معاوية بن أبي سفيان (كتاب)/تمهيدات الحوادث

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



تمهيدات الحوادث


بدأ التمهيد لبني أمية في الشام قبل الإسلام بجيلين متعاقبين، وكانت الشام قبل ذلك سوقًا عامة لقريش، تأتيها قوافل الصيف بتجارة الحجاز في حراسة الرؤساء من بيت مناف على الأكثر، وأظهرهم في الجيل الذي سبق الدعوة النبوية هاشم بن عبد مناف.

ولم يكن رجحان هاشم بالرئاسة والثروة حائلًا بين الأمويين وغشيان الشام للتجارة والإقامة بين المدن والبادية فيها، بل كان هذا الرجحان — فيما اتفقت عليه الأخبار — سببًا لهجرة أمية من مكة، وإقامته بالشام عشر سنين؛ إذ تنافر هاشم وأمية وتنافسا على الرئاسة، واحتكما إلى الكهان كعادتهم على أن يكون للغالب إجلاء المغلوب عن مكة عشر سنين، فقضى المحكمون لهاشم على أمية، وخرج أمية إلى الشام فاختارها مقامًا له خلال هذه السنين، وربما كان ضيقه بالزعامة المعقودة لهاشم في مكة من دواعي الهجرة قبل الحكم عليه في قضية المنافرة المشهورة، وهي قضية قد تصح بتفصيلاتها أو لا تصح إلا بجزء منها، ولكن هجرة أمية إلى الشام لم تكن مما اختلف عليه المختلفون.

ولما مات هاشم شغل أبناؤه بالرئاسة الدينية إلى جوار الكعبة، وآل اللواء إلى بني أمية، وهو عمل ينوط بصاحبه حراسة القوافل من الشام وإليها؛ إذ لم يكن من حاجة قريش في الجيل السابق للإسلام عقد اللواء لجيش يغزو القبائل أو يدفع غزوتها لمكة، وإنما كان العمل الأكبر لصاحب اللواء حراسة طريق التجارة بين مكة والشام على الأكثر، وبين مكة واليمن في قليل من الأوقات، وكان عملًا يحتاج في الواقع إلى جيش صغير وقائد يحمل لواءه؛ لأن القافلة التي تخرج للتجارة تجمع أموال قريش، وتسير بها المئات من الإبل، ولا ينتظم سيرها بغير قيادة تتولى تنظيم المخافر وتوزيع المؤنة والتعرف إلى رؤساء القبائل التي تقيم على الطريق، أو تقيم على مقربة من أسواق الشام في البادية، فهي عمل متصل لا ينتهي بانتهاء رحلة القافلة، ولا تزال له روابطه وعلاقاته بين صاحب اللواء وأعوانه، وبين ذوي الشأن في مراحل الطريق وفي منازل المقام.

ومن المشهور المتواتر أن عثمان بن عفان — رضي الله عنه — كان معروف المكانة بين رؤساء الدولة البيزنطية على حدود بلاد العرب، كما كان معروف المكانة بين الوجوه من قبائل البادية، وخلعت عليه الدولة البيزنطية لقبًا من ألقاب الرئاسة؛ ليسفر بينها وبين قومه ويعينها في خلافها مع العرب الغساسنة بالشام، وكانوا يجنحون أحيانًا إلى جانب فارس في حربها لبيزنطة، ويرى البيزنطيون أنهم لا يستغنون عن قوة من العرب لمقاومة هذا الخطر من البادية، ولو بتهديد الغساسنة، وتشكيكهم فيمن يجاورهم أو يعاملهم من العرب الحجازيين.

وقد كان بنو أمية على شبه محالفة بينهم وبين بني كلب أقوى القبائل ببادية الشام، وأشدها خطرًا على الغساسنة، ومنها من تنصر منافسة للغساسنة في حظوة الدولة مع ارتقابهم للفرص بين الدولتين وبين القبائل العربية، وقد عرفنا بعد الإسلام ثلاثة من كبار الأمويين أصهروا إلى بني كلب في عصر واحد، وهم: سعيد بن العاص والي الكوفة، والخليفة عثمان بن عفان، ومعاوية بن أبي سفيان. ولا تكون هذه المصاهرات أول العهد بالصلة بين الفريقين، فهي بقية لما تقدمها من الصلات.

