مستخدم:Obayd/مسودة أ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

الصارم المسلول على شاتم الرسول

ابن تيمية

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد وعلى إله وصحبه وسلم قال شيخنا وسيدنا الإمام العلامة القدوة الزاهد العابد الورع الكامل شيخ الإسلام مفتي الفرق ناصر السنة قامع البدعة سيد الفقهاء والحفاظ تقي الدين أبو العباس أحمد بن شيخنا الإمام العلامة مفتي المسلمين شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الإمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني جزاه الله عن نصر دينه ونصر سنة نبيه عليه السلام خيرا

الحمد لله الهادي النصير فنعم النصير ونعم الهاد الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويبين له سبل الرشاد كما هدى الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق وجمع لهم الهدى والسداد والذي ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد كما وعده في كتابه وهو الصادق الذي لايخلف الميعاد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تقيم وجه صاحبها للدين حنيفة وتبرئه من الإلحاد

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل المرسلين وأكرم العباد أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره أهل الشرك والعناد ورفع له ذكره فلا يذكره الا ذكر معه كما في الأذان والتشهد والخطب والمجامع والأعياد وكبت محاده وأهلك مشاقه وكفاه المستهزئين به ذوي الأحقاد وبتر شانئه ولعن مؤذيه في الدنيا والآخرة وجعل هوانه بالمرصاد واختصه على إخوانه المرسلين بخصائص تفوق التعداد فله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود ولواء الحمد الذي تحته كل حماد وعلى إله أفضل الصلوات وأعلاها وأكملها وانماها كما يحب سبحانه ان يصلى عليه وكما أمر وكما ينبغي ان يصلى على سيد البشر والسلام على النبي ورحمة الله وبركاته أفضل تحية وأحسنها واولاها وابركها واطيبها وازكاها صلاة وسلاما دائمين إلى يوم التناد باقيين بعد ذلك أبدا رزقا من الله ما له من نفاد اما بعد فان الله تعالى هدانا بنبيه محمد وأخرجنا به من الظلمات إلى النور واتانا ببركة رسالته ويمن سفارته خير الدنيا والآخرة وكان من ربه بالمنزلة العليا التي تقاصرت العقول والالسنة عن معرفتها ونعتها وصارت غايتها من ذلك بعد التناهي في العلم والبيان الرجوع إلى عيها وصمتها فاقتضاني لحادث حدث أدنى ماله من الحق علينا بله ما أوجب الله من تعزيزه ونصره بكل طريق وايثاره بالنفس والمال في كل موطن وحفظه وحمايته من كل موذ وان كان الله قد اغنى رسوله عن نصر الخلق ولكن ليبلوا بعضكم ببعض وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ليحق الجزاء على الاعمال كما سبق في أم الكتاب ان اذكر ما شرع من العقوبة لمن سب النبي من مسلم وكافر وتوابع ذلك ذكرا يتضمن الحكم والدليل ونقل ما حضرني في ذلك من الأقاويل وارداف القول بحظه من التعليل وبيان ما يجب أن يكون عليه التعويل فاما ما يقدره الله عليه من العقوبات فلا يكاد يأتي عليه التفصيل وانما المقصد هنا بيان الحكم الشرعي الذي يفتى به المفتي ويقضي به القاضي ويجب على كل واحد من الائمة والامة القيام بما أمكن منه والله هو الهادي إلى سواء السبيل وقد رتبته على أربع مسائل

المسالة الأولى في ان الساب يقتل سواء كان مسلما أو كافرا

المسالة الثانية انه يتعين قتله وان كان ذميا فلا يجوز المن عليه ولا مفاداته

المسالة الثالثة في حكمه إذا تاب

المسالة الرابعة في بيان السب وما ليس بسب والفرق بينه وبين الكفر

المسألة الأولى

Hن من سب النبي من مسلم أو كافر فانه يجب قتله

هذا مذهب عامة أهل العلم قال ابن المنذر اجمع عوام أهل العلم على أن حد من سب النبي القتل وممن قاله مالك والليث وأحمد وإسحاق وهو مذهب الشافعي قال وحكي عن النعمان لا يقتل يعني الذمي ما هم عليه من الشرك أعظم وقد حكى أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي إجماع المسلمين على أن حد من يسب النبي القتل كما ان حد من سب غيره الجلد وهذا الإجماع الذي حكاه هذا محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين أو انه أراد به إجماعهم على أن ساب النبي يجب قتله إذا كان مسلما وكذلك قيده القاضي عياض فقال اجمعت الامة على قتل متنقصه من المسلمين وسابه وكذلك حكي عن غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره وقال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الائمة الاعلام اجمع المسلمون على أن من سب الله أو سب رسوله أو دفع شيئا مما أنزل الله عز وجل أو قتل نبيا من أنبياء الله عز وجل انه كافر بذلك وان كان مقرا بكل ما انزل الله

وقال الخطابي لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله وقال محمد بن سحنون اجمع العلماء على أن شاتم النبي المتنقص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله له وحكمه عند الامة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر

وتحرير القول فيها ان الساب ان كان مسلما فانه يكفر ويقتل بغير خلاف وهو مذهب الائمة الأربعة وغيرهم وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك من الائمة مثل إسحاق بن راهوية وغيره وان كان ذميا فانه يقتل أيضا في مذهب مالك وأهل المدينة وسيأتي حكاية الفاظهم وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث وقد نص أحمد على ذلك في مواضع متعددة قال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول كل من شتم النبي أو تنقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل وارى ان يقتل ولا يستتاب قال وسمعت أبا عبد الله يقول كل من نقض العهد واحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل ليس على هذا اعطوه العهده والذمة وكذلك قال أبو الصقر سألت أبا عبدالله عن رجل من أهل الذمة شتم النبي ماذا عليه قال إذا قامت عليه البينة يقتل من شتم النبي مسلما كان أو كافرا رواهما الخلال

وقال في رواية عبد الله وابي طالب وقد سئل عمن شتم النبي قال يقتل قيل له فيه أحاديث قال نعم أحاديث منها حديث الأعمى الذي قتل المرأة قال سمعتها تشتم النبي وحديث حصين ان ابن عمر قال من شتم النبي قتل وعمر ابن عبد العزيز يقول يقتل وذلك انه من شتم النبي فهو مرتد عن الإسلام ولا يشتم مسلم النبي.

زاد عبد الله سألت أبي عمن شتم النبي يستتاب قال قد وجب عليه القتل ولا يستتاب خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي ولم يستتبه رواهما أبو بكر في الشافي وفي رواية أبي طالب سئل أحمد عمن شتم النبي قال يقتل قد نقض العهد وقال حرب سألت أحمد عن رجل من أهل الذمة شتم النبي قال يقتل إذا شتم النبي رواهما الخلال وقد نص على هذا في غير هذه الجوابات

فأقواله كلها نص في وجوب قتله وفي انه قد نقض العهد وليس عنه في هذا اختلاف

وكذلك ذكر عامة أصحابه متقدمهم ومتأخرهم لم يختلفوا في ذلك

إلا ان القاضي في المجرد ذكر الأشياء التي يجب على أهل الذمة تركها وفيها ضرر على المسلمين وآحداهم في نفس أو مال وهي الاعانة على قتال المسلمين وقتل المسلم أو المسلمة وقطع الطريق عليهم وان يؤوي للمشركين جاسوسا وان يعين عليهم بدلالة مثل ان يكاتب المشركين باخبار المسلمين وان يزني بمسلمة أو يصيبها باسم نكاح وان يفتن مسلما عن دينه قال فعليه الكف عن هذا شرط أو لم يشرط فان خالف انتقض عهده وذكر نصوص أحمد في بعضها مثل نصه في الزنى بالمسلمة وفي التجسس للمشركين وقتل المسلم وان كان عبدا كما ذكره الخرقي ثم ذكر نصه في قذف المسلم على انه لاينتقض عهده بل يحد حد القذف قال فتخرج المسألة على روايتين ثم قال وفي معنى هذه الأشياء ذكر الله وكتابه ودينه ورسوله بما لا ينبغي فهذه أربعة أشياء الحكم فيها كالحكم في الثمانية التي قبلها ليس ذكرها شرطا في صحة العقد فان اتوا واحدة منها نقضوا الأمان سواء كان مشروطا في العهد أو لم يكن وكذلك قال في الخلاف بعد ان ذكر أن المنصوص انتقاض العهد بهذه الأفعال والأقوال

قال وفيه رواية أخرى لاينتقض عهده الا بالامتناع من بذل الجزية وجرى أحكامنا عليهم

ثم ذكر نصه على أن الذمي إذا قذف المسلم يضرب قال فلم يجعله ناقضا للعهد بقذف المسلم مع ما فيه من الضرر عليه بهتك عرضه وتبع القاضي جماعة من أصحابه ومن بعدهم مثل الشريف أبي جعفر وابن عقيل وابن الخطاب والحلواني فذكروا انه لاخلاف انهم إذا امتنعوا من اداء الجزية أو التزام أحكام الملة انتقض عهدهم وذكروا في جميع هذه الأفعال والأقوال التي فيها ضرر على المسلمين واحادهم في نفس اومال أو فيها غضاضة على المسلمين في دينهم مثل سب الرسول وما معه روايتين إحداهما ينتقض العهد بذلك

والأخرى لا ينتقض عهده ويقام فيه حدود ذلك

مع انهم كلهم متفقون على أن المذهب انتقاض العهد بذلك ثم ان القاضي والأكثرين لم يعدوا قذف المسلم من الأمور المضرة الناقضة مع ان الرواية المخرجة إنما خرجت من نصه في القذف واما أبو الخطاب ومن تبعه فنقلوا حكم تلك الخصال إلى القذف كما نقلوا حكم القذف إليها حتى حكوا في انتقاض العهد بالقذف روايتين

ثم ان هؤلاء كلهم وسائر الأصحاب ذكروا مسألة سب النبي في موضع آخر وذكروا ان سابه يقتل وان كان ذميا وان عهده ينتقض وذكروا نصوص أحمد من غير خلاف في المذهب الا ان الحلواني قال ويحتمل ان لايقتل من سب الله ورسوله إذا كان ذميا وسلك القاضي أبو الحسين في نواقض العهد طريقة ثانية توافق قولهم هذا فقال أما الثمانية التي فيها ضرر على المسلمين واحادهم في مال أو في نفس فانها تنقض العهد في اصح الروايتين واما ما فيه ادخال غضاضة ونقص على الإسلام وهي ذكر الله وكتابه ودينه ورسوله بما لا ينبغي فانه ينقض العهد نص عليه ولم يخرج في هذا رواية أخرى كما ذكر أولئك في أحد الموضعين وهذا اقرب من تلك الطريقة وعلى الرواية التي تقول لا ينتقض العهد بذلك فانما ذلك إذا لم يكن مشروطا عليهم في العقد

فاما ان كان مشروطا ففيه وجهان

أحدهما ينتقض قاله الخرقي قال أبو الحسن الآمدي وهو الصحيح في كل ما شرط عليهم تركه صحح قول الخرقي بانتقاض العهد إذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم

والثاني لا ينتقض قاله القاضي وغيره صرح أبو الحسين بذلك هنا كما ذكره الجماعة فيما إذا أظهروا دينهم وخالفوا هيئتهم من غير اضرار كا ظهار الاصوات بكتابهم والتشبه بالمسلمين مع ان هذه الأشياء كلها يجب عليهم تركها سواء شرطت في العقد أو لم تشرط ومعنى اشتراطها في العقد اشتراط تركها بخصوصها

وهاتان الطريقتان ضعيفتان والذي عليه عامة المتقدمين من أصحابنا ومن تبعهم من المتأخرين إقرار نصوص أحمد على حالها وهو قد نص في مسائل سب الله ورسوله على انتقاض العهد في غير موضع وعلى انه يقتل وكذلك فيمن جسس على المسلمين أو زنى بمسلمة على انتقاض عهده وقتله في غير موضع وكذلك نقله الخرقي فيمن قتل مسلما وقطع الطريق أولى

وقد نص أحمد على أن قذف المسلم وسحره لا يكون نقضا للعهد في غير موضع وهذا هو الواجب لأن تخريج إحدى المسألتين إلى الأخرى وجعل المسالتين على روايتين مع وجود الفرق بينهما نصا واستدلالا اومع وجود معنى يجوز أن يكون مستندا للفرق غير جائز وهذا كذلك وكذلك قد وافقنا على انتقاض العهد بسب النبي جماعة لم يوافقوا على الانتقاض ببعض هذه الأمور

وأما الشافعي فالمنصوص عنه نفسه ان عهده ينتقض بسب النبي وانه يقتل هكذا حكاه ابن المنذر والخطابي وغيرهما والمنصوص عنه في الام انه قال إذا أراد الإمام ان يكتب كتاب صلح على الجزية كتب وذكر الشروط إلى ان قال وعلى أن أحدا منكم ان ذكر محمدا أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي ان يذكره به فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة أمير المؤمنين وجميع المسلمين ونقض ما اعطي من الأمان وحل لامير المؤمنين ماله ودمه كما تحل أموال أهل الحرب ودماؤهم وعلى أن أحدا من رجالهم ان أصاب مسلمة بزنى أو اسم نكاح أو قطع الطريق على مسلم أو فتن مسلما عن دينه أو اعان المحاربين على المسلمين بقتال أو دلالة على عورات المسلمين أو ايواء لعيونهم فقد نقض عهده واحل دمه وماله وان نال مسلما بما دون هذا في ماله أو عرضه لزمه فيه الحكم

ثم قال فهذه الشروط اللازمة ان رضي بها فان لم يرضها فلا عقد له ولا جزية

ثم قال وايهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا وكذلك إذا كان فعلا لم يقتل الا أن يكون في دين المسلمين ان من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا نقض عهد

وان فعل مما وصفنا وشرط انه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ولكنه قال أتوب واعطى الجزية كما كنت اعطيها أو على صلح اجدده عوقب ولم يقتل الا أن يكون فعل فعلا يوجب القصاص أو الحد فاما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول فيعاقب عليه ولا يقتل

قال فان فعل اوقال ما وصفنا وشرط انه يحل دمه فظفر به فامتنع من أن يقول أسلم أو اعطي الجزية قتل واخذ ماله فيئا

ونص في الام أيضا ان العهد لا ينتقض بقطع الطريق ولا بقتل المسلم ولا بالزنى بالمسلمة ولا بالتجسس بل يحد فيما فيه الحد ويعاقب عقوبة منكلة فيما فيه العقوبة ولا يقتل الا بان يجب عليه القتل

قال ولايكون النقض للعهد الا بمنع الجزية أو الحكم بعد الإقرار والامتناع بذلك قال ولو قال اودي الجزية ولا اقر بالحكم نبذ إليه ولم يقاتل على ذلك مكانه وقيل قد تقدم لك أمان فأمانك كان للجزية وإقرارك بها وقد اجللناك في ان تخرج من بلاد الإسلام ثم إذا خرج فبلغ مأمنه قتل ان قدر عليه

فعلى كلامه المأثور عنه يفرق بين ما فيه غضاضة على الإسلام وبين الضرر بالفعل أو يقال يقتل الذمي لبسه وان لم ينتقض عهده كما سيأتي إن شاء الله

وأما أصحابه فذكروا فيما إذا ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء وجهين

أحدهما ينتقض عهده بذلك سواء شرط عليه تركه أو لم يشرط بمنزلة ما لو قاتلوا المسلمين وامتنعوا من التزام الحكم كطريقة أبي الحسين من أصحابنا وهذه طريقة أبي إسحاق المرزوي ومنهم من خص سب رسول الله وحده بانه يوجب القتل

والثاني أن السب كالأفعال التي على المسلمين فيها ضرر من قتل المسلم والزنى بالمسلمة والجس وما ذكر معه وذكروا في تلك الأمور وجهين

أحدهما انه ان لم يشرط عليهم تركها باعيانها لم ينتقض العهد بفعلها وان شرط عليهم تركها باعيانها ففي انتقاض العهد بفعلها وجهان

والثاني لم ينتقض العهد بفعلها مطلقا

ومنهم من حكى هذه الوجوه أقوالا وهي أقوال مشار إليها فيجوز ان تسمى أقوالا ووجوها هذه طريقة العراقيين وقد صرحوا بان المراد شرط تركها لا شرط انتقاض العهد بفعلها كما ذكره أصحابنا

وأما الخراسانيون فقالوا المراد بالاشتراط هنا شرط انتقاض العهد بفعلها لا شرط تركها قالوا لأن الترك موجب نفس العقد ولذلك ذكروا في تلك الخصال المضرة ثلاثة اوجه

أحدها ينتقض العهد بفعلها

والثاني لاينتقض

والثالث ان شرط في العقد انتقاض العهد بفعلها انتقض والا فلا

ومنهم من قال إن شرط نقض وجها واحدا وان لم يشرط فوجهان وحسبوا ان مراد العراقيين بالاشتراط هذا فقالوا حكاية عنهم ان لم يجر شرط لم ينتقض العهد وان جرى فوجهان ويلزم من هذا أن يكون العراقيون قائلين بانه ان لم يجر شرط الانتقاض بهذه الأشياء لم ينتقض بها قولا واحدا وان صرح بشرط تركها وهذا غلط عليهم والذي نصروه في كتب الخلاف ان سب النبي ينقض العهد ويوجب القتل كما ذكرنا عن الشافعي نفسه

وأما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا لا ينتقض العهد بالسب ولايقتل الذمي بذلك لكن يعزر على إظهار ذلك كما يعزر على إظهار المنكرات التي ليس لهم فعلها من إظهار اصواتهم بكتابهم ونحو ذلك وحكاه الطحاوي عن الثوري ومن أصولهم أن ما لا قتل فيه عندهم مثل القتل بالمثقل والجماع في غير القبل إذا تكرر فللامام ان يقتل فاعله وكذلك له ان يزيد على الحد المقدر إذا رأى المصلحة في ذلك ويحملون ما جاء عن الرسول وأصحابه من القتل في مثل هذه الجرائم على انه رأي المصلحة في ذلك ويسمونه القتل سياسة وكان حاصله ان له ان يعزر بالقتل في الجرائم التي تغلظت بالتكرار وشرع القتل في جنسها

ولهذا افتى أكثرهم بقتل من أكثر من سب النبي من أهل الذمة وان أسلم بعد اخذه وقالوا يقتل سياسة وهذا متوجه على أصولهم

والدلالة على انتقاض عهد الذمي بسب الله أو كتابه أو دينه أو رسوله ووجوب قتله وقتل المسلم إذا أتى ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والاعتبار

أما الكتاب فيستنبط ذلك منه من مواضع

أحدها قوله تعالى " قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " إلى قوله تعالى " من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطلوا الجزية عن يد وهم صاغرون " فامرنا بقتالهم إلى ان يعطوا الجزية وهم صاغرون فلا يجوز الإمساك عن قتالهم الا إذا كانوا صاغرين حال اعطائهم الجزية ومعلوم ان اعطاء الجزية من حين بذلها والتزامها إلى حين تسليمها واقباضها فانهم إذا بذلوا الجزية شرعوا في الاعطاء ووجب الكف عنهم إلى ان يقبضوناها فيتم الاعطاء فمتى لم يلتزموها أو التزموها أولا وامتنعوا من تسليمها ثانيا لم يكونوا معطين للجزية لأن حقيقة الاعطاء لم توجد وإذا كان الصغار حالا لهم في جميع المدة فمن المعلوم ان من أظهر سب نبينا في وجوهنا وشتم ربنا على رؤوس الملا منا وطعن في ديننا في مجامعنا فليس بصاغر لأن الصاغر الذليل الحقير وهذا فعل متعزز مراغم بل هذا غاية ما يكون من الاذلال لنا والاهانة

قال أهل اللغة الصغار الذل والضيم يقال صغر الرجل بالكسر يصغر بالفتح صغرا وصغرا والصاغر الراضي بالضيم

ولايخفى على المتأمل ان إظهار السب والشتم لدين الامة الذي به اكتسب شرف الدنيا والآخرة ليس فعل راض بالذل والهوان وهذا ظاهر لا خفاء به

وإذا كان قتالهم واجبا علينا الا أن يكونوا صاغرين وليسوا بصاغرين كان القتال مأمورا به وكل من أمرنا بقتاله من الكفار فانه يقتل إذا قدرنا عليه

وأيضا فانا إذا كنا مأمورين ان نقاتلهم إلى هذه الغاية لم يجز ان نعقد لهم عهد الذمة بدونها ولو عقد لهم كان عقدا فاسدا فيبقون على الإباحة

ولا يقال فيهم فهم يحسبون انهم معاهدون فتصير لهم شهبة أمان وشهبة الإمام كحقيقة فان من تكلم بكلام يحسبه الكافر أمانا كان في حقه أمانا وإن لم يقصده المسلم لأنا نقول لا يخفى عليهم انا لم نرض بان يكونوا تحت أيدينا مع إظهار شتم ديننا وسب نبينا وهم يدرون انا لأنعاهد ذميا على مثل هذه الحال فدعواهم أنهم اعتقدوا انا عاهدناهم على مثل مع اشتراطنا عليهم أن يكونوا صاغرين تجري عليهم أحكام الملة دعوى كاذبة فلا يلتفت إليها

وأيضا فان الذين عاهدوهم أول مرة هم أصحاب رسول الله مثل عمر وقد علمنا انه يمتنع ان نعاهدهم عهدا خلاف ما أمر الله به في كتابه

وأيضا فانا سنذكر شروط عمر رضي الله عنه وانها تضمنت ان من أظهر الطعن في ديننا حل دمه وماله

الموضوع الثاني قوله تعالى " كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتهم عند المسجد الحرام " إلى قوله " وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا ائمة الكفر انهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون " نفى سبحانه أن يكون لمشرك عهد ممن كان النبي قد عاهدهم الا قوما ذكرهم فانه جعل لهم عهدا ما داموا مستقمين لنا فعلم ان العهد لايبقى للمشرك الا ما دام مستقيما ومعلوم أن مجاهرتنا بالشتيمة والوقيعة في ربنا ونبينا وديننا وكتابنا يقدح في الاستقامة كما تقدح مجاهرتنا بالمحاربة في العهد بل ذلك اشد علينا ان كنا مؤمنين فانه يجب علينا ان نبذل دماءنا وأموالنا حتى تكون كلمة الله هي العليا ولايجهر في ديارنا بشيء من اذى الله ورسوله فإذا لم يكونوا مستقمين لنا بالقدح في اهون الأمرين كيف يكونون مستقيمين مع القدح في أعظمهما

يوضح ذلك قوله تعالى " كيف وان يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم الا ولا ذمة " أي كيف يكون لهما ولو ظهروا عليكم لم يرقبوا الرحم التي بينكم ولا العهد الذي بينكم فعلم ان من كانت حاله انه إذا ظهر لم يرقب ما بيننا وبينه من العهد لم يكن له عهد من جاهرنا بالطعن في ديننا كان ذلك دليلا على انه لو ظهر لم يرقب العهد الذي بيننا وبينه فانه إذا كان مع وجود العهد والذلة يفعل هذا فكيف يكون مع العزة والقدرة وهذا بخلاف من لم يظهر لنا مثل هذا الكلام فانه يجوز ان يفي لنا بالعهد لو ظهر

وهذه الآية وان كانت في أهل الهدنة الذين يقيمون في دارهم فان معناها ثابت في أهل الذمة المقيمين في دارنا بطريق الأولى

الموضع الثالث قوله تعالى " ان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا ائمة الكفر " وهذه الآية تدل من وجوه

أحدها ان مجرد نكث الايمان مقتض للمقاتلة وانما ذكر الطعن في الدين وافرده بالذكر تخصيصا له بالذكر وبيانا لأنهم من أقوى الاسباب الموجبة للقتال ولهذا يغلظ على الطاعن في الدين من العقوبة ما لايغلظ على غيره من الناقضين كما سنذكره انشاء الله تعالى أو يكون ذكره على سبيل التوضيح وبيان سبب القتال فان الطعن في الدين هو الذي يجب أن يكون داعيا إلى قتالهم لتكون كلمة الله هي العليا واما مجرد نكث اليمين فقد يقاتل لاجله شجاعة وحمية ورياء ويكون ذكر الطعن الدين لأنه أوجب القتال في هذه الآية بقوله تعالى " فقاتلوا أئمة الكفر " وبقوله تعالى " ألا تقتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة " إلى قوله " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " الآية فيفيد ذلك ان من لم يصدر منه الا مجرد نكث اليمين جاز ان يؤمن ويعاهد واما من طعن في الدين فانه يتعين قتاله وهذه كانت سنة رسول الله فانه كان يندر دماء من اذى الله ورسوله وطعن في الدين وان امسك عن غيره وإذا كان نقض العهد وحده موجبا للقتال وان تجرد عن الطعن علم ان الطعن في الدين اما سبب آخر أو سبب مستلزم لنقض العهد فانه لا بد أن يكون له تاثير في وجوب المقاتله والا كان ذكره ضائعا

فإن قيل هذا يفيد ان من نكث عهده وطعن في الدين يجب قتاله اما من طعن في الدين فقط فلم تتعرض الآية له بل مفهومها انه وحده لا يوجب هذا الحكم لأن الحكم المعلق بصفتين لا يجب وجوده عند وجود أحدهما

قلنا لا ريب انه لا بد أن يكون لكل صفة تأثير في الحكم والا فالوصف العديم التاثير لا يجوز تعليق الحكم به كمن قال من زنى واكل جلد ثم قد تكون كل صفة مستقلة بالتاثير لو انفردت كما يقال يقتل هذا لأنه مرتد زان وقد يكون مجموع الجزاء مرتبا على المجموع ولكل وصف تاثير في البعض كما قال " والذين لايدعون مع الله إله آخر " الآية وقد تكون تلك الصفات متلازمة كل منها لو فرض تجرده لكان مؤثرا على سبيل الاستقلال أو الاشتراك فيذكر أيضاحا وبيانا للموجب كما يقال كفروا بالله وبرسوله وعصى الله ورسوله وقد يكون بعضها مستلزما للبعض من غير عكس كما قال " إن الذين يكفرون بايات الله ويقتلون النبيين بغير حق " الآية وهذه الآية من أي الاقسام فرضت كان فيها دلالة لأن اقصى ما يقال إن نقض العهد هو المبيح للقتال والطعن في الدين مؤكد له وموجب له فنقول إذا كان الطعن يغلظ قتال من ليس بيننا وبينه عهد ويوجبه فان يوجب القتال من بيننا وبينه ذمة وهو ملتزم للصغار أولى وسيأتي تقرير ذلك

على أن المعاهد له ان يظهر في داره ما شاء من أمر دينه الذي لا يؤذينا والذمي ليس له ان يظهر في دار الإسلام شيئا من دينه الباطل وان لم يؤذنا فحاله اشد وأهل مكة الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا معاهدين لا أهل ذمة فلو فرض ان مجرد طعنهم ليس نقضا للعهد لم يكن الذمي كذلك

الوجه الثاني ان الذمي إذا سب الرسول أو سب الله اوعاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه وطعن في ديننا لأنه لاخلاف بين المسلمين وانه يعاقب على ذلك ويؤدب عليه فعلم انه لم يعاهد عليه لأنا لو عاهدنه عليه ثم فعله لم تجز عقوبته عليه وإذا كنا قد عاهدناه على أن لا يطعن في ديننا ثم طعن في ديننا فقد نكث في يمينه ومن بعد عهده وطعن في ديننا فيجب قتله بنص الآية وهذه دلالة قوية حسنة لأن المنازع يسلم لنا انه ممنوع من ذلك بالعهد الذي بيننا وبينه لكن يقول ليس كل ما منع منه نقض عهده كإظهار الخمر والخنزير ونحو ذلك فنقول قد وجد منه شيئان فعل ما منع منه العهد وطعن في الدين بخلاف أولئك فانه لم يوجد منهم الا فعل ما هم ممنوعون منه بالعهد فقط والقران يوجب قتل من نكث يمينه من بعد عهده وطعن في الدين ولا يمكن ان يقال لم ينكث لأن النكث هو مخالفة العهد فمتى خالفوا شيئا مما صولحوا عليه فهو نكث ماخوذ من نكث الحبل وهو نقض قواه ونكث الحبل يحصل بنقض قوة واحدة كما يحصل بنقض جميع القوى ولكن قد يبقى من قواه ما يستمسك الحبل به وقد يهن بالكلية وهذه المخالفة من المعاهد قد تبطل العهد بالكلية حتى تجعله حربيا وقد شعث العهد حتى تبيح عقوبتهم كما ان نقض بعض الشروط في البيع والنكاح ونحوهما قد تبطل البيع بالكلية كما لو وصفه بانه فرس فظهر بعيرا وقد يبيح الفسخ كالاخلال بالرهن والضمين هذا عند من يفرق في المخالفة واما من قال ينتقض العهد بجميع المخالفات فالأمر ظاهر على قوله وعلى التقديرين قد اقتضى العقد أن لا يظهروا شيئا من عيب ديننا وانهم متى أظهروا فقد نكثوا وطعنوا في الدين فيدخلون في عموم الآية لفظا ومعنى ومثل هذا العموم يبلغ درجة النص

الوجه الثالث انه سماهم ائمة الكفر لطعنهم في الدين وأوقع الظاهر موقع المضمر لأن قوله " أئمة الكفر " إما أن يعني به الذين نكثوا وطعنوا أو بعضهم والثاني لا يجوز لأن الفعل الموجب للقتال صدر من جميعهم فلا يجوز تخصيص بعضهم بالجزاء إذا العلة يجب طردها الا لمانع ولا مانع ولانه علل ذلك ثانيا بأنهم لا ايمان لهم وذلك يشمل جميع الناكثين الطاعنين ولان النكث والطعن وصف مشتق مناسب لوجوب القتال وقد رتب عليه بحرف الفاء ترتيبب الجزاء على شرطه وذلك نص في ان ذلك الفعل هو الموجب للثاني فثبت انه عنى الجميع فيلزم ان الجميع ائمة كفر وامام الكفر هو الداعي إليه المتبع فيه وانما صار اماما في الكفر لأجل الطعن فان مجرد النكث لا يوجب ذللك وهو مناسب لأن الطاعن في الدين يعيبه ويذمه ويدعو إلى خلافه وهذا شأن الإمام فثبت ان كل طاعن في الدين فهو امام في الكفر فإذا طعن الذمي في الدين فهو امام في الكفر فيجب قتله لقوله تعالى " فقاتلوا أئمة الكفر " ولا يمين له لأنه عاهدنا على أن لايظهر عيب الدين هنا وخالف واليمين هنا المراد بها العهود لا القسم بالله فيما ذكره المفسرون وهو كذلك فان النبي لم يقاسمهم بالله عام الحديبية وانما عاقدهم عقدا ونسخة الكتاب معروفة ليس فيها قسم وهذا لأن اليمين يقال إنما سميت بذلك لأن المعاهدين يمد كل منهما يمينه إلى الآخر ثم غلبت حتى صار مجرد الكلام بالعهد يسمى يمينا ويقال سميت يمينا لأن اليمين هي القوة والشدة كما قال الله تعالى " لاخذنا منه باليمين " فلما كان الحلف معقودا مشددا سمي يمينا فاسم اليمين جامع للعقد الذي بين العبد وبين ربه وان كان نذرا ومنه قول النبي النذر حلفه وقوله كفارة النذر كفارة اليمين وقول جماعة من الصحابة للذي نذر نذر اللجاج والغضب كفر يمينك وللعهد الذي بين المخلوقين ومنه قوله تعالى " ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها " والنهي عن نقض العهود وان لم يكن فيها قسم وقال تعالى " ومن أوفى بما عاهد عليه الله " وانما لفظ العهد بايعناك على أن لأنفر ليس فيه قسم وقد سماهم معاهدين لله وقال تعالى " واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام " قالوا معناه يتعاهدون ويتعاقدون لأن كل واحد من المعاهدين إنما عاهده بأمانة الله وكفالته وشهادته فثبت ان كل من طعن في ديننا بعد ان عاهدناه عهدا يقتضي ان لايفعل ذلك فهو امام في الكفر لايمين له فيجب قتله بنص الآية وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الناكث الذي ليس بامام وهو من خالف بفعل شيء مما صولحوا عليه من غير الطعن في الدين

الوجه الرابع انه قال تعالى " الاتقاتلون قوما نكثوا ايمانهم وهموا باخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة " فجعل همهم باخراج الرسول من المحضضات على قتالهم وما ذاك الا لما فيه من الأذى وسبه اغلظ من الهم باخراجه بدليل انه عفا عام الفتح عن الذين هموا باخراجه ولم يعف عمن سبه فالذمي إذا أظهر سبه فقد نكث عهده وفعل ما هو أعظم من الهم باخراج الرسول وبدأ بالأذى فيجب قتاله

الوجه الخامس قوله تعالى " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم " أمر سبحانه بقتال الناكثين الطاعنين في الدين وضمن لنا ان فعلنا ذلك ان يعذبهم بايدينا ويخزيهم وينصرنا عليهم ويشف صدور المؤمنين الذين تأذوا من نقضهم وطعنهم وان يذهب غيظ قلوبهم لأنه رتب ذلك على قتالهم ترتيب الجزاء على الشرط والتقدير ان تقاتلوهم يكن هذا كله فدل على أن الناكث الطاعن مستحق هذا كله والا فالكفار يدالون علينا المرة وندال عليهم الأخرى وان كانت العاقبة للمتقين وهذا تصديق ما جاء في الحديث ما نقض قوم العهد الا أديل عليهم العدو والتعذيب بايدينا هو القتل فيكون الناكث الطاعن مستحقا للقتل والساب لرسول الله ناكث طاعن كما تقدم فيستحق القتل وانما ذكر سبحانه النصر عليهم وانه يتوب من بعد ذلك على من يشاء لأن الكلام في قتال الطائفة الممتنعة فاما الواحد المستحق للقتل فلا ينقسم حتى يقال فيه يعذبه الله ويتوب الله من بعد ذلك على من يشاء على أن قوله " من يشاء " يجوز أن يكون عائدا إلى من لم يطعن بنفسه وانما أقر الطاعن فسميت الفئة طاعنة لذلك وعند التمييز فبعضهم ردء وبعضهم مباشر ولا يلزم من التوبة على الردء التوبة على المباشر الا ترى ان النبي اهدر عام الفتح دم الذين باشروا الهجاء ولم يهدر دم الذين سمعوه واهدر دم بني بكر ولم يهدر دم الذين اعاروهم السلاح

السادس ان قوله تعالى " ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم " دليل على أن شفاء الصدور من ألم النكث والطعن وذهاب الغيظ الحاصل في صدور المؤمنين من ذلك أمر مقصود للشارع مطلوب الحصول وان ذلك يحصل إذا جاهدوا كما جاء في الحديث المرفوع عليكم بالجهاد فانه باب من ابواب الله يدفع الله به عن النفوس الهم والغم ولا ريب ان من أظهر سب الرسول من أهل الذمة وشتمه فانه يغيظ المؤمنين ويؤلمهم أكثر مما لو سفك دماء بعضهم واخذ أموالهم فان هذا يثيرالغضب لله والحمية له ولرسول وهذا القدر لايهيج في قلب المؤمن غيظا أعظم منه بل المؤمن المسدد لايغضب هذا الغضب الا لله والشارع يطلب شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم وهذا إنما يحصل بقتل الساب لأوجه

أحدها ان تعزيره وتأديبه يذهب غيظ قلوبهم إذا شتم واحدا من المسلمين أو فعل نحو ذلك فلو اذهب غيظ قلوبهم إذا شتم الرسول لكان غيظهم من شتمه مثل غيظهم من شتم واحد منهم وهذا باطل

الثاني ان شتمه أعظم عندهم من أن يؤخذ بعض دمائهم ثم لو قتل واحدا منهم لم يشف صدورهم الا قتله فان لا تشفى صدورهم الا بقتل الساب أولى واحرى

الثالث ان الله تعالى جعل قتالهم هو السبب في حصول الشفاء والاصل عدم سبب آخر يحصله فيجب أن يكون القتل والقتال هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا

الرابع ان النبي لما فتحت مكة وأراد ان يشفي صدور خزاعة وهم القوم المؤمنين من بني بكر الذين قاتلوهم مكنهم منهم نصف النهار أو أكثر مع أمانه لسائر الناس فلو كان شفاء صدورهم وذهاب غيظ قلوبهم يحصل بدون القتل للذين نكثوا وطعنوا لما فعل ذلك مع أمانه للناس

