوم؛ وهو منطقي مع نفسه؛ فما يعقل وهو يحارب الإسلام عقيدة مستكنة، أن يدع هذه العقيدة تستحيل شريعة، ويدع قوتها الروحية تستحيل قوة مادية. والمستعمرون لا يجهلون جهالتنا، ولا يغفلون غفلتنا عن دعوة القرآن القوية: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾. ولا يغيب عن أذهانهم أن الحكم الإسلامي سيرد جهاز الدولة كله إسلاميًا: جهازها الاقتصادي والحربي والتعليمي، كما سيصوغ المجتمع صياغة إسلامية، وليس أخطر من ذلك كله على الاستعمار الظاهر والخفي سواء.
كذلك يدرك الاستعمار أن قيام حكم إسلامي سيرد الدولة إلى عدالة في الحكم وعدالة في المال. فيقلم أظفار دكتاتورية الحكم واستبداد المال والاستعمار يهمه دائمًا أن لا تحكم الشعوب نفسها، لأنه يعز عليه حينئذ إخضاعها؛ فلا بد من طبقة دكتاتورية حاكمة، تملك سلطات استبدادية، وتملك ثروة قوية؛ هذه الطبقة هي التي يستطيع الاستعمار أن يتعامل معها، لأنها أولا قليلة العدد، ولأنها ثانيًا تستعين به على البقاء، وتحتاج إليه ليسندها في وجه الجماهير. وهذه الطبقة تتولى إخضاع الجماهير وسياستها، ويتوارى خلفها الاستعمار، فلا يبرز دائمًا يوجهه السافر المثير.
إن هنالك حلفًا طبيعيًا بين الاستعمار ودكتاتورية الحكم والمال، كلاهما يعتمد على الآخر، ويتبادل معه المصلحة. وكل ما يتمتع به المستعمرون في بلادهم من حرية وعدالة اجتماعية، لا يسمحون بأن نستمتع به المستعمرات ومناطق النفوذ. لأن هذه المستعمرات ستواجهم وجهًا لوجه يوم تتخلص من مظالمها الاجتماعية. وكذلك المستغلون في الداخل لا يسمحون بإنهاء مشكلات الاستعمار، لأن الجماهير ستواجههم وجهًا لوجه يوم تتخلص من الاستعمار!
ولما كان الحكم الإسلامي الصحيح، مظنة أن يحقق للشعوب عدالة مطلقة في الحكم وفي المال؛ فإن الاستعمار يحاربه حربًا شعواء. يحاربه سافرًا بنفسه، و يحاربه متسترًا وراء الأستار: أستار الطغاة والمستغلين؛ وأستار «المتحررين المثقفين! » وأستار المشرفين على التعليم من حيث يشعرون أو لا يشعرون!
لقد يسمح الاستعمار بقيام حكم إسلامي زائف، في بقاع جاهلة من الأرض متأخرة، وفي ظل دكتاتوريات ظالمة مستغلة، كي يكون نموذجًا سيئًا منفرًا من حكم الإسلام، بل من ذات الإسلام!
هنا ينعق القانون من المغفلين والمغرضين، والأقزام الذين يريدون وأن يبدوا شيئًا مذكورًا. انظروا ها هو ذا حكم الإسلام! أفما ترونه مستبدًا ظالمًا غاشمًا، مستهترًا شهوانيًا فاجرًا، متأخرًا منحطًا جامدًا.. هذا هو النموذج الحي لحكم الإسلام؛ وهو النموذج الدائم لكل حكم ديني على ظهر الأرض كائنًا ما كان!
ويفرك الأقزام أيديهم من الفرح، والجماهير البلهاء تتحلق حولهم بسذاجة، والمستغلون يضحكون من الأقزام والجماهير، ويطمئنون إلى أن حكم الإسلام عنهم بعيد. والمستعمرون يضحكون من هؤلاء وهؤلاء جميعًا. وهم يتصايحون كلهم داخل المصيدة، ويتصارعون كما تتصارع الفئران الهزيلة البائسة في مصيدة الفئران!