ومن المشهور أيضًا أن أبا سفيان كان على صلة بولاة الأمر من البيزنطيين، وكان يلقى هرقل وأمراء بيته في رحلاته، ويعول عليه هؤلاء فيما يعنيهم من أحوال العرب وأخبارهم، فقيل: إنهم سألوه عن النبي — عليه السلام — عند مبعثه، وإن السائل جعل يستنبئه عن صفاته — عليه السلام — على مسمع من قوم حجازيين في المجلس، ويحذره أن يكذب فيكذبه من سمع كلامه من قومه، قال أبو سفيان: وعلمت أنهم لا يكذبونني إن كذبت، ولكنني صدقت الصفة ضنًّا بمروءتي أن أقول ما يعلم السامعون أنه نبأ مكذوب …

قال المقريزي: «إنه ما فُتِحَتْ بالشام كورة إلا وجد فيها رجل من بني سعيد بن العاص ميتًا …»

وكان النبي — صلوات الله عليه — يتحرى في اختيار الولاة أن يندبهم للولاية حيث يتيسر لهم العمل بموافقة الرعية، فاختار عمرو بن سعيد بن العاص واليًا لتيماء وخيبر وتبوك وفدك، وكلها على طريق التجارة الأموية، وسار أبو بكر على هذه السُّنَّة، فاختار يزيد بن أبي سفيان قائدًا لجيش من جيوش الحملة على الشام، وولاه بعض أقاليمها بقية حياته، وكانت وفاته في عهد الفاروق، فجرى على هذه السنة وعهد بالولاية إلى أخيه معاوية حيث بقي إلى ما بعد خلافة الفاروق، وكان يعمل برئاسة أخيه قبل موته ويحمل اللواء بين يديه.

ومن بني أمية من كاد يصرح بالطمع في الملك بعد رسول الله على عهد الصديق؛ إذ كان من أبناء عمرو بن سعيد بن العاص خلف على الولاية التي ولاها إياه النبي — صلوات الله عليه، فلما بويع أبو بكر بالخلافة أنفوا أن يعملوا له، وقالوا: «نحن أبناء بني أحيحة لا نعمل لأحد بعد رسول الله أبدًا …»

ولا يقول هذا القول إلا من يطلب الرئاسة لنفسه، ولا يقر بالرئاسة لغير ذي نبوة أو رسالة إلهية، وينظر إلى الخلافة نظرة دنيوية لا تفاضل فيها بصفة من صفات الدين، وسابقة من سوابق الهداية.

وكان الفاروق قد ولى معاوية ولاية من الشام، فضم إليه عثمان سائر الشام وألحق به أقاليمها من الجزيرة إلى شواطئ بحر الروم، فلما قتل عثمان كان قد مضى لمعاوية في ولاية الشام عشرون سنة، لم يبقَ فيها من ينازعه أو يعصيه، ولم يكن من عمالها وحكامها المرءوسين له أحد من غير صنائعه وأشياعه والمستقرين في كنفه؛ لأنه حرص في ولايته على استبقاء من يواليه، وإقصاء من يشغب عليه، وجعل همه الأكبر أن يخرج أهل الفتنة من الشام، ولا يبالي بعد ذلك ما صنعوا في سائر الولايات، فتفرقوا كلهم بين الكوفة ومصر والحجاز.

كان عثمان يسمع الأقاويل عن ولاية الشام، ويتلقى الشكايات ممن يطلبون منه عزل ولاته وأولهم معاوية، فيعتذر لهؤلاء الشاكين بعذره المعهود، ويقول لهم: إنه إنما ولى على الشام من ارتضاه قبله عمر بن الخطاب … وقال ذلك مرة لعلي بن أبي طالب، فقال له علي: «نعم، ولكن معاوية كان أطوع لعمر من غلامه يرفأ.» وصدق الإمام فيما قال. فقد كان معاوية يصطنع الأبهة في إمارته، ويقتصد فيها جهده بعيدًا عن أعين الفاروق، فإذا لامه الفاروق على شيء منها رآه بعينه اعتذر له بمقامه بين أعداء ألفوا الأبهة، واتخذوها آية من آيات القوة والمنعة، وكان يؤدي حساب ولايته لعمر كلما سأله الحساب، ويقنع منها برزقه من بيت المال ألف دينار في العام، وأنفال1 مما يجمعه من تجارة أهله أو مما وراء الحساب.