الموضوع الرابع قوله سبحانه " ألم يعلموا انه من يحادد الله ورسوله فان له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم " فانه يدل على أن اذى رسول الله محادة لله ولرسوله لأنه قال هذه الآية عقب قوله تعالى " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن " ثم قال " يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق ان يرضوه ان كانوا مؤمنين ألم يعلموا انه من يحادد الله ورسوله " فلو لم يكونوا بهذا الأذى محادين لم يحسن ان يوعدوا بان للمحاد نار جهنم لأنه يمكن حينئذ ان يقال قد علموا ان للمحاد نار جهنم لكنهم لم يحادوا وانما اذوا فلا يكون في الآية وعيد لهم فعلم ان هذا الفعل لا بد ان يندرج في عموم المحادة ليكون وعيد المحاد وعيدا له ويلتئم الكلام

ويدل على ذلك أيضا ما روى الحاكم في صحيحه بإسناد صحيح عن ابن عباس ان رسول الله كان في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين فقال انه سيأتيكم انسان ينظر اليكم بعين شيطان فإذا اتاكم فلا تكلموه فجاء رجل أزرق فدعاه رسول الله فقال علام تشتمني أنت وفلان وفلان فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا بالله واعتذروا إليه فانزل الله تعالى " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون انهم على شيء الا انهم هم الكاذبون " ثم قال بعد ذلك " ان الذين يحادون الله ورسوله " فعلم ان هذا داخل في المحادة

وفي رواية أخرى صحيحة انه نزل قوله " يحلفون لكم لترضوا عنهم " وقد قال " يحلفون بالله لكم ليرضوكم " ثم قال عقبه " ألم يعلموا انه من يحادد الله ورسوله " فثبت ان هؤلاء الشاتمين محادون وسيأتي إن شاء الله زيادة ذلك

وإذا كان الأذى محادة لله ورسوله فقد قال الله تعالى " إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الاذلين كتب الله لاغلبن انا ورسلي ان الله قوي عزيز " والاذل ابلغ من الذليل ولا يكون اذل حتى يخاف على نفسه وماله ان أظهر المحادة لأنه ان كان دمه وماله معصوما لايستباح فليس باذل يدل عليه قوله تعالى " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا الا بحبل من الله وحبل من الناس " فبين سبحانه انهم اينما ثقفوا فعليهم الذلة الا مع العهد فعلم ان من له عهد وحبل لا ذلة عليه وان كانت عليه المسكنة فان المسكنة قد تكون مع عدم الذلة وقد جعل المحادين في الاذلين فلا يكون لهم عهد إذ العهد ينافي الذلة كما دلت عليه الآية وهذا ظاهر فان الاذل هو الذي ليس له قوة يمتنع بها ممن ارداه بسوء فإذا كان له من المسلمين عهد يجب عليهم به نصره ومنعه فليس باذل فثبت ان المحاد لله ولرسوله لايكون له عهد يعصمه والمؤذي للنبي محاد فالمؤذي للنبي ليس له عهد يعصم دمه وهو المقصود

وأيضا فانه قد قال تعالى " ان الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم " والكبت الاذلال والخزي والصرع قال الخليل الكبت هو الصرع على الوجه وقال النضر بن شميل وابن قتيبة هو الغيظ والحزن وهو في الاشتقاق الاكبر من كبده كأن الغيظ والحزن أصاب كبده كما يقال احرق الحزن والعداوة كبده وقال أهل التفسير كبتوا أهلكوا واخزوا فثبت ان المحاد مكبوت مخزي ممتل غيظا وحزنا هالك وهذا إنما يتم إذا خاف ان أظهر المحادة ان يقتل والا فمن أمكنه إظهار المحادة وهو امن على دمه وماله فليس بمكبوت بل مسرور جذلان ولانه قال " كبتوا كما كبت الذين من قبلهم " والذين من قبلهم ممن حاد الرسل وحاد رسول الله إنما كبته الله بان أهلكه بعذاب من عنده أو بايدي المؤمنين والكبت وان كان يحصل منه نصيب لكل من لم ينل غرضه كما قال سبحانه " ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم " لكن قوله تعالى " كما كبت الذين من قبلهم " يعني محادي الرسل دليل على الهلاك أو كتم الأذى يبين ذلك ان المنافقين هم من المحادين فهم مكبوتون بموتهم بغيظهم لخوفهم انهم ان أظهروا ما في قلوبهم قتلوا فيجب أن يكون كل محاد كذلك

وأيضا فقوله تعالى " كتب الله لاغلبن انا ورسلي " عقب قوله " ان الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الاذلين " دليل على أن المحادة مغالبة ومعاداة حتى يكون أحد المتحادين غالبا والآخر مغلوبا وهذا إنما يكون بين أهل الحرب لا أهل السلم فعلم ان المحاد وليس بمسالم والغلبة للرسل بالحجة والقهر فمن أمر منهم بالحرب نصر على عدوه ومن لم يؤمر بالحرب أهلك عدوه وهذا أحسن من قول من قال إن الغلبة للمحارب بالنصر ولغير المحارب بالحجة فعلم ان هؤلاء المحادين محاربون مغلوبون

أيضا فان المحادة من المشاقة لأن المحادة من الحد والفصل والبينونة وكذلك المشاقة من الشق وهو بهذا المعنى فهما جميعا بمعنى المقاطعة والمفاصلة ولهذا يقال إنما سميت بذلك لأن كل واحد من المتحادين والمتشاقين في حد وشق من الآخر وذلك يقتضي انقطاع الحبل الذي بين أهل العهد إذا حاد بعضهم بعضا فلا حبل لمحاد لله ورسوله

وأيضا فانها إذا كانت بمعنى المشاقة فان الله سبحانه قال " فاضربوا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بانهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فان الله شديد العقاب " فامر بقتلهم لأجل مشاقتهم ومحادتهم فكل من حاد وشاق يجب ان يفعل به ذلك لوجود العلة

وأيضا فانه تعالى قال " ولولا ان كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بانهم شاقوا الله ورسوله " والتعذيب هنا والله أعلم القتل لأنهم قد عذبوا بما دون ذلك من الاجلاء واخذ الأموال فيجب تعذيب من شاق الله ورسوله ومن أظهر المحادة فقد شاق الله ورسوله بخلاف من كتمها فانه ليس بمحاد ولا مشاق

وهذه الطريقة أقوى في الدلالة يقال هو محاد وان لم يكن مشاقا ولهذا جعل جزاء المحاد مطلقا أن يكون مكبوتا كما كبت من قبله وان يكون في الاذلين وجعل جزاء المشاق القتل والتعذيب في الدنيا ولن يكون مكبوتا كما كبت من قبله في الاذلين الا إذا لم يمكنه إظهار محادته فعلى هذا تكون المحادة اعم ولهذا ذكر أهل التفسير في قوله تعالى " لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " الآية انها نزلت فيمن قتل من المسلمين اقاربه في الجهاد وفيمن أراد ان يقتل لمن تعرض لرسول الله بالأذى من كافر ومنافق قريب له فعلم ان المحاد يعم المشاق وغيره

ويدل على ذلك انه قال سبحانه " ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم " الآيات إلى قوله " لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " وانما نزلت في المنافقين الذين تولوا اليهود المغضوب عليهم وكان أولئك اليهود أهل عهد من النبي ثم ان الله سبحانه بين ان المؤمين لا يوادون من حاد الله ورسوله فلابد ان يدخل في ذلك عدم المودة لليهود وان كانوا أهل الذمة لأنه سبب النزول وذلك يقتضي ان أهل الكتاب محادون لله ورسوله وان كانوا معاهدين

ويدل على ذلك ان الله قطع الموالاة بين المسلم والكافر وان كان له عهد وذمة وعلى هذا التقدير فيقال عوهدوا على أن لا يظهروا المحادة ولا يعلنوا بها بالإجماع كما تقدم وكما سيأتي فإذا أظهروا صاروا محادين لا عهد لهم مظهرين للمحادة وهؤلاء مشاقون فيستحقون خزي الدنيا من القتل ونحوه وعذاب الآخرة

فإن قيل إذا كان كل يهودي محادا لله ورسوله فمن المعلوم ان العهد يثبت لهم مع التهود وذلك ينقض ما قدمتم من أن المحاد لا عهد له

قيل من سلك هذه الطريقة قال المحاد لا عهد له على إظهار المحادة فاما إذا لم يظهر لنا المحادة فقد اعطيناه العهد وقوله تعالى " ضربت عليهم الذلة اينما ثقفوا الا بحبل من الله وحبل من الناس " يقتضي ان الذلة تلزمه فلا تزول الا بحبل من الله وحبل من الناس وحبل المسلمين معه على أن لا يظهر المحادة بالاتفاق فليس معه حبل مطلق بل حبل مقيد فهذا الحبل لا يمنعه أن يكون اذل إذا فعل ما لم يعاهد عليه أو يقول صاحب هذا المسلك الذلة لازمة لهم بكل حال كما أطلقت في سورة البقرة وقوله " ضربت عليهم الذلة اينما ثقفوا الا بحبل من الله " يجوز أن يكون تفسيرا للذلة أي ضربت عليهم انهم اينما ثقفوا أخذوا وقتلوا الا بحبل من الله وحبل من الناس فالحبل لا يرفع الذلة وانما يرفع بعض موجباتها وهو القتل فان من كان لا يعصم دمه الا بعهد فهو ذليل وان عصم دمه بالعهد لكن على هذا التقدير تضعف الدلالة الأولى من المحادة والطريقة الأولى اجود كما تقدم وفي زيادة تقريرها طول

الموضع الخامس قوله سبحانه " ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة " وهذه توجب قتل من اذى الله ورسوله كما سيأتي إن شاء الله تقرير والعهد لا يعصم من ذلك لأنا لم نعاهدهم على أن يؤذوا الله ورسوله

ويوضح ذلك قول النبي من لكعب بن الأشرف فانه قد اذى الله ورسوله فندب المسلمين إلى يهودي كان معاهدا لأجل انه اذى الله ورسوله فدل ذلك على انه لايوصف كل ذمي بانه يؤذي الله ورسوله والا لم يكن فرق بينه وبين غيره ولا يصح ان يقال اليهود ملعونون في الدنيا والآخرة مع إقرارهم على ما يوجب ذلك لأنا لم نقرهم على إظهار اذى الله ورسوله وانما اقررناهم على أن يفعلوا بينهم ما هو من دينهم

فصل[عدل]

وأما الآيات الدالة على كفر الشاتم وقتله أو على أحدهما إذا لم يكن معاهدا وان كان مظهرا للإسلام فكثيرة مع ان هذا مجمع عليه كما تقدم حكاية الإجماع عن غير واحد

منها قوله تعالى " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن قل اذن خير لكم " إلى قوله " والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب اليم " إلى قوله " ألم يعلموا انه من يحادد الله ورسوله " فعلم ان ايذاء رسول الله محادة لله ولرسوله لأن ذكر الايذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة فيجب أن يكون داخلا فيه ولولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفا إذا أمكن ان يقال انه ليس بمحاد ودل ذلك على أن الايذاء والمحادة كفر لأنه أخبر ان له نار جهنم خالدا فيها ولم يقل هي جزاؤه وبين الكلامين فرق بل المحادة هي المعاداة والمشاقة وذلك كفر ومحاربة فهو اغلظ من مجرد الكفر فيكون المؤذي لرسول الله كافرا عدوا لله ورسوله محاربا لله ورسوله لأن المحادة اشتقاقها من المبيانة بان يصير كل واحد منهما في حد كما قيل المشاقة ان يصير كل منهما في شق والمعاداة ان يصير كل منهما في عدوة

وفي الحديث ان رجلا كان يسب النبي فقال من يكفيني عدوي وهذا ظاهر قد تقدم تقريره وحينئذ فيكون كافرا حلال الدم لقوله تعالى " ان الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الاذلين " ولو كان مؤمنا معصوما لم يكن اذل لقوله تعالى " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " وقوله " كبتوا كما كبت الذين من قبلهم " والمؤمن لا يكبت كما كبت مكذبوا الرسل قط ولانه قد قال تعالى " لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " الآية فإذا كان من يواد المحاد ليس بمؤمن فكيف بالمحاد نفسه وقد قيل إن من سبب نزولها ان أبا قحافة شتم النبي فأراد الصديق قتله وان ابن أبي تنقص النبي فاستأذن ابنه النبي في قتله لذلك فثبت ان المحاد كافر حلال الدم وأيضا فقد قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين المحادين لله ورسوله والمعادين لله ورسوله فقال تعالى " لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا اباءهم " الآية وقال " يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة " فعلم انهم ليسوا من المؤمنين

وأيضا فانه قال سبحانه " ولولا ان كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بانهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فان الله شديد العقاب " فجعل سبب استحقاقهم العذاب في الدنيا ولعذاب النار في الآخرة هو مشاقة الله ورسوله والمؤذي لرسول الله مشاق لله ورسوله كما تقدم والعذاب هنا هو الاهلاك بعذاب من عنده أو بايدينا والا فقد أصابهم ما دون ذلك من ذهاب الأموال وفراق الاوطان

وقال سبحانه " إذ يوحي ربك إلى الملائكة اني معكم " إلى قوله " سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بانهم شاقوا الله ورسوله " فجعل القاء الرعب في قلوبهم والأمر بقتلهم لأجل مشاقتهم لله ورسوله فكل من شاق الله ورسوله يستوجب ذلك

والمؤذي للنبي مشاق لله ورسوله كما تقدم فيستحق ذلك

وقولهم " هو اذن " قال مجاهد هو اذن يقولون سنقول ما شئنا ثم نحلف له فيصدقنا

وقال الوالبي عن ابن عباس يعني انه يسمع من كل أحد

قال بعض أهل التفسير كان رجال من المنافقين يؤذون رسول الله ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم لا تفعلوا فانا نخاف ان يبلغه ما تقولون فيقع بنا فقال الجلاس بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا فإنما محمد أذن سامعة فانزل الله هذه الآية

وقال ابن إسحاق كان نبتل بن الحارث الذي قال النبي فيه من أراد ان ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث ينم حديث النبي إلى المنافقين فقيل له لا تفعل فقال إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا عليه فانزل الله هذه الآية

وقولهم اذن قالوه ليبينوا ان كلامهم مقبول عنده فأخبرالله انه لا يصدق الا المؤمنين وانما يسمع الخبر فإذا حلفوا له فعفا عنهم كان ذلك لأنه اذن خير لا لأنه صدقهم قال سفيان ين عيينة اذن خير يقبل منكم ما أظهرتم من الخير ومن القول ولا يؤاخذكم بما في قلوبكم ويدع سرائركم إلى الله وربما تضمنت هذه الكلمة نوع استهزاء واستخفاف

فإن قيل فقد روى نعيم بن حماد ثنا محمد بن ثور عن يونس عن الحسن قال قال رسول الله اللهم لاتجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة فاني وجدت فيما اوحيته " لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " قال سفيان يرون انها انزلت فيمن يخالط السلطان رواه أبو أحمد العسكري وظاهر هذا ان كل فاسق لا تبتغي مودته فهو محاد لله ورسوله مع ان هؤلاء ليسوا منافقين النفاق المبيح للدم

قيل المؤمن الذي يحب الله ورسوله ليس على الاطلاق بمحاد لله ورسوله كما انه ليس على الاطلاق بكافر ولا منافق وان كانت له ذنوب كثيرة الا ترى ان النبي قال لنعيمان وقد جلد في الخمر غير مرة انه يحب الله ورسوله لأن مطلق المحادة يقتضي مطلق المقاطعة والمصارمة والمعاداة والمؤمن ليس كذلك لكن قد يقع اسم النفاق على من أتى بشعبة من شعبه ولهذا قالوا كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق

وقال النبي كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق ومن حلف بغير الله فقد أشرك وآية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد اخلف وإذا ائتمن خان

وقال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب النبي كلهم يخاف النفاق على نفسه

فوجه هذا الحديث أن يكون النبي عنى بالفاجر المنافق فلا ينقض الاستدلال أو يكون عنى كل فاجر لأن الفجور مظنة النفاق فما من فاجر الا يخاف أن يكون فجوره صادرا عن مرض في القلب أو موجب له فان المعاصي بريد الكفر فإذا أحب الفاسق فقد يكون محبا للمنافق فحقيقة الايمان بالله واليوم الآخر ان لايواد من أظهر من الأفعال ما يخاف معها أن يكون محادا لله ورسوله فلا ينقض الاستدلال أيضا أو ان تكون الكبائر من شعب المحادة لله ورسوله فيكون مرتكبها محادا من وجه وان كان موالايا لله ورسوله من وجه آخر ويناله من الذلة والكبت بقدر قسطه من المحادة كما قال الحسن وان طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين ان ذل المعصية لفي رقابهم أبا الله الا ان يذل من عصاه فالعاصي يناله من الذلة والكبت بحسب معصيته وان كان له من عزة الايمان بحسب ايمانه كما يناله من الذم والعقوبة وحقيقة الايمان ان لايواد المؤمن من حاد الله بوجه من وجوه المودة المطلقة وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من اساء إليها فاذ اصطنع الفاجر إليه يدا أحبه المحبة التي جبلت القلوب عليها فيسير موادا له مع ان حقيقة الايمان توجب عدم مودته من ذلك الوجه وان كان معه من أصل الايمان ما يستوجب به أصل المودة التي تستوجب ان يخص بها دون الكافر والمنافق وعلى هذا فلا ينقض الاستدلال أيضا لأن من اذى النبي فانه أظهر حقيقة المحادة وراسها الذي يوجب جميع أنواع المحادة فاستوجب الجزاء المطلق وهو جزاء الكافرين كما ان من أظهر حقيقة النفاق ورأسه استوجب ذلك وان لم يستوجبه من أظهر شعبة من شعبه والله سبحانه أعلم

الدليل الثاني على ذلك قوله سبحانه " يحذر المنافقون ان تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا ان الله مخرجا ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبا لله واياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بانهم كانوا مجرمين " وهذا نص في ان الاستهزاء بالله وباياته وبرسوله كفر فالسب المقصود بطريق الأولى وقد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله جادا أو هازلا فقد كفر

وقد روى عن رجال من أهل العلم منهم ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض انه قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء ارغب بطوننا ولا اكذب السنا ولا أجبن عن اللقاء يعني رسول الله وأصحابه القراء فقال له عوف بن مالك كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول فذهب عوف إلى رسول الله ليخبره فوجد القران قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته فقال يا رسول الله إنما كنا نلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق

قال ابن عمر كاني انظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله وان الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول إنما نخوض ونلعب فيقول له رسول الله " أبالله ورسوله كنتم تستهزئون " ما يلتفت إليه وما يزيد عليه وقال مجاهد قال رجل من المنافقين يحدثنا محمد ان ناقة فلان بوادي كذا وكذا وما يدريه ما الغيب فانزل الله عز وجل هذه الآية

وقال معمر عن قتادة بينا رسول الله في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا ايظن هذا ان يفتح قصور الروم وحصونها فاطلع الله نبيه على ما قالوا فقال النبي علي بهؤلاء النفر فدعا بهم فقال أقلتم كذا وكذا فحلفوا ما كنا الا نخوض ونلعب

قال معمر وقال الكلبي كان رجل منهم لم يمالهم في الحديث يسير مجانبا لهم فنزلت " ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة " فسمي طائفة وهو واحد

فهؤلاء لما تنقصوا النبي حيث عابوه والعلماء من أصحابه واستهانوا بخبره أخبر الله انهم كفروا بذلك وان قالوا استهزاء فكيف بما هو اغلظ من ذلك وانما لم يقم الحد عليهم لكون جهاد المنافقين لم يكن قد أمر به إذ ذاك بل كان مأمورا بان يدع اذاهم ولانه كان له ان يعفو عمن تنقصه واذاه

الدليل الثالث قوله سبحانه " ومنهم من يلمزك في الصدقات " واللمز العيب والطعن قال مجاهد يتهمك يسألك يزراك وقال عطاء يغتابك

وقال تعالى " ومنهم الذين يؤذون النبي " الآية وذلك يدل على أن كل من لمزه أو اذاه كان منهم لأن " الذين " و" من " اسمان موصولان وهما من صيغ العموم والآية وان كانت نزلت بسبب لمز قوم واذى اخرين فحكمها عام كسائر الآيات اللواتي نزلن على اسباب وليس بين الناس خلاف نعلمه انها تعم الشخص الذي نزلت بسببه ومن كان حاله كحاله ولكن إذا كان اللفظ اعم من ذلك السبب فقد قيل انه يقتصر على سببه والذي عليه جماهير الناس انه يجب الاخذ بعموم القول ما لم يقم دليل يوجب القصر على السبب كما هو مقرر في موضعه

وأيضا فان كونه منهم حكم معلق بلفظ مشتق من اللمز والأذى وهو مناسب لكونه منهم فيكون ما منه الاشتقاق هو علة لذلك الحكم فيجب اطراده

وأيضا فان الله سبحانه وان كان قد علم منهم النفاق قبل هذا القول لكن لم يعلم نبيه بكل من لم يظهر نفاقه بل قال " وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم " ثم انه سبحانه ابتلى الناس بأمور يميز بين المؤمنين والمنافقين كما قال تعالى " وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين " وقال تعالى " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " وذلك لأن الايمان والنفاق أصله في القلب وانما الذي يظهر من القول والفعل فرع له ودليل عليه فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه فلما أخبر سبحانه ان الذين يلمزون النبي والذين يؤذونه من المنافقين ثبت ان ذلك دليل على النفاق وفرع له ومعلوم انه إذا حصل فرع الشيء ودليله حصل أصله المدلول عليه فثبت انه حيثما وجد ذلك كان صاحبه منافقا سواء كان منافقا قبل هذا القول أو حدث له النفاق بهذا القول

فإن قيل لم لا يجوز أن يكون هذا القول دليلا للنبي على نفاق أولئك الاشخاص الذين قالوه في حياته بأعينهم وان لم يكن دليلا من غيرهم

قلنا إذا كان دليلا للنبي الذي يمكن ان يغنيه الله بوحيه عن الاستدلال فان يكون دليلا لمن لا يمكنه معرفة البواطن أولى واحرى

وأيضا فلو لم تكن الدلالة مطردة في حق كل من صدر منه ذلك القول لم يكن في الآية زجر لغيرهم ان يقول مثل هذا القول ولا كان في الآية تعظيم لذلك القول بعينه فان الدلالة على عين المنافق قد تكون مخصوصة بعينه وان كانت أمرا مباحا كما لو قيل من المنافقين صاحب الجمل الاحمر وصاحب الثوب الاسود ونحو ذلك فلما دل القران على ذم عين هذا القول والوعيد لصاحبه علم انه لم يقصد به الدلالة على المنافقين باعيانهم فقط بل هو دليل على نوع من المنافقين

وأيضا فان هذا القول مناسب للنفاق فان لمز النبي واذاه لايفعله من يعتقد انه رسول الله حقا وانه أولى به من نفسه وانه لا يقول الا الحق ولا يحكم الا بالعدل وان طاعته طاعة لله وانه يجب على جميع الخلق تعزيره وتوقيره وإذا كان دليلا على النفاق نفسه فحيثما حصل حصل النفاق

وأيضا فان هذا القول لاريب انه محرم فاما أن يكون خطيئة دون الكفر أو يكون كفرا والأول باطل لأن الله سبحانه قد ذكر في القران أنواع العصاة من الزاني والقاذف والسارق والمطفف والخائن ولم يجعل ذلك دليلاعلى نفاق معين ولا مطلق فلما جعل أصحاب هذه الأقوال من المنافقين علم ان ذلك لكونها كفرا لا لمجرد كونها معصية لأن تخصيص بعض المعاصي يجعلها دليلا على النفاق دون بعض لايكون حتى يختص دليل النفاق بما يوجب ذلك والا كان ترجيحا بلا مرجح فثبت انه لا بد ان يختص هذه الأقوال بوصف يوجب كونها دليلا على النفاق وكلما كان كذلك فهو كفر

وأيضا فان الله سبحانه لما ذكر بعض الأقوال التي جعلهم بها من المنافقين وهو قوله " ائذن لي ولا تفتني " قال في عقب ذلك " لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر " إلى قوله " إنما يستاذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون " فجعل ذلك علامة مطردة على عدم الايمان وعلى الريب مع انه رغبة عن الجهاد مع رسول الله بعد استنفاره وإظهار من القاعد انه معذور بالقعود وحاصله عدم إرادة الجهاد فلمزه واذاه أولى أن يكون دليلا مطردا لأن الأول خذلان له وهذا محاربة له وهذا ظاهر

وإذا ثبت ان كل من لمز النبي واذاه منهم فالضمير عائد على المنافقين والكافرين لأنه سبحانه لما قال " انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون " قال " لوكان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله " وهذا الضمير عائد إلى معلوم غير مذكور وهو الذين حلفوا " لو استطعنا للخرجنا معكم " وهؤلاء هم المنافقون بلا ريب ولا خلاف ثم اعاد الضمير إليهم إلى قوله " قل انفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم انكم كنتم قوما فاسقين وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتهم الا انهم كفروا بالله وبرسوله " فثبت ان هؤلاء الذين اضمروا كفروا بالله ورسوله وقد جعل منهم من يلمز ومنهم من يؤذي وكذلك قوله " وماهم منكم " اخراج لهم عن الايمان

وقد نطق القران بكفر المنافقين في غير موضع وجعلهم أسوأ حالا من الكافرين وانهم في الدرك الاسفل من النار وانهم يوم القيامة يقولون للذين آمنوا " انظرونا نقتبس من نوركم " الآية إلى قوله " فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا " وامر نبيه في آخر الأمر بان لايصلي علي أحد منهم وأخبر انه لن يغفر لهم وامره بجهادهم والاغلاظ عليهم وأخبر انهم ان لم ينتهوا ليغرين الله نبيه بهم حتى يقتلوا في كل موضع

الدليل الرابع على ذلك أيضا قوله سبحانه وتعالى " فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " اقسم سبحانه بنفسه انهم لا يؤمنون حتى يحكموه في الخصومات التي بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقا من حكمه بل يسلموا لحكمه ظاهرا وباطنا وقال قبل ذلك " ألم تر إلى الذين يزعمون انهم آمنوا بما انزل اليك وما انزل من قبلك يريدون ان يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا ان يكفروا به ويريد الشيطان ان يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما انزل الله والى الرسول رايت المنافقين يصدون عنك صدودا " فبين سبحانه ان من دعي إلى التحاكم إلى كتاب الله والى رسوله فصد عن رسوله كان منافقا وقال سبحانه " ويقولون امنا بالله وبالرسول واطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وان يكن لهم الحق ياتوا إليه مذعنين افي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون ان يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ان يقولوا سمعنا واطعنا " فبين سبحانه ان من تولى عن طاعة الرسول واعرض عن حكمه فهو من المنافقين وليس بمؤمن وان المؤمن هو الذي يقول سمعنا واطعنا فإذا كان النفاق يثبت ويزول الايمان بمجرد الاعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره مع ان هذا ترك محض وقد يكون سببه قوة الشهوة فكيف بالتنقص والسب ونحوه

ويؤيد ذلك ما رواه أبو إسحاق ابراهيم بن عبد الرحمن بن ابراهيم بن دحيم في تفسيره حدثنا شعيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة حدثنا عتبة بن ضمرة حدثني أبي ان رجلين اختصما إلى النبي فقضى للمحق على المبطل فقال المقضي عليه لا ارضى فقال صاحبه فما تريد قال إن نذهب إلى أبي بكر الصديق فذهبا إليه فقال الذي قضي له قد تخاصمنا إلى النبي فقضى لي عليه فقال أبو بكر فانتما على ما قضى به النبي فابى صاحبه ان يرضى قال ناتي عمر بن الخطاب فاتياه فقال المقضي له قد اختصمنا إلى النبي فقضى لي عليه فابى ان يرضى ثم اتينا أبا بكر الصديق فقال أنتما على ما قضى به النبي فابى ان يرضى فساله عمر فقال كذلك فدخل عمر منزله فخرج والسيف بيده قد سله فضرب به رأس الذي ابى ان يرضى فقتله فانزل الله تبارك وتعالى " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " الآية

وهذا المرسل له شاهد من وجه آخر يصلح للاعتبار قال ابن دحيم حدثنا الجوزجاني حدثنا أبو الاسود حدثنا ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة بن الزبير قال اختصم إلى رسول الله رجلان فقضى لاحداهما فقال الذي قضى عليه ردنا إلى عمر فقال رسول الله نعم انطلقوا إلى عمر فانطلقا فلما اتيا عمر قال الذي قضي له يا ابن الخطاب ان رسول الله قضى لي وان هذا قال ردنا إلى عمر فردنا اليك رسول الله فقال عمر اكذلك للذي قضي عليه قال نعم فقال عمر مكانك حتى أخرج فاقضي بينكما فخرج مشتملا على سيفه فضرب الذي قال ردنا إلى عمر فقتله وادبر الآخر إلى رسول الله فقال يا رسول الله قتل عمر صاحبي ولولا ما اعجزته لقتلني فقال رسول الله ما كنت اظن أن عمر يجتري على قتل مؤمن فانزل الله تعالى " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " فبرا الله عمر من قتله

وقد رويت هذه القصة من غير هذين الوجهين قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل ما اكتب حديث ابن لهيعة الا للاعتبار والاستدلال وقد اكتب حديث هذا الرجل على هذا المعنى كاني استدل به مع غيره يشده لا انه حجة إذا انفرد

الدليل الخامس ما استدل به العلماء على ذلك قوله سبحانه " ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة واعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا " الآية ودلالتها من وجوه

أحدها انه قرن اذاه باذاه كما قرن طاعته بطاعته فمن اذاه فقد إذا الله تعالى وقد جاء ذلك منصوصا عنه ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم يبين ذلك ان الله تعالى جعل محبة الله ورسوله وارضاء الله ورسوله وطاعة الله ورسوله شيئا واحدا فقال تعالى " قل ان كان اباؤكم وابناؤكم واخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب اليكم من الله ورسوله " وقال " واطيعوا الله والرسول " في مواضع متعددة وقال أيضا والله ورسوله أحق أن يرضوه فوحد الضمير وقال أيضا " ان الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " وقال أيضا " يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول "

وجعل شقاق الله ورسوله ومحادة الله ورسوله واذى الله ورسوله ومعصية الله ورسوله شيئا واحدا فقال " ذلك بانهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله " وقال " ان الذين يحادون الله ورسوله " وقال تعالى " ألم يعلموا انه من يحادد الله ورسوله " وقال " ومن يعص الله ورسوله " الآية

وفي هذا وغيره بيان لتلازم الحقين وان جهة حرمه الله ورسوله جهة واحدة فمن اذى الرسول فقد اذى الله ومن اطاعه فقد اطاع الله لأن الامة لا يصلون ما بينهم وبين ربهم الا بواسطة الرسول ليس لاحد منهم طريق غيره ولا سبب سواه وقد أقامه الله مقام نفسه في أمره ونهيه واخباره وبيانه فلا يجوز ان يفرق بين الله ورسوله في شئ من هذه الأمور

ثانيها انه فرق بين اذى الله ورسوله وبين اذى المؤمنين والمؤمنات فجعل هذا قد احتمل بهتانا واثما مبينا وجعل على ذلك لعنته في الدنيا والآخرة واعد له العذاب المهين ومعلوم ان اذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم وفيه الجلد وليس فوق ذلك الا الكفر والقتل

الثالث انه ذكر انه لعنهم في الدنيا والآخرة واعد لهم عذابا مهينا واللعن الابعاد عن الرحمة ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون الا كافرا فان المؤمن يقرب إليها بعض الاوقات ولا يكون مباح الدم لأن حقن الدم رحمة عظيمة من الله فلا يثبت في حقه

ويؤيد ذلك قوله " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها الا قليلا ملعونين اينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا " فان اخذهم وتقتيلهم والله أعلم بيان لصفة لعنهم وذكر لحكمة فلا موضع له من الاعراب وليس بحال ثانية لأنهم إذا جاوروه ملعونين ولم يظهر اثر لعنهم في الدنيا لم يكن في ذلك وعيد لهم

بل تلك اللعنة ثابته قبل هذا الوعيد وبعده فلابد أن يكون هذا الاخذ والتقتيل من اثار اللعنة التي وعدوها فثبت في حق من لعنه الله في الدنيا والآخرة

ويؤيده قول النبي لعن المؤمن كقتله متفق عليه فإذا كان الله لعن هذا في الدنيا والآخرة فهو كقتله فعلم ان قتله مباح

قيل واللعن إنما يستوجبه من هو كافر لكن ليس هذا جيدا على الاطلاق

ويؤيده أيضا قوله تعالى " ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا " ولو كان معصوم الدم يجب على المسلمين نصره لكان له نصير

ويوضح ذلك انه قد نزل في شان ابن الأشرف وكان من لعنته ان قتل لأنه كان يؤذي الله ورسوله

واعلم انه لايرد على هذا انه قد لعن من لا يجوز قتله لوجوه

أحدها ان هذا قيل فيه لعنه الله في الدنيا والآخرة فبين انه سبحانه اقصاه عن رحمته في الدارين وسائر الملعونين إنما قيل فيهم لعنه الله أو عليه لعنة الله وذلك يحصل باقصائه عن الرحمة في وقت من الاوقات وفرق بين من لعنه الله لعنة مؤبدة عامة ومن لعنه لعنا مطلقا الثاني ان سائر الذين لعنهم الله في كتابه مثل الذين يكتمون ما انزل الله من الكتاب ومثل الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ومثل من يقتل مؤمنا متعمدا اما كافر أو مباح الدم بخلاف بعض من لعن في السنة

الثالث ان هذه الصيغة خبر عن لعنة الله له ولهذا عطف عليه " واعد لهم عذابا مهينا " وعامة الملعونين الذين لايقتلون أو لا يكفرون إنما لعنوا بصيغة الدعاء مثل قوله لعن الله من غير منار الأرض ولعن الله السارق ولعن الله اكل الربا وموكله ونحو ذلك

لكن الذي يرد على هذا قوله تعالى " ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم " فان في هذه الآية ذكر لعنتهم في الدنيا والآخرة مع ان مجرد القذف ليس بكفر ولا يبيح الدم

والجواب عن هذه الآية من طريقين مجمل ومفصل

أما المجمل فهو ان قذف المؤمن القذف المجرد هو نوع من اذاه وإذا كان كاذبا فهو بهتان عظيم كما قال سبحانه " ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا ان نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " والقران قد نص على الفرق بين اذى الله ورسوله وبين اذى المؤمنين فقال تعالى " ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة واعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا " فلا يجوز أن يكون مجرد اذى المؤمنين بغير حق موجبا للعنة الله في الدنيا والآخرة وللعذاب المهين إذ لو كان كذلك لم يفرق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين ولم يخصص مؤذي الله ورسوله باللعنة المذكورة ويجعل جزاء مؤذي المؤمنين انه احتمل بهتانا واثما مبينا كما قال في موضع آخر " ومن يكسب خطيئة أو اثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا واثما مبينا " كيف والعليم الحكيم إذا توعد على الخطيئة زاجرا عنها فلابد ان يذكر اقصى ما يخاف على صاحبها فإذا ذكر خطيئتين إحداهما اكبر من الأخرى متوعدا عليهما زاجرا عنهما ثم ذكر في إحداهما جزاء وذكر الأخرى ما هو دون ذلك ثم ذكر هذه الخطيئه في موضع آخر متوعدا عليها بالعذاب الأدنى بعينه علم ان جزاء الكبرى لايستوجب بتلك التي هي أدنى منها فهذا دليل يبين لك ان لعنة الله في الدنيا والآخرة واعداده العذاب المهين لا يستوجب بمجرد القذف الذي ليس فيه اذى لله ورسوله وهذا كاف في اطراد الدلالة وسلامتها عن النقض واما الجواب المفصل فمن ثلاثة اوجه إحداها ان هذه الآية في أزواج النبي خاصة في قول كثير من أهل العلم فروى هشيم عن العوام بن حوشب ثنا شيخ من بني كاهل قال فسر ابن عباس سورة النور فلما أتى على هذه الآية " ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات " إلى آخر الآية قال هذه في شان عائشة وأزواج النبي خاصة وهي مبهمة ليس فيها توبة ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرا " والذين يرمون المحصنات ثم لم ياتوا بأربعة شهداء " إلى قوله " الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا " فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لاولئك توبة قال فهم رجل ان يقوم فيقبل راسه من حسن ما فسر