فلما بويع عثمان بالخلافة تركه في مكانه، وضم إليه سائر الشام كما تقدم، وطلب منه معاوية أن يرخص له في زرع الأرض التي تركها أصحابها وهاجروا إلى بلاد الروم فأجابه إلى طلبه، ووضع معاوية يديه على موارد من المال تقوم بأعباء دولة، ولم يكن يخشى عليها من الحساب ما كان يخشاه على عهد عمر بن الخطاب، وأوشكت الشام أن تقوم وحدها مملكة مستقلة يتولاها ملك مستقل، فيما عدا الأوامر التي كانت تأتيه من المدينة بتحصين الثغور، وإمداد الغزاة، وتسيير الجيوش إلى الأطراف بقيادة الأعلام من الصحابة.

وقتل عثمان فانقسمت الرقعة الإسلامية قسمين: أحدهما لا خلاف فيه وهو الشام «حصة معاوية»، والآخر لا وفاق فيه وهو حصة علي من الحجاز والعراق، وقد تدخل مصر فيها حينًا، وتخرج منها أكثر الأحايين.

وتولى معاوية بلادًا لا ينازعه فيها منازع، ولا يود أحد فيها أن تخرج من يديه وتئول إلى غيره.

وتولى علي بلادًا كلها نزاع من أمر الخلافة إلى أصغر الأمور، فنازعه الخلافة طلحة والزبير، وأحاط به رهط من المتزمتين المتفقهين يسألونه عن الكبيرة والصغيرة، ويجتهدون اجتهادهم في كل شأن من شئون السياسة.

وهذا إلى الفارق بين وفرة المال من جانب وندرته من الجانب الآخر.

وهذا إلى فارق آخر أكبر وأعسر وأعضل على الحل والمحاولة، وهو الفارق بين الملك والخلافة، وقد افترقت طريقاهما منذ سنين، وتم افتراقهما بعد أيام عثمان.

فكانت أعباء الخلافة كلها على عليٍّ، وكانت أحوال الملك كلها على معاوية مواتية له محيطة به فيما يريد وفيما لا يريد. كان الناس مع علي ينظرون إلى سنة النبي، وسنة الصديق، والفاروق من بعده، وكان الناس مع معاوية ينظرون إلى هرقل وكسرى، ولا يسومونه2 أن يحكم كما حكم النبي، أو كما حكم من بعده الخليفتان الأولان …

وكان لا بد لعلي — كما قلنا في عبقرية الإمام — من ملك أو خلافة … ولن يكون ملكًا بأدوات خليفة، ولا خليفة بأدوات ملك، ولن تبلغ به الحيلة أن يحارب رجلًا يريد العصر والعصر يريده؛ لأنه عصر ملك تهيأت له دواعيه الاجتماعية، وتهيأ له الرجل بخلائقه ونياته ومعاونة أمثاله، ولم يكن معاوية زاهدًا في الخلافة على عهد أبي بكر أو عمر أو عثمان، ولكن الخلافة كانت زاهدة فيه، فلما جاء عصر الملك طلب الملك والملك يطلبه. وهذه حالة لم تطرأ دفعة واحدة في أيام النزاع بين علي ومعاوية، بل ظهرت بوادرها في أيام الصديق، وازدادت ظهورًا في أيام الفاروق، وحدث كما أجملنا ذلك في كتاب ذي النورين أن الصديق «اتخذ الحيطة للفتنة، واستبقى عنده كبار الصحابة؛ ليجمع بين معونتهم له في الرأي وبين تجنيبهم الفتنة ومآزق الولاية، وكان يتذمر من ترخص3 بعض الصحابة في أمور تؤذن بما بعدها، فقال لعبد الرحمن بن عوف وهو على سرير الموت: ما لقيت منكم أيها المهاجرون … رأيتم الدنيا قد أقبلت ولم تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وحتى يألم أحدكم بالاضطجاع على الصوف الأذربي،4 كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان.»5

وانقضى عهد الصديق ثم انقضى عهد الفاروق «والمجتمع الإسلامي مجتمعان: أحدهما ماضٍ ولما يمضِ بأجمعه، والآخر مقبل ولما يقبل بأجمعه، وأوشك عمر على قوته أن يحار في تدبيره، وقال الشعبي: إنه قضى وأوشكت قريش أن تمله لشدته ووقوفه لها، بحيث وقف حائلًا بينها وبين نزعاتها ومطامحها في دنياها الجديدة.»

 

وتتابعت السنون على أيام عثمان، وهذان المجتمعان يلجان في الافتراق حتى افترقا غاية افتراقهما في النزاع بين علي ومعاوية، فكان علي يكبح تيارًا جارفًا لا حيلة له في السير معه ولا في دفعه، وكان معاوية يركب ذلك التيار رخاء سخاء بغير مدافعة وغير حيرة، ويركبه معه من لا يدافعه ولا يحار فيه … وكأنما بقيت من التيسير هنا والتعسير هناك، فجاءت حصة علي حيث جاء الموالي6 من كل جنس يطلبون الحق الذي يطلبه كل مسلم ممن لا ينكر على أحد حقًّا من الحقوق، وخلت الحصة الأخرى من هؤلاء الموالي، وخلصت للعرب يوم كان العرب وحدهم قوام الدولة في دمشق بين القرشيين واليمانيين.

أحاط الموالي بالإمام حتى قال له بعض أنصاره من العرب: «لقد غلبتنا هذه الحمراء عليك»، وسار الإمام في العدل بينهم وبين العرب سيرة من يعلم أنه لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.

أما في الشام فقد كان معاوية لا يباليهم؛ لأنهم قلة هناك لا يحسب لها حساب، ومرضاة العرب أولى من مرضاة الموالي في دمشق حيث قامت الدولة الأموية، وحيث هان خطبهم بعد ذلك حتى قيل إنه هم بقتلهم والبطش بهم على غير عادته، وقال لهم غير مرة: إنكم عجم وعلوج!

وما كان من قبيل المصادفات أن الدولة الأموية قامت في دمشق، وأن الدولة التي قوضتها — وهي دولة بني العباس — قامت في بغداد، فإن دمشق ما كانت لتصلح مقامًا للدولة بعد اتساعها للعرب والفرس والترك والديلم، وموالي الأمم من كل قبيل.

وقد كانت العصبية العربية قوة للدولة الأموية في نشأتها، وكان اختلاط الموالي ضعفًا للدولة القائمة في الجزيرة؛ لأنهم أشتات متفرقون لم يكن منهم أحد يقبض على زمام من أزمَّتها …

ونجمت ناجمة الخوارج فلم تكن لها جرثومة في الشام ينجمون منها، ولكنهم أصبحوا شعبة جديدة من شعب الشقاق بين الموالي والشيعة من العرب، وأصحاب التزمت والزهد من أدعياء الاجتهاد، وأدعياء الحق في محاسبة ولي الأمر على ما شرعه الكتاب …

 

ثم قتل علي دون صاحبيه المقصودين بالقتل معه: معاوية وابن العاص؛ فانتفع معاوية بعمله في حياته كأنه أعفاه من جهاد منافسيه بالحجاز والعراق، وانتفع بعده بالشقاق بين الشيعة والخوارج والموالي والعرب في رقعة الجزيرة، فإذا هم يضرب بعضهم بعضًا، ويغلبهم جميعًا بأيديهم كلما تفرقوا وتقاتلوا، وما كان في وسعهم أن يتفقوا أو يكفوا عن القتال.