وقال أبو سعيد الاشج ثنا عبد الله بن خراش عن العوام عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما " ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات " نزلت في عائشه رضى الله عنها خاصة واللعنة في المنافقين عامة فقد بين ابن عباس ان هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين لما في قذفهن من الطعن على رسول وعيبه فان قذف المراة اذى للزوجها كما هو اذى لابنها لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه فان زنى أمرأته يؤذي أذى عظيما ولهذا جوز له الشارع ان يقذفها إذا زنت ودرا الحد عنه باللعان ولم يبح لغيره ان يقذف أمراه بحال

ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي بقذف أهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف ولهذا ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين المنصوصتين عنه إلى ان من قذف أمرأه غير محصنة كالامة والذمية ولها زوج أو ولد محصن حد لقذفها لما الحقه من العار بولدها وزوجها المحصنين

والرواية الأخرى عنه ووهي قول الأكثرين انه لا حد عليه لأنه اذى لهما لا قذف لهما والحد التام إنما يجب بالقذف وفي جانب النبي اذاه كقذفه ومن يقصد عيب النبي بعيب أزواجه فهو منافق وهذا معنى قول ابن عباس اللعنة في المنافقين عامة وقد وافق ابن عباس على هذا جماعة فروى الإمام أحمد والاشج عن خصيف قال سالت سعيد بن جبير فقال الزنى اشد أو قذف المحصنة قال لا بل الزنى قال قلت فان الله تعالى يقول " ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة " فقال إنما كان هذا في عائشة خاصة وروى أحمد بإسناده عن أبي الجوزاء في هذه الآية " ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة " قال هذه لأمهات المؤمنين خاصة وروى الاشج بإسنادة عن الضحاك في هذه الآية قال هن نساء النبي وقال معمر عن الكلبي إنما عني بهذه الآية أزواج النبي فاما من رمى امرأة من المسلمين فهو فاسق كما قال الله تعالى أو يتوب ووجه هذا ما تقدم من أن لعنة الله في الدنيا والآخرة لاتستوجب بمجرد القذف فتكون اللام في قوله " المحصنات الغافلات المؤمنات " للتعريف المعهود هنا أزواج النبي لأن الكلام في قصة الافك ووقوع من وقع في أم المؤمنين عائشة أو يقصر اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك ويؤيد هذا القول إن الله سبحانه رتب هذا الوعيد على قذف محصنات غافلات مؤمنات وقال في أول السورة " والذين يرمون المحصنات ثم لم ياتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " الآية فرتب الجلد ورد الشهادة والفسق على مجرد قذف المحصنات فلابد ان تكون المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات وذلك والله أعلم لأن أزواج النبي مشهود لهن بالايمان لأنهن أمهات المؤمنين وهن أزواج نبيه في الدنيا والآخرة وعوام المسلمات إنما يعلم منهن في الغالب ظاهر الايمان ولان الله سبحانه قال في قصة عائشة " واللذين تولى كبره منهم له عذاب عظيم " فتخصيصه بتولي كبره دون غيره دليل على اختصاصه بالعذاب العظيم وقال ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما افضتم فيه عذاب عظيم " فعلم ان العذاب العظيم لايمس كل من قذف وانما يمس متولي كبره فقط وقال هنا " ولهم عذاب عظيم " فعلم انه الذي رمى أمهات المؤمنين يعيب بذلك رسول الله وتولى كبر الافك وهذه صفة المنافق ابن أبي

واعلم انه على هذا القول تكون هذه الآية حجة أيضا موافقة لتلك الآية لأنه لما كان رمي أمهات المؤمنين اذى للنبي لعن صاحبه في الدنيا والآخرة ولهذا قال ابن عباس ليس فيها توبة لأن مؤذي النبي لا تقبل توبته أو يريد إذا تاب من القذف حتى يسلم إسلاما جديدا وعلى هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به اذى النبي أو اوذين بعد العلم بانهن أزواجه في الآخرة فانه ما بغت امرأة نبي قط

ومما يدل على أن قذفهن اذى للنبي ما خرجاه في الصحيحين في حديث الافك عن عائشة قالت فقام رسول الله فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول قالت فقال رسول وهو على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني اذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي الا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه الا خير وما كان يدخل على أهلي الا معي فقام سعد بن معاذ الانصاري فقال انا اعذرك منه يا رسول الله ان كان من الاوس ضربنا عنقه وان كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين قالت فثار الحيان الاوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله قائم على المنبر فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا وسكت وفي رواية أخرى صحيحة قالت لما ذكر من شاني الذي ذكر وما علمت به قام رسول الله في خطيبا وما علمت به فتشهد فحمد الله واثنى عليه بما هو أهله ثم قال اما بعد اشيروا علي في اناس ابنوا أهلي وايم الله ما علمت على أهلي سوءا قط وابنوهم بمن والله ما علمت عليه من سوء قط ولا دخل بيتي قط الا وانا حاضر ولا كنت في سفر الا غاب معي فقام سعد بن معاذ فقال يا رسول الله مرني ان تضرب اعناقهم

فقوله من يعذرني أي من ينصفني ويقيم عذري إذا أنتصفت منه لما بلغني من اذاه في أهل بيتي وابنه لهم فثبت انه قد تاذى بذلك تاذيا استعذر منه وقال المؤمنون الذين لم تاخذهم حمية مرنا نضرب اعناقهم فانا نعذرك إذا أمرتنا بضرب اعناقهم ولم ينكر النبي على سعد استئماره في ضرب اعناقهم وقوله انك معذور إذا فعلت ذلك

يبقى ان يقال فقد كان من أهل الافك مسطح وحسان وحمنه ولم يرموا بنفاق ولم يقتل النبي أحدا بذلك السبب بل قد اختلف في جلدهم

وجوابه ان هؤلاء لم يقصدوا اذى النبي ولم يظهر منهم دليل على اذاه بخلاف ابن أبي الذي إنما كان قصده أذاه ولم يكن إذ ذاك قد ثبت عندهم ان أزواجه في الدنيا هن أزواجا له في الآخرة وكان وقوع ذلك من أزواجه ممكنا في العقل ولذلك توقف النبي في القصة حتى استشار علي وزيدا وحتى سال بريرة فلم يحكم بنفاق من لم يقصد اذى النبي لامكان ان يطلق المراة المقذوفة فاما بعد ان ثبت انهن أزواجه في الآخرة وانهن أمهات المؤمنين فقذفهن اذى له بكل حال ولا يجوز مع ذلك ان يقع منهن فاحشه لأن في ذلك جواز ان يقيم الرسول مع امرأة بغي وان تكون أم المؤمنين موسومه بذلك وهذا باطل ولهذا قال سبحانه " يعظكم الله وان تعودوا لمثله أبدا ان كنتم مؤمنين " وسنذكر إن شاء الله تعالى في آخر الكتاب كلام الفقهاء فيمن قذف نساءه وانه معدود من اذاه

الوجه الثاني ان الآية عامة قال الضحاك قوله تعالى " ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات " يعني به أزواج النبي خاصة ويقول أخرون يعني أزواج المؤمنين عامة وقال أبو سلمه بن عبد الرحمن قذف المحصنات من الموجبات ثم قرا " ان الذين يرمون المحصنات " الآية وعن عمرو بن قيس قال قذف المحصنة يحبط عمل تسعين سنة رواهما الاشج وهذا قول كثير من الناس ووجهه ظاهر الخطاب فانه عام فيجب اجراءه على عمومه إذ لا موجب لخصوصه وليس هو مختصا بنفس السبب بالاتفاق لأن حكم غير عائشه من أزواج النبي داخل في العموم وليس هو من السبب ولانه لفظ جمع والسبب في واحدة ولان قصر عمومات القران على اسباب نزولها باطل فان عامة الآيات نزلت باسباب اقتضت ذلك وقد علم ان شيئا منها لم يقصر على سببه والفرق بين الايتين انه في أول السورة ذكر العقوبات المشروعة على أيدي المكلفين من الجلد ورد الشهادة والتفسيق وهنا ذكر العقوبة الواقعة من الله سبحانه وهي اللعنة في الدارين والعذاب العظيم

وقد روي عن النبي من غير وجهه وعن أصحابه ان قذف المحصنات من الكبائر وفي لفظ في الصحيح قذف المحصنات الغافلات المؤمنات وكان بعضهم يتاول على ذلك قوله " ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات " ثم اختلف هؤلاء

فقال أبو حمزة الثمالي بلغنا انها نزلت في مشركي أهل مكة إذ كان بينهم وبين رسول الله عهد فكانت المراة إذا خرجت إلى رسول الله إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا إنما خرجت تفجر فعلى هذا تكون فيمن قذف المؤمنات قذفا يصدهن به عن الايمان ويقصد بذلك ذم المؤمنين لينفر الناس عن الإسلام كما فعل كعب ابن الأشرف

وعلى هذا فمن فعل ذلك فهو كافر وهو بمنزلة من سب النبي وقوله انها نزلت زمن العهد يعني والله أعلم انه عني بها مثل أولئك المشركين المعاهدين والا فهذه الآية نزلت ليالي الافك وكان الافك في غزوة بني المصطلق قبل الخندق والهدنة كانت بعد ذلك بسنتين ومنهم من اجراها على ظاهرها وعمومها لأن سبب نزولها قدف عائشه وكان فيمن قذفها مؤمن ومنافق وسبب النزول لا بد ان يندرج في العموم ولانه لا موجب لتخصيصها

والجواب على هذا التقدير انه سبحانه قال هنا " لعنوا في الدنيا والآخرة " على بناء الفعل للمفعول ولم يسم اللاعن وقال هناك " لعنهم الله في الدنيا والآخرة " وإذا لم يسم الفاعل جاز ان يلعنهم غير الله من الملائكة والناس وجاز ان يلعنهم الله في وقت ويلعنهم بعض خلقه في وقت وجاز ان الله تعالى يتولى لعنة بعضهم وهو من كان قذفه طعنا في الدين ويتولى خلقه لعنة الاخرين وإذا كان اللاعن مخلوقا فلعنته قد تكون بمعنى الدعاء عليهم وقد تكون بمعنى انهم يبعدونهم عن رحمة الله

ويؤيد هذا ان الرجل قذف أمرأته تلاعنا وقال الزوج في الخامسه " لعنة الله عليه ان كان من الكاذبين " فهو يدعو على نفسه ان كان كاذبا في القذف ان يلعنه الله كما أمر الله رسوله ان يباهل من حاجه في المسيح بعد ما جاءه من العلم بان يبتهلوا فيجعل لعنة الله على الكاذبين فهذا مما يلعن به القاذف ومما يلعن به ان يجلد وان ترد شهادته ويفسق فانه عقوبة له واقصاء له عن مواطن الامن والقبول وهي من رحمة الله وهذا بخلاف من أخبر الله انه لعنه في الدنيا والآخرة فان لعنة الله له توجب زوال النصر عنه من كل وجه وبعده عن اسباب الرحمة في الدارين

ومما يؤيدالفرق أنه قال هنا " واعد لهم عذابا مهينا " ولم يجيء اعداد العذاب المهين في القران الا في حق الكفار كقوله تعالى " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذابا مهينا " وقوله " وخذوا حذركم ان الله اعد للكافرين عذابا مهينا " وقوله " فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين " وقوله إنما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين " وقوله " والذين كفروا وكذبوا باياتنا فاولئك لهم عذاب مهين " وقوله " وإذا علم من اياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين " وقوله " وقد انزلنا ايات بينات وللكافرين عذاب مهين " وقوله " اتخذو ايمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين " واما قوله تعالى " ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين " فهي والله أعلم فيمن جحد الفرائض واستخف بها على انه لم يذكر أن العذاب اعد له

وأما العذاب العظيم فقد جاء وعيدا للمؤمنين في قوله " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما اخذتم عذاب عظيم " وقوله " وللولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم فيما افضتم فيه عذاب عظيم " وفي المحارب " ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم " وفي القاتل " وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما " وقوله ولا تتخذوا ايمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم " وقد قال سبحانه " ومن يهن الله فما له من مكرم " وذللك لأن الاهانة اذلال وتحقير وخزي وذلك قدر زائد على ألم العذاب فقد يعذب الرجل الكريم ولا يهان

فلما قال في هذه الآية " واعد لهم عذابا مهينا " علم انه من جنس العذاب الذي توعد فيه الكفار والمنافقين ومما قال هناك " ولهم عذاب عظيم " جاز أن يكون من جنس العذاب في قوله " لمسكم في ما افضتم فيه عذاب عظيم "

ومما يبين الفرق أيضا انه سبحانه قال هنا " واعد لهم عذابا مهينا " والعذاب إنما اعد للكافرين فان جهنم لهم خلقت لأنهم لا بد ان يدخلوها وما هم منها بمخرجين وأهل الكبائر من المؤمنين يجوز ان لا يدخلوها إذا غفر الله لهم وإذا دخلوها فانهم يخرجون منها ولو بعد حين

قال سبحانه " واتقوا النار التي اعدت للكافرين " فامر سبحانه المؤمنين ان لا ياكلوا الربا وان يتقوا الله وان يتقوا النار التي اعدت للكافرين فعلم انهم يخافوا عليهم من دخول النار إذا اكلوا الربا وفعلوا المعاصي مع انها معدة للكافرين لا لهم وكذلك جاء في الحديث اما أهل النار الذين هم أهلها فانهم لا يموتون فيها ولا يحيون واما اقوام لهم ذنوب فيصيبهم سفع من نار ثم يخرجهم الله منها وهذا كما ان الجنة اعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء وان كان يدخلها الابناء بعمل ابائهم ويدخلها قوم بالشفاعة وقوم بالرحمة وينشيء الله لما فضل منها خلق آخر في الدار الآخرة فيدخلهم اياها وذلك لأن الشيء إنما يعد لمن يستوجبه ويستحقه ولمن هو أولى الناس به ثم قد يدخل معه غيره بطريق التبع أو لسبب آخر

الدليل السادس قوله سبحانه " لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ان تحبط اعمالكم وانتم لا تشعرون " أي حذرا ان تحبط اعمالكم أو خشية ان تحبط اعمالكم أو كراهة ان تحبط أو منع ان تحبط هذا تقدير البصريين وتقدير الكوفيين لئلا تحبط

فوجه الدلالة ان الله سبحانه نهاهم عن رفع اصواتهم فوق صوته وعن الجهر له كجهر بعضهم لبعض لأن هذا الرفع والجهر قد يفضي إلى حبوط العمل وصاحبه لا يشعر فانه علل نهيهم عن الجهر وتركهم له بطلب سلامة العمل عن الحبوط وبين ان فيه من المفسدة جواز حبوط العمل وانعقاد سبب ذلك وما قد يفضي إلى حبوط العمل يجب تركه غاية الوجوب والعمل يحبط بالكفر قاله سبحانه " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت اعمالهم " وقال تعالى " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " وقال " ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون " وقال " لأن أشركت ليحبطن عملك " وقال " ذلك بانهم كرهوا ما انزل الله فاحبط اعمالهم " وقال " ذلك بانهم اتبعوا ما اسخط الله وكرهوا رضوانه فاحبط اعمالهم " كما ان الكفر إذا قارنه عمل لم يقبل لقوله تعالى " إنما يتقبل الله من المتقين " وقوله " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله اضل اعمالهم " وقوله " وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتهم الا انهم كفروا بالله وبرسوله " وهذا ظاهر ولا تحبط الاعمال بغير الكفر لأن من مات على الايمان فانه لا بد من أن يدخل الجنة ويخرج من النار ان دخلها ولوحبط عمله كله لم يدخل الجنة قط ولان الاعمال إنما يحبطها ما ينافيها ولا ينافي الاعمال مطلقا الا الكفر وهذا معروف من أصول أهل السنه

نعم قد يبطل بعض الاعمال بوجود ما يفسده كما قال تعالى " لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " ولهذا لم يحبط الله الاعمال في كتابه الا بالكفر

فاذا ثبت ان رفع الصوت فوق صوت النبي والجهر له بالقول يخاف منه ان يكفر صاحبه وهو لايشعر ويحبط عمله بذلك وانه مظنة لذلك وسبب فيه فمن المعلوم ان ذلك لما ينبغي له من التعزير والتوقير والتشريف والتعظيم والاكرام والاجلال ولما ان رفع الصوت قد يشتمل على اذى له أو استخفاف به وان لم يقصد الرافع ذلك فإذا كان الأذى والاستخفاف الذي يحصل في سوء الادب من غير قصد صاحبه يكون كفرا فالأذى والاستخفاف المقصود المتعمد كفرا بطريق الأولى

الدليل السابع على ذلك قوله سبحانه " لاتجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لوإذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره ان تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم " أمر من خالف أمره ان يحذر الفتنة والفتنة الردة والكفر قال سبحانه " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " وقال " والفتننة اكبر من القتل " وقال " ولو دخلت عليهم من اقطارها ثم سالوا الفتنة لاتوها " وقال " ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا "

قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاثة وثلاثين موضعا ثم جعل يتلو " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة " الآية وجعل يكررها ويقول وما الفتنة الشرك لعله اذى رد بعض قوله أن يقع في قلبه شئ من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه وجعل يتلو هذه الآية " فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم "

وقال أبو طالب المشكاني وقيل له ان قوما يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره فقال أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى راي سفيان وغيره قال الله " فليحذر الذين يخالفون عن أمره ان تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذب اليم " وتدري ما الفتنة الكفر قال الله تعالى " والفتنة اكبر من القتل " فيدعون الحديث عن رسول الله وتغلبهم اهواؤهم إلى الراي

فاذا كان المخالف عن أمره قد حذر من الكفر والشرك أو من العذاب الاليم دل على انه قد يكون مفضيا إلى الكفر أو إلى العذاب الاليم ومعلوما ان افضاءه إلى العذاب هو مجرد فعل المعصية فافضاؤه إلى الكفر إنما هو لما قد يقترن به من استخفاف بحق الأمر كما فعل ابليس فكيف لما هو اغلظ من ذلك كالسب والانتقاص ونحوه

وهذا باب واسع مع انه بحمد الله مجمع عليه لكن إذا تعددت الدلالات تعاضدت على غلظ كفر الساب وعظم عقوبته وظهر ان ترك الاحترام للرسول وسوء الادب معه مما يخاف معه الكفر المحبط كان ذلك ابلغ فيما قصدنا له

ومما ينبغي ان يتفطن له ان لفظ الأذى في اللغة هو لما خف أمره وضعف اثره من الشر والمكروه ذكره الخطابي وغيره وهو كمال قال واستقراء موارده يدل على ذلك مثل قوله تعالى " لن يضروكم الا اذى " وقوله " ويسؤلونك عن المحيض قل هو اذى فاعتزلوا النساء في المحيض "

وفيما يؤثر عن النبي انه قال القر بؤس والحر اذى وقيل لبعض النسوة العربيات القر اشد أم الحر فقالت من يجعل البؤس كالأذى والبؤس خلاف النعيم وهو ما يشقي البدن ويضره بخلاف الأذى فانه لا يبلغ ذلك ولهذا قال " ان الذين يؤذون الله ورسوله " وقال سبحانه فيما يروي عنه رسوله يؤذيني ابن ادم يسب الدهر وقال النبي من لكعب بن الأشرف فانه قد اذى الله ورسوله وقال ما أحد اصبر على اذى يسمعه من الله يجعلون له ولدا وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم وقد قال سبحانه فيما يروي عنه رسوله ياعبادي انكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني وقال سبحانه في كتابه " ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر انهم لن يضروا الله شيئا فبين ان الخلق لا يضرونه سبحانه بكفرهم لكن يؤذونه تبارك وتعالى إذا سبوا مقلب الأمور أو جعلوا له سبحانه ولدا أو شريكا أو اذوا رسله وعباده المؤمنين ثم ان الأذى لا يضر المؤذى إذا تعلق بحق الرسول فقد رايت عظم موقعه وبيان أن صاحبه من أعظم الناس كفرا واشدهم عقوبة فتبين بذلك ان قليل ما يؤذيه يكفر به صاحبه ويحل دمه ولا يرد على هذا قوله تعالى " لاتدخلوا بيوت النبي " إلى قوله " ان ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم " فان المؤذي له هنا إطالتهم الجلوس في المنزل واستئناسهم للحديث لا أنهم هم آذو النبي والفعل إذا اذى النبي من غير ان يعلم صاحبه انه يؤذيه ولم يقصد صاحبه اذاه فانه ينهى عنه ويكون معصية كرفع الصوت فوق صوته فاما إذا قصد اذاه أو كان مما يؤذيه وصاحبه يعلم انه يؤذيه واقدم عليه مع استحضاره هذا العلم فهذا الذي يوجب الكفر وحبوط العمل والله سبحانه أعلم

الدليل الثامن على ذلك ان الله سبحانه قال " وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا ان تنكحوا ازوجه من بعده أبدا ان ذلكم كان عند الله عظيما " فحرم على الامة ان تنكح أزواجه من بعده لأن ذلك يؤذيه وجعله عظيما عند الله تعظيما للحرمته وقد ذكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس لو قد توفي رسول الله تزوجت عائشه ثم ان من نكح أزواجه أو سراريه فان عقوبته القتل جزاء له بما أنتهك من حرمته فالشاتم له أولى

والدليل على ذلك ما روى مسلم في صحيحه عن زهير عن عفان عن حماد عن ثابت عن أنس ان رجلا كان يتهم بام ولد النبي فقال رسول لعلي اذهب فاضرب عنقه فاتاه علي فإذا هو ركي يتبرد فقال له علي أخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي ثم أتى النبي فقال يا رسول الله انه لمجبوب ماله ذكر فهذا الرجل أمر النبي بضرب عنقه لما قد استحل من حرمته ولم يأمر بإقامة حد الزنى لأن حد الزنى ليس هو ضرب الرقبة بل ان كان محصنا رجم وان كان غير محصن جلد ولا يقام عليه الحد الا بأربعة شهداء أو بالإقرار المعتبر فلما أمر النبي بضرب عنقه من غير تفصيل بين أن يكون محصنا أو غير محصن علم ان قتله لما أنتهكه من حرمته ولعله قد شهد عنده شاهدان انهما راياه يباشر هذه المراة أو شهدا بنحو ذلك فامر بقتله فلما تبين انه كان مجبوبا علم ان المفسدة مامونة منه أو انه بعث عليا ليستبرى القصة فان كان ما بلغه عنه حقا قتله ولهذا قال في هذه القصة أو غيرها اكون كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لايرى الغائب فقال بل الشاهد يرى مالا يرى الغائب

ويدل على ذلك ان النبي تزوج قيلة بنت قيس بن معدي كرب أخت الاشعث ومات قبل ان يدخل بها وقبل ان تقدم عليه وقيل انه خيرها بين ان يضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين وبين ان يطلقها فتنكح من شاءت فاختارت النكاح قالوا فلما مات النبي تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت فبلغ أبا بكر فقال لقد هممت ان احرق عليهما بيتهما فقال عمر ما هي من أمهات المؤمنين ولا دخل بها ولا ضرب عليها الحجاب وقيل انها ارتدت فاحتج عمر على أبي بكر انها ليس من أزواج النبي بارتدادها

فوجه الدلالة ان الصديق رضى الله عنه عزم على تحريقها وتحريق من تزوجها لما رأى انها من أزواج النبي حتى ناظره عمر انها ليست من أزواجه فكف عنهما لذلك فعلم انهم كانوا يرون قتل من استحل حرمة رسول الله

ولا يقال إن ذلك حد الزنى لأنها كانت تكون محرمة عليه ومن تزوج ذات محرمة حد حد الزنى أو قتل لوجهين

أحدهما ان حد الزنى الرجم

الثاني ان ذلك الحد يفتقر إلى ثبوت الوطء ببينة أو إقرار فلما أراد تحريق البيت مع جواز الايكون غشيها علم ان ذلك عقوبة لما أنتهكه من حرمة رسول الله

فصل[عدل]

وأما السنة فأحاديث

الحديث الأول ما رواه الشعبي عن علي ان يهودية كانت تشتم النبي وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله دمها هكذا رواه أبو داود في سننه وابن بطة في سننه وهو من جملة ما استدل به الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله وقال ثنى جرير عن مغيرة عن الشعبي قال كان رجل من المسلمين اعني أعمى يؤوي إلى امرأة يهودية فكانت تطعمه وتحسن إليه فكانت لا تزال تشتم النبي وتؤذيه فلما كان ليلة من الليالي خنقها فماتت فلما اصبح ذكر ذلك للنبي فنشد الناس في أمرها فقام الأعمى فذكر له أمرها فأبطل رسول الله دمها

وهذا الحديث جيد فان الشعبي رأى علي وروى عنه حديث شراحة الهمدانية وكان على عهد علي قد ناهز العشرين سنة وهو كوفي فقد ثبت لقاؤه عليا فيكون الحديث متصلا ثم ان كان فيه ارسالا لأن الشعبي يبعد سماعه من علي فهو حجة وفاقا لأن الشعبي عندهم صحيح المراسيل لايعرفون له مرسلا الا صحيحا ثم هو من اعلم الناس بحديث علي واعلمهم بثقات أصحابه

وله شاهد حديث ابن عباس الذي ياتي فان القصة اما ان تكون واحدة أو يكون المعنى واحدا وقد عمل به عوام أهل العلم وجاء ما يوافقه عن أصحاب رسول الله ومثل هذا المرسل لم يتردد اللفقهاء في الاحتجاج به

وهذا الحديث نص في جواز قتلها لأجل شتم النبي ودليل على قتل الرجل الذمي وقتل المسلم والمسلمه إذا سبا بطريق الأولى لأن هذه المراة كانت موادعة مهادنة لأن النبي لما قدم المدينة وادع جميع اليهود الذين كانوا بها موادعة مطلقة ولم يضرب عليهم جزية وهذا مشهور عند أهل العلم بمنزلة المتواتر بينهم حتى قال الشافعي لم اعلم مخالفا من أهل العلم بالسير ان رسول الله لما نزل المدينة وادع يهود كافة على غير جزية

وهو كما قال الشافعي وذلك ان المدينة كان فيما حولها ثلاثة أصناف من اليهود بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة وكان بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج وكانت قريظة حلفاء الاوس

فلما قدم النبي هادنهم ووادعهم مع إقراره لهم ولمن كان حول المدينة من المشركين من حلفاء الانصار على حلفهم ووعهدهم الذي كانوا عليه حتى انه عاهد اليهود على أن يعينوه إذا حارب ثم نقض العهد بنو قينقاع ثم النضير ثم قريظة

قال محمد بن إسحق يعني في أول ما قدم النبي المدينة وكتب رسول الله كتابا بين المهاجرين والانصار وادع فيه يهود وعاهدهم واقرهم على دينهم وأحوالهم واشترط عليهم وشرط لهم

قال ابن إسحاق حدثني عثمان بن محمد بن عثمان بن الاخنس بن شريق قال اخذت من ال عمر بن الخطاب هذا الكتاب كان مقرونا بكتاب الصدقة الذي كتب عمر للعمال

كتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي بين المسلمين والمؤمنين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم انهم امة واحدة دون الناس المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنوعوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ثم ذكر لبطون الانصار بني الحارث وبني ساعدة وبني جشم وبني النجار وبني عمرو ابن عوف وبني الاوس وبني النبيت مثل هذا الشرط

ثم قال وان المؤمنين لا يتركون مفرحا منهم ان يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه إلى ان قال وان ذمة الله واحدة يجير عليهم ادناهم فان المؤمنين بعضهم مولى بعض دون الناس وانه من تبعنا من يهود فان له النصر والاسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم وان سلم المؤمنين واحدة إلى ان قال وان اليهود يتفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين وان ليهود بني عوف ذمة من المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم الا من ظلم واثم فانه لا يوتغ الا نفسه وأهل بيته وان اليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف وان ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف وان ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف وان ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف وان ليهود بني الاوس مثل ما ليهود بني عوف وان ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف الا من ظلم واثم فانه لا يوتغ الا نفسه وأهل بيته وان لحقته بطن من ثعلبه مثله وان لبني الشطبة مثل ما ليهود بني عوف وان موالي ثعلبه كأنفسهم وان بطانة يهود كأنفسهم

ثم يقول فيها وان الجار كالنفس غير مضار ولا اثم

وانه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخشى فساده فان مرده إلى الله والى محمد وان يهود الاوس ومواليهم وأنفسهم على مثل ما في هذه الصحيفة مع البار المحسن من أهل هذه الصحيفة

وفيها أشياء آخر وهذه الصحيفة معروفة عند أهل العلم

روى مسلم في صحيحه عن جابر قال كتب رسول الله على كل بطن عقوله ثم كتب انه لا يحل أن يتولى رجل مسلم بغير اذنه

وقد بين فيها ان كل من تبع المسلمين من اليهود فان له النصر ومعنى الاتباع مسالمته وترك محاربته لا الاتباع في الدين كما بينه في اثناء الصحيفة فكل من أقام بالمدينة ومخالفيها غير محارب من يهود دخل في هذا

ثم بين ان ليهود كل بطن من الانصار ذمة من المؤمنين ولم يكن بالمدينة أحد من اليهود الا وله حلف اما مع الاوس أو مع بعض بطون الخزرج وكان بنو قينقاع وهم المجاورون بالمدينة وهم رهط عبد الله ابن سلام حلفاء بني عوف بن الخزرج رهط ابن أبي وهم البطن الذين بدئ بهم في هذه الصحيفة

قال ابن إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ان بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله وحاربوا فيما بين بدر واحد فحاصرهم رسول الله حتى نزلوا على حكمه فقام عبد الله بن أبي سلول إلى رسول الله حين أمكنه الله منهم فقال يا محمد أحسن في موالي فاعرض عنه فادخل يده في جيب درع الرسول فقال رسول الله أرسلني وغضب حتى ان لوجه رسول الله ظلالا وقال ويحك أرسلني فقال والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربع مئة حاسر وثلاث مئة دارع قد منعوني من الاحمر والاسود تحصدهم في غداة واحدة اني والله لامرؤ اخشى الدوائر فقال رسول الله هم لك

أما النضير وقريظة فكانوا خارجا من المدينة وعهدهم مع رسول الله اشهر من أن يخفى على عالم

وهذه المقتولة والله أعلم كانت منهم أو من غيرهم فإنها كانت ذمية لأن لم يكن بالمدينة من قينقاع لأن ظاهر القصة انها كانت بالمدينة وسواء كانت من اليهود الا ذمي فان اليهود كانوا ثلاثة أصناف وكلهم معاهد

وقال الواقدي حدثني عبد الله بن جعفر عن الحارث بن الفضيل عن محمد بن كعب القرظي قال لما قدم رسول الله المدينة وادعته يهود كلها فكتب بينه وبينها كتابا والحق رسول الله كل قوم بحلفائهم وجعل بينه وبينهم أمانا وشرط عليهم شروطا فكان فيما شرط ان لا يظاهروا عليه عدوا

فلما أصاب رسول الله أصحاب بدر وقدم المدينة بغت يهود وقطعت ما كان بينها وبين رسول الله من العهد فأرسل رسول الله إليهم فجمعهم ثم قال يامعشر يهود أسلموا فوالله انكم لتعلمون اني رسول الله قبل ان يوقع الله بكم مثل وقعة قريش فقالوا يا محمد لا يغرنك من لقيت انك لقيت اقواما اغمارا وانا والله أصحاب الحرب ولئن قاتلتنا لتعلمن انك لم تقاتل مثلنا

ثم ذكر حصارهم واجلاءهم إلى اذرعات وهم بنو قينقاع الذي كانوا بالمدينة

فقد ذكر ابن كعب مثل ما في الصحيفة وبين انه عاهد جميع اليهود وهذا مما لأنعلم فيه تردد بين أهل العلم بسيرة النبي ومن تامل الأحاديث الماثورة والسيرة كيف كانت معهم علم ذلك ضرورة

وانما ذكرنا هذا لأن بعض المصنفين في الخلاف قال يحتمل ان هذه المراة ما كانت ذمية وقائل هذا ممن ليس له بالسنة كثير علم وانما يعلم منها في الغالب ما يعلمه العامة ثم انه أبطل هذا الاحتمال فقال لو لم تكن ذمية لم يكن للإهدار معنى فإذا نقل السب والإهدار تعلق به كتعلق الرجم بالزنى والقطع بالسرقة وهذا صحيح وذلك ان في نفس الحديث ما يبين انها كانت ذمية من وجهين

أحدهما انه قال إن يهودية كانت تشتم النبي فخنقها رجل فأبطل دمها فرتب علي رضي الله عنه ابطال الدم على الشتم بحرف الفاء فعلم انه هو الموجب لابطال دمها لأن تعليق الحكم بالوصف المناسب بحرف الفاء يدل على العلية وان كان ذلك في لفظ الصحابي كما لو قال زنى ماعز فرجم ونحو ذلك إذ لافرق فيما يرويه الصحابي عن النبي من أمر ونهي وحكم وتعليل في الاحتجاج به بين ان يحكي لفظ النبي أو يحكي بلفظه معنى النبي فإذا قال أمرنا رسول الله بكذا أو نهانا عن كذا أو حكم بكذا أو فعل لأجل كذا كان حجة لأنه لا يقدم على ذلك الا بعد ان يعلمه العلم الذي يجوز له معه ان ينقله وتطرق الخطا إلى مثل ذلك لا يلتفت إليه كتطرق النسيان والسهو في الرواية وهذا مقرر في موضعه

ومما يوضح ذلك أن النبي لما ذكر له انها قتلت نشد الناس في أمرها فلما ذكر له ذنبها أبطل دمها وهو إذا حكم بامر عقب حكاية حال حكيت له دل ذلك على أن ذلك المحكي هو الموجب لذلك الحكم لأنه حكم حادث فلابد له من سبب حادث ولا سبب الا ما حكي لله وهو مناسب فتجب الإضافة إليه

الوجه الثاني ان نشدان النبي الناس في أمرها ثم ابطال دمها دليل على انها كانت معصومة وان دمها كان قد انعقد سبب ضمانة وكان مضمونا لو لم يبطله النبي لأنها لو كانت حربية لم ينشد الناس فيها ولم يحتج ان يبطل دمها ويهدره لأن الابطال والإهدار لا يكون الا لدم قد انعقد له سبب الضمان الا ترى انه لما رأى امرأة مقتولة في بعض مغازيه انكر قتلها ونهى عن قتل النساء ولم يبطله ولم يهدره فانه كان في نفسه باطلا هدرا والمسلمون يعلمون ان دم الحربية غير مضمون بل هو هدر لم يكن لابطاله وإهداره وجه وهذا ولله الحمد ظاهر

فاذا كان النبي قد عاهد المعاهدين اليهود عهدا بغير ضرب جزية عليهم ثم انه اهدر دم يهودية منهم لأجل سب النبي فان يهدر دم يهودية من اليهود الذين ضربت عليهم الجزية والزموا أحكام الملة لأجل ذلك أولى واحرى ولو لم يكن قتلها جائرا لبين للرجل قبح ما فعل فانه قد قال من قتل نفسا معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة ولا وجب ضمانها أو الكفارة كفارة قتل المعصوم فلما اهدر دمها علم انه كان مباحا

الحديث الثاني ما روى إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن عثمان الشحام عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما ان أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي وتشتمه فاخذ المغول فوضعه في بطنها واتكا عليها فقتلها فلما اصبح ذكر ذلك للنبي فجمع الناس فقال أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق الا قام فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتدلدل حتى قعد بين يدي النبي فقال يا رسول الله انا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فانهاها فلا تنتهي وازجرها فلا تنزجر ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فاخذت المغول فوضعته في بطنها واتكات عليه حتى قتلتها فقال النبي الا أشهدوا ان دمها هدر رواه أبو داود والنسائي

والمغول بالغين المعجمة قال الخطابي شبيه المشمل ونصله دقيق ماض وكذلك قال غيره هو سيف رقيق له قفا يكون غمده كالسوط والمشمل السيف القصير سمي بذلك لأنه يشتمل عليه الرجل أي يغطيه بثوبه واشتقاق المغول من غالة الشيء واغتاله إذا اخذه من حيث لم يدر