وإن القدرة التي خلصت بها الخلافة لمعاوية بين هذه الحوادث لتوزن بميزانها الصادق إذا شاء المؤرخ أن يخالف بين الكفتين … فماذا كان معاوية صانعًا لو أنه بويع بالخلافة في المدينة، ولم تكن له سابقة ولاية على الشام؟ وماذا كان صانعًا لو كان على الشام يومئذ منافس يسوسها على سنة الملك، ويرتكن فيها إلى قواعد راسخة من عهد الفاروق وقواعد راسخة من قبل الإسلام؟

ثم انفرد معاوية بالخلافة، ولزمته تبعة الدفاع عن الدولة في وجه أعدائها، فوضع المؤرخون في كفته هذه المأثرة غير مقدورة ولا محدودة، ولا منظور فيها إلى التمهيدات التي من قبيل ما قدمناه أو تربى عليها.

ولا شك أن رأس الدولة الأموية قد عمل على حمايتها، ولا بد له من العمل على هذه الحماية، ولسنا نعني هنا أنه حمى الدولة ليحمي ملكه ويحمي نفسه، فهذا قد يدخل في بيان النيات ولا يدخل في بيان القدرة التي أعانته على عمله، ولكننا نعني أننا لا نزن هذه القدرة بميزانها الصحيح إلا إذا عرفنا ما اضطلعت به، وكان لها يد فيه وعرفنا ما جرى في مجراه بحكم الحوادث، وليست فيه لها يد عاملة أو تدبير مقصود.

فالفتح الإسلامي قد ضعضع دولة الروم الشرقية وفت في أعضادها، وترك فيها رجال الدين والدنيا معًا يائسين من رجعة الشام إلى حوزتها، مؤمنين بتأييد الله للعرب الفاتحين عقابًا للرعاة والرعية على خطاياهم وخطاياها …

وقد سمع هرقل صيحة الوعاظ بهذا النكير بأذنيه في مؤتمر أنطاكية، وغادر سورية وهو يودعها ذلك الوداع الذي كاد الرواة أن يحفظوه بكلماته اللاتينية، كما يحفظون كلمات سليمان الحكيم عن باطل الأباطيل. فقبل أن يفارق الأرض السورية صاح كأنه ينشج بالبكاء: «الوداع يا سورية، الوداع الأخير» Vale Syria et ultimatum vale.

ورسخت هذه العقيدة في قلوب خلفائه، فلم تغن فيها وفرة العدة وكثرة الجند، وأسلحة البر والبحر التي كانوا يجمعونها، ولا تكاد تجتمع حتى تتفرق لأول صدمة أو تتفرق قبل اللقاء من أجل منام أو عيافة7 أوهام، وقد روى جيبون أن حفيد هرقل خنع للتسليم؛ لأنه رأى في المنام أنه في سالونيكا، وهي كلمة تجانسها كلمة باليونانية معناها: «أعط النصر لغيرك!»

وفي تاريخ ميخائيل السوري: «إن المنتقم الجبار أتى بأبناء إسماعيل من الصحراء؛ ليخرجوا الأمم من ربقة الروم.»

وقد روى ابن الأثير من حوادث سنة خمس وعشرين هجرية: «إن معاوية غزا الروم فبلغ عمورية، فوجد الحصون التي بين أنطاكية وطرطوس خالية، فجعل عندها جماعة كثيرة من أهل الشام والجزيرة.»

ولم ييأس العواهل الضعفاء من سورية وما جاورها من آسيا الصغرى، بل يئسوا من القسطنطينية نفسها وهموا مرات بنقل العاصمة منها إلى صقلية، وتركها العاهل قنستانز فعلًا (سنة ٦٦٨م)؛ ليقيم له عاصمة في صقلية، فأوشك أن يقيمها لولا أنه قتل في سرقسطة!

واقترنت بهزيمة الروم في سورية هزائم شتى وشواغل متفرقة أيأستهم من الغلبة على الدولة الإسلامية، ومن هذه الشواغل حرب الشعوب السلافية ومحالفتهم للمسلمين في بعض الوقائع بآسيا الصغرى، ومنها الشقاق بين الكنيستين الشرقية والغربية، ومنها انقسام الأسطول بين قيادتين إحداهما للعاصمة والأخرى للولايات المتفرقة.

وربما كان اسم الدولة الإسلامية في إبان الفتح حماية لها تقوم في ترويع خصومها مقام العدد والحصون، ولا أدل على ذلك من سلامة هذه الدولة في عهد معاوية الثاني الذي اعتزل الحكومة، ولزم داره كما جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي «أربعين يومًا، وقيل: شهرين، وقيل: ثلاثة أشهر …»

قال السيوطي: «ولم يخرج إلى الباب ولا فعل شيئًا من الأمور ولا صلى بالناس.» ولما خلع نفسه قال: «أيها الناس ضعفت عن أمركم فاختاروا من أحببتم، ثم احتضر وهو في نحو العشرين فسألوه أن يستخلف أخاه خالدًا، فقال: ما أصبت من حلاوتها فلِمَ أتحمل مرارتها؟»

ولم يتفق المسلمون على خليفة بعد معاوية الثاني حتى قام عبد الملك بن مروان بالأمر سنة ثلاث وسبعين … أي: بعد تسع سنين.

ودولة تسلم من بيزنطة تسع سنين وهي بغير خليفة متفق عليه لا يبلغ من خطر عدوها أن يحتاج الدفاع عنها إلى قدرة خارقة من ولي الأمر فيها، وقد سلمت من ذلك العدو سنين قبل ذلك بين مقتل عثمان ومقتل عليٍّ، ولم يكن بين المقتلين يوم سلام واستقرار من الحجاز إلى الجزيرة إلى الشام إلى مصر، وما يليها من إفريقية الإسلامية.

والثابت المعروف أن الدفاع عن الشام إنما استحصد،8 وتوطد قبل استقلال معاوية بولايتها في أيام عثمان، وأن الدفاع الأكبر عنها بعد ذلك إنما كان يتولاه من قبل الشرق ولاة الجزيرة، ومن قبل الغرب ولاة مصر وإفريقية، وعندهم الجند والسفن ولهم الصلة الدائمة بالحجاز يسألون الخليفة المدد، فيأمر من يشاء من الولاة أن يمدوهم به، ومنهم معاوية في الشام.

وهذه الفترة في تاريخ الدولة الإسلامية هي التي جعلت لها تلك المهابة التي أيأست بيزنطة من جدوى الهجوم عليها، وصرفتها إلى غير هذه الوجهة من حدودها، مع إدبار القوة وانقسام الأولياء والأعوان، وضياع الثقة بالنصر، بل باستحقاق النصر من الله.

 

وبعد …

فالمحصل من هذه الحوادث والتمهيدات أن المؤرخ الأمين مسئول أن يحضرها جميعًا في حسابه، وإلا كان كلامه عن «قدرة» معاوية كلامًا جزافًا9 لا يؤخذ به في تمييز أقدار الرجال وخصائص الطباع، ولا يفيدنا شيئًا في التعريف بالوسائل التي مهد بها معاوية لنجاحه، والوسائل التي تمهدت له قبل مولده، وقبل الإسلام.

وتتلخص قدرة معاوية في خلائق مشهورة مترادفة، أشهرها: الدهاء والحلم وعلو الهمة أو الطموح.

وهذه الخلائق هي موضوع البحث فيما يلي من الفصول قبل الكلام على نشأته، وعمله وموجز تاريخه وصفوة الرأي فيه.


  1. أنفال: جمع نفل، بفتحتين: الغنيمة والهبة.
  2. يسومونه: سام فلانًا الأمر كلفه إياه وألزمه.
  3. الترخص: التسهيل في الأمر، والتيسير خلاف التشديد.
  4. الأذربي: المنسوب إلى أذربيجان.
  5. السعدان: نبت له شوك تسمن عليه الإبل، والحسك: الشوك.
  6. الموالي: جمع مولى، وهو من أسلم من غير العرب.
  7. العيافة: زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها.
  8. استحصد: استحصد الزرع حان له أن يحصد، والحبل استحكم فتله.
  9. جزافًا: الجزاف بالضم، والقياس بالكسر: بيعك الشيء أو اشتراؤك إياه بلا وزن ولا كيل.