وهذا الحديث مما استدل به الإمام أحمد في رواية عبد الله قال ثنا روح ثنا عثمان الشحام ثنا عكرمة مولى ابن عباس ان رجلا أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي فقتلها فساله عنها فقال يا رسول الله انها كانت تشتمك فقال رسول الله ألا إن دم فلانة هدر

فهذه القصة يمكن ان تكون هي الأولى وعليه يدل كلام الإمام أحمد لأنه قيل له في رواية عبد الله في قتل الذمي إذا سب أحاديث قال نعم منها حديث الأعمى الذي قتل المراة قال سمعتها تشتم النبي

ثم روى عنه عبد الله كلا الحديثين ويكون قد خنقها وبعج بطنها بالمغول أو يكون كيفيه القتل غير محفوظة في إحدى الروايتين

ويؤيد ذلك ان وقوع قصتين مثل هذه لأعميين كل منهما كانت المراة تحسن إليه وتكرر الشتم وكلاهما قتلها وحده وكلاهما نشد رسول الله فيها الناس بعيد في العادة وعلى هذا التقدير فالمقتولة يهودية كما جاء مفسرا في تلك الرواية وهذا قول القاضي أبي يعلي وغيره استدلوا بهذا الحديث على قتل الذمي ونقضه العهد وجعلوا الحديثين حكاية واقعة واحدة

ويمكن ان تكون هذه القصة غير تلك قال الخطابي فيه بيان أن ساب النبي يقتل وذلك ان السب منها لرسول الله ارتداد عن الدين وهذا دليل على انه اعتقد انها كانت مسلمة وليس في الحديث دليل على ذلك بل الظاهر انها كانت كافرة وكان العهد لها بملك المسلم اياها فان رقيق المسلمين ممن يجوز استرقاقه لهم حكم أهل الذمة وهم اشد في ذلك من المعاهدين أو بتزوج المسلم بها فان أزواج المسلمين من أهل الكتاب لهم حكم أهل الذمة في العصمة لأن مثل هذا السب الدائم لا يفعله مسلم الا عن ردة واختيار دين غير الإسلام ولو كانت مرتدة منتقلة إلى غير الإسلام لم يقرها سيدها على ذلك اياما طويلة ولم يكتف بمجرد نهيها عن السب بل يطلب منها تجديد الإسلام لا سيما ان كان يطؤها فان وطء المرتدة لا يجوز والاصل عدم تغير حالها وانها كانت باقية على دينها يوضح ذلك ان الرجل لم يقل كفرت ولا ارتدت وانما ذكر مجرد السب والشتم فعلم انه لم يصدر منها قدر زائد على السب والشتم من انتقال من دين إلى دين أو نحو ذلك

وهذه المراة اما ان تكون كانت زوجة لهذا الرجل أو مملوكه له وعلى التقديرين فلو لم يكن قتلها جائزا لبين النبي له ان قتلها كان محرما وان دمها كان معصوما ولأوجب عليه الكفارة بقتل المعصوم والدية ان لم تكن مملوكه له فلما قال أشهدوا ان دمها هدر والهدر الذي لا يضمن بقود ولادية ولا كفارة علم انه كان مباحا مع كونها كانت ذمية فعلم ان السب اباح دمها لا سيما والنبي إنما اهدر دمها عقب اخباره بانها قتلت لأجل السب فعلم انه الموجب لذلك والقصة ظاهرة الدلالة في ذلك

الحديث الثالث مااحتج به الشافعي على أن الذمي إذا سب قتل وبرئت منه الذمه وهو قصة كعب بن الأشرف اليهودي

قال الخطابي قال الشافعي يقتل الذمي إذا سب النبي وتبرأ منه الذمة واحتج بذلك بخبر كعب بن الأشرف وقال الشافعي في الام لم يكن بحضرة النبي ولا قربة مشرك من أهل الكتاب الا يهود المدينة وكانوا حلفاء الانصار ولم تكن الانصار اجمعت أول ماقدم رسول الله إسلاما فوادعت يهود رسول الله ولم تخرج إلى شيء من عداوته بقول يظهر ولا فعل حتى كانت وقعة بدر فتكلم بعضها بعداوته والتحريض عليه فقتل رسول الله فيهم ومعلوم انه إنما أراد بهذا الكلام كعب بن الأشرف والقصة مشهورة مستفيضة وقد رواها عمر بن دينار عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله من لكعب بن الأشرف فانه قد اذى الله ورسوله فقام محمد بن مسلمه فقال انا يا رسول الله اتحب ان اقتله قال نعم قال ائذن لي ان اقول شيئا قال قل قال فاتاه وذكره ما بينهم قال إن هذا الرجل قد أراد الصدقة وعنانا صولما سمعه قال وأيضا والله لتملنه وقال انا قد اتبعناه الان ونكره ان ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره قال وقد اردت ان تسلفني سلفا قال فما ترهنني نساءكم قال أنت اجمل العرب انرهنك نساءنا قال ترهنوني أولادكم قال يسب ابن إحدانا فيقال رهنت في وسقين من تمر ولكن نرهنك الأمة يعني السلاح قال نعم وواعده ان ياتيه بالحارث وابي عبس بن جبر وعباد بن بشر فجاؤوا فدعوه ليلا فنزل إليهم قال سفيان قال غير عمروقالت له أمرأته اني لاسمع صوتا كانه صوت دم قال إنما هذا محمد ورضيعه أبو نائله ان الكريم لو دعي إلى طعنه ليلا لاجاب قال محمد أي إذا جاء فسوف امد يدي إلى راسه فإذا استمكنت منه فدونكم قال فلما نزل نزل وهو متوشح قالوا نجد منك ريح الطيب قال نعم تحتي فلانه اعطر نساء العرب قال افتاذن لي ان اشم منه قال نعم فشم ثم قال اتاذن لي ان اعود قال فاستمكن منه ثم قال دونك فاقتلوه متفق عليه

وروى ابن أبي اويس عن ابراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمه عن ابيه عن جابر بن عبد الله ان كعب بن الأشرف عاهد الرسول الله ان لا نعين عليه ولا يقاتله ولحق بمكة ثم قدم المدينة معلنا لمعادات النبي فكان أول ما خزع عنه قوله

اذاهب أنت لم تحلل بمرقبة ** وتارك أنت أمر الفضل بالحرم

في أبيات يهجوه بها فعند ذلك ندب رسول الله إلى قتله وهذا محفوظ عن ابن أبي اويس رواه الخطابي وغيره وقال قوله خزع معناه قطع عهده وفي رواية غير الخطابي فخزع منه هجائه له فامر بقتله والخزع القطع يقال خزع فلان عن أصحابه خزعا أي انقطع وتخلف ومنه سمية خزاعة لأنهم انخزعوا عن أصحابهم وأقاموا بمكة فعلى الفظ الأول يكون التقدير ان قوله هذا هو أول خزعة عن النبي أي أول انقطاعه عنه بنقض العهد وعلى الثاني قيل معناه قطع هجاه للنبي منه يعني انه نقض عهده وذمته وقيل معناه خزع من النبي معناه هجاه أي نال منه وشعث منه ووضع منه

وذكر أهل المغازي والتفسير مثل محمد بن إسحاق ان كعب بن الأشرف كان موادعا للنبي في جملة من وادعه من يهود المدينة وكان عربيا من بني طي وكانت امه من بني النضير قالوا فلما قتلوا أهل بدر شق ذلك عليه وذهب إلى مكة ورثاهم لقريش وفضل دين الجاهلية على دين الإسلام حتى انزل الله فيه " ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا "

ثم لما رجع إلى المدينة أخذ ينشد الاشعار يهجو بها النبي وشبب بنساء المسلمين حتى اذاهم حتى قال النبي من لكعب ابن الأشرف فانه قد اذى الله ورسوله وذكروا قصة قتله مبسوطة

وقال الواقدي حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رمان ومعمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك وابراهيم بن جعفر عن ابيه عن جابر وذكر القصه إلى قتله قال ففزعت يهود ومن معها من المشركين فجاوا إلى النبي حين اصبحوا فقالوا قد طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا قتل غيلة بلا جرم ولا حدث علمناه فقال رسول الله انه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رايه ما اغتيل ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر ولم يفعل هذا أحد منكم الا كان السيف

ودعاهم رسول الله إلى ان يكتب بينهم كتابا ينتهون الي مافيه فكتبوا بينهم وبينه كتابا تحت العذق في دار رملة بنت الحارث فحذرت يهود وخافت وذلت من يوم قتل ابن الأشرف

والاستدلال بقتل كعب بن أشرف من وجهين إحداهما انه كان معاهدا مهادنا وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم بالمغازي والسير وهو عندهم من العلم العام الذي يستغنى فيه عن نقل الخاصة

ومما لا ريب فيه عند أهل العلم ما قدمناه من أن النبي عاهد لما قدم المدينة جميع أصناف اليهود بني قينقاع والنضير وقريظة ثم نقضت بنو قينقاع عهده فحاربهم ثم نقض عهده كعب بن الأشرف ثم نقض عهده بنو النضير ثم بنو قريظه وكان ابن الأشرف من بني النضير وامرهم ظاهر في انهم كانوا مصالحين للنبي وانما نقضوا العهد لما خرج إليهم يستعينهم في دية الرجلين اللذين قتلهما عمر بن امية الضمري وكان ذلك بعد مقتل كعب بن الأشرف وقد ذكرنا الرواية الخاصة ان كعب بن الأشرف كان معاهد للنبي ثم ان النبي جعله ناقضا للعهد بهجائه واذاه بلسانه خاصة

والدليل على انه إنما نقض العهد بذلك ان النبي قال من لكعب بن الأشرف فانه قد اذى الله ورسوله فعلل ندب الناس له باذاه والأذى المطلق هو باللسان كما قال سبحانه " ولتسمعن من الذين اتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا اذى كثيرا " وقال " لن يضروكم الا اذى " وقال " ومنهم اللذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن " وقال " ولا تكونوا كالذين اذوا موسى فبراه الله مما قالوا " الآية وقال " ولا مستانسين لحديث ان ذلكم كان يؤذي النبي " إلى قوله " وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا ان تنكحوا أزواجه من بعده أبدا " الآية

ثم ذكر الصلاة عليه والتسليم خبرا وامرا وذلك من اعمال اللسان ثم قال " ان الذين يؤذون الله ورسوله " إلى قوله " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات "

وقال النبي فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى يؤذيني ابن ادم يسب الدهر وانا الدهر وهذا كثير

وقد تقدم ان الأذى اسم لقليل الشر وخفيف المكروه لخلاف الضرر فلذلك أطلق على القول لأنه لايضر المؤذي في الحقيقة

وأيضا فانه جعل مطلق اذى الله ورسوله موجبا لقتل رجل معاهد ومعلوم ان سب الله وسب ورسوله اذى لله ولرسوله وإذا رتب الوصف على الحكم بحرف الفاء دل على أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم لا سيما إذا كان مناسبا وذلك يدل على أن اذى الله ورسوله علة لندب المسلمين إلى قتل من يفعل ذلك من المعاهدين وهذا دليل ظاهر على انتقاض عهده باذى الله ورسوله والسب من اذى الله ورسوله باتفاق المسلمين بل هو اخص أنواع الأذى

وأيضا فقد قدمنا في حديث جابر ان أول ما نقض به العهد قصيدته التي انشاها بعد رجوعه إلى المدينة يهجو بها رسول الله وان رسول الله عندما هجاه بهذه القصيدة ندب إلى قتله وهذا وحده دليل على انه إنما نقض العهد بالهجاء لا بذهابه إلى مكة

وما ذكره الواقدي عن أشياخه يوضح ذلك ويؤيده وان كان الواقدي لا يحتج به إذا انفرد لكن لا ريب في علمه في المغازي واستعلام كثير من تفاصيلها من جهته ولم نذكر عنه الا ما أسندناه عن غيره

فقوله لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رايه ما اغتيل ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر ولم يفعل هذا أحد منكم الا كان السيف نص في انه إنما انتقض عهد ابن الأشرف بالهجاء ونحوه وان من فعل هذا من المعاهدين فقد استحق السيف وحديث جابر المسند من الطريقين يوافق هذا وعليه العمدة في الاحتجاج

وأيضا فانه لما ذهب إلى مكة ورجع إلى المدينة لم يندب النبي المسلمين إلى قتله فلما بلغه عنه الهجاء ندبهم إلى قتله والحكم الحادث يضاف إلى السبب الحادث فعلم ان ذلك الهجاء والأذى الذي كان بعد قفوله من مكة موجب لنقض عهده ولقتاله وإذا كان هذا في المهادن الذي لا يؤدي جزية فما الظن بالذمي الذي يعطي الجزية ويلزم أحكام الملة

فإن قيل إن ابن الأشرف كان قد أتى بغير السب والهجاء فروى الإمام أحمد قال ثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش الاترى إلى هذا الصنبر المنبتر من قومه يزعم انه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية قال فنزلت فيهم " ان شانئك هو الابتر " قال وانزلت فيه " ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا " إلى قوله " نصيرا "

وقال ثنا عبد الرازق قال قال معمر أخبرني أيوب عن عكرمة ان كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي وامرهم ان يغزوه وقال لهم انا معكم فقالوا انكم أهل كتاب وهو صاحب كتاب ولا نامن أن يكون مكرا منكم فان اردت ان نخرج معك فاسجد للهذين الصنمين وامن بهما ففعل ثم قالوا له انحن أهدى أم محمد نحن نصل الرحم ونقري الضيف ونطوف بالبيت وننحر الكوم ونسقي اللبن على الماء ومحمد قطع رحمه وخرج من بلده قال بل أنتم خير واهدى قال فنزلت فيه " ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا "

وقال ثنا عبد الرزاق ثنا إسرائيل عن السدي عن أبي مالك قال إن أهل مكة قالوا لكعب بن الأشرف لما قدم عليهم ديننا خير أم دين محمد قال اعرضوا علي دينكم قالوا نعمر بيت ربنا وننحر الكوماء ونسقي الحاج الماء ونصل الرحم ونقري الضيف قال دينكم خير من دين محمد فانزل الله تعالى هذه الآية

قال موسى بن عقبة عن الزهري كان كعب بن الأشرف اليهودي وهو أحد بني النضير أو هو فيهم قد اذى رسول الله بالهجاء وركب إلى قريش فقدم عليهم فاستعان بهم على رسول الله فقال أبو سفيان اناشدك اديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه واينا أهدى في رايك واقرب إلى الحق فانا نطعم الجزور الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونطعم ما هبت الشمال قال ابن الأشرف أنتم أهدى منهم سبيلال ثم خرج مقبلا حتى اجمع راي المشركين على قتال رسول الله معلنا بعداوة رسول الله وبهجائه فقال رسول الله

من لنا من ابن الأشرف فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا قد خرج إلى قريش فاجمعهم على قتالنا وقد أخبرني الله بذلك ثم قدم على اخبث ما كان ينتظر قريشا ان تقدم فيقاتلنا معهم ثم قرا رسول الله على المسلمين ما نزل فيه ان كان كذلك والله أعلم قال الله عز وجل " ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب " إلى قوله " سبيلا " وايات معها فيه وفي قريش

وذكر لنا رسول الله قال اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت فقال له محمد بن مسلمة انا يا رسول الله اقتله وذكر القصة في قتله إلى اخرها ثم قال فقتل الله ابن الأشرف بعداوته لله ورسوله وهجائه اياه وتاليبه عليه قريشا واعلانه بذلك

وقال محمد بن إسحاق كان من حديث كعب بن الأشرف انه لما اصيب أصحاب بدر وقدم زيد بن حارثه إلى أهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين بعثهما رسول الله إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله تعالى عليه وقتل من قتل من المشركين كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة الظفري وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وصالح بن أبي امامه بن سهل كل واحد قد حدثني بعض حديثه قالوا كان كعب بن الأشرف من بني طيء ثم أحد بني نبهان وكانت امه من بني النضير فقال حين بلغه الخبر أحق هذا أترون ان محمدا قتل هؤلاء الذين سمى هذان الرجلان يعني زيدا وعبد الله بن رواحه فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس والله لئن كان محمدا أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة ونزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن اميه فانزلته وأكرمته وجعل يحرض على رسول الله وينشد الاشعار ويبكي أصحاب القليب من قريش الذين اصيبوا ببدر وذكر شعرا وما رد عليه حسان بن ثابت وغيره ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة يشبب بنساء المسلمين حتى اذاهم فقال رسول الله كما حدثني عبد الله بن أبي المغيث من لي من ابن الأشرف فقال محمد بن مسلمة انا لك به يا رسول الله انا اقتله وذكر القصة

وقال الواقدي حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رومان ومعمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك وابراهيم بن جعفر عن ابيه عن جابر بن عبد الله فكل قد حدثني منه بطائفة فكان الذي اجتمعوا عليه قالوا ابن الأشرف كان شاعرا وكان يهجو النبي وأصحابه ويحرض عليهم كفار قريش في شعره وكان رسول الله قدم المدينة وأهلها اخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام فيهم أهل الحلقة والحصون ومنهم حلفاء للحيين جميعا الاوس والخزرج فأراد رسول الله حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم وموادعتهم وكان الرجل يكون مسلما وابوه مشركا فكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله وأصحابه اذى شديدا فامر الله نبيه والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم وفيهم انزل " ولتسمعن من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا اذى كثيرا وان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الأمور " وفيهم انزل الله " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم " الآية

فلما ابى ابن الأشرف ان ينزع عن اذى رسول الله واذى المسلمين وقد بلغ منهم فلما قدم زيد بن حارثة بالبشارة من بدر بقتل المشركين واسر من اسر منهم فراى الأسرى مقرنين كبت وذل ثم قال لقومه ويلكم والله لبطن الأرض خير لكم من ظهرها اليوم هؤلاء سراة الناس قد قتلوا واسروا فما عندكم قالوا عداوته ما حيينا قال وما أنتم وقد وطيء قومه وأصابهم ولكني أخرج إلى قريش فاحضها وابكي قتلاها لعلهم ينتدبون فأخرج معهم فخرج حتى قدم مكة ووضع رحلة عند أبي وداعة بن أبي صبيرة السهمي وتحته عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص فجعل يرثي قريشا وذكر ما رثاهم به من الشعر وما أجابه به حسان فأخبره بنزول كعب على من نزل فقال حسان فذكر شعرا هجا به أهل البيت الذي نزل فيهم قال فلما بلغها هجاؤه نبذت رحلة وقالت ما لنا ولهذا اليهودي الا ترى ما يصنع بنا حسان فتحول فكلما تحول عند قوم دعا رسول الله حسانا فقال ابن الأشرف نزل على فلان فلا يزال يهجوا حتى نبذ رحلة فلما لم يجد ماوى قدم المدينة فلما بلغ النبي قدوم ابن الأشرف قال اللهم اكفيني ابن الأشرف بما شئت في اعلانه الشر وقوله الاشعار وقال رسول الله من لي من ابن الأشرف فقد آذاي فقال محمد بن مسلمة انا يا رسول الله وانا اقتله قال فافعل وذكر الحديث

فقد اجتمع لابن الأشرف ذنوب انه رثى قتلى قريش وحضهم على محاربة النبي وواطاهم على ذلك واعانهم على محاربته باخباره ان دينهم خير من دينه وهجا النبي والمؤمنين

قلنا الجواب من وجوه

أحدها ان النبي لم يندب إلى قتله لكونه ذهب إلى مكة وقال ما قال هناك وانما ندب إلى قتله لما قدم وهجاه كما جاء ذلك مفسرا في حديث جابر المتقدم بقوله ثم قدم المدينة معلنا لعداوة النبي ثم بين ان أول ما قطع به العهد تلك الأبيات التي قالها بعد الرجوع وان النبي حينئذ ندب إلى قتله وكذلك في حديث موسى بن عقبة من لنا من ابن الأشرف فانه قد استعلن بعداوتنا وهجائنا

ويؤيد ذلك شيئان

أحدهما ان سفيان بن عيينه روى عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد فقالوا ما أنتم وما محمد فقالوا نصل الارحام وننحر الكوماء ونسقي الماء على اللبن ونفك العناة ونسقي الحجيج ومحمد صنبور قطع ارحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار فنحن خير أم هو فقالوا بل أنتم خير واهدى سبيلا فانزل الله تعالى " ألم تر إلى الذين اتوا نصيبا من الكتاب " إلى قوله " أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا "

وكذلك قال قتادة ذكر لنا ان هذه الآية نزلت في كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب رجلين من اليهود من بني النضير لقيا قريشا في الموسم فقال لهما المشركون نحن أهدى أم محمد وأصحابه فانا أهل السدانة وأهل السقاية وأهل الحرم فقالا أنتم أهدى من محمد وأصحابه وهما يعلمان انهما كاذبان إنما محلهما على ذلك حسد محمد وأصحابه فانزل الله تعالى فيهم " أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا " فلما رجعا إلى قومهما قال لهما قومهما ان محمدا يزعم انه قد نزل فيكما كذا وكذا قال صدق والله ما حملنا على ذلك الا حسده وبغضه

وهذان مرسلان من وجهين مختلفين فيهما ان كلا الرجلين ذهبا إلى مكة وقالا ما قالا ثم انهما قدما فندب النبي إلى قتل ابن الأشرف وامسك عن ابن أخطب حتى نقض بنو النضير العهد فاجلاهم النبي فلحق بخيبر ثم جمع عليه الأحزاب فلما انهزموا دخل مع بني قريظة حصنهم حتى قتله الله معهم فعلم ان الأمر الذي اتياه بمكة لم يكن هو الموجب للندب إلى قتل ابن الأشرف وانما هو ما اختص به ابن الأشرف من الهجاء ونحوه وان كان ما فعله بمكة مؤيدا عاضد لكن مجرد الأذى لله ورسوله موجب للندب إلى قتله كما نص عليه النبي بقوله من لكعب بن الأشرف فانه قد آذى الله ورسوله وكما بينه جابر في حديثه

الوجه الثاني ان ابن أبي اويس قال حدثني ابراهيم بن جعفر الحارثي عن ابيه عن جابر قال لما كان من أمر النبي وبني قريظة كذا فيه واحسبه وبني قينقاع اعتزل كعب بن الأشرف ولحق بمكة وكان فيها وقال لا أعين عليه ولا اقاتله فقيل له بمكة اديننا خير أم دين محمد وأصحابه قال دينكم خير واقدم دين محمد حديث فهذا دليل على انه لم يظهر محاربه

الجواب الثاني ان جميع ما اتاه ابن الأشرف إنما هو اذى باللسان فان مرثيته لقتلى المشركين وتحضيضه وسبه وهجاءه وطعنه في دين الإسلام وتفضيل دين الكفار عليه كله قول باللسان ولم يعمل عملا فيه محاربه ومن نازعنا في سب النبي ونحوه فهو في تفضيل دين الكفار وحضهم باللسان على قتل المسلمين اشد منازعه لأن الذمي إذا تجسس لاهل الحرب وأخبرهم بعورات المسلمين ودعا الكفار إلى قتالهم انتقض عهده أيضا عندنا كما ينتقض عهد الساب ومن قال إن الساب لا ينتقض عهده فانه يقول لا ينتقض العهد بالتجسس للكفار ومطالعتهم باخبار المسلمين بطريق الأولى عندهم وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والشافعي أيضا على خلاف بين أصحابه وابن الأشرف لم يوجد منه الا الأذى باللسان فقط فهو حجة على من نازع في هذه المسائل ونحن نقول إن ذلك كله نقض للعهد

والجواب الثالث ان تفضيل دين الكفار على دين المسلمين هو دون سب النبي بلا ريب فان كون الشيء مفضولا أحسن حالا من كونه مسبوبا مشتوما فان كان ذلك ناقضا للعهد فالسب بالطريق الأولى واما مرثيته للقتلى وحضهم على أخذ ثارهم فأكثر ما فيه تهييج قريش على المحاربة وقريش كانوا قد اجمعوا على محاربة النبي عقب بدر وارصدوا العير التي كان فيها أبو سفيان للنفقة على حربه فلم يحتاجوا في ذلك إلى كلام ابن الأشرف نعم مرثيته وتفضيله ربما زادهم غيظا ومحاربة لكن سبه للنبي وهجاءه له ولدينه أيضا مما يهيجهم على المحاربة ويغريهم به فعلم ان الهجاء فيه من الفساد مافي غيره من الكلام وابلغ فإذا كان غيره من الكلام نقضا فهو أن يكون نقضا أولى ولهذا قتل النبي جماعة من النسوة اللواتي كن يشتمنه ويهجونه مع عفوه عما كانت تعين عليه وتحض على قتاله

الجواب الرابع إنما ذكره حجة لنا من وجه آخر وذلك انه قد اشتهر عند أهل العلم من وجوه كثيرة ان قوله تعالى " ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب " نزلت في كعب بن الأشرف بما قاله لقريش وقد أخبر الله سبحانه انه لعنه وان من لعنه فلن تجد له نصيرا وذلك دليل على انه لا عهد له لأنه لو كان له عهد لكان يجب نصره على المسلمين فعلم ان مثل هذا الكلام يوجب انتقاض عهده وعدم ناصره فكيف بما هو اغلظ منه من شتم وسب وانما لم يجعله النبي والله أعلم بمجرد ذلك ناقضا للعهد لأنه لم يعلن بهذا الكلام ولم يجهر به وانما اعلم الله به رسوله وحيا كما تقدم بالأحاديث ولم يكن النبي لياخذ أحدا من المسلمين والمعاهدين الا بذنب ظاهر فلما رجع إلى المدينة واعلن الهجاء والعداوة استحق ان يقتل لظهور اذاه وثبوته عند الناس نعم من خيف منه الخيانة فانه ينبذ إليه العهد اما اجراء حكم المحاربة عليه فلا يكون حتى تظهر المحاربة وتثبت عليه

فإن قيل كعب بن الأشرف سب النبي بالهجاء والشعر كلام موزون يحفظ ويروى وينشد بالاصوات والالحان ويشتهر بين الناس وذلك له من التاثير في الأذى والصد عن سبيل الله ما ليس للكلام المنثور ولذلك كان النبي يأمر حسان ان يهجوهم ويقول لهو انكى فيهم من النبل فيؤثر هجاءه فيهم اثرا عظيما يمتنعون به من أشياء لايمتنعون عنها لو سبوا بكلام منثور اضعاف الشعر

وأيضا فان كعب بن الأشرف وام الولد المتقدمة تكرر منهما سب النبي واذاه وكثر والشيء إذا كثر واستمر صار له حال أخرى ليست له إذا انفرد وقد حكيتم ان الحنفية يجيزون قتل من كثر منه مثل هذه الجريمة وان لم يجيزوا قتل من لم يتكرر منه فاذن مادل عليه الحديث يمكن المخالف ان يقول به

قلنا أولا إن هذا يفيدنا ان السب في الجملة من الذمي مهدر لدمه ناقض لعهده ويبقى الكلام في الناقض للعهد هل هو نوع خاص من السب وهو ما كثر أو غلظ أو مطلق السب هذا نظر آخر فما كان مثل هذا السب وجب ان يقال انه مهدر لدم الذمي حتى لا يسوغ لاحد ان يخالف نص السنة فلو زعم زاعم ان شيئا من كلام الذمي واذاه يبح دمه كان مخالفا للسنة الصحيحة الصريحة خلافا لا عذر فيه لاحد

وقلنا ثانيا لا ريب ان الجنس الموجب للعقوبة قد يتغلظ بعض أنواعه صفة أو قدرا أو صفة وقدرا فانه ليس قتل واحد من الناس مثل قتل والد أو ولد عالم صالح ولا ظلم بعض الناس مثل ظلم يتيم فقير بين ابوين صالحين وليست الجناية في الاوقات والاماكن الأحوال المشرفة كاحرم والاحرام والشهر الحرام كالجناية في غير ذلك وكذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين بتغليظ الديات إذا تغلظ القتل بأحد هذه الاسباب وقال النبي وقد قيل له أي الذنب أعظم قال إن تجعل لله ندا وهو خالقك قيل ثم أي قال إن تقتل ولدك خشية ان يطعم معك قيل له ثم أي قال ثم ان تزاني حليلة جارك

ولا شك ان من قطع الطريق مرات متعدده وسفك دماء خلق من المسلمين وكثر منه أخذ الأموال كان جرمه أعظم من جرم من لم يفعله الا مرة واحدة ولا ريب ان من أكثر من سب النبي أو نظم القصائد في سبه فان جرمه اغلظ من جرم من سبه بالكلمة الواحدة المنثورة بحيث يجب ان تكون إقامة الحد عليه أو كد والانتصار لرسول الله أوجب وان المقل لو كان أهلا ان يعفى عنه لم يكن هذا أهلا لذلك ولكن هذا الحديث كغيره من الأحاديث يدل على أن جنس الأذى لله ورسوله ومطلق السب الظاهر مهدر لدم الذمي ناقض لعهده وان كان بعض الاشخاص اغلظ جرما من بعض لتغلظ سبه نوعا أو قدرا وذلك من وجوه

إحداها ان النبي قال من لكعب بن الأشرف فانه قد اذى الله ورسوله فجعل علة الندب إلى قتله انه اذى الله ورسوله واذى الله ورسوله اسم مطلق ليس مقيدا بنوع ولا بقدر فيجب أن يكون مطلق اذى الله ورسوله علة للانتداب إلى قتل من فعل ذلك من ذمي وغيره وقليل السب وكثيره ومنظومه ومنثوره اذى بلا ريب فيتعلق به الحكم وهو أمر الله ورسوله بقتله ولو لم يرد هذا المعنى لقال من لكعب ابن الأشرف فانه قد بالغ في اذى الله ورسوله أو قد أكثر من اذى الله ورسوله أو قد دام على اذى الله ورسوله وهو الذي اوتي جوامع الكلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى ولم يخرج من بين شفتيه الا حق في غضبه ورضاه

وكذلك قوله في الحديث الآخر انه نال منا الأذى وهجانا بالشعر ولا يفعل هذا أحد منكم الا كان السيف ولم يقيده بالكثره الثاني انه اذاه بهجائه المنظوم واليهودية بكلام منثور وكلاهما اهدر دمه فعلم ان النظم ليس له تاثير في أصل الحكم إذ لم يخص ذلك الناظم والوصف إذا ثبت الحكم بدونه كان عديم التاثير فلا يجعل جزاء من العلة ولا يجوز أن يكون هذا من باب تعليل الحكم بعلتين لأن ذلك إنما يكون إذا لم تكن إحداهما مندرجة في الأخرى كالقتل والزنى واما إذا اندرجت إحداهما في الأخرى فالوصف الاعم هو العلة والاخص عديم التاثير

الوجه الثالث ان الجنس المبيح للدم لا فرق بين قليله وكثيره وغليظه وخفيفه في كونه مبيحا للدم سواء كان قولا أو فعلا كالردة والزنى والمحاربة ونحو ذلك وهذا هو قياس الأصول فمن زعم ان من الأقوال أو الأفعال ما يبيح الدم إذا كثر ولا يبيحه مع القلة فقد خرج عن قياس الأصول وليس له ذلك الا بنص يكون أصلا بنفسه ولا نص يدل على اباحة القتل في الكثير دون القليل وما ذهب إليه المنازع من جواز قتل من كثر منه القتل بالمثقل والفاحشة في الدبر دون من قل إنما هو حكاية مذهب والكلام في الجميع واحد

ثم انه قد صح عن النبي انه رضخ رأس يهودي بين حجرين لأنه فعل ذلك بجاريه من الانصار فقد قتل من قتل بالمثقل قودا مع انه لم يتكرر منه وقال في الذي يعمل عمل قوم لوط اقتلوا الفاعل والمفعول به ولم يعتبر التكرروكذلك أصحابه من بعده قتلوا فاعل ذلك اما رجما أو حرقا أو غير ذلك مع عدم التكرر وإذا كانت الأصول المنصوصة أو المجمع عليها مستوية في اباحة الدم بين المرة الواحدة والمرات المتعدده كان الفرق بينهما في اباحة الدم اثبات حكم بلا أصل ولا نضير بل على خلاف الأصول الكلية وذلك غير جائز يوضح ذلك ان ما ينقض الايمان من الأقوال يستوي فيه واحده وكثيره وان لم يصرح بالكفر كما لو كفر باية واحدة أو بفريضة ظاهرة أو سب الرسول مرة واحدة فانه كما لو صرح بتكذيب الرسول وكذلك ما ينقض الايمان من الأقوال لو صرح به وقال قد نقضت العهد وبرئت من ذمتكم انتقض عهده بذلك وان لم يكرره فكذلك ما يستلزم ذلك من السب والطعن في الدين ونحو ذلك لا يحتاج إلى تكرير

الوجه الرابع انه إذا أكثر من هذه الأقوال والأفعال فاما ان يقتل لأن جنسها مبيح للدم أو لأن المبيح قدر مخصوص فان كان الأول فهو المطلوب وان كان الثاني فماحد ذلك المقدار المبيح للدم وليس لاحد ان يحد في ذلك حدا الا بنص أو إجماع أو قياس عند من يرى القياس في المقدرات والثلاثة منتفيه في مثل هذا فانه ليس في الأصول قول أو فعل يبيح الدم منه عدد مخصوص ولا يبيحه أقل منه ولا ينتقضته هذا الا بالإقرار في الزنى فانه لا يثبت الا بأربع مرات عند من يقول به أو القتل بالقسامة فانه لا يثبت الا بعد خمسين يمينا عند من يرى القود بها أو رجم الملاعنه فانه لا يثبت الا بعد ان يشهد الزوج أربع مرات عند من يرى انها ترجم بشهادة الزوج إذا نكلت لأن المبيح للدم ليس هو الإقرار ولا الايمان وانما المبيح فعل الزنى أو فعل القتل وانما الإقرار والايمان حجة ودليل على ثبوت ذلك ونحن لم ننازع في ان الحجج الشرعية لها نصب محدودة واني قلنا ان نفس القول أو العمل المبيح للدم لا نصاب له في الشرع وانما الحكم معلق بجنسه

الوجه الخامس ان القتل عند كثرة هذه الأشياء اما أن يكون حدا يجب فعله أو تعزيزا يرجع إلى راي الإمام فان كان الأول لا بد من تحديد موجبه ولا حد له الا تعليقه بالجنس إذ القول بما سوى ذلك تحكم وان كان الثاني فليس في الأصول تعزيز بالقتل فلا يجوز اثباته الا بدليل يخصه والعمومات الواردة في ذلك مثل قوله لا يحل دم أمرء مسلم الا بإحدى ثلاث يدل على ذلك أيضا

الوجه الثاني من الاستدلال به ان النفر الخمسة الذين قتلوه من المسلمين محمد بن مسلمة وابا نائله وعباد بن بشر والحارث بن اوس وابا عبس بن جبر قد اذن لهم النبي ان يغتالوه ويخدعوه بكلام يظهرون به انهم قد آمنوه ووافقوه ثم يقتلوه ومن المعلوم ان من أظهر لكافر أمانا لم يجز قتله بعد ذلك لأجل الكفر بل لو اعتقد الكافر الحربي ان المسلم امنه وكلمه على ذلك صار مستأمنا قال النبي فيما رواه عنه عمرو بن الحمق من امن رجل على دمه وماله ثم قتله فانا منه بريء وان كان المقتول كافرا رواه الإمام أحمد وابن ماجه

وعن سليمان بن صرد عن النبي قال إذا امنك الرجل على دمه وماله فلا تقتله رواه ابن ماجه وعن أبي هريرة عن النبي قال الايمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن رواه أبو داود وغيره

وقد زعم الخطابي انهم إنما فتكوا به لأنه كان قد خلع الأمان ونقض العهد قبل هذا وزعم ان مثل هذا جائز في هذا جائز في الكافر الذي لا عهد له كما جاز البيات والاغارة عليهم في اوقات الغرة لكن يقال هذا الكلام الذي كلموه به صار مستأمنا وأدنى أحواله أن يكون له شبهة أمان مثلل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر فان الأمان يعصم دم الحربي ويصير مستأمنا باقل من هذا كما هو معروف في مواضعه وانما قتلوه لأجل هجائه واذاه لله ورسوله ومن حل قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمان ولا بعهد كما لو امن المسلم من وجب قتله لأجل قطع الطريق ومحابرة الله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد الموجب للقتل أو امن من وجب قتله لأجل زناه أو امن من وجب قتله لأجل الردة أو لأجل ترك اركان الإسلام ونحو ذلك ولا يجوز ان يعقد له عقد عهد سواء كان عقد أمان أو عقد هدنة أو عقد ذمة لأن قتله حد من الحدود وليس قتله لمجرد كونه كافرا حربيا كما سيأتي واما الاغارة والبيات فليس هناك قول أو فعل صاروا به امنين ولا اعتقدوا انهم قد آمنوا بخلاف قصة كعب بن الأشرف فثبت ان اذى الله ورسوله بالهجاء ونحوه لا يحقن معه الدم بالأمان فلأن لا يحقن معه بالذمة المؤبدة والهدنة المؤقتة بطريق الأولى فان الأمان يجوز عقده لكل كافر ويعقده كل مسلم ولا يشترط على المستأمن شئ من الشروط والذمة لا يعقدها الا الإمام أو نائبه ولا تعقد الا بشروط كثيرة تشترط على أهل الذمة من التزام الصغار ونحوه وقد كان عرضت لبعض السفهاء شبهة في قتل ابن الأشرف فظن أن دم مثل هذا يعصم بذمه متقدمة أو بظاهر أمان وذلك نظير الشبهه التي عرضت لبعض الفقهاء حتى ظن أن العهد لا ينتقد بذلك فروى ابن وهب أخبرني سفيان بن عيينة عن عمر بن سعيد اخي سفيان بنى سعيد الثوري عن ابيه عن عباية قال ذكر قتل ابن الأشرف عند معاوية فقال ابن يامين كان قتله غدرا فقال محمد بن مسلمة يا معاوية أيغدر عندك رسول الله ثم لا تنكر والله لا يظلني وايك سقف بيت أبدا ولا يخلوا لي دم هذا الا قتلته وقال الواقدي حدثني ابراهيم بن جعفر عن ابيه قال قال مروان بن الحكم وهو على المدينة وعنده ابن يامين النظيري كيف كان قتل ابن الأشرف قال ابن يامين كان غدرا ومحمد بن مسلمة جالس شيخ كبير فقال يا مروان ايغدر رسول الله عندك والله ما قتلناه الا بامر رسول الله والله لا يؤويني واياك سقف بيت الا المسجد واما أنت ياابن يامين فالله علي ان افلت وقدرت عليك وفي يدي سيف الا ضربت به راسك فكان ابن يامين لا ينزل من بني قريضه حتى يبعث له رسولا ينظر محمد بن مسلمة فإن كان في بعض ضياعه نزل فقضى حاجته ثم صدر والا لم ينزل فبين محمد في جنازة وابن يامين بالبقيع فراى محمد نعشا عليه جرائد رطبة لامراءة جاء فحله فقام إليه الناس فقالوا يا أبا عبد الرحمن ما تصنع نحن نكفيك فقام إليه فلم يزل بضربه بها جريدة جريدة حتى كسر ذلك الجريد على وجهه وراسه حتى لم يترك به مصحا ثم أرسله ولا طباخ به ثم قال والله لو قدرت على السيف لضربتك به فإن قيل فإذا كان هو وبنو النضير قبيلته موادعين فما معنى ما ذكره ابن إسحاق قال حدثني مولى لزيد بن ثابت حدثتني ابنة محيصة عن ابيها محيصة ان رسول الله قال من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة رجل من تجار يهود كان يلبسهم ويبايعهم فقتله وكان حويصة بن مسعود إذا ذاك لم يسلم وكان اسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول أي عدو الله قتلته اما والله لرب شحم في بطنك من ماله فوالله ان كان لاول إسلام حويصة فقال محيصة فقلت له والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك فقال حويصة والله ان ديننا بلغ منك هذا لعجب وقال الواقدي بالاسانيد المتقدمة قالوا فلما اصبح رسول الله في الليلة التي قتل فيها ابن الأشرف قال رسول الله من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه فخافت يهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم ولم ينطلقوا وخافوا ان يبيتوا كما بيت ابن الأشرف وذكر قتل ابن سنينة إلى ان قال ففزعت يهود ومن معها من المشركين وساق القصة كما تقدم عنه

فان هذا يدل على انهم لم يكونوا موادعين والا لما أمر بقتل من صودف منهم ويدل على أن العهد الذي كتبه النبي بينه وبين اليهود كان بعد قتل ابن الأشرف وحين اذن فلا يكون ابن الأشرف معاهدا

قلنا إنما أمر النبي بقتل من ظفر به منهم لأن كعب بن الأشرف كان من ساداتهم وقد تقدم انه قال ما عندكم يعني في النبي قالوا عداوته ما حيينا وكانوا مقيمين خارج المدينة فعظم عليهم قتله وكان مما يهيجهم على المحاربة وإظهار نقض العهد فامر النبي بقتل من جاء منهم لأن مجيئه دليل على نقض العهد وانتصاره للمقتول وذبه عنه واما من قر فهو مقيم على عهده المتقدم لأنه لم يظهر العداوة ولهذا لم يحاصرهم النبي ولم يحاربهم حتى أظهروا عداوته بعد ذلك واما هذا الكتاب فهو شئ ذكره الواقدي وحده

وقد ذكر هو أيضا ان قتل ابن الأشرف في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وان غزوة بني قنيقاع كانت قبل ذلك في شوال سنة اثنتين بعد بدر بنحو شهر

وذكر أن الكتاب الذي وادع فيه النبي اليهود كان كانت لما قدم المدينة قبل بدر وعلى هذا فيكون هذا كتابا ثانيا خاصا لابني النضير تجدد فيه العهد الذي بينه وبينهم غير الكتاب الأول الذي كتبه بينه وبين جميع اليهود لأجل ما كانوا قد أرادوا من إظهار العداوة وقد تقدم ان ابن الأشرف كان معاهدا وتقدم أيضا ان النبي كتب الكتاب لما قدم المدينة في اوائل الأمر والقصة تدل على ذلك والا لما جاء اليهود إلى النبي وشكوا إليه قتل صاحبهم ولو كانوا محاربين لم يستنكروا قتله وكلهم ذكر أن قتل ابن الأشرف كان بعد بدر وان معاهدة النبي لليهود كانت قبل بدر كما ذكره الواقدي

قال ابن إسحاق وكان فيما بين ذلك من غزو رسول الله أمر بني قينقاع يعني فيما بين بدر وغزوة الفرع من العام المقبل في جمادى الأولى وقد ذكر أن بني قينقاع هم أول من حارب ونقض العهد

الحديث الرابع ما روى عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال قال رسول الله من سب نبيا قتل ومن سب أصحابه جلد رواه أبو محمد الخلال وأبو القاسم الازجي ورواه أبو ذر الهروي ولفظه من سب نبيا فاقتلوه ومن سب أصحابي فاجلدوه وهذا الحديث قد رواه عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن زباله قال ثنا عبد الله بن موسى بن جعفر عن علي بن موسى عن ابيه عن جده عن محمد بن علي بن الحسين عن ابيه عن الحسين بن علي عن ابيه وفي القلب منه حزازه فان هذا الإسناد الشريف قد ركب عليه متون منكرة والمحدث به عن أهل البيت ضعيف فان كان محفوظا فهو دليل على وجوب قتل من سب نبيا من الأنبياء وظاهره يدل على انه يقتل من غير استتابة وان القتل حد له

الحديث الخامس ما روى عبد الله بن قدامى عن أبي برزة قال اغلظ رجل لأبي بكر الصديق رضى الله عنه فقلت اقتله فانتهرني وقال ليس هذا لاحد بعد رسول الله رواه النسائي من حديث شعبه عن توبة العنبري عنه وفي رواية لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر الفقيه عن أبي برزة ان رجلا شتم أبا بكر فقلت يا خليفة رسول الله الا اضرب عنقه فقال ويحك أو ويلك ما كانت لاحد بعد رسول الله

ورواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن عبد الله بن مطرف عن أبي برزة قال كنت عند أبي بكر رضى الله عنه فتغيض على رجل فاشتد عليه فقلت تاذن لي يا خليفة رسول الله اضرب عنقه قال فاذهبت كلمتي غضبه فقام فدخل فأرسل الي فقال ما الذي قلت انفا قلت ائذن لي اضرب عنقه قال اكنت فاعلا لو أمرتك قلت نعم قال لا والله ما كانت لبشر بعد رسول الله

قال أبو داود في مسائله سمعت أبا عبد الله يسال عن حديث أبي بكر ما كانت لاحد بعد رسول الله فقال لم يكن لأبي بكر ان يقتل رجلا الا بإحدى ثلاث وفي رواية بإحدى الثلاث التي قالها رسول الله كفر بعد ايمان وزنى بعد احصان وقتل نفس بغير نفس والنبي كان له ان يقتل

وقد استدل به على جواز قتل ساب النبي جماعات من العلماء منهم أبو داود وإسماعيل بن إسحاق القاضي وأبو بكر عبد العزيز والقاضي أبو يعلى وغيرهم من العلماء وذلك لأن أبا برزة لما رأى الرجل قد شتم أبا بكر واغلظ له حتى تغيض أبو بكر استاذنه في ان يقتله لذلك وأخبره انه لو أمره لقتله فقال أبو بكر ليس هذا لاحد بعد النبي

فعلم ان النبي كان له ان يقتل من سبه ومن اغلظ له وان له ان يأمر بقتل من لا يعلم الناس منه سببا يبيح دمه وعلى الناس ان يطيعوه في ذلك لأنه لا يأمر الا بما أمر الله به ولا يأمر بمعصية الله قط بل من اطاعه فقد اطاع الله

فقد تضمن الحديث خصيصتين لرسول الله

إحداهما انه يطاع في كل من أمر بقتله

والثاية ان له ان يقتل من شتمه واغلظ عليه

وهذا المعنى الثاني الذي كان لله باقي في حقه بعد موته فكل من شتمه أو اغلظ في حقه كان قتله جائزا بل ذلك بعد موته أو كد واوكد لأن حرمته بعد موته اكمل والتساهل في عرضه بعد موته غير ممكن

وهذا الحديث يفيد ان سبه في الجملة يبيح القتل ويستدل بعمومه على قتل الكافر والمسلم

الحديث السادس قصة العصماء بنت مروان ما روى عن ابن عباس قال هجت امرأة من خطمة النبي فقال من لي بها فقال رجل من قومها انا يا رسول الله فنهض فقتلها فأخبر النبي فقال لا ينتطح فيها عنزان

وقد ذكر بعض أصحاب المغازي وغيرهم قصتها مبسوطة

قال الواقدي حدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل عن ابيه ان عصماء بنت مروان من بني امية بنت زيد كانت تحت يزيد بن زيد ابن حصن الخطمي وكانت تؤذي النبي وتعيب الإسلام وتحرض على النبي وقالت شعرا

فباست بني مالك والنبيت ** وعوف وباست بني الخزرج

اطعتم اتاوي من غيركم ** فلا من مراد ولا مذحج

ترجونه بعد قتل الرؤوس كما يرتجى مرق المنضج

قال عمير بن عدي الخطمي حين بلغه قولها وتحريضها اللهم ان لك على نذرا لئن رددت رسول الله إلى المدينة لاقتلنها ورسول الله يومئذ لبدر فلما رجع النبي من بدر جائها عمير بن عدي في جوف الليل حتى دخل عليها في بيتها وحولها نفرا من ولدها نيام منهم من ترضعه في صدرها فجسها بيده فوجد الصبي ترضعه فنحاه عنها ثم وضع سيفه على صدرها حتى انفذه من ظهرها ثم خرج حتى صلى الصبح مع النبي فلما انصرف النبي نظر إلى عمير فقال أقتلت بنت مروان قال نعم بابي أنت يا رسول الله وخشي عمير أن يكون افتات على رسول الله بقتلها فقال هل علي في ذلك شيء يا رسول الله قال لا ينتطح فيها عنزان فان أول ما سمعت هذه الكلمة من النبي قال عمير فالتفت النبي إلى من حوله فقال إذا أحببتم ان تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي فقال عمر بن الخطاب انظروا إلى هذا الأعمى الذي تسرى في طاعة الله فقال لا تقل الأعمى ولكنه البصير

فلما رجع عمير من عند رسول الله وجد بنيها في جماعة يدفنونها فاقبلوا إليه حين رواه مقبلا من المدينة فقالوا يا عمير أنت قتلتها نعم فيكدوني جميعا ثم لا تنظرون فوالذي نفسي بيده لو قلتم باجمعكم ما قالت لظربتكم بسيفي هذا حتى اموت أو اقتلكم فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة وكان منهم رجال يستخفون بالإسلام خوفا من قومهم فقال حسان بن ثابت يمدح عمير بن عدي

قال أنشدنا عبد الله بن الحارث

بني وائل وبني واقف ** وخطمة دون بني الخزرج

متى ما دعت اختكم ويحها

بعولتها والمنايا تجي

فهزت فتى ماجدا عرقه كريم المداخل والمخرج

فضرجها من نجيع الدما ** قبيل الصباح ولم تخرج

فاوردك الله برد الجنا ** ن جذلان في نعمة المولج **

قال عبد الله بن الحارث عن ابيه وكان قتلها لخمس ليالي بقين من رمضان مرجع النبي من بدر

وروى هذه القصة اخصر من هذا أبو أحمد العسكري ثم قال كانت هذه المراة تهجو رسول الله وتؤذيه

وانما خص النبي العنز دون سائر الغنم لأن العنز تشام العنز ثم تفارقها وليس كنطاح الكباش وغيرها وذكر هذه القصة مختصرة محمد بن سعد في الطبقات

وقال أبو عبيد في الأموال وكذلك كانت قصة عصماء اليهودية إنما قتلت لشتمها النبي وهذه المراة ليست هي التي قتلها سيدها الأعمى ولا اليهودية التي قتلت لأن هذه المراة من بني امية بن زيد أحد بطون الانصار ولها زوج من بني خطمة ولهذا والله أعلم نسبت في حديث ابن عباس إلى بني خطمة والقاتل لها غير زوجها وكان لها بنون كبار وصغار نعم كان القاتل من قبيلة زوجها كما في الحديث وقال محمد بن إسحاق أقام مصعب بن عمير عند اسعد بن زرارة يدعوا الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الانصار الا وفيها رجال ونساء مسلمون الا ما كان من دار بني امية بن زيد وخطمة ووائل وواقف وتلك اوس الله وهم من الاوس بن حارثة وذلك انه كان فيهم أبو قيس بن الاسلت كان شاعرهم يسمعون منه ويعظمونه

فهذا الذي ذكره ابن إسحاق يصدق ما رواه الواقدي من تاخر ظهور الإسلام ببنى خطمة والشعر الماثور عن حسان يوافق ذلك

وانما سقنا القصة من راوية أهل المغازي مع ما في الواقدي من الضعف للشهرة هذه القصة عندهم مع انه لا يختلف اثنان ان الواقدي من اعلم الناس بتفاصيل أمور المغازي وأخبر الناس بأحوالها وقد كان الشافعي وأحمد وغيرهما يستفيدون علم ذلك من كتبه نعم هذا الباب يدخله خلط الروايات بعضها ببعض حتى يطهر انه سمع مجموع القصة من شيوخه وانما سمع من كل واحد بعضها ولم يميزه ويدخله أخذ ذلك من الحديث المرسل والمقطوع وربما حدس الراوي بعض الأمور لقرائن استفادها من عدة جهات ويكثر من ذلك اكثارا فينسب لاجله إلى المجازفة في الرواية وعدم الضبط فلم يمكن الاحتجاج بما ينفرد به فاما الاستشهاد بحديثه والاعتضاد به فمما لايمكن المنازعة فيه لا سيما في قصة تامة يخبر فيها باسم القاتل والمقتول وصورة الحال فان الرجل وأمثاله أفضل من أن يقعوا في مثل هذا في كذب ووضع على انا لم يثبت قتل الساب بمجرد هذا الحديث وانما ذكرناه للتقوية والتوكيد وهذا يحصل ممن هو دون الواقدي

ووجه الدلالة ان هذه المراة لم تقتل الا لمجرد اذى النبي وهجوه وهذا بين في قول ابن عباس هجت امرأة من خطمة النبي فقال من لي بها فعلم انه إنما ندب إليها لأجل هجوها وكذلك في الحديث الآخر فقال عمير حين بلغه قولها وتحريضها اللهم ان لك علي نذرا لئن رددت رسول الله إلى المدينة لاقتلنها وفي الحديث لما قال له قومه أنت قتلتها فقال نعم فكيدوني جميعا ثم لاتنظروني فوالذي نفسي بيده لو قلتم جميعا ما قالت لضربتكم بسيفي حتى اموت أو اقتلكم فهذه مقدمة ومقدمة أخرى وهو ان شعرها ليس فيه تحريض على قتال النبي حتى يقال التحريض على القتال قتال وانما فيه تحريض على ترك دينه وذم له ولمن اتبعه واقصى غاية ذلك ان لا يدخل في الإسلام من لم يكن دخل أو ان يخرج عنه من دخل فيه وهذا شان كل ساب

يبين ذلك انها هجته بالمدينة وقد أسلم أكثر قبائلها وصار المسلم بها اعز من الكافر ومعلوم ان الساب في مثل هذه الحال لايقصد ان يقاتل الرسول وأصحابه وانما يقصد اغاطتهم وان لا يتابعوا

وأيضا فانها لم تكن تطمع في التحريض على القتال فانه لاخلاف بين أهل العلم بالسيرة ان جميع قبائل الاوس والخزرج لم يكن فيهم من يقاتل النبي بيد ولا لسان ولا كان أحد بالمدينة يتمكن من إظهار ذلك وانما غاية الكافر أو المنافق منهم ان يثبط الناس عن اتباعه أو ان يعين على رجوعه من المدينة إلى مكة ونحو ذلك مما فيه تخذيل عنه وحض على الكفر به لا على قتاله على أن الهجاء ان كان من نوع القتال فيجب انتقاض العهد به ويقتل به الذمي فانه إذا قاتل انتقض عهده لأن العهد اقتضى الكف عن القتال فإذا قاتل بيد أو لسان فقد فعل ما يناقض العهد وليس بعد القتال غاية في نكث العهد

إذا تبين ذلك فمن المعلوم من سيرة النبي الظاهر علمه عند كل من له علم بالسيرة انه لما أقام بالمدينة لم يحارب أحدا من أهل المدينة بل وادعهم حتى اليهود خصوصا بطون الاوس والخزرج فانه كان يسالمهم ويتالفهم بكل وجه وكان الناس إذ قدمها على طبقات منهم المؤمن وهم الأكثرون ومنهم الباقي على دينه وهو متروك لا يحارب ولا يحارب وهوو المؤمنون من قبيلته وحلفائهم أهل سلم لا أهل حرب حتى حلفاء الانصار اقرهم النببي على حلفهم

قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب قدم رسول الله المدينة وليس فيها دار من دور الانصار الا فيها رهط من المسلمين الا بني خطمة وبني واقف وبني وائل كانوا آخر الانصار إسلاما وحول المدينة حلفاء الانصار كانوا يستظهرون بهم في حربهم فامرهم رسول الله ان يخلوا حلف حلفائهم للحرب التي كانت بين رسول الله وبين من عادى الإسلام

وكذلك قال الواقدي فيما رواه عن يزيد بن رومان وابن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله في قصة ابن الأشرف قال فكان الذي اجتمعوا عليه قالوا وكان رسول الله قدم المدينة وأهلها اخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام فيهم أهل الحلقة والحصون ومنهم حلفاء للحيين جميعا الاوس والخزرج فأراد رسول الله حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم وموادعتهم وكان الرجل يكون مسلما وابوه مشركا

ومن المعلوم ان قبائل الاوس كانوا حلفاء بعضهم لبعض فإذا كان النبي قد اقرهم كانت هذه المراة من المعاهدين وكان منهم المظهر للإسلام المبطن لخلافه يقول بلسانه ماليس في قلبه وكان الإسلام والايمان يفشوا في بطون الانصار بطنا بعد بطن حتى لم يبق فيهم مظهر للكفر بل صاروا اما مؤمنا واما منافقا وكان من لم يسلم منهم بمنزلة اليهود موادع مهادن أو هو أحسن حالا من اليهود لما يرجى فيه من العصبية لقومه وان يهوى هواهم ولا يرى ان يخرج عن جماعتهم وكان النبي يعاملهم من الكف عنهم واحتمال اذاهم بأكثر مما يعامل به اليهود لما كان يرجوه منهم ويخاف من تغيير قلوب من أظهر الإسلام من قتالهم لو اوقع بهم وهو في ذلك متبع قوله تعالى " لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا اذى كثيرا وان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الأمور "

ثم انه مع ندب الناس إلى قتل المرأة التي هجته وقال فيمن قتلها إذا أحببتم ان تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى هذا فثبت بذلك ان هجاءه وذمه موجب للقتل غير الكفر وثبت ان الساب يجب قتله وان كان من الحلفاء والمعاهدين ويقتل في الحال التي يحقن فيها دم من ساواه في غير السب لا سيما ولو لم تكن معاهدة فقتل المراة لا يجوز الا ان تقاتل لأنه رأى امرأة في بعض مغازيه مقتولة فقال ما كانت هذه لتقاتل ونهى عن قتل النساء والصبيان

ثم انه أمر بقتل هذه المراة ولم تقاتل بيدها فلو لم يكن السب موجبا للقتل لم يجز قتلها لأن قتل المراة لمجرد الكفر لا يجوز ولا نعلم قتل المراة الكافرة الممسكة عن القتال ابيح في وقت من الاوقات بل القران وترتيب نزوله دليل على انه لم يبيح قط لأن أول اية نزلت في القتال " اذن للذين يقاتلون بانهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم " الآية فاباح للمؤمنين القتال دفعا عن نفوسهم وعقوبة لمن أخرجهم من ديارهم ومنعهم من توحيد الله وعبادته وليس للنساء في ذلك حظ

ثم انه كتب عليهم القتال مطلقا وفسره بقوله " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم " الآية فمن ليس من أهل القتال لم يؤذن في قتاله والنساء لسن من أهل القتال فإذا كان قد أمر بقتل هذه المراة فاما ان يقال إن هجاءها قتال فهذا يفيدنا ان هجاء الذمي قتال فينقض العهد ويبيح الدم أو يقال ليس بقتال وهو الأظهر لما قدمناه من انه لم يكن فيه تحريض على القتال ولا كان لها راي في الحرب فيكون السب جناية مضرة بالمسلمين غير القتال موجبة للقتل بمنزلة قطع الطريق عليهم ونحو ذلك وذلك يفيد ان السب موجب للقتل لوجوه

أحدها انه لو لم يكن موجبا للقتل لما جاز قتل المراة وان كانت حربية لأن الحربية إذا لم تقاتل بيد ولالسان لم يجز قتلها الا بجناية موجبة للقتل وهذا ما احسب فيه مخالفا لا سيما عند من يرى قتالها بمنزلة قتال الصائل

الثاني ان هذه السابة كانت من المعاهدين بل ممن هو أحسن حالا من المعاهدين في ذلك الوقت فلو لم يكن السب موجبا لدمها لما قتلت أو لما جاز قتلها ولهذا خاف الذي قتلها ان تتولد فتنة حتى قال النبي لاينتطح فيها عنزان مع ان أنتطاحهما إنما هو كالتشام فبين انه لا يتحرك لذلك قليل من الفتن ولا كثير رحمة من الله بالمؤمنين ونصرا لرسوله ودينه فلو لم يكن هناك ما يحذر معه من قتل هذه لولا الهجاء لما خيف هذا الثالث ان الحديث مصرح بانها إنما قتلت لأجل ما ذكرته من الهجاء وان سائر قومها تركوا إذ لم يهجوا أو انهم لو هجوا لفعل بهم كما فعل بها فظهر بذلك ان الهجاء موجب بنفسه للقتل سواء كان الهاجي حربيا أو مسلما أو معاهدا حتى يجوز ان يقتل لاجله من لايقتله بدونه وان كان الحربي المقاتل يجوز قتله من وجه آخر وذلك في المسلم ظاهر واما في المعاهد فلأن الهجاء إذا اباح دم المراة فهو كالقتال أو اسوا حالا من القتال

الرابع ان المسلمين كانوا ممنوعين قبل الهجرة وفي اوائل الهجرة من الابتداء بالقتال وكان قتل الكفار حينئذ محرما وهو من قتل النفس بغير حق كما قال تعالى " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم " إلى قوله " فلما كتب عليهم القتال " ولهذا أول ما انزل من القران فيه نزل بالاباحة بقوله " اذن للذين يقاتلون " وهذا من العلم العام بين أهل المعرفة بسيرة رسول الله لايخفى على أحد منهم انه كان قبل الهجرة وبعيدها ممنوعا عن ابتداء القتل والقتال ولهذا قال للانصار الذين بايعوه ليلة العقبة لما استاذنوه في ان يميلوا على أهل منى انه لم يؤذن لي في القتال وكان في ذلك حينئذ بمنزلة الأنبياء الذين لم يؤمروا بالقتال كنوح وهود وصالح وابراهيم وعيسى بل كأكثر الأنبياء غير أنبياء بني إسرائيل

ثم انه لما هاجر لم يقاتل أحدا من أهل المدينة ولم يأمر بقتل أحد من رؤوسهم الذين كانوا يجمعونهم على الكفر ولا من غيرهم والآيات التي نزلت إذ ذاك إنما تامر بقتال الذين أخرجوهم وقاتلوهم ونحو ذلك وظاهر هذا انه لم يؤذن لهم إذ ذاك في ابتداء قتل الكافرين من أهل المدينة فان دوام إمساكهم عنهم يدل على استحباحة أو وجوبه وهو في الوجوب أظهر لما ذكرنا لأن الإمساك كان واجبا والمغير لحاله لم يشمل أهل المدينة فبقوا على الوجوب المتقدم مع فعله قال موسى بن عقبة عن الزهري كانت سيرة رسول الله في عدوه قبل ان تنزل براءة يقاتل من قاتله ومن كف يده وعاهده كف عنه قال الله تعالى " فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم والقوا اليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا " وكان القران ينسخ بعضه بعضا فإذا نزلت اية نسخت التي قبلها وعمل بالتي انزلت وبلغت الأولى منتهى العمل بها وكان ما قد عمل بها قبل ذلك طاعة لله حتى نزلت براءة وإذا أمر بقتل هذه المراة التي هجته ولم يؤذن له في قتل قبيلتها الكافرين علم ان السب موجب للقتل وان كان هناك ما يمنع القتال لولا السبب كالعهد والانوثة ومنع قتل الكافر الممسك أو عدم اباحته

وهذا وجه حسن دقيق فان الاصل ان دم الآدمي معصوم لا يقتل الا بالحق وليس القتل للكفر من الأمر الذي اتفقت عليه الشرائع ولا اوقات الشريعة الواحدة كالقتل قودا فانه مما لا تختلف فيه الشرائع ولا العقول وكان دم الكافر في أول الإسلام معصوما بالعصمة الاصلية وبمنع الله المؤمنين من قتاله ودماء هؤلاء القوم كدم القبطي الذي قتله موسى وكدم الكافر الذي لم تبلغه الدعوة في زماننا أو أحسن حالا من ذلك وقد عد موسى ذلك ذنبا في الدنيا والآخرة مع ان قتله كان خطا شبه عمد أو خطا محضا ولم يكن عمدا محضا

فظاهر سيرة نبيا وظاهر ما اذن له فيه ان حال أهل المدينة إذ ذاك ممن لم يسلم كانت كهذه الحال فإذا قتل المراة التي هجته من هؤلاء وليسوا عنده محاربين بحيث يجوز قتالهم مطلقا كان قتل المراة التي تهجوه

من أهل الذمة بهذه المثابة وأولى لأن هذه قد عاهدناها على أن لا تسب وعلى أن تكون صاغرة وتلك لم نعاهدها على شئ

الحديث السابع قصة أبي عفك اليهودي ذكره أهل المغازي والسير قال الواقدي ثنا سعيد بن محمد عن عمارة بن غزية وحدثناه أبو مصعب إسماعيل بن مصعب بن إسماعيل بن زيد بن ثابت عن أشياخه قالا ان شيخا من بني عمرو بن عوف يقال له أبو عفك وكان شيخا كبيرا قد بلغ عشرين ومئة سنة حين قدم النبي المدينة كان يحرض على عداوة النبي ولم يدخل في الإسلام فلما خرج رسول الله إلى بدر ظفره الله بما ظفره فحسده وبغى فقال وذكر قصيدة تتضمن هجو النبي وذم من اتبعه أعظم ما فيها قوله

فيسلبهم أمرهم راكب ** حراما حلالا لشتى معا

قال سالم بن عمير علي نذر ان اقتل أبا عفك أو اموت دونه فامهل فطلب له غرة حتى كانت ليلة صائفة فنام أبو عفك بالفناء في الصيف في بني عمرو بن عوف فاقبل سالم بن عمير فوضع السيف على كبده حتى خش في الفراش وصاح عدو الله فثاب إليه اناس ممن هم على قوله فادخلوا منزله وقبره وقالوا من قتله والله لو نعلم من قتله لقتلناه به

وذكر محمد بن سعد انه كان يهوديا وقد ذكرنا ان يهود المدينة كلهم كانوا قد عاهدوا ثم انه لما هجا وأظهر الذم قتل

قال الواقدي عن ابن رقيش قتل أبو عفك في شوال على رأس عشرين شهرا وهذا قديم قبل قتل ابن الأشرف وهذا فيه دلالة واضحة على أن المعاهد إذا أظهر السب ينتقض عهده ويقتل غيلة لكن هو من رواية أهل المغازي وهو يصلح أن يكون مؤيدا مؤكدا بلا تردد

الحديث الثامن حديث أنس بن زنيم الديلي وهو مشهور عند أهل السير ذكره ابن إسحاق والواقدي وغيرهما

قال الواقدي حدثني عبد الله بن عمرو بن زهير عن محجن بن وهب قال كان آخر ما كان بين خزاعة وبين كنانة ان أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله فسمعه غلام من خزاعه فوقع به فشجه فخرج إلى قومه فاراهم شجته فثار الشر مع ما كان بينهم وما تطلب بنو بكر من خزاعة من دمائها

قال الواقدي حدثني حزام بن هشام بن خالد الكعبي عن ابيه قال وخرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا من خزاعة يستنصرون رسول الله ويخبرونه بالذي أصابهم وذكر قصة فيها انشاد القصيدة التى أولها

اللهم اني ناشد محمدا

قال فلما فرغ الركب قالوا يا رسول الله ان أنس بن زنيم الديلي قد هجاك فندر رسول الله دمه فبلغ ذلك أنس بن زنيم

فقدم معتذرا إلى رسول الله مما بلغه عنه فقال وذكر قصيدة فيها مدح الرسول الله أولها

أنت الذي تهدي معد بامره ** بل الله يهديها وقال لك أشهد

فما حملت من ناقة فوق رحلها ** ابر واوفى ذمه من محمد

تعلم رسول الله انك مدركي ** وان وعيدا منك كالاخذ باليد

وفيها

تعلم رسول الله انك قادر ** على كل سكن من تهام ومنجد

ونبي رسول الله اني هجوته ** فلا رفعت سوطي الي إذا يدي

سوى انني قد قلت يا ويح فتية ** اصيبوا بنحس يوم طلق واسعد

ويقول فيها

فاني لا عرضا خرقت ولا دما ** هرقت ففكر عالم الحق واقصد

قال الواقدي أنشدنيها حزام وبلغت رسول الله قصيدته هذه واعتذاره وكلمه نوفل بن معاوية الديلي فقال يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو ومن منا من لم يعادك ويؤذيك ونحن في جاهلية لأندري ما ناخذ وما ندع حتى هدانا الله بك وانقذنا بك من الهلك وقد كذب عليه الركب وكثروا عندك فقال دع الركب عنك فانا لم نجد بتهامة أحدا من ذي رحم ولا بعيد الرحم كان ابر من خزاعة فاسكت نوفل بن معاوية فلما سكت قال رسول الله قد عفوت عنه قال نوفل فداك أبي وامي

وقال ابن إسحاق وقال أنس بن زنيم يعتذر إلى رسول الله مما كان قد قال فيهم عمرو بن سالم حين قدم على رسول الله يستنصره ويذكر انه قد نالوا من رسول الله وانشد تلك القصيدة وفيها

وتعلم ان الركب ركب عويمر ** هم الكاذبون المخلفو كل موعد

فوجه الدلالة ان النبي كان قد صالح قريشا وهادنهم عام الحديبية عشر سنين ودخلت خزاعة في عقده وكان أكثرهم مسلمين وكانوا عيبة نصح لرسول الله مسلمهم وكافرهم ودخلت بنو بكر في عهد قريش فصار هؤلاء كلهم معاهدين وهذا مما تواتر به النقل ولم يختلف فيه أهل العلم

ثم ان هذا الرجل المعاهد هجا النبي على ما قيل عنه فشجه بعض خزاعة ثم أخبروا النبي انه هجاه يقصدون بذلك اغراء ببني بكر فندر رسول الله دمه أي اهدره ولم يندر دم غيره فلولا انهم علموا ان هجاء النبي من المعاهدة مما يوجب الانتقام منه لم يفعلوا ذلك

ثم ان النبي ندر دمه بذلك مع ان هجاءه كان حال العهد وهذا النص في ان المعاهد الهاجي يباح دمه

ثم انه لما قدم أسلم في شعره ولهذا عدوه من أصحاب النبي وقوله تعلم رسول الله تعلم رسول الله ونبي رسول الله دليل على انه أسلم قبل ذلك أو هذا وحده إسلام منه فان الوثني إذا قال محمد رسول الله حكم بإسلامه ومع هذا فقد انكر أن يكون هجا النبي ورد شهادة أولئك بانهم اعداء له لما بين القبيلتين من الدماء والحرب فلو لم يكن ما فعله مبيحا لدمه لما احتاج إلى شئ من ذلك

ثم انه بعد إسلامه واعتذاره وتكذيب المخبرين ومدحه لرسول إنما طلب العفو من النبي عن إهدار دمه والعفو إنما يكون مع جواز العقوبة على الذنب فعلم ان النبي كان له ان يعاقبه بعد مجيئه مسلما معتذرا إنما عفا عنه حلما وكرما

ثم ان في الحديث ان نوفل بن معاوية هو الذي شفع له إلى النبي وقد ذكر عامة أهل السير ان نوفلا هذا هو رأس البكريين الذين عدوا على خزاعة وقتلوهم واعانتهم قريش على ذلك وبسبب ذلك انتقض عهد قريش وبني بكر ثم انه أسلم قبل الفتح حتى صار يشفع في الذي هجا النبي فعلم ان الهجاء اغلظ من نقض العهد بالقتال بحيث إذا نقض قوم العهد بالقتال وأخرون هجوا ثم أسلموا عصم دم الذي قاتل وجاز الانتقام من الهاجي ولهذا قرن هذا الرجل خرق العرض بسفك الدم فعلم ان كليهما موجب للقتل وان خرق عرضه كان أعظم عندهم من سفك دماء المسلمين والمعاهدين

ومما يوضح هذا ان النبي لم يهدر دم أحد من بني بكر الناقضين العهد بعينه وانما مكن منهم بني خزاعة يوم الفتح أكثر النهار واهدر دم هذا بعينه حتى أسلم واعتذر هذا مع ان العهد كان عهد هدنة وموادعه لم يكن عهد جزية وذمة والمهادن المقيم ببلده يظهر ببلده ما شاء من منكرات الأقوال والأفعال المتعلقة بدينه ودنياه ولا ينتقض بذلك عهده حتى يحارب فعلم ان الهجاء من جنس الحراب واغلظ منه وان الهاجي لا ذمة له

الحديث التاسع قصة ابن أبي سرح وهي مما اتفق عليها أهل العلم واستفاضت عندهم استفاضة يستغنى عن رواية الاحاد وذلك اثبت واقوى مما رواه الواحد العدل فنذكرها مسنده مشروحة ليتبين وجه الدلالة منها

عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال لما كان يوم فتح مكة اختبا عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان فجاء به حتى اوقفه على النبي فقال يا رسول الله بايع عبد الله فرفع راسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يابى فبايعه بعد ثلاث ثم اقبل على أصحابه فقال اما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث راني كففت يدي عن بيعه فيقتله فقالوا ما ندري يا رسول الله ما في نفسك الا أو مات الينا بعينك قال انه لا ينبغي لنبي ان تكون له خائنة الأعين رواه أبو داود بإسناد صحيح

وراوه النسائي كذلك بابسط من هذا عن سعد قال لما كان يوم فتح مكة امن رسول الله الا أربعة نفر قال اقتلوهم وان وجدتموهم متعلقين باستار الكعبة عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح

فاما عبد الله بن خطل فادرك وهو متعلق باستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا وكان اشب الرجلين فقتله واما مقيس بن صبابة فادركه الناس في السوق فقتلوه واما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة اخلضوا فان الهتكم لا تغني عنكم شيئا ها هنا فقال عكرمة والله لئن لم ينجني في البحر الا الاخلاص لا ينجيني في البر غيره اللهم ان لك علي عهدا ان أنت عافيتني مما انا فيه ان اتي محمد حتى اضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما فجاء وأسلم

وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فانه اختبا عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله الناس إلى البيعة جاء به حتى اوقفه على النبي ثم ذكر الباقي كما رواه أبو داود وعن عبد الله بن عباس قال كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله فازله الشيطان فلحق بالكفار فامر به رسول الله ان يقتل يوم الفتح فاستجار له عثمان فاجاره رسول الله رواه أبو داود وروى محمد بن سعد في الطبقات عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب ان رسول الله أمر بقتل ابن أبي سرح يوم الفتح وفرتنى وابن الزبعري وابن خطل فاتاه أبو برزة وهو متعلق باستار الكعبة فبقر بطنه وكان رجل من الانصار قد نذر ان رأى ابن أبي سرح ان يقتله فجاء عثمان وكان اخاه من الرضاعة فشفع له إلى رسول الله وقد أخذ الانصاري بقائم السيف ينظر إلى النبي متى يوميء إليه ان يقتله فشفع له عثمان حتى تركه ثم قال رسول الله للانصاري هلا وفيت بنذرك فقال يا رسول الله وضعت يدي على قائم السيف أنتظر متى توميء فأقتله فقال النبي الإيماء خيانة ليس لنبي أن يوميء

وقال محمد بن إسحاق في رواية ابن بكير عنه قال أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي بكر بن حزم ان رسول الله حين دخل مكة وفرق جيوشه أمرهم ان لا يقتلوا أحدا الا من قاتلهم الا نفرا قد سماهم رسول الله وقال اقتلوهم وان وجدتموهم تحت أستار الكعبة عبد الله بن خطل وعبد الله بن سعد ابن أبي سرح وانما أمر بابن أبي سرح لأنه كان قد أسلم فكان يكتب لرسول الله الوحي فرجع مشركا ولحق بمكة فكان يقول لهم اني لاصرفه كيف شئت انه ليامرني ان اكتب له الشيء فاقول له أو كذا أو كذا فيقول نعم وذلك ان رسول الله كان يقول عليم حكيم فيقول أو اكتب عزيز حكيم فيقول له رسول الله نعم كلاهما سواء

قال ابن إسحاق حدثني شرحبيل بن سعد ان فيه نزلت " ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال اوحي الي ولم يوح إليه شيء ومن قال سانزل مثل ما انزل الله " فلما دخل رسول الله مكة فر إلى عثمان بن عفان وكان اخاه من الرضاعة فغيبه عنده حتى اطمان أهل مكة فاتى رسول الله فاستامن له فصمت رسول الله طويلا وهو واقف عليه ثم قال نعم فانصرف به فلما ولى قال رسول الله ما صمت الا رجاء ان يقوم إليه بعضكم فيقتله فقال رجل من الانصار يا رسول الله الا اومات الي فاقتله فقال رسول الله ان النبي لا يقتل بالإشارة

وقال ابن إسحاق في رواية ابراهيم بن سعد عنه حدثني بعض علمائنا ان ابن أبي سرح رجع إلى قريش فقال والله لو اشاء لقلت كما يقول محمد وجئت بمثل ما ياتي به انه ليقول الشيء واصرفه إلى شيء فيقول اصبت ففيه انزل الله تعالى " ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال اوحى الي ولم يوح إليه شيءالآية فلذلك أمر رسول الله بقتله

قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح قال كان رسول الله قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم ان يدخلوا مكة ان لا يقاتلوا الا أحدا قاتلهم الا انه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم وان وجدوا تحت استار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وانما أمر رسول الله بقتله لأنه كان أسلم وكان يكتب لرسول الله الوحي فارتد مشركا راجعا إلى قريش فقال والله اني لاصرفه حيث أريد انه ليملي علي فاقول اوكذا اوكذا فيقول نعم وذلك ان رسول الله كان يملي عليه فيقول عزيز حكيم أو حكيم عليم فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول كل صواب

وروينا في مغازي معمر عن الزهري في قصة الفتح قال فدخل رسول الله فامر أصحابه بالكف وقال كفوا السلاح الاخزاعة من بكر ساعة ثم أمرهم فكفوا فامن الناس كلهم الا أربعة ابن أبي سرح وابن خطل ومقيس الكناني وامراة أخرى ثم قال النبي اني لم احرم مكة ولكن الله حرمها وانها لم تحل لاحد من قبلي ولا تحل لاحد بعدي إلى يوم القيامة وانما أحلها الله لي ساعة من نهار قال ثم جاء عثمان بن عفان بابن أبي سرح فقال بايعه يا رسول الله فاعرض عنه ثم جاءه من ناحية أخرى فقال بايعه يا رسول الله فاعرض عنه ثم جاءه أيضا فقال بايعه يا رسول الله فمد يده فبايعه فقال رسول الله لقد اعرضت عنه واني لاظن بعضكم سيقتله فقال رجل من الانصار فهلا أو مضت الي يا رسول الله فقال إن النبي لا يومض فكانه راه غدرا

وفي مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال وامرهم رسول الله ان يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدا الامن قاتلهم وامرهم بقتل أربعة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح والحويرث بن نقيد وابن خطل ومقيس بن صبابه أحد بني ليث وامر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول الله ثم قال ويقال أمر رسول الله في قتل النفر ان يقتل عبد الله بن أبي سرح وكان ارتد بعد الهجرة كافرا فاختبا حتى اطمان الناس ثم اقبل يريد ان يبايع رسول الله فاعرض عنه ليقوم رجل من أصحابه فيقتله فلم يقم إليه أحد ولم يشعروا بالذي في نفس رسول الله فقال أحدهم لو اشرت الي يا رسول الله ضربت عنقه فقال إن النبي لا يفعل ذلك ويقال اجاره عثمان بن عفان وكان اخاه من الرضاعة وقتلت إحدى القينتين وكمنت الأخرى حتى استؤمن لها وذكر محمد بن عائد في مغازيه هذه القصة مثل ذلك

وذكر الواقدي عن أشياخه قالوا وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله فربما املي عليه رسول الله سميع عليم فيكتب عليم حكيم فيقراه لرسول الله فيقول كذاك قال الله فافتتن وقال ما يدري محمد ما يقول اني لاكتب له ما شئت هذا الذي كتبت يوحي الي كما يوحي إلى محمد وخرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا فاهدر رسول الله دمه يوم الفتح فلما كان يومئذ جاء ابن أبي سرح إلى عثمان بن عفان وكان اخاه من الرضاعة فقال يا اخي اني والله اخترتك فاحبسني هاهنا واذهب إلى محمد فكلمه في فان محمدا ان راني ضرب الذي فيه عيناي ان جرمي أعظم الجرم وقد جئت تائبا فقال عثمان بل اذهب معي قال عبد الله والله لئن راني ليضربن عنقي ولا ينظرني قد اهدر دمي وأصحابه يطلبوني في كل موضع فقال عثمان انطلق معي فلا يقتلك إن شاء الله فلم يرع رسول الله الا بعثمان اخذا بيد عبد الله بن سعد ابن أبي سرح واقفين بين يديه فاقبل عثمان على رسول الله فقال يا رسول الله امه كانت تحملني وتمشيه وترضعني وتفطمه وكانت تلطفني وتتركه فهبه لي فاعرض عنه رسول الله وجعل عثمان كلما اعرض عنه النبي بوجهه استقبله فيعيد عليه هذا الكلام وانما اعرض النبي إرادة ان يقوم رجل فيضرب عنقه لأنه لم يؤمنه فلما رأى ان لايقوم أحد وعثمان قد اكب على رسول الله يقبل راسه وهو يقول يا رسول الله بايعه فداك أبي وامي فقال النبي نعم ثم التفت إلى أصحابه فقال ما منعكم ان يقوم رجل منكم إلى هذا الكلب فيقتله أو قال الفاسق فقال عباد بن بشر الا أو مات الي يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق اني لاتبع طرفك من كل ناحية رجاء ان تشير الي فاضرب عنقه ويقال قال هذا أبو اليسر ويقال عمر بن الخطاب فقال رسول الله اني لااقتل بالإشارة

وقائل يقول إن النبي قال يومئذ ان النبي لا تكون له خائنة الأعين

فبايعه رسول الله فجعل يفر من رسول الله كلما راه فقال عثمان لرسول الله بابي وامي لو ترى ابن أم عبد الله يفر منك كلما راك

فتبسم رسول الله فقال ألم ابايعه واومنه قال بلى يا رسول الله ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام

فقال النبي الإسلام يجب ما كان قبله فرجع عثمان إلى ابن أبي سرح فأخبره فكان ياتي فيسلم على النبي مع الناس

فوجه الدلالة ان عبد الله بن سعد بن أبي سرح افترى على النبي انه كان يتمم له الوحي ويكتب له ما يريد فيوافقه عليه وانه يصرفه حيث شاء ويغير ما أمره به من الوحي فيقره على ذلك وزعم انه سينزل مثل ما انزل الله إذ كان قد اوحي إليه في زعمه كما اوحي إلى رسول الله وهذا الطعن على رسول الله وعلى كتابه والافتراء عليه بما يوجب الريب في نبوته قدر زائد على مجرد الكفر به والردة في الدين وهو من أنواع السب

وكذلك لما افترى عليه كاتب آخر مثل هذه الفرية قصمه الله وعاقبه عقوبة خارجه عن العادة ليتبين لكل أحد افتراؤه إذ كان مثل هذا يوجب في القلوب المريضة ريبا بان يقول القائل كاتبه اعلم الناس بباطنه وبحقيقة أمره وقد أخبر عنه بما أخبر فمن نصر الله لرسوله ان أظهر فيه اية يبين بها انه مفتر

فروى البخاري في صحيحه عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال كان رجلا نصرانيا فأسلم وقرا البقرة وال عمران وكان يكتب للنبي فعاد نصرانيا فكان يقول لا يدري محمد الا ما كتبت له فاماته الله فدفنوه فاصبح وقد لفظته الأرض فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا فالقوة فحفروا له واعمقوا في الأرض ما استطاعوا فاصبح وقد لفظته الأرض فعلموا انه ليس من الناس فالقوه

ورواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال كان منا رجل من بني النجار قد قرا البقرة وال عمران وكان يكتب للنبي فالنطلق هاربا حتى لحق باهل الكتاب قال فعرفوه قالوا هذا قد كان يكتب لمحمد فاعجبوا به فما لبث ان قصم الله عنقه فيهم فحفروا له فواروه فاصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فاصبحت الأرض قد نبذته على وجهها

ثم عادوا فحفروا له فواروه فاصبحت الأرض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذا

فهذا الملعون الذي افترى على النبي انه ما كان يدري الا ما كتب له قصمه الله وفضحه بان أخرجه من القبر بعد ان دفن مرارا وهذا أمر خارج عن العادة يدل كل أحد على أن هذا عقوبة لما قاله وانه كان كاذبا إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا وان هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا وان الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه ومظهر لدينه ولكذب الكاذب إذا لم يمكن الناس ان يقيموا عليه الحد

ونظير هذا ما حدثناه اعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الاصفر في زماننا قالوا كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله والوقيعة في عرضه تعجلنا فتحة وتسير ولم يكد يتاخر الا يوما أو يومين أو نحو ذلك ثم يفتح المكان عنوة ويكون فيهم ملحمة عظيمة قالوا حتى ان كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظا عليهم بما قالوا فيه

وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات ان المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك ومن سنة الله ان يعذب اعداءه تارة بعذاب من عنده وتارة بايدي عباده المؤمنين

فكذلك لما تمكن النبي من ابن أبي سرح اهدر دمه لما طعن في النبوة وافترى عليه الكذب مع انه قد امن جميع أهل مكة الذين قاتلوه وحاربوه اشد المحاربة ومع ان السنة في المرتد انه لايقتل حتى يستتاب اما وجوبا أو استحبابا

وسنذكر إن شاء الله ان جماعة ارتدوا على عهد النبي ثم دعوا إلى التوبة وعرضت عليهم حتى تابوا وقبلت توبتهم

وفي ذلك دليل على أن جرم الطاعن على رسول الساب له أعظم من جرم المرتد

ثم ان اباحة النبي دمه بعد مجيئه تائبا مسلما وقوله هلا قتلتموه ثم عفوه عنه بعد ذلك دليل على أن النبي كان له ان يقتله وان يعفو عنه ويعصم دمه وهو دليل على أن له ان يقتل من سبه وان تاب وعاد إلى الإسلام يوضح ذلك أشياء

منها انه قد روي عن عكرمة ان ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة وكذلك ذكر آخرون ان ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي بها وقد تقدم عنه انه قال لعثمان قبل ان يقدم به على النبي ان جرمي أعظم الجرم وقد جئت تائبا وتوبة المرتد إسلامه

ثم انه جاء إلى النبي بعد الفتح وهدوء الناس وبعد ما تاب فأراد النبي من المسلمين ان يقتلوه حينئذ وتربص زمانا ينتظر فيه قتله ويظن أن بعضهم سيقتله وهذا اوضح دليل على جواز قتله بعد إسلامه

وكذلك لما قال له عثمان انه يفر منك كلما راك قال ألم ابايعه واومنه قال بلى ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام فقال الإسلام يجب ما قبله فبين النبي ان خوف القتل سقط بالبيعة والأمان وان الإثم زال بالإسلام فعلم ان الساب اذاعاد إلى الإسلام جب الإسلام اثم السب وبقي قتله جائزا حتى يوجد إسقاط القتل ممن يملكه ان كان ممكنا

وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر هذا في موضعه فان غرضنا هنا ان نبين ان مجرد الطعن على رسول الله والوقيعة فيه يوجب القتل في الحال التي لا يقتل فيه لمجرد الردة وإذا كان ذلك موجبا للقتل استوى فيه المسلم والذمي لأن كل ما يوجب القتل سوى الردة يستوي فيه المسلم والذمي

وفي كتمان الصحابة لابن أبي سرح ولإحدى القينتين دليل على النبي لم يوجب قتلهم وانما اباحه مع جواز عفوه عنهم وفي ذلك دليل على انه كان مخيرا بين القتل والعفو وهذا يؤيد ان القتل كان لحق النبي

واعلم ان افتراء ابن أبي سرح والكاتب الآخر النصراني على رسول الله بانه كان يتعلم منهما افتراء ظاهر

وكذلك قوله اني لاصرفه كيف شئت انه ليامرني ان اكتب له الشيء فاقول له أو كذا أو كذا فيقول نعم فرية ظاهرة فان النبي كان لا يكتبه الا ما انزله الله ولا يامره ان يثبت قرانا الا ما اوحاه الله إليه ولا ينصرف له كيف شاء بل يتصرف كما يشاء الله

وكذلك قوله اني لاكتب له ماشئت هذا الذي كتبت يوحي الي كما يوحي إلى محمد وان محمدا إذا كان يتعلم مني فاني سانزل مثل ما انزل الله فرية ظاهرة فان النبي لم يكن يكتبه ما شاء ولا كان يوحي إليه شيء

وكذلك قول النصراني ما يدري محمد الا ما كتبت له من هذا القبيل وعلى هذا الافتراء حاق به العذاب واستوجب العقاب

ثم اختلف أهل العلم هل كان النبي اقره على أن يكتب شيئا غير ما ابتداه النبي باكتابه وهل قال له شيئا على قولين أحدهما ان النصراني وابن أبي سرح افتريا على رسول الله ذلك كله وانه لم يصدر منه قول فيه إقرار على كتابة غير ما قاله أصلا وانما لما زين لهما الشيطان الردة افتريا عليه لينفرا عنه الناس ويكون قبول ذلك منهما متوجها لأنهما فارقاه بعد خبرة وذلك انه لم يخبر أحد انه سمع النبي يقول له هذا الذي قلته أو كتبته صواب وانما هو حال الردة أخبر انه قال له ذلك وهو إذ ذاك كافر عدو يفتري على الله ما هو أعظم من ذلك

يبين ذلك ان الذي في الصحيح ان النصراني كان يقول ما يدري محمد الا ماكتبت له نعم ربما كان هو يكتب غير ما يقوله النبي ويغيره ويزيده وينقصه فظن أن عمدة النبي على كتابته مع ما فيها من التبديل ولم يدر ان كتاب الله ايات بينات في صدور الذين اوتوا العلم وانه لا يغسله الماء وان الله حافظ له وان الله يقريء نبيه فلا ينسى الا ما شاء الله مما يريد رفعه ونسخ تلاوته وان جبريل كان يعارضا النبي بالقران كل عام وان النبي إذا انزلت عليه الآية اقراها لعدد من المسلمين يتواتر نقل الآية بهم وأكثر من ذكر هذه القصة من المفسرين ذكر انه كان يملي عليه سميعا عليما فيكتب هو عليما حكيما وإذا قال عليما حكيما كتب غفورا رحيما واشباه ذلك ولم يذكر أن النبي قال له شيئا

قالوا وإذا كان الرجل قد علم انه من أهل الفرية والكذب حتى أظهر الله كذبه اية بينة والروايات الصحيحة المشهورة لم تتضمن الا انه قال عن النبي ما قال أو انه كتب ما شاء فقط علم ان النبي لم يقل له شيئا

قالوا وما روي في بعض الروايات ان النبي قال فهو منقطع أو معلل ولعل قائله قاله بناء على أن الكاتب هو الذي قال ذلك ومثل هذا قد يلتبس الأمر فيه حتى يشتبه ماقاله النبي وما قيل انه قاله وعلى هذا القول فلا سؤال أصلا

القول الثاني ان النبي قال له شيئا فروى الإمام أحمد وغيره من حديث حماد بن سلمة انا ثابت عن أنس ان رجلا كان يكتب لرسول الله فإذا املي عليه سميعا عليما يقول كتبت سميعا بصيرا قال دعه وإذا املي عليه عليما حكيما كتب عليما حليما قال حماد نحو ذا

قال وكان قد قرا البقرة وال عمران وكان من قراهما قد قرا قرانا كثيرا فذهب فتنصر وقال لقد كنت اكتب لمحمد ما شئت فيقول دعه فمات فدفن فنبذته الأرض مرتين أو ثلاثا قال أبو طلحة فلقد رايته مبوذا فوق الأرض

ورواه الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن أنس ان رجلا كان يكتب لرسول الله وقد قرا البقرة وال عمران وكان الرجل إذا قرا البقرة وال عمران جد فينا يعني عظم فكان النبي يملي عليه غفورا رحيما فيكتب عليما حكيما فيقول له النبي اكتب كذا وكذا اكتب كيف شئت ويملي عليه عليما حكيما فيكتب سميعا بصيرا فيقول اكتب كيف شئت فارتد ذلك الرجل عن الإسلام فلحق بالمشركين وقال انا اعلمكم بمحمد ان كنت لاكتب ما شئت فمات ذلك الرجل فقال رسول الله ان الأرض لاتقبله قال أنس فحدثني أبو طلحة انه أتى الأرض التي مات فيها ذلك الرجل فوجده منبوذا قال أبو طلحة ما شان هذا الرجل قالوا قدمناه مرارا فلم تقبله الأرض فهذا إسناد صحيح

وقد قال من ذهب إلى القول الأول علل البزار حديث ثابت عن أنس وقال رواه عنه ولم يتابع عليه ورواه حميد عن أنس قال واظن حميدا إنما سمعه من ثابت قالوا ثم ان انسا لم يذكر انه سمع النبي أو شهده يقول ذلك ولعله حكى ما سمع

وفي هذا الكلام تكلف ظاهر والذي ذكرناه في حديث ابن إسحاق والواقدي وغيرهما يوافق ظاهر هذه الرواية وكذلك ذكر طائفة من أهل التفسير وقد جاءت اثار فيها بيان صفة الحال على هذا القول ففي حديث ابن إسحاق وذلك ان رسول الله كان يقول عليم حكيم فيقول أو اكتب عزيز حكيم فيقول له رسول الله نعم كلاهما سواء وفي الرواية الأخرى وذلك ان رسول الله كان يملي عليه فيقول عزيز حكيم أو حكيم عليم فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول كل صواب

ففي هذا بيان لأن كلا الحرفين كان قد نزل وان النبي كان يقراهما ويقول له اكتب كيف شئت من هذين الحرفين فكل صواب وقد جاء مصرحا عن النبي انه قال انزل القران على سبعة احرف كلها شاف كاف ان قلت عزيز حكيم أو غفور رحيم فهو كذلك ما لم يختم اية رحمه بعذاب أو اية عذاب برحمة وفي حرف جماعة من الصحابة " ان تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك أنت الغفور الرحيم " والأحاديث في ذلك منتشرة تدل على أن من الحروف السبعة التي نزل عليها القران ان تختم الآية الواحدة بعدة اسماء من اسماء الله على سبيل البدل يخير القارئ في القراءة بايها شاء وكان النبي يخيره ان يكتب ما شاء من تلك الحروف وربما قراها النبي بحرف من الحروف فيقول أو اكتب كذا وكذا لكثرة ما سمع النبي يخير بين الحرفين فيقول له النبي نعم كلاهما سواء لأن الآية نزلت بالحرفين وربما كتب هو أحد الحرفين ثم قراه على النبي فاقره عليه لأنه قد نزل كذلك أيضا وختم الآية بمثل " سميع عليم " و" عليم حكيم " و" غفور رحيم " أو بمثل " سميع بصير " أو " عليم حكيم " أو " عليم حليم " كثير في القران وكان نزول الآية على عدة من هذه الحروف أمرا معتادا ثم ان الله نسخ بعض تلك الحروف لما كان جبريل يعارض النبي بالقران في كل رمضان وكانت العرضة الاخيرة في حرف زيد بن ثابت الذي يقراء الناس به اليوم وهو الذي جمع عثمان والصحابة رضي الله عنهم اجمعين عليه الناس ولهذا ذكر ابن عباس هذه القصة في الناسخ والمنسوخ وكذلك ذكرها الإمام أحمد في كتابه الناسخ والمنسوخ لتضمنها نسخ بعض الحروف وروي فيها وجه آخر رواه الإمام أحمد في الناسخ والمنسوخ حدثنا مسكين بن بكير ثنا معان قال وسمعت أبا خلف يقول كان ابن أبي سرح كتب للنبي القران فكان ربما سال النبي عن خواتم الاي " تعملون " و" تفعلون " ونحو ذا فيقول له النبي اكتب أي ذلك شئت قال فيوفقه الله للصواب من ذلك فاتى أهل مكة مرتدا فقالوا يا ابن أبي سرح كيف كنت تكتب لابن أبي كبشة القران قال اكتبه كيف شئت قال فانزل الله في ذلك " ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال اوحي الي ولم يوح إليه شيء " الآية كلها

قال النبي يوم فتح مكه من أخذ ابن أبي سرح فليضرب عنقه حيثما وجد وان كان متعلقا باستار الكعبة

ففي هذا الأثر انه كان يسال النبي عن حرفين جائزين فيقول له اكتب أي ذلك شئت فيوفقه الله للصواب فيكتب أحب الحرفين إلى الله ان كان كلاهما منزلا أو يكتب ما انزل الله فقط ان لم يكن الآخر منزلا وكان هذا التخيير من النبي اما توسعه ان كان الله قد انزلهما أو ثقته بحفظ الله وعلما منه بانه لا يكتب الا ما انزل وليس هذا ينكر في كتاب تولى الله حفظه وضمن انه لآياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه

وذكر بعضهم وجها ثالثا وهو انه ربما كان يسمع النبي يمله الآية حتى لم يبق منها الا كلمة أو كلمتان فيستدل على بما قراء منها على باقيها كما يفعله الفطن الذكي فيكتبه ثم يقراه على النبي فيقول كذلك انزلت كما اتفق مثل ذلك لعمر في قوله " فتبارك الله أحسن الخالقين "

وقد روى الكلبي عن أبي صالح عنابن عباس مثل هذا في هذه القصة وان كان هذا الإسناد ليس بثقة قال عن ابن أبي سرح انه كان تكلم بالإسلام وكان يكتب لرسول الله في بعض الاحايين فإذا املي عليه " عزيز حكيم " كتب " غفور رحيم " فيقول رسول الله هذا وذاك سواء فلما نزلت " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين " املاها عليه فلما أنتهى إلى قوله " خلقا آخر " عجب عبد الله بن سعد فقال " تبارك الله أحسن الخالقين " فقال رسول الله كذا انزلت علي فاكتبها فشك حينئذ وقال لئن كان محمد صادقا لقد اوحي الي كما اوحي إليه ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال فنزلت هذه الآية

ومما ضعفت به هذه الرواية ان المشهور ان الذي تكلم بهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه

ومن الناس من قال قولا آخر قال الذي ثبت في رواية أنس انه كان يعرض على النبي ما كتبه بعدما كتبه فيملي عليه سميعا عليما فيقول كتبت سميعا بصيرا فيقول دعه أو اكتب كيف شئت وكذلك في حديث الواقدي انه كان يقول كذاك الله ويقره

قالوا وكان النبي به حاجة إلى من يكتب لقلة الكتاب في الصحابة وعدم حضور الكتاب منهم في وقت الحاجة إليهم فان العرب كان الغالب عليهم الامية حتى ان كان الجو العظيم يطلب فيه كاتب فلا يوجد فكان أحدهم إذا أراد كتابة وثيقة أو كتاب وجد مشقة حتى يصل له كاتب فإذا اتفق للنبي من يكتب له أنتهز الفرصة في كتابتة فإذا زاد كاتب أو نقص تركه لحرصه على كتابة ما يملى ولايامره بتغيير ذلك خوفا من ضجره وان يقطع الكتابة قبل اتمامها ثقة منه بان تلك الكلمة أو الكلمتين تستدرك فيما بعد بالالقاء إلى من يتلقنها منه أو بكتابتها تعويلا على المحفوظ عنده وفي قلبه كما قال الله تعالى " سنقرئك فلا تنسى الا ما شاء الله انه يعلم الجهر وما يخفى "

والاشبه والله أعلم هو الوجه الأول وان هذا كان فيما انزل القران فيه على حروف عدة فان القول المرضي عند علماء السلف الذي يدل عليه عامة الأحاديث وقراءات الصحابة ان المصحف الذي جمع عثمان الناس عليه هو أحد الحروف السبعة وهو العرضة الاخيرة وان الحروف الستة خارجة عن هذا المصحف فان الحروف السبعة كانت مختلفة الكلم مع ان المعنى غير مختلف ولا متضاد

الحديث العاشر حديث القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء ومولاة بني هاشم وذلك مشهور مستفيض عند أهل السير وقد تقدم في حديث سعيد بن المسيب انه أمر بقتل فرتني

وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري وامرهم رسول الله ان يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدا الا من قاتلهم وامر بقتل أربعة نفر قال وامر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول ثم قال وقتلت إحدى القينتين وكمنت الأخرى حتى استؤمن لها

وكذلك ذكر محمد بن عائد القرشي في مغازيه

وقال ابن إسحاق في رواية ابن بكير عنه قال أبو عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي بكر بن حزم ان رسول الله حين دخل مكة وفرق جيوشه أمرهم ان لاي يقتلوا أحدا الا من قاتلهم الا نفرا قد سماهم رسول الله وقال اقتلوهم وان وجدتموهم تحت استار الكعبة عبدالله بن خطل ثم قال إنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلما فبعثه رسول الله مصدقا وبعث معه رجلا من الانصار وكان معه مولى له يخدمه وكان مسلما فنزل منزلا وامرالمولى يذبح له تيسا ويصنع له طعاما فنام واستيقض ولم يصنع له شيئا فعدى عليه فقتله ثم ارتد مشركا وكانت له قينة وصاحبتها كانتا تغنيان بهجاء النبي فامر بقتلهما معه قال ومقيس بن صبابة لقتله الانصاري الذي قتل اخاه وسارت مولاة لبني عبد المطلب كانت ممن يؤذيه بمكة وقال الأموي حدثني أبي قال وقال ابن إسحاق وكان رسول الله عهد إلى المسلمين في قتل نفر ونسوة وقال إن وجدتموهم تحت أستار الكعبة فاقتلوهم وسماهم بأسمائهم سته ابن أبي سرح وابن خطل والحويرث بن نقيد ومقيس بن صبابه ورجل من بني تيم بن غالب قال ابن إسحاق وحدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر انهم كانوا ستة فكتم رجلين وأخبرني بأربعه قال النسوة قنيتا ابن خطل وسارة مولاه إلى بني عبد المطلب ثم قال والقينتان كانتا تغنيان بهجائه وسارة مولاة أبي لهب كانت تؤذيه بلسانها وقال الواقدي عن أشياخه ونهى رسول الله عن القتال وامر بقتل ستة نفر وأربع نسوة ثم عددهم قال وابن خطل وسارة مولاة عمرو بن هشام وقينتين لابن خطل فرتني وقريبة ويقال فرتني وارنب ثم قال وكان جرم ابن خطل انه أسلم وهاجر إلى المدينة وبعثه رسول الله ساعيا وبعث معه رجلا من خزاعة وكان يصنع طعامه ويخدمه فنزل في مجمع فأمره ان يصنع له طعاما ونام نصف النهار فاستيقظ والخزاعي نائم ولم يصنع له شيئا فاغتاظ عليه فضربه فلم يقلع عنه حتى قتله فلما قتله قال والله ليقتلني محمد به ان جئته فارتد عن الإسلام وساق ما اخذه من الصدقة وهرب إلى مكة فقال له أهل مكة ما ردك الينا قال لم اجد دينا خيرا من دينكم فأقام على شركه فكانت له قينتان وكانتا فاسقتين وكان يقول الشعر يهجو رسول الله ويامرهما تغنيان به فيدخل عليه وعلى قينتيه المشركون فيشربون الخمر وتغني القينتان بذلك الهجاء وكانت سارة مولاة عمرو ابن هاشم مغنية نواحة بمكة يلقي عليها هجاء النبي فتغني به وكانت قد قدمت على رسول الله تطلب ان يصلها وشكت الحاجة فقال رسول الله ماكان لك في غنائك ونياحتك ما يكفيك فقالت يا محمد ان قريشا منذ قتل من قتل منهم ببدر تركوا استماع الغناء فوصلها رسول الله واوقر لها بعيرا طعاما فرجعت إلى قريش وهي على دينها فأمربها رسول الله يوم الفتح ان تقتل فقتلت يومئذ واما القينتان فأمر رسول الله بقتلهما فقتلت إحداهما ارنب أو فريبة واما فرتني فاستؤمن لها حتى امنت وعاشت حتى كسر ضلع من اضلاعها زمن عثمان رضي الله عنه فماتت فقضي فيه عثمان رضي الله عنه ثمانية الاف درهم ديتها والفين تغليظا للجرم وحديث القينتين مما اتفق عليه علماء السير واستفاض نقله استفاضة يستغنى بها عن رواية الواحد وحديث مولاة بني هاشم ذكره عامة أهل المغازي ومن له مزيد خبرة واطلاع وبعضهم لم يذكره فوجه الدلالة ان تعمد قتل المرأة لمجرد الكفر الأصلي لا يجوز بالأجماع وقد استفاضت بذلك السنة عن رسول الله ففي الصحيحين عن ابن عمر قال وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله فنهى رسول الله عن قتل النساء والصبيان وفي حديث آخر انه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه فانكر قتلها وقال ما كانت هذه لتقاتل ثم قال لاحدهم ألحق خالدا 49 أ فقل له لا تقتل ذرية ولا عسيفا رواه أبو داود وغيره وقد روى الإمام أحمد في المسند عن ابن كعب بن مالك عن عمه ان النبي حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان وهذا مشهور عند أهل السير وفي الحديث من رواية الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك ثم صعدوا إليه في علية فقرعوا عليه الباب فخرجت إليهم أمرأته فقالت من أنتم فقالوا حي من العرب نريد الميرة ففتحت لهم فقالت ذاك الرجل عندكم في البيت فغلقنا علينا وعليها باب الحجرة ونوهت بنا فصاحت وقد نهانا رسول الله حين بعثنا عن قتل النساء والولدان فجعل الرجل منا يحمل عليها السيف ثم يذكر نهي رسول الله عن قتل النساء فيمسك يده فلولا ذلك فرغنا منها بليل وذكر الحديث

وكذلك روى يونس بن بكير عن عبد الله بن كعب بن مالك قال حدثني عبد الله بن انيس قال في الحديث فقامت ففتحت فقلت لعبد الله بن عتيك دونك فهو عليها السيف فذهبت أمرأته فاشهر عليها السيف واذكر قول رسول الله انه نهى عن قتل النساء والصبيان فاكف

وكذلك رواه غير واحد عن ابن انيس قال فصاحت أمرأته فهم بعضنا ان يخرج إليها ثم ذكرنا ان رسول الله نهانا عن قتل النساء

وهذه القصة كانت قبل فتح مكة بل قبل فتح خيبر أيضا بلا خلاف بين أهل العلم وذكر الواقدي انها كانت في ذي الحجة من السنة الرابعة من الهجرة قبل الخندق وذكر ابن إسحاق انها كانت عقب الخندق وهما جميعا يزعمان أن الخندق في شوال في سنة خمس واما موسى بن عقبة فقال في شوال سنة أربع وحديث ابن عمر يدل عليه وكان فتح مكة في رمضان سنة ثمان في شوال

وانما ذكرنا هذا رفعا لوهم من قد يظن أن قتل النساء كان مباحا عام الفتح ثم حرم بعد ذلك والا فلا ريب عند أهل العلم ان قتل النساء لم يكن مباحا قط فان ايات القتال وترتيب نزولها كلها دليل على أن قتل النساء لم يكن جائزا هذا مع ان أولئك النساء اللاتي كن في حصن ابن أبي الحقيق إذا ذاك لم يكن يطمع هؤلاء النفر في استرقاقهن بل هن ممتنعات عند أهل خيبر قبل فتحها بمدة مع ان المراة قد صاحت وخافوا الشر بصوتها ثم امسكوا عن قتلها لرجائهم ان ينكف شرها بالتهويل عليها

نعم المحرم إنما هو قصد قتلهن فاما إذا قصدن قصد الرجل بالاغارة أو برمي منجنيق أو فتح شق أو القاء نار فتلف بذلك نساء أو صبيان لم ناثم بذلك لحديث الصعب بن جثامة انه سال النبي عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب الذرية فقال هم منهم متفق عليه ولان النبي رمى أهل الطائف بالمنجنيق مع انه قد يصيب المراة والصبي وبكل حال فالمراة الحربية غير مضمونة بقود ولا دية ولا كفارة لأن النبي لم يأمر من قتل المراة في مغازيه بشئ من ذلك فهذا ما تفارق به المراة الذمية وإذا قاتلت المراة الحربية جاز قتلها بالاتفاق لأن النبي علل المنع من قتلها بانها لم تكن تقاتل فإذا قاتلت وجد المقتضى لقتلها وانتفى المانع لكن عند الشافعي تقاتل كما يقاتل المسلم الصائل فلا يقصد قتلها بل دفعها فإذا قدر عليها لم يجز قتلها وعند غير إذا قاتلت صارت بمنزلة الرجل المحارب

إذا تقرر هذا فنقول هؤلاء النسوة كن معصومات بالانوثة ثم ان النبي أمر بقتلهن لمجرد كونهن كن يهجينه وهن في دار حرب فعلم ان من هجاه وسبه جاز قتله بكل حال

ومما يؤكد ذلك وجوه

أحدها ان الهجاء والسب اما أن يكون من باب القتال باللسان فيكون كالقتال باليد وتكون كالمراالمرأة الهاجية التي يستعان برايها على حرب المسلمين كالملكة ونحوها مثل ما كانت هند بنت عتبه أو يكون بنفسه موجبا للقتل لما فيه من اذى الله ورسوله والمؤمنين وان كان من جنس المحاربة أولا يكون شيء من ذلك فان كان من القسم الأول أو الثاني جاز قتل المراة الذمية إذا سبت لأنها حينئذ تكون قد حاربت أو ارتكبت ما يوجب القتل فالذمية إذا فعلت ذلك انتقض عهدها وقتلت ولا يجوز ان تخرج عن هذين القسمين لأنه يلزم منه قتل المراة من أهل الحرب من غير ان تقاتل بيد ولا لسان ولا ان ترتكب ما هو بنفسه موجب للقتل وقتل مثل هذه المراة حرام بالسنة والإجماع

الوجه الثاني ان هؤلاء النسوة كن من أهل الحرب وقد اذين النبي في دار الحرب ثم قتلن لمجرد السب كما نطقت به الأحاديث فقتل المراة الذمية بذلك أولى واحرى كالمسلمة لأن الذمية بيننا وبينها من العهد ما يكفها عن إظهار السب ويوجب عليها التزام الذل والصغار ولهذا تواخذ بما تصيبه للمسلم من دم أو مال أو عرض والحربية لا تواخذ بشيء من ذلك

فاذا جاز قتل المراة لأنها سبت الرسول وهي حربية تستبيح ذلك من غير مانع وقتل الذمية الممنوعة عن ذلك بالعهد أولى

ولا يقال عصمة الذمي اوكد لأنه مضمون والحربي غير مضمون

لأنا نقول الذمي أيضا ضامن لدم المسلم والحربي غير ضامن فهو ضامن ومضمون لأن العهد الذي بيننا اقتضى ذلك واما الحربية فلا عهد بيننا وبينها يقتضي ذلك فليس كون الذمي مضمونا يجب علينا حفظه بالذي يهون عليه ما ينتهكه من عرض الرسول بل ذلك اغلظ لجرمه وأولى بان يؤاخذ بما يؤذينا به لأنعلم شيئا تقتل به المراه الحربية قصدا الا وقتل الذمية به أولى الوجه الثالث ان هؤلاء النسوة لم يقاتلن عام الفتح بل كن متذللات مستسلمات والهجاء ان كان من جنس القتال فقد كان موجودا قبل ذلك والمراة الحربية لا يجوز قتلها في غزوة هي فيها مستسلمة لكونها قد قاتلت قبل ذلك فعلم ان السب بنفسه هو المبيح لدمائهن لاكونهن قاتلن

الرابع ان النبي امن جميع أهل مكة الا ان يقاتلوا مع كونهم قد حاربوه وقتلوا أصحابه ونقضوا العهد الذي بينهم وبينه ثم انه اهدر دماء هؤلاء النسوة فيمن استثناه وان لم يقاتلن لكونهن كن يؤذينه فثبت ان جرم المؤذي لرسول الله بالسب ونحوه اغلظ من جرم القتال وغيره وانه يقتل في الحال التي ينهي فيها عن قتال من قتل وقاتل

الخامس ان القينتين كانتا امتين مأمورتين بالهجاء وقتل الامة ابعد من قتل الحرة فان النبي نهى عن قتل العسيف وكونها مأمورة بالهجاء اخف لجرمها حيث لم تقصده ابتداء ثم مع هذا أمر بقتلهما فعلم ان السب من اغلظ الموجبات للقتل

السادس ان هؤلاء النسوة اما ان يكن قتلن بالهجاء لأنهن فعلنه مع العهد الذي كان بين النبي وبين أهل مكة فيكون من جنس هجاء الذمي أو قتلن لمجرد الهجاء مع عدم العهد فان كان الأول فهو المطلوب وان كان الثاني فإذا جاز ان تقتل السابه التي لا عهد بيننا وبينها يمنعها فقتل الممنوعة بالعهد أولى لأن مجرد كفر المراة وكونها من أهل الحرب لايبيح دمها بالاتفاق على ماتقدم لاسيما والسب لم يكن بمنزلة القتال على ما تقدم

فإن قيل ما وجه الترديد وأهل مكة قد نقضوا العهد وصاروا كلهم محاربين

قيل لأن النبي لم يستبح أخذ الأموال وسبي الذرية والنساء بذلك النقض العام اما لأنه عفا عن ذلك كما عفا عن قتل من لم يقاتل أو لأن النقض الذي وجد من بعض الرجال بمعاونة بني بكر ومن بعضهم بإقرارهم على ذلك لم يسر حكمه إلى الذرية

ومما يوضح ذلك ان النبي امن الناس الا بني بكر من خزاعة والا النفر المسمين اما عشرة أو أقل من عشرة أو أكثر لأن بني بكر هم الذين باشروا نقض العهد وقتلوا خزاعة فعلم انه فرق بين من نقض العهد وفعل مايبيح الدم وبين من لم يفعل شيئا غير الموافقة على نقض العهد فبكل حال لم يقتل هؤلاء النسوة للحراب العام والنقض العام بل لخصوص جرمهن من السب الناقض لعهد فاعله سواء ضم إليه كونه من ذي عهد أو لم يضم

واعلم ان ما تقدم من قتل النسوة اللاتي سبين رسول الله مثل اليهودية وام الولد وعصماء لو لم يثبت انهن كن معاهدات لكان الاستدلال به جائزا فان كل ما جاز ان تقتل به المراة التي ليست مسلمة ولا معاهدة من فعلها وقولها فان تقتل به المراة المعاهدة أولى واحرى فان موجبات القتل في حق الذمية اوسع من موجباته في حق التي ليست ذمية

ومما يدل على مثل هذه الدلالة ما روى ان امرأة كانت تسب النبي فقال من يكفيني عدوي فخرج إليها خالد بن الوليد فقتلها

الحديث الحادي عشر ما استدل به بعضهم من قصة ابن خطل ففي الصحيحين من حديث الزهري عن أنس ان النبي دخل مكة عام الفتح وعلى راسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال ابن خطل متعلق باستار الكعبة فقال اقتلوه وهذا مما استفاض نقله بين أهل العلم واتفقوا عليه ان رسول الله اهدر ذم ابن خطل يوم الفتح فيمن اهدره وانه قتل

وقد تقدم عن ابن المسيب ان أبا برزة اتاه وهو متعلق باستار الكعبة فبقر بطنه

وكذلك روى الواقدي عن أبي برزة قال في نزلت هذه الآية " لا اقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد " أخرجت عبد الله بن خطل وهو متعلق باستار الكعبة فضربت عنقه بين الركن والمقام

وذكر الواقدي ان ابن خطل اقبل من اعلى مكة مدججا في الحديد ثم خرج حتى أنتهى إلى الخندمة فراى خيل المسلمين وراى القتال ودخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة حتى أنتهى إلى الكعبة فنزل عن فرسه وطرح سلاحه فاتى البيت فدخل بين استاره

وقد تقدم عن أهل المغازي ان جرمه ان النبي استعمله على الصدقة واصحبه رجل يخدمه فغضب على رفيقه لكونه لم يصنع له طعاما أمره بصنعه فقتله فخاف ثم ان يقتل فارتد واستاق ابن الصدقة وانه كان يقول الشعر يهجو به رسول الله ويامر جاريتيه ان تغنيا به فهذا له ثلاث جرائم مبيحة للدم قتل النفس والردة والهجاء

فمن احتج بقصته يقول لم يقتل لقتل النفس لأن أكثر ما يجب على من قتل ثم ارتد ان يقتل قودا والمقتول من خزاعة له أولياء فكان حكمه لو قتل قودا ان يسلم إلى أولياء المقتول فاما ان يقتلوا أو يعفوا أو ياخذوا الدية ولم يقتل لمجرد الردة لأن المرتد يستتاب وإذا استنظر انظر وهذا ابن خطل قد فر إلى البيت عائذا به طالبا للأمان تاركا للقتال ملقيا للسلاح حتى ينظر في أمره وقد أمر النبي بعد علمه بذلك كله ان يقتل وليس هذا سنة من يقتل لمجرد الردة فثبت ان هذا التغليظ في قتله إنما كان لأجل السب والهجاء وان الساب وان ارتد فليس بمنزلة المرتد المحض يقتل قبل الاستتابه ولا يؤخر قتله وذلك دليل على جواز قتله بعد التوبة

وقد استدل بقصة ابن خطل طائفة من الفقهاء على أن من سب النبي من المسلمين يقتل وان أسلم حدا

واعترض عليهم بان ابن خطل كان حربيا فقتل لذلك

وجوابه انه كان مرتدا بلا خلاف بين أهل العلم بالسير وحتم قتله بدون استتابه مع كونه مستسلما من قادم قد القى السلم كالأسير فعلم ان من ارتد وسب يقتل بلا استتابة بخلاف من ارتد فقط

يؤيده ان النبي امن عام الفتح جميع المحاربين الا ذوي جرائم مخصوصه وكان ممن اهدر دمه دون غيره فعلم انه لم يقتل لمجرد الكفر والحراب

السنة الثانية عشرة ان النبي أمر بقتل جماعة لأجل سبه وقتل جماعة لأجل ذلك مع كفه وإمساكه عمن هو بمنزلتهم في كونه كافرا حربيا فمن ذلك ما قدمناه عن سعيد بن المسيب ان النبي أمر يوم الفتح بقتل ابن الزبعري

وسعيد بن المسيب هو الغاية في جودة المراسيل ولا يضره ان لا يذكره بعض أهل المغازي فانهم مختلفون في عدد من استثني من الأمان وكل أخبر بما علم ومن اثبت الشئ وذكره حجة على من لم يثبته

وقد ذكر ابن إسحاق قال فلما قدم رسول الله إلى المدينة منصرفا عن الطائف كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى اخيه كعب ابن زهير يخبره ان رسول الله قد قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه وان من بقي من شعراء قريش عبد الله بن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه ففي هذا بيان أن النبي أمر بقتل من كان يهجوه ويؤذيه بمكة من الشعراء مثل ابن الزبعري وغيره

ومما لا خفاء به ان ابن الزبعري إنما ذنبه انه كان شديد العداوة لرسول الله بلسانه فانه كان من اشعر الناس وكان يهاجي شعراء الإسلام مثل حسان وكعب بن مالك فاما ما سوى ذلك من الذنوب قد شركه فيه واربى عليه عدد كثير من قريش

ثم ان ابن الزبعري فر إلى نجران ثم قدم على النبي مسلما وله اشعار حسنة في التوبة والاعتذار فاهدر دمه للسب مع أمانه لجميع أهل مكة الا من كان له جرم مثل جرمه ونحو ذلك

ومن ذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قصته في هجائه للنبي وفي اعراض النبي عنه لما جاءه مسلما مشهورة ومستفيضة

وقد ذكر الواقدي قال حدثني سعيد بن مسلم بن قماذين عن عبد الرحمن بن سابط وغيرهم قال كان أبو سفيان بن الحارث اخا رسول الله من الرضاعة ارضعته حليمة اياما وكان يالف رسول الله وكان له تربا فلما بعث رسول الله عاده عداوة لم يعاد أحدا قط ولم يكن دخل الشعب وهجا رسول الله وهجا أصحابه وذكر الحديث إلى ان قال ثم ان الله القى في قلبه الإسلام قال أبو سفيان فقلت من اصحب ومع من اكون قد ضرب الإسلام بجرانه فجئت زوجتي وولدي فقلت تهيؤوا للخروج قد اظل قدوم محمد قالوا قد ان لك ان تبصر ان العرب والعجم قد تبعت محمدا وأنت توضع في عداوته وكنت أولى الناس بنصرته فقلت لغلامي المذكور عجل بابعرتي وفرسي قال ثم سرنا حتى نزلنا بالابواء وقد نزلت مقدمة بالابواء فتنكرت وخفت ان اقتل وكان قد ندر دمي فخرجت واخذ ابن جعفر على قدمي نحوا من ميل في الغداة التي صبح رسول الله الابواء فاقبل الناس رسلا رسلا أي قطيعا قطيعا فتنحيت فرقا من أصحابه فلما طلع موكبه تصديت له تلقاء وجهه فلما ملا عينيه مني اعرض عني بوجهه إلى الناحية الأخرى فتحولت إلى ناحية وجهه الأخرى فاعرض عني مرارا فاخذني ما قرب وما بعد وقلت انا مقتول قبل ان أصل إليه واتذكر بره ورحمه وقرابتي فيمسك ذلك مني وقد كنت لا اشك ان رسول الله وأصحابه سيفرحون بإسلامه فرحا شديدا وقرابتي برسول الله ولما رأى المسلمون اعراض رسول الله عني اعرضوا عني جميعا فلقيني ابن أبي قحافة معرضا عني ونظرت إلى عمر يغري بي رجلا من الانصار فالز بي رجلا يقول يا عدو الله أنت الذي كنت تاذي رسول الله وتؤذي أصحابه قد بلغت مشارق الأرض ومغاربها في عداوته فرددت بعض الرد عن نفسي فاستطال علي ورفع صوته حتىا جعلني في مثل الحرجة من الناس يسرون بما يفعل بي قال فدخلت على عمي العباس فقلت ياعم قد كنت ارجوا ان سيفرح رسول الله بإسلامي لقرابن وشرفي وقد كان منه ما رايت فكلمه ليرضى عني قال لا والله لا اكلمه كلمة فيك بعد الذي رايت منه ما رايت الا ان أرى وجها اني اجل رسول الله واهابه فقلت ياعم إلى من تكلني قال هو ذاك فلقيت علي فكلمته فقال لي مثل ذلك وذكر الحديث إلى ان قال فخرجت فجلست على باب منزل رسول الله حتى راح إلى الجحفة وهو لا يكلمني ولا أحد من المسلمين وجعلت لا ينزل منزلا الا انا على بابه ومعي ابني جعفر قائم فلا يراني الا اعرض عني فخرجت على هذه الحال حتى شهدت معه فتح مكة وانا في خيله التي تلازمه حتى هبط من اذاخر حتى نزل الابطح فنظر الي نظرا هو الين من ذلك النظر قد رجوت ان يتبسم ودخل عليه نساء بني عبد المطلب ودخلت معهن زوجتي فرققته علي وخرج إلى المسجد وانا بين يديه لا افارقه على حال حتى خرج إلى هوازن وخرجت معه وذكر قصته بهوازن وهي مشهورة

قال الواقدي وقد سمعت في إسلام أبي سفيان بن الحارث بوجه آخر قال لقيت رسول الله بنيق العقاب وذكر الحديث نحوا مما ذكره ابن إسحاق قال ابن إسحاق وكان أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي امية بن المغيرة قد لقيا رسول الله بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة فالتمسا الدخول عليه فكلمته أم سلمة فيهما فقالت يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك فقال لا حاجة لي بهما أم ابن عمي فهتك عرضي وام ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لى بمكة ما قال

قال فلما خرج الخبر إليهما بذلك ومع أبي سفيان بن الحارث ابن له فقال والله لياذنن لي رسول الله أو لاخذن بيد ابني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا أو جوعا فلما بلغ رسول الله رق لهما فدخلا عليه فانشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما كان مضى منه فقال

لعمرك اني يوم احمل راية ** لتغلب خيل اللات خيل محمد

لكا لمدلج الحيراني اظلم ليله ** فهذا اواني حين أهدى فاهتدي

هداني هاد غير نفسي ودلني ** على الله من طردت كل مطرد

وذكر باقي الأبيات

وفي رواية الواقدي قال فطلبا الدخول على رسول الله فابى ان يدخلهما عليه فكلمته أم سلمة زوجته فقالت يا رسول الله صهرك وابن عمتك وابن عمك واخوك من الرضاعة وقد جاء الله بهما مسلمين لا يكونا اشقى الناس بك فقال رسول الله لا حاجة لي بهما اما اخوك فالقائل لي بمكة ما قال لأن يؤمن لي حتى ارق في السماء فقالت يا رسول الله إنما هو من قومك وكل قريش قد تكلم ونزل القران فيه بعينه وقد عفوت عمن هو أعظم جرما منه وابن عمك قرابتك به قريبة وأنت أحق الناس عفا عنه جرمه فقال رسول الله هو الذي هتك عرضي فلا حاجة لي بهما فلما خرج إليهما الخبر قال أبو سفيان بن الحارث ومعه ابنه والله ليقبلن مني أو لأخذن بيد ابني هذا فلاذهبن في الأرض حتى أهلك عطشا وجوعا وأنت أحلم الناس وأكرم الناس مع رحمي بك فبلغ رسول الله مقالته فرق له وقال عبد الله ابن امية إنما جئت لاصدقك ولي من القرابة مالي والصهر بك وجعلت أم سلمة تكلمه فيهما فرق رسول الله لهما فاذن لهما ودخلا فأسلما وكانا جميعا حسني الإسلام

قتل عبد الله بن أبي امية بالطائف ومات أبو سفيان بن الحارث بالمدينة في خلافة عمر رضى الله عنه لم يغمص عليه بشئ ولقد كان رسول الله اهدر دمه قبل ان يلقاه

فوجه الدلالة انه ندر دم أبي سفيان بن الحارث دون غيره من صناديد المشركين الذين كانوا اشد تاثيرا في الجهاد باليد والمال وهو قادم إلى مكة لا يريد ان يسفك دماء أهلها بل يستعطفهم على الإسلام ولم يكن لذلك سبب يختص بابي سفيان الا الهجاء ثم جاء مسلما وهو يعرض عنه هذا الاعراض وكان من شانه ان يتالف الاباعد على الإسلام فكيف بعشيرته الاقربين كل ذلك بسبب هتكه عرضه كما هو مفسر في الحديث

ومن ذلك انه أمر يوم الفتح بقتل الحويرث بن نقيد وهو معروف عند أهل السير قال موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري وهي من اصح المغازي كان مالك يقول من أحب ان يكتب المغازي فعليه بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة قال وامرهم رسول الله ان يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحد الا من قاتلهم وامرهم بقتل أربعة نفر منهم الحويرث بن نقيد

وقال سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه حدثني أبي قال وقال ابن إسحاق وكان رسول الله عهد إلى المسلمين في قتل نفر ونسوة وقال إن وجدتموهم تحت استار الكعبة فاقتلوهم وسماهم باسمائهم ستة وهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وعبد الله بن خطل والحويرث بن نقيد ومقيس بن صبابه ورجل من بني تيم بن غالب

قال ابن إسحاق وحدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر انهم كانوا سته فكنم اسم رجلين وأخبرني بأربعة وزعم ان عكرمة بن أبي جهل أحدهم

قال واما الحويرث بن نقيد فقتله علي بن أبي طالب وكذلك ذكر ابن إسحاق في رواية ابن بكير وغيره عنه من نفر الذين استثناهم النبي وقال اقتلوهم وان وجدتموهم تحت استار الكعبة الحويرث بن نقيد وكان ممن يؤذي رسول الله

قال الواقدي عن اأشياخه ان النبي نهى عن القتال وامر بقتل ستة نفر وأربع نسوة عكرمة بن أبي جهل وهبار بن الاسود وابن أبي سرح ومقيس بن صبابه والحويرث بن نقيد وابن خطل

قال واما الحويرث بن نقيد فانه كان يؤذي النبي فاهدر دمه فبين هو في منزله يوم الفتح قد اغلق عليه واقبل علي رضي الله عنه يسال عنه فقيل هو في البادية فأخبر الحويرث انه يطلب وتنحى علي عن بابه فخرج الحويرث يريد ان يهرب من بيت إلى بيت آخر فتلقاه علي فضرب عنقه

ومثل هذا مما يشتهر عند هؤلاء مثل الزهري وابن عقبة وابن إسحاق والواقدي والأموي وغيرهم أكثر ما فيه انه مرسل والمرسل إذا روى من جهات مختلفة لا سيما ممن له عناية بهذا الأمر وتتبع له كان كالمسند بل بعض ما يشتهر عند أهل المغازي ويستفيض أقوى مما يروى بالإسناد الواحد ولا يوهنه انه لم يذكر بالحديث الماثور عن سعد وعمرو بن شعيب عن ابيه عن جده لأن المثبت مقدم على النافي ومن أخبر انه أمر بقتله فمعه زيادة علم ولعل النبي لم يأمر بقتله ثم أمر بقتله وذلك انه يمكن ان النبي نهىأصحابه ان يقتلوا الا من قاتلهم الا النفر الأربعة ثم أمرهم ان يقاتلوا هذاوغيره ومجرد نهيه عن القتال لا يوجب عصمة المكفوف عنهم لكنه بعد ذلك امنهم الأمان العاصم للدم وهذا الرجل قد أمر النبي بقتله لمجرد اذاه له مع انه قد امن أهل البلد الذين قاتلوه وأصحابه وفعلوا بهم الافاعيل

ومن ذلك انه لما قفل من بدر راجعا إلى المدينة قتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط ولم يقتل من اسارىبدر غيرهما وقصتهما معروفة

قال ابن إسحاق وكان في الأسرى عقبة بن أبي معيط والنضر ابن الحارث فلما كان رسول الله بالصفراء قتل النضر بن الحارث قتله علي بن أبي طالب كما خبر ثم مضى رسول الله فلما كان بعرق الظبية قتل عقبة بن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت

قال موسى بن عقبة عن الزهري ولم يقتل من الاسارى صبرا غير عقبة بن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت ابن أبي الاقلح ولما ابصره عقبة مقبلا إليه استغاث بقريش فقال يامعشر قريش علاما اقتل من بين هاهنا فقال رسول الله على عداوتك لله ورسوله وكذلك ذكر محمد بن عائد في مغازيه

وهذا والله أعلم لأن النضر قتل بالصفراء عند بدر فلم يعد من الأسرى عند هذا القائل لقتله قريبا من مصارع قريش والا فلا خلاف علمناه ان النضر وعقبة قتلا بعد الاسر

وقد روى البزار عن ابن عباس ان عقبة بن أبي معيط نادى يامعشر قريش مالي اقتل من بينكم صبرا فقال له النبي بكفرك وافترائك على رسول الله

وقال الواقدي كان النضر بن الحارث اسره المقداد بن الاسود فلما خرج رسول الله من بدر فكان بالاثيل عرض عليه الأسرى فنظر إلى النضر بن الحارث فابده البصر فقال لرجل إلى جنبه محمد والله قاتلي لقد نظر الي بعينن فيهما الموت فقال الذي إلى جنبه والله ما هذا منك الا رعب فقال النضر لمصعب بن عمير يامصعب أنت اقرب من هاهنا بي رحما كلم صاحبك ان يجعلني كرجل من أصحابي هو والله قاتلي ان لم تفعل قال مصعب انك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا وتقول في نبيه كذا وكذا قال يامصعب يجعلني كأحد أصحابي ان قتلوا قتلت وان من عليهم من علي قال مصعب انك كنت تعذب أصحابه وذكر الحديث إلى ان قال فقتله علي بن أبي طالب صبرا بالسيف

قال الواقدي واقبل رسول الله بالأسرى حتى إذا كانوا بعرف الظبية أمر عاصم بن ثابت بن أبي الاقلح ان يضرب عنق عقبة ابن أبي معيط فجعل عقبة يقول ياويلي علام اقتل يا قريش من بين من هاهنا قال رسول الله لعداوتك لله ورسوله قال يامحمد منك أفضل فاجعلني كرجل من قومي ان قتلتهم قتلتني وان مننت عليهم مننت علي وان اخذت منهم الفداء كنت كاحدهم يامحمد من للصبية قال رسول الله النار قدمه ياعاصم فاضرب عنقه فقدمه عاصم فضرب عنقه فقال رسول الله بئس الرجل كنت والله ما علمت كافرا بالله وبكتابه وبرسوله مؤذيا لنبيه فأحمد الله الذي هو قتلك واقر عيني منك

ففي هذا بيان أن السبب الذي أوجب قتل هذين الرجلين من بين سائر الأسرى اذاهم لله ولرسوله بالقول والفعل فان الآيات التي نزلت في النضر معروفة واذى ابن أبي معيط له مشهور بلسانه ويده حين خنقه بابي هو واحي بردائه خنقا شديدا يريد قتله وحين القى السلا على ظهره وهو ساجد وغير ذلك

ومن ذلك انه أمر بقتل من يهجوه بعد فتح مكة من قريش وسائر العرب مثل كعب بن زهير وغيره

ىقال الأموي حدثني أبي قال قال ابن إسحاق وذكره يونس بن بكيروالبكائي وغيرهما عن ابن إسحاق قال فلما قدم رسول الله المدينة منصرفا من الطائف كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى اخيه كعب بن زهير يخبره ان رسول الله كتب في قتل رجال بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه

ولفظ يونس والبكائي ان رسول الله قد قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه وان من بقي من شعراء قريش ابن الزبعري وهبيرة ابن أبي وهب وقد هربوا في كل وجه فان كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله فانه لا يقتل أحدا جاءه تائبا وان أنت لم تفعل فانج إلى نجاتك من الأرض وكان كعب قد قال أبياتا نال فيها من رسول الله حتى رويت وعرفت وكان الذي قال

إلا ابلغا بجيرا رسالة ** فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا

لتخبرني ان كنت ليس بفاعل ** على أي شئ غير ذلك دلكا

على خلق لم يلق يوما أبا له ** ولا أنت لم تعرف عليه أبا لكا

فان أنت لم تفعل فلست باسف ** ولا قائل اما عثرت لعالكا

سقاك بها المؤمون كاسا روية ** فانهلك المؤمون منها وعلكا

وانما قال كعب المؤمون لقول قريش لرسول الله الامين الذي كانت تقول له فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض واشفق على نفسه وارجف به من كان في حاضره من عدوه فقالوا هو مقتول فلما لم يجد من شئ بدا قال قصيدة يمدح فيها رسول الله ويذكر فيها خوفه وراجاف الوشاة به ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة كما ذكر لي فغدا به على رسول الله حين صلى الصبح فلما صلى مع الناس أشار له إلى رسول الله فقال هذا رسول الله فقم إليه فذكر لنا انه قام إلى رسول الله فوضع يده في يده وكان رسول الله لا يعرفه فقال يا رسول الله اني كعب ابن زهير استامن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه ان انا جئتك به فقالل رسول الله نعم قال انا يا رسول الله كعب بن زهير

قال ابن إسحاق فحدثني عاصم بن عمر انه وثب عليه رجل من الانصار فقال يا رسول الله دعني وعدو الله اضرب عنقه فقال رسول الله دعه عنك قد جاء تائبا نازعا قال فغضب كعب على هذا الحي من الانصار لما صنع به صاحبهم وذلك انه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين الا بخير فقال قصيدته التي قال حين قدم رسول الله ثم أنشد ابن إسحاق قصيدته المشهورة بانت سعاد وفيها

انبئت ان رسول الله اوعدني ** والعفو عند رسول الله مامول

مهلا هداك الله الذي اعطاك نافلة ** القاران فيه مواعيظ وتفصيل

لاتاخذني بأقوال الوشاة ولم اذنب ولو كثرت في الأقاويل

وفي حديث آخر وذلك انه بلغه رسول الله ندر دمه لقول بلغه عنه فقدم على رسول الله مسلما ودخل مسجده وانشد القصيدة فقد أخبر أن رسول الله كتب في قتل رجال بمكة لأجل هجائهم واذاهم حتى افر من فر منهم إلى نجران ثم رجع ابن الزيدي عليه تائبا مسلما وأقام هبيرة بنجران حتى مات مشركا ثم انه اهدر دم كعب لما قاله مع انه ليس من بليغ الهجاء لكونه طعن في دين الإسلام وعابه وعاب ما يدعوا إليه الرسول ثم انه تاب قبل القدرة عليه وجاء مسلما وكان حربيا ومع هذا فهو يلتمس العفو ويقول لا تاخذني بأقوال الوشاة ولم اذنب

من ذلك ما نقل انه كان يندب إلى قتل من يهجوه ويقول من يكفيني عدوي

قال الأموي سعيد بن يحيى بن سعيد في مغازيه ثنا أبي قال أخبرني عبد الملك بن جريج أخبرني عن رجل أخبره عن عكرمة عن عبد الله بن عباس ان رجلا من المشركين شتم رسول الله فقال رسول الله من يكفيني عدوي فقام الزبير بن العوام فقال انا فبارزه فاعطاه رسول الله سلبه ولا احسبه الا في خيبر حين قتل ياسر ورواه عبد الرزاق أيضا

وروى ان رجلا كان يسب النبي فقال من يكفيني عدوي فقال خالد انا فبعثه النبي فقتله

ومن ذلك ان أصحابه كانوا إذا سمعوا من يسبه ويؤذيه قتلوه وان كان قريبا فيقرهم على ذلك ويرضاه وربما سمى من فعل ذلك ناصرا لله ورسوله

فروى أبو إسحاق الفزاري في كتابه المشهور في السير عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن سميع عن مالك بن عمير قال جاء رجل إلى النبي فقال اني لقيت أبي في المشركين فسمعت منه مقاله قبيحة لك فما صبرت ان طعنته بالرمح فقتلته فما شق ذلك عليه

قال وجاءه آخر فقال اني لقيت أبي في المشركين فصفحت عنه فما شق ذلك عليه

وقد رواه الأموي وغيره من هذه الطريق

وروى أبو إسحاق الفزاري أيضا في كتابه عن الاوزاعي عن حسان بن عطية قال بعث رسول الله جيشا فيهم عبد الله بن رواحة وجابر فلما صافوا المشركين اقبل رجل منهم يسب رسول الله فقام رجل من المسلمين فقال انا فلان ابن فلان وامي فلانه فسبني وسب امي وكف عن سب رسول الله فلم يزده ذلك الا اغراء فاعاد مثل ذلك وعاد الرجل مثل ذلك فقال في الثالثة لئن عدت لارحلنك بسيفي فعاد فحمل عليه الرجل فولى مدبرا فاتبعه الرجل حتى خرق صف المشركين فضربه بسيفه واحاط به المشركون فقتلوه فقال رسول الله اعجبتم من رجل نصر الله ورسوله ثم ان الرجل برئ من جراحه فأسلم فكان يسمى الرحيل ورواه الأموي في مغازيه من هذا الوجه

وقد تقدم حديث عمير بن عدي لما قال حين بلغه اذى بنت مروان للنبي اللهم ان علي نذرا لئن رددت رسول الله إلى المدينة لاقتلنها فقتلها بدون اذن النبي فقال النبي إذا أحببتم ان تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي

وكذلك حديث اليهودية وام الولد فان النبي اهدر دمها لما قتلت لأجل سبه وقد قتلت بدون اذنه فهذا مما يدخل في انه اقر من قتل رجلا لأجل سبه

وقد تقدم أيضا حديث الرجل الذي نذر ان يقتل ابن أبي سرح لما افتراه على النبي وإن النبي امسك عن مبايعته ليقوم إليه ذلك الرجل فيقتله ويفي بنذره

وقد ذكروا ان الجن الذي آمنوا به كانت تقصد من يسبه من الجن الكفار فتقتله قبل الهجرة وقبل الاذن في القتال له وللانس فيقرها على ذلك ويشكر ذلك لها

قال سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه حدثني محمد بن سعيد يعني عمه قال قال محمد بن المنكدر انه ذكر له عن ابن عباس انه قال هاتف من الجن على جبل أبي قبيس فقال

قبح الله رايكم آل فهر ** ما ادق العقول والاحلام

حين تغضي لمن يعيب عليها ** دين ابائها الحماة الكرام

حالف الجن جن بصرى عليكم ** ورجال النخيل والاطام

توشك الخيل ان تروها نهارا ** تقتل القوم في حرام تهام

هل كريم منكم له نفس حر ** ماجد الجدتين والاعمام

ضاربا ضربة تكون نكالا ** ورواحا من كربه واغتنام

قال ابن عباس فاصبح هذا الشعر حديثا لاهل مكة يتناشدوه بينهم فقال رسول الله هذا شيطان يكلم الناس من الاوثان يقال له مسعر والله مخزيه فمكثوا ثلاثة ايام فإذا هاتف يهتف على الجبل يقول

نحن قتلنا في ثلاث مسعرا ** إذ سفه الحق وسن المنكرا

قنعته سيفا حساما مبترا ** بشتمه نبيا المطهرا

فقال رسول الله هذا عفريت من الجن اسمه سمحج امن بي سميته عبد الله أخبرني انه في طلبه منذ ثلاثة ايام فقال علي جزاه الله خيرا يا رسول الله

وممن ذكر انه قتل لأجل اذى النبي أبو رافع بن ابن الحقيق اليهودي وقصته معروفة مستفيضة عند العلماء فنذكر منها وضع الدلالة

عن البراء بن عازب قال بعث رسول الله إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الانصار وامر عليهم عبد الله بن عتيك وكان أبو رافع يؤذي رسول الله ويعين عليه وكان في حصن له بارض الحجاز فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم قال عبد الله لأصحابه اجلسوا مكانكم فاني منطلق ومتلطف للبواب لعلي ان ادخل فاقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كانه يقضي حاجتة وقد دخل الناس فهتف به البواب ياعبد الله ان كنت تريد ان تدخل فادخل فاني أريد ان اغلق الباب فخلت فكمنت فلما دخل الناس اغلق الباب ثم علق الاغاليق على ود قال فقمت إلى الاقاليد فاخذتها ففتحت الابواب وكان أبو رافع يسمر عنده وكان في علالي له فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابا اغلقت علي من داخل قلت ان القوم نذروا بي لم يخلصوا إلى حتى اقتله فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا ادري أين هو من البيت قلت أبا رافع قال من هذا فاهويت نحو الصوت فاضربه ضربة بالسيف وانا دهش فما اغنيت شيئا وصاح فخرجت من البيت فامكث غير بعيد ثم دخلت إليه فقلت ما هذا الصوت يا أبا رافع فقال لامك الويل ان رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف قال فاضربه ضربة اثخنته ولم اقتله ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت اني قتلته فجعلت افتح الابواب بابا بابا حتى أنتهيت إلى درحة له فوضعت رجلي وانا أرى ان قد أنتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت لا أخرج الليلة حتى اعلم اقتلته فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال انعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجاء قد قتل الله أبا رافع فانتهيت إلى النبي فحدثته فقال ابسط رجلك فبسطت رجلي فمسحها فكانما لم اشتكها قط رواه البخاري في صحيحه

وقال ابن إسحاق حدثني الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال مما صنع الرسول ان هذين الحيين من الانصار الاوس والخزرج كانا يتصاولان معه تصاول الفحلين لايصنع أحدهما شيئا الا صنع الآخر مثله يقولون لايعدون ذلك فضلا علينا في الإسلام وعند رسول الله فلما قتل الاوس كعب بن الأشرف تذكرت الخزرج رجلا هو في العداوة لرسول الله مثله فتذاكروا ابن أبي الحقيق في خيبر فاستاذنوا رسول الله في قتله فاذن لهم وذكر الحديث إلى ان قال ثم صعدو إليه في علية له فقرعوا عليه الباب فخرجت إليهم أمرأته فقالت من أنتم فقالوا حي من العرب نريد الميرة ففتحت لهم فقالت ذاكم الرجل عندكم في البيت وذكر تمام الحديث في قتله

فقد تبين في حديث البراء وابن كعب إنما تسرى المسلمين بقتله باذن النبي لاذاه للنبي ومعاداته له

وانه كان نضير ابن الأشرف لكن ابن الأشرف كان معاهدا فاذى الله ورسوله فندب المسلمين إلى قتله وهذا لم يكن معاهدا

فهذه الأحاديث كلها تدل على أن من كان يسب النبي ويؤذيه من الكفار فانه كان يقصد قتله ويحض عليه لأجل ذلك وكذلك أصحابه بامره يفعلون ذلك مع كفه عن غيره ممن هو على مثل حاله في انه كافر غير معاهد بل مع أمانه لاولئك أو احسانه إليهم من غير عهد بينه وبينهم ثم من هؤلاء من قتل ومنهم من جاء مسلما تائبا فعصم دمه لثلاثة اسباب

أحدها انه جاء تائبا قبل القدرة عليه والمسلم الذي وجب عليه حد لو جاء تائبا قبل القدرة عليه لسقط عنه فالحربي أولى

الثاني ان رسول الله كان من خلقه ان يعفو عنه

الثالث ان الحربي إذا أسلم لم يؤخذ بشيء مما عمله في الجاهلية لا من حقوق الله ولا من حقوق العباد من غير خلاف نعلمه لقوله تعالى " قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " ولقوله الإسلام يجب ما قبله رواه مسلم ولقوله من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية متفق عليه

ولهذا أسلم خلق كثير وقد قتلوا رجالا يعرفون فلم يطلب أحدا منه بقود ولا دية ولا كفارة

أسلم وحشي قاتل حمزة وابن العاص قاتل ابن قوقل وعقبة بن الحارث قاتل خبيب بن عدي ومن لا يحصى ممن ثبت في الصحيح انه أسلم وقد علم انه قتل رجلا بعينه من المسلمين فلم يوجب النبي على أحد منهم قصاصا بل قال يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة يقتل هذا في سبيل الله فيدخل الجنة ثم يتوب الله على القاتل فيسلم ويقتل في سبيل الله فيدخل الجنة متفق عليه

وكذلك أيضا لم يضمن النبي أحدا منهم مالا اتلفه للمسلمين ولا أقام على أحد حد زنى أو سرقة أو شرب أو قذف سواء كان قد أسلم بعد الاسر أو قبل الاسر وهذا مما لأنعلم بين المسلمين فيه خلافا في روايته ولا في الفتوى به

بل لو أسلم الحربي وبيده مال مسلم قد اخذه من المسلمين بطريق الاغتنام ونحوه مما لا يملك به مسلم من مسلم لكونه محرما في دين الإسلام كان له ملكا ولم يرده إلى المسلم الذي كان يملكه عند جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم وهو معنى ما جاء عن الخلفاء الراشدين وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ومنصوص أحمد وقول جماهير أصحابه بناء على أن الإسلام أو العهد قرر ما بيده من المال الذي كان يعتقده ملكا له لأنه خرج عن مالكه المسلم في سبيل الله ووجب اجره على الله واخذه هذا مستحلا له وقد غفر له بإسلامه ما فعله في دماء المسلمين وأموالهم فلم يضمنه بالرد إلى مالكه كما لم يضمن ما اتلفه من النفوس والأموال ولا يقضي ما تركه من العبادات لأن كل ذلك كان تابعا للاعتقاد فلما رجع عن الاعتقاد غفر له ما تبعه من الذنوب فصار ما بيده من المال لا تبعة عليه فيه فلم يؤخذ منه كجميع ما بيده من العقود الفاسدة التي كان يستحلها من ربا وغيره

ومن العلماء من قال يرده على مالكه المسلم وهو قول الشافعي وابي الخطاب من الحنبلية بناء على أن اغتنامهم فعل محرم فلا يملكون به مال المسلم كالغصب ولانه لو اخذه المسلم منهم اخذا يملك به مسلم من مسلم بان يغنمه أو يسرقه فانه يرد إلى مالكه المسلم لحديث ناقة النبي وهو مما اتفق الناس فيما نعلمه عليه ولو كانوا قد ملكوه كملكه الغانم منهم ولم يرده

والأول اصح لأن المشركين كانوا يغنمون من أموال المسلمين الشئ الكثير من الكراع والسلاح وغير ذلك وقد أسلم عامة أولئك المشركين فلم يسترجع النبي من أحد منهم مالا مع ان بعض تلك الأموال لا بد أن يكون باقيا

ويكفي في ذلك ان الله سبحانه قال " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا " وقال " اذن للذين يقاتلون " إلى قوله " الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق " وقال " وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام واخراج أهله منه " وقال " إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على اخراجكم "

فبين سبحانه ان المسلمين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق حتى صاروا فقراء بعد ان كانوا اغنياء

ثم ان المشركين استولوا على تلك الديار والأموال وكانت باقية إلى حين الفتح وقد أسلم من استولى عليها في الجاهلية ثم لم يرد النبي على أحد منهم أخرج من داره بعد الفتح والإسلام دارا ولا مالا فإن قيل للنبي يوم الفتح الا تنزل في دارك فقال وهل ترك لنا عقيل من دار

وساله المهاجرون ان يرد عليهم أموالهم التي استولى عليها أهلى مكة فابى ذلك واقرها بيد من استولى عليها بعد إسلامه

وذلك ان عقيل بن أبي طالب بعد الهجرة استولى على دار النبي ودور اخوته من الرجال والنساء مع ما ورثه من ابيه أبي طالب

قال أبو رافع قيل للنبي الا تنزل منزلك من الشعب قال فهل ترك لنا عقيل منزلا وكان عقيل قد باع منزل رسول الله ومنزل اخوته من الرجال والنساء بمكة

وقد ذكر أهل العلم بالسيرة منهم أبو الوليد الأزرقي ان رباع عبد المطلب بمكة صارت لبني عبد المطلب فمنها الشعب شعب ابن يوسف وبعض دار ابن يوسف لأبي طالب والحق الذي بينه وبعض دار ابن يوسف دار المولد مولد النبي وما حوله لأبي لنبي عبد الله بن عبد المطلب

ولا ريب ان النبي كانت له هذه الدار ورثه من ابيه وبها ولد وكان له دار ورثها هو وولده من خديجة رضى الله عنها

قال الأزرقي فسكت النبي عن مسكنيه كليهما مسكنه الذي ولد فيه ومسكنه الذي ابتنى فيه بخديجة بنت خويلد وولد فيه ولده جميعا

قال وكان عقيل بن أبي طالب أخذ مسكنه الذي ولد فيه واما بيت خديجة فاخذه معتب بن أبي لهب وكان اقرب الناس إليه جوارا فباعه بعد من معاوية

قد شرح أهل السيرة ما ذكرنا في دور المهاجرين

قال الأزرقي دار جحش بن رئاب الاسدي التي بالمعلى لم تزل في يد وللد جحش فلما اذن الله لنبيه وأصحابه في الهجرة إلى المدينة خرج ال جحش جميعا الرجال والنساء إلى المدينة مهاجرين وتركوا دارهم خالية وهم حلفاء حرب بني امية فعمد أبو سفيان إلى دارهم هذه فباعها بأربع مئة دينار من عمرو بن علقمة العامري فلما بلغ ال جحش انا أبا سفيان باع دارهم انشا أبو أحمد يهجوا أبو سفيان ويعيره ببيعها وذكر أبياتا

فلما كان يوم فتح مكه أتى أبو أحمد بن جحش وقد ذهب بصره إلى رسول الله فكلمه فيها فقال يا رسول الله ان أبا سفيان عمد إلى داري فباعها فدعاه النبي فكلمه فيها فساره بشئ فما سمع أبو أحمد بعد ذلك ذكرها فقيل لأبي أحمد بعد ذلك ما قال لك رسول الله قال قال لي ان صبرت كان خيرا وكان لك بها دار في الجنة قال قلت فانا اصبر فتركها أبو أحمد

قال وكان لعتبة بن غزوان دار تسمى ذات الوجهين فلما هاجر اخذها يعلي بن امية وكان استوصاه بها حين هاجر فلما كان عام الفتح وكلم بنو جحش رسول الله في دارهم فكره ان يرجعوا في شئ من أموالهم أخذ منهم في الله تعالى وهجروه لله

امسك عتبة بن غزوان عن كلام رسول الله في داره هذه ذات الوجهين وسكت المهاجرون ولم يتكلم أحد منهم في دار هجرها لله ورسوله وسكت رسول الله عن مسكنه الذي ولد فيه ومسكنه الذي ابتنى فيه بخديجة وهذه القصة معروفة عند أهل العلم

قال محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر ببن حزم والزبير ابن عكاشة بن أبي أحمد قالا ابطا رسول الله يوم الفتح عليهم في دورهم فقالوا لأبي أحمد ياابا أحمد ان رسول الله يكره لكم ان ترجعوا في شيء من أموالكم مما اصيب في الله

وقال ابن إسحاق أيضا في رواية زياد بن عبد الله البكائي عنه وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله فلم يبقى أحد منهم بمكة الا مفتون أو محبوس ولم يوعب أهل هجرة من مكة باهليهم أموالهم إلى الله والى رسوله الا أهل دور مسمون بنو مظعون من بني جمح وبنو جحش بن رئاب حلفاء بني امية وبنو البكير من بني سعد بن ليث حلفاء عدي بن كعب فان دورهم غلقت بمكة هجرة ليس فيها ساكن

ولما خرج بنو جحش بن رئاب من دارهم عدا عليها أبو سفيان بن حرب فباعها من عمرو بن علقمة اخي بني عامر بن لؤي فلما بلغ بني جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم ذكر ذلك عبد الله بن جحش لرسول الله فقال رسول الله الا ترضى ياعبد الله ان يعطيك الله بها دارا خيرا منها في الجنة فقال بلى فقال ذلك لك فلما افتتح رسول الله مكة كلمه أبو أحمد في دارهم فابطا عليه رسول الله فقال الناس لأبي أحمد يا أبا أحمد ان رسول الله يكره ان ترجعوا في شيء من أموالكم اصيب منكم في الله فامسك عن كلام رسول الله

قال الواقدي عن أشياخه قالوا وقام أبو أحمد بن جحش على باب المسجد على جمل له حين فرغ النبي من خطبته يعني الخطبة التي خطبها وهوواقف بباب الكعبة حين دخل الكعبة فصلى فيها ثم خرج يوم الفتح فقال أبو أحمد وهو يصيح أنشد بالله يا بني عبد مناف حلفي أنشد بالله يا بني عبد مناف داري قال فدعا رسول الله عثمان بن عفان فسار عثمان بشيء فذهب عثمان إلى أبي أحمد فساره فنزل أبو أحمد عن بعيره وجلس مع القوم فما سمع أبو أحمد ذكرها حتى لقي الله فهذا نص في ان المهاجرين طلبوا استرجاع ديارهم فمنعهم رسول الله واقرها بيد من استولى عليها ومن اشتراها منه وجعل ما اخذه منهم الكفار بمنزلة ما اصيب من دمائهم وما انفقوه من أموالهم وتلك دماء وأموال اشتراها الله وسلمت إليه ووجب اجرها على الله فلا رجعة فيها وذلك لأن المشركين يستحلون دماءنا وأموالنا وأصابوا ذلك كله استحلالا وهم اثمون في هذا الاستحلال فإذا أسلموا جب الإسلام ذلك الإثم وصاروا كانهم ما أصابوا دما ولا مالا فما بايديهم لا يجوز أنتزاعه منهم

فإن قيل في الصحيحين عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن اسامة بن زيد رضي الله عنه انه قال يا رسول الله اتنزل في دارك بمكة قال وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرث جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين وفي رواية للبخاري انه قال يا رسول أين تنزل غدا وذلك زمن الفتح فقال وهل ترك لنا عقيل من منزل ثم قال لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر قيل للزهري ومن ورث أبا طالب قال ورثه عقيل وطالب وفي رواية معمر عن الزهري أين تنزل غدا في حجته رواه البخاري

وظاهر هذا ان الدور انتقلت إلى عقيل بطريق الارث لا بطريق الاستيلاء ثم باعها

قلنا اما دار النبي التي ورثها من ابيه وداره التي هي له ولولده من زوجته المؤمنة خديجة فلا حق لعقيل فيها فعلم انه استولى عليها واما دور أبي طالب فان أبا طالب توفي قبل الهجرة بسنين والمواريث لم تفرض ولم يكن نزل بعد منع المسلم من ميراث الكافر بل كان من مات بمكة من المشركين اعطي أولاده المسلمون نصيبهم من الارث كغيرهم بل كان المشركون ينكحون المؤمنات الذي هو أعظم من الارث وانما قطع الله الموالاة بين المسلمين والكافرين بمنع النكاح والارث وغير ذلك بالمدينة وشرع الجهاد القاطع للعصمة

قال ابن إسحاق حدثني ابن أبي نجيح قال لما قدم رسول الله مكة نظر إلى تلك الرباع فما ادرك منها قد اقتسم على أمر الجاهلية تركه لم يحركه وما وجده لم يقسم قسمة على قسمة الإسلام

وهذا الذي رواه ابن أبي نجيح يوافق الأحاديث المسندة في ذلك مثل حديث ابن عباس قال قال رسول الله كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ماقسم وكل قسم ادركه الإسلام فانه على ما قسم الإسلام رواه أبو داود وابن ماجه

وهذا أيضا يوافق ما دل عليه كتاب الله ولا نعلم فيه خلافا فان الحربي لو عقد عقدا فاسدا من ربا أو بيع خمر أو خنزير أو نحو ذلك ثم أسلم بعد قبض العوض لم يحرم ما بيده ولم يجب عليه رده ولو لم يكن قبضة لم يجز له ان يقبض منه الا ما يجوز للمسلم كما دل عليه قوله تعالى " اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين " فامرهم بترك ما بقي في ذمم الناس ولم يامرهم برد ما قبضوه

وكذلك وضع النبي لما خطب الناس كل دم اصيب في الجاهلية وكل ربا في الجاهلية حتى ربا العباس ولم يأمر برد ما كان قبض فكذلك الميراث إذا مات الميت في الجاهلية واقتسموا تركته امضيت القسمة فان أسلموا قبل الاقتسام أو تحاكموا الينا قبل القسمة قسم على قسم الإسلام فلما مات أبو طالب كان الحكم بينهم ان يرثه جميع ولده فلم يقتسموا رباعة حتى هاجر جعفر وعلي إلى المدينة فاستولى عقيل عليها وباعها فقال النبي لم يترك لنا عقيل منزلا الا استولى عليه وباعه فكان معنى هذا الكلام انه استولى على دور كنا نستحقها إذ ذاك ولولا ذلك لم تضف الدور إليه والى بني عمه إذا لم يكن لهم فيها حق ثم قال بعد ذلك لا يرث المؤمن الكافر ولا الكافر المؤمن يريد والله أعلم لو ان الرباع باقية بيده إلى الان لم تقسم لكنا نعطي رباع أبي طالب كلها له دون اخوته لأنه ميراث لم يقسم فيقسم الان على قسم الإسلام ومن قسم الإسلام ان لا يرث المسلم الكافر فكان نزول هذا الحكم بعد موت أبي طالب وقبل قسمة تركته بمنزله نزوله قبل موته فبين النبي ان عليا وجعفرا ليس لهما المطالبة بشيء من ميراث أبي طالب لو كان باقيا فكيف إذا أخذ منه في سبيل الله فإذا كان المشرك الحربي لايطالب بعد إسلامه بما كان أصابه من دماء المسلمين وأموالهم وحقوق الله ولا ينتزع ما بيده من أموالهم التي غنمها منهم لم يؤاخذ أيضا بما اسلفه من سب وغيره فهذا وجه العفو عن هؤلاء

وهذا الذي ذكرناه من سنة رسول الله في تحتم قتل من كان يسبه من المشركين مع العفو عمن هو مثله في الكفر كان مستقرا في نفوس أصحابه على عهده وبعد عهده يقصدون قتل الساب ويحرضون عليه وان امسكوا عن غيره ويجعلون ذلك هو الموجب لقتله ويبذلون في ذلك نفوسهم كما تقدم من حديث الذي قال سبني وسب أبي وامي وكف عن رسول الله ثم حمل عليه حتى قتل وحديث الذي قتل اباه لما سمعه يسب النبي وحديث الانصاري الذي نذر ان يقتل العصماء فقتلها وحديث الذي نذر ان يقتل ابن أبي سرح وكف النبي عن مبايعته ليوفي بنذره

وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال اني لواقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا انا بغلامين من الانصار حديثة اسنانهما فتمنيت ان اكون بين اضلع منهما فغمزني أحدهما فقال أي عم هل تعرف أبا جهل قلت نعم فما حاجتك إليه يا أبا ابن اخي قال أخبرت انه يسب رسول الله والذي نفسي بيده لئن رايته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الاعجل منا قال فتعجبت لذلك قال وغمزني الآخر فقال لي مثلها فلم انشب ان نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت الا تريان هذا صاحبكما الذي تسالاني عنه قال فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله فأخبراه فقال ايكما قتله فقال كل واحد سنهما انا قتلته فقال هل مسحتما سيفيكما فقال لا فنظر رسول الله إلى السيفين فقال كلاكما قتله وقضى رسول الله بسلبه لمعاذ بن عمرو الجموح والرجلان معاذ ابن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء

والقصة مشهورة في فرح النبي بقتله وسجوده شكرا وقوله هذا فرعون هذه الامة هذا مع نهيه عن قتل أبي البختري ابن هشام مع كونه كافرا غير ذي عهد لكفه عنه واحسانه بالسعي في نقض صحيفة الجور ومع قوله لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى يعني الأسرى لاطلقتهم له يكافيء المطعم باجارته له بمكة والمطعم كافر غير معاهد فعلم ان مؤذي الرسول يتعين أهلاكه والانتقام منه بخلاف الكاف عنه وان اشتراكا في الكفر كما كان يكافيء المحسن إليه باحسانه وان كان كافرا

يؤيد ذلك ان أبا لهب كان له من القرابة ماله فلما اذاه وتخلف عن بني هاشم في نصره نزل القران فيه بما نزل من اللعنة والوعيد باسمه خزيا لم يفعل بغيره من الكافرين كما روي عن ابن عباس انه قال ما كان أبو لهب الا من كفار قومه حتى خرج منا حين تحالفت قريش علينا فظاهرهم فسبه الله وبنو المطلب مع مساواتهم لعبد شمس ونوفل في النسب لما اعانوه ونصروه وهم كفار شكر الله ذلك لهم فجعلهم بعد الإسلام مع بني هاشم في سهم ذوي القربى وأبو طالب لما اعانه ونصره وذب عنه خفف عنه العذاب فهو من اخف أهل النار عذابا وقد روي ان أبا لهب سقي في نقرة الابهام لعتقه ثويبة إذ بشرته بولادته

ومن سنة الله ان من لم يمكن المؤمنين ان يعذبوه من الذين يؤذون الله ورسوله فان الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ويكفيه اياه كما قدمنا بعض ذلك في قصة الكتاب المفترى وكما قال سبحانه " فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين انا كفيناك المستهزئين " والقصة في أهلاك الله واحدا واحدا من هؤلاء المستهزئين معروفة قد ذكرها أهل السير والتفسير وهم على ماقيل نفر من رؤوس قريش منهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والاسودان بن المطلب وابن عبد يغوث والحارث بن قيس

وقد كتب النبي إلى كسرى وقيصر وكلاهما لم يسلم لكن قيصر أكرم كتاب رسول الله وأكرم رسوله فثبت ملكه فيقال إن الملك باق في ذريته إلى اليوم وكسرى مزق كتاب رسول الله واستهزا برسول الله فقتله الله بعد قليل ومزق ملكه كل ممزق ولم يبق للاكاسرة ملك وهذا والله أعلم تحقيق قوله تعالى " ان شانئك هو الابتر " فكل من شناه أو ابغضه وعاداه فان الله تعالى يقطع دابره ويمحق عينه واثره وقد قيل انها نزلت في العاص بن وائل أو في عقبة بن أبي معيط أو في كعب بن الأشرف وقد رايت صنيع الله بهم

ومن الكلام السائر لحوم العلماء مسمومة فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام

وفي الصحيح عن النبي قال يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة

فكيف بمن عادى الأنبياء ومن حارب الله حرب وإذا استقريت قصص الأنبياء المذكورة في القران تجد اممهم إنما أهلكوا حين اذوا الأنبياء وقابلوهم بقبيح القول أو العمل وهكذا بنو إسرائيل إنما ضربت عليهم الذلة وباؤوا بغضب من الله ولم يكن لهم نصير لقتلهم الأنبياء بغير حق مضموما إلى كفرهم كما ذكر الله ذلك في كتابه ولعلك لاتجد أحدا اذى نبيا من الأنبياء ثم لم يتب الا ولا بد ان يصيبه الله بقارعة وقد ذكرنا ما جربه المسلمون من تعجيل الانتقام من الكفار إذا تعرضوا لسب رسول الله وبلغنا مثل ذلك في وقائع متعددة وهذا باب واسع لا يحاط به ولم نقصد قصده هنا وانما قصدنا بيان الحكم الشرعي

وكان سبحانه يحميه ويصرف عنه اذى الناس وشتمهم بكل طريق حتى في اللفظ ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله الا ترون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وانا محمد فنزه الله اسمه ونعته عن الأذى وصرف ذلك إلى من هو مذمم وان كان المؤذي إنما قصد عينه

فاذا تقرر بما ذكرناه من سنة رسول الله وسيرة أصحابه وغير ذلك ان الساب للرسول يتعين قتله فنقول اما أن يكون تعين قتله لكونه كافرا حربيا أو للسبب المضموم إلى ذلك والأول باطل لأن الأحاديث نص في انه لم يقتل لمجرد كونه كافرا حربيا بل عامتها قد نص فيه على أن موجب قتله إنما هو السب فنقول إذا تعين قتل الحربي لأجل انه سب النبي فكذلك المسلم والذمي وأولى لأن الموجب للقتل هو السب لا مجرد الكفر والمحاربة كما تبين فحيثما وجد هذا الموجب وجب القتل وذلك لأن الكفر مبيح للدم لا موجب لقتل الكافر بكل حال فانه يجوز أمانة ومهادنته والمن عليه ومفاداته لكن إذا صار للكافر عهد عصم العهد دمه الذي اباحه الكفر فهذا هو الفرق بين الحربي والذمي فاما ما سوى ذلك من موجبات القتل فلم يدخل في حكم العهد

وقد ثبت بالسنة ان النبي كان يأمر بقتل الساب لأجل السب فقط لا لمجرد الكفر الذي لا عهد معه فإذا وجد هذا السب وهوموجب للقتل والعهد لم يعصم من موجبه تعين القتل ولان أكثر مافي ذلك انه كافر حربي ساب والمسلم إذا سب يصير مرتدا سابا وقتل المرتد أوجب من قتل الكافر الاصلي والذمي إذا سب فانه يصير كافرا محاربا سابا بعد عهد متقدم وقتل مثل هذا اغلظ وأيضا فان الذمي لم يعاهد على إظهار السب بالإجماع ولهذا إذا أظهره فانه يعاقب عليه بإجماع المسلمين اما بالقتل أو بالتعزير وهو لا يعاقب على فعل شيء مما عوهد عليه وان كان كافرا غليظا ولا يجوز ان يعاقب على فعل شيء قد عوهدعلى فعله وإذا لم يكن العهد مسوغا لفعله وقد ثبت ان النبي أمر بقتل لاجله فيكون قد فعل ما يقتل لاجله وهو غير مقر عليه بالعهد ومثل هذا يجب قتله بلا تردد

وهذا التوجيه يقتضي قتله سواء قدر انه نقض العهد أو لم ينقضه لأن موجبات القتل التي لم نقره على فعلها يقتل بها وإن قيل لا ينتقض عهده كالزنى بذمية وكقطع الطريق على ذمي وكقتل ذمي وكما لو فعل هذه الأشياء مع المسلمين وقلنا ان عهده لا ينتقض فانه يقتل

وأيضا فان المسلم قدامتنع من السب بما أظهره من الايمان والذمي قد امتنع منه بما أظهره من الذمة والتزام الصغار ولو لم يكن ممتنعا منه بالصغار لما جاز عقوبته بتعزيز ولا غيره إذا فعله فإذا قتل لأجل السب الكافر الذي يستحله ظاهرا وباطنا ولم يعاهدنا عهدا يقتضي تركه فلان يقتل لاجله من التزم ان لا يظهره وعاهدنا على ذلك أولى واحرى

وأيضا فقد تبين بما ذكرناه من هذه الأحاديث ان الساب يجب قتله فان النبي أمر بقتل الساب في مواضع والأمر يقضي الوجوب ولم يبلغه عن أحد السب الا ندر دمه وكذلك أصحابه هذا مع ما قد كان يمكنه من العفو عنه فحيث لايمكنه العفو عنه يجب أن يكون قتل الساب اوكد والحرص عليه اشد وهذا الفعل منه هو نوع من الجهاد والاغلاظ على الكافرين والمنافقين وإظهار دين الله واعلاء كلمته ومعلوم ان هذا واجب فعلم ان قتل الساب واجب في الجملة وحيث جاز العفو له فانما هو فيمن كان مقدورا عليه من مظهر الإسلام مطيع له أو ممن جاءه مستسلما اما الممتنعون فلم يعف عن أحد منهم ولا يرد على هذا ان بعض الصحابة امن إحدى القينتين وبعضهم امن ابن أبي سرح لأن هذين كانا مستسلمين مريدين للإسلام والتوبة ومن كان كذلك فقد كان النبي له ان يعفو عنه فلم يتعين قتله فإذا ثبت ان الساب كان قتله واجبا والكافر الحربي الذي لم يسب لايجب قتله بل يجوز قتله فمعلوم ان الذمة لاتعصم دم من يجب قتله وانما تعصم دم من يجوز قتله الا ترى ان المرتد لا ذمة له وان القاطع والزاني لما وجب قتلهما لم تمنع الذمة قتلهما

وأيضا فلا مزية للذمي على الحربي الا بالعهد والعهد لم يبح له إظهار السب بالإجماع فيكون الذمي قد شرك الحربي في إظهار السب الموجب للقتل وما اختص به من العهد لم يبح له إظهاره السب فيكون قد أتى بما يوجب القتل وهو لم يقر عليه فيجب قتله بالضرورة

وأيضا فان النبي أمر بقتل من كان يسبه مع أمانه لمن كان يحاربه بنفسه وماله فعلم ان السب اشد من المحاربة أو مثلها والذمي إذا حارب قتل فإذا سب قتل بطريق الأولى

وأيضا فان الذمي وان كان معصوما بالعهد فهو ممنوع بهذا العهد من إظهار السب والحربي ليس له عهد يعصمه ولا يمنعه فيكون الذمي من جهة كونه ممنوعا اسوا حالا من الحربي واشد عداوة وأعظم جرما وأولى بالنكال والعقوبة التي يعاقب بها الحربي على السب والعهد الذي عصمه لم يف بموجبه فلا ينفعه لأنا إنما نستقيم له ما استقام لنا وهو لم يستقم بالاتفاق وكذلك يعاقب والعهد يعصم دمه وبشره الا بحق فلما جازت عقوبته بالاتفاق علم انه قد أتى ما يوجب العقوبة

وقد ثبت بالسنة ان عقوبة هذا الذنب القتل وسر الاستدلال بهذه الأحاديث انه لا يقتل الذمي لمجرد كون عهده قد انتقض فان مجرد نقض العهد يجعله ككافر لا عهد له وقد ثبت بهذه السنن ان النبي لم يأمر بقتل الساب لمجرد كونه كافرا غير معاهد وانما قتله لأجل السب مع كون السب مستلزما للكفر والعداوة والمحاربة وهذا القدر موجب للقتل حيث كان وسيأتي الكلام إن شاء الله على تعين قتله السنة الثالثة عشرة ما رويناه من حديث أبي القاسم عبد الله ابن محمد البغوي ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ثنا علي بن مسهر عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن ابيه قال جاء رجل إلى قوم في جانب المدينة فقال إن رسول الله أمرني ان احكم فيكم برايي وفي أموالكم وفي كذا وفي كذا وكان خطب امرأة منهم في الجاهلية فابوا ان يزوجوه ثم ذهب حتى نزل على المراة فبعث القوم إلى رسول الله فقال كذب عدو الله ثم أرسل رجلا فقال إن وجدته حيا فاقتله وان أنت وجدته ميتا فحرقه بالنار فانطلق فوجده قد لدغ فمات فحرقه بالنار فعند ذلك قال رسول الله من كذب علي متعمدا فليتبوا مقعده من النار

ورواه أبو أحمد بن عدي في كتابه الكامل قال ثنا الحسن ابن محمد بن عنبر ثنا حجاج بن يوسف الشاعر ثنا زكريا بن عدي ثنا علي بن مسهر عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن ابيه قال كان حي من بني ليث من المدينة على ميلين وكان رجل قد خطب منهم في الجاهلية فلم يوجوه فاتاهم وعليه حلة فقال إن رسول الله كساني هذه الحلة وامرني ان احكم في أموالكم ودمائكم ثم انطلق فنزل على تلك المراة التي كان يحبها فأرسل القوم إلى رسول الله فقال كذب عدو الله ثم أرسل رجلا فقال إن وجدته حيا وما اراك تجده حيا فاضرب عنقه وان وجدته ميتا فاحرقه بالنار قال فذلك قول رسول الله من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار هذا إسناد صحيح على شرط الصحيح لأنعلم له علة

وله شاهد من وجه آخر رواه المعافى بن زكريا الجريري في كتاب الجليس قال ثنا أبو حامد الحضرمي ثنا السري ابن مزيد الخراساني ثنا أبو جعفر محمد بن علي الفزاري ثنا داود ابن الزبرقان قال أخبرني عطاء بن السائب عن عبد الله بن الزبير قال يوما لأصحابه اتدرون ما تاويل هذا الحديث من كذب علي متعمدا فليتبوا مقعده من النار قال كان رجل عشق امرأة فاتى أهلها مساء فقال إن رسول الله بعثني اليكم ان اتضيف في أي بيوتكم شئت قال وكان ينتظر بيتوتية المساء قال فاتى رجل منهم النبي فقال إن فلانا اتانا يزعم انك أمرته ان يبيت في أي بيوتنا شاء فقال كذب يا فلان انطلق معه فان أمكنك الله منه فاضرب عنقه واحرقه بالنار ولا اراك الا قد كفيته فلما خرج الرسول قال رسول الله ادعوه فلما جاء قال اني كنت أمرتك ان تضرب عنقه وان تحرقه بالنار فان أمكنك الله منه فاضرب عنقه ولا تحرقه بالنار فانه لايعذب بالنار الا رب النار ولا اراك الا قد كفيته فجاءت السماء بصيب فخرج الرجل ليتوضا فلسعته افعى فلما بلغ ذلك النبي قال هو في النار

وقد روى أبو بكر بن مردويه من حديث الوازع عن أبي سلمة عن اسامة قال قال رسول الله من يقل علي ما لم أقل فليتبوا مقعده من النار وذلك انه بعث رجلا فكذب عليه فوجد ميتا قد انشق بطنه ولم تقبله الأرض

وروي ان رجلا كذب عليه فبعث عليا والزبير إليه ليقتلاه وللناس في هذا الحديث قولان

أحدهما الاخذ بظاهرة في قتل من تعمد الكذب على رسول الله ومن هؤلاء من قال يكفر بذلك قاله جماعة منهم أبو محمد الجويني حتى قال ابن عقيل عن شيخه أبي الفضل الهمداني مبتدعة الإسلام والكذابون والواضعون للحديث اشد من الملحدين لأن الملحدين قصدوا إفساد الدين من خارج وهؤلاء قصدوا إفساده من داخل فهم كاهل بلد سعوا في فساد أحواله والملحدون كالمحاصرون من خارج فالدخلاء يفتحون الحصن فهم شر على الإسلام من غير الملابسين له

ووجه هذا القول إن الكذب عليه كذب على الله ولهذا قال إن كذبا علي ليس ككذب على احدكم فان ما أمر به الرسول فقد أمر الله به يجب اتباعه كوجوب اتباع أمر الله وما أخبر به وجب تصديقه كما يجب تصديق ما أخبر الله به

ومن كذبه في خبره أو امتنع من التزام أمره فهو كمن كذب خبر الله وامتنع من التزام أمره ومعلوم ان من كذب على الله بان زعم انه رسول الله أو نبيه أو أخبر عن الله خبرا كذب فيه كمسيلمة والعنسي ونحوهما من المتنبئين فانه كافر حلال الدم فكذلك من تعمد الكذب على رسول الله

يبين ذلك ان الكذب عليه بمنزلة التكذيب له ولهذا جمع الله بينهما بقوله تعالى " ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاء " بل ربما كان الكاذب عليه أعظم اثما من المكذب له ولهذا بدا الله به كما ان الصادق عليه أعظم درجة من المصدق بخبره فإذا كان الكاذب مثل المكذب أو أعظم والكاذب على الله كالمكذب له فالكاذب على الرسول كالمكذب له

يوضح ذلك ان تكذيبه نوع من الكذب فان مضمون تكذيبه الاخبار عن خبره انه ليس بصدق وذلك ابطال لدين الله ولا فرق بين تكذيبه في خبر واحد أو في جميع الاخبار وانما صار كافرا لما تضمنه من ابطال رسالة الله ودينه والكاذب عليه يدخل في دينه ما ليس منه عمدا ويزعم انه يجب على الامة التصديق بهذا الخبر وامتثال هذا الأمر لأنه دين الله مع العلم بانه ليس لله بدين

والزيادة في الدين كالنقص منه ولا فرق بين من يكذب باية من القران أو يضيف كلاما يزعم انه سورة من القران عامدا لذلك

وأيضا فان تعمد الكذب عليه استهزاء به واستخفاف لأنه يزعم انه أمر بأشياء ليست مما أمر به بل وقد لا يجوز الأمر بها وهذه نسبة له إلى السفه أو انه يخبر بأشياء باطلة وهذه نسبة له إلى الكذب وهو كفر صريح

وأيضا فانه لو زعم زاعم ان الله فرض صوم شهر آخر غير رمضان أو صلاة سادسة زائدة ونحو ذلك أو انه حرم الخبز واللحم عالما بكذب نفسه كفر بالاتفاق

فمن زعم ان النبي أوجب شيئا لم يوجبه أو حرم شيئا لم يحرمه فقد كذب على الله كما كذب عليه الأول وزاد عليه بان صرح بان الرسول قال ذلك وانه افتى القائل لم يقله اجتهادا واستنباطا

وبالجملة فمن تعمد الكذب الصريح على الله فهو كالمتعمد لتكذيب الله واسوا حالا ولا يخفى ان من كذب على من يجب تعظيمه فانه مستخف به مستهين بحرمته

وأيضا فان الكاذب عليه لا بد ان يشينه بالكذب عليه وتنقصه بذلك ومعلوم انه لو كذب عليه كما كذب عليه ابن أبي سرح في قوله كان يتعلم مني أو رماه ببعض الفواحش الموبقة أو الأقوال الخبيثة كفر بذلك فكذلك الكاذب عليه لأنه اما ان ياثر عنه أمرا أو خبرا أو فعلا فان اثر عنه أمرا لم يأمر به فقد زاد في شريعته وذلك الفعل لا يجوز أن يكون مما يأمر به لأنه لو كان كذلك لامر به لقوله ما تركت من شئ يقربكم إلى الجنة الا أمرتكم به ولا من شئ يبعدكم عن النار الا نهيتكم عنه فإذا لم يأمر به فالأمر به غير جائز منه فمن روى عنه انه قد أمر به فقد نسبه إلى الأمر بما لا يجوز له الأمر به وذلك نسبة له إلى السفه

وكذلك ان يقل عنه خبرا فلو كان ذلك الخبر مما ينبغي له الاخبار به لأخبر به لأن الله تعالى قد اكمل الدين فإذا لم يخبر به فليس هو مما ينبغي له ان يخبر به وكذلك الفعل الذي ينقله عنه كاذبا فيه لو كان مما ينبغي فعله وترجع لفعله فإذا لم يفعله فتركه أولى

فحاصله ان الرسول اكمل البشر في جميع أحواله فما تركه من القول والفعل فتركه أولى من فعله وما فعله ففعله اكمل من تركه فإذا كذب الرجل عليه متعمدا أو أخبر عنه بما لم يكن فذلك الذي أخبر به عنه نقص بالنسبة إليه إذ لو كان كمالا لوجد منه ومن انتقص الرسول فقد كفر

واعلم ان هذا القول في غاية القوة كما تراه لكن يتوجه ان يفرق بين الذي يكذب عليه مشافهة وبين الذي يكذب عليه بواسطة مثل ان يقول حدثني فلان بن فلان عنه بكذا فان هذا إنما كذب علي ذلك الرجل ونسب إليه ذلك الحديث فاما ان قال هذا حديث صحيح أو ثبت عنه انه قال ذلك عالما بانه كذب فهذا قد كذب عليه واما إذا افتراه ورواه رواية ساذجة ففيه نظر لاسيما والصحابة عدول بتعديل الله لهم

فالكذب لو وقع من أحد ممن يدخل فيهم لعظم ضرره في الدين فأراد قتل من كذب عليه وعجل عقوبته ليكون ذلك عاصما من أن يدخل في العدول من ليس منهم المنافقين ونحوهم

وأما من روى حديثا يعلم انه كذب فهذا حرام كما صح عنه انه قال من روى عني حديثا يعلم انه كذب فهو أحد الكاذبين لكن لا يكفر الا ان ينضم إلى روايته ما يوجب الكفر لأنه صادق في ان شيخه حدثه به لكن لعلمه بان شيخه كذب فيه لم تكن تحل له الرواية فصار بمنزلة ان يشهد على إقرار أو شهادة أو عقد وهو يعلم ان ذلك باطل فهذه الشهادة حرام لكنه ليس بشاهد زور

وعلى هذا القول فمن سبه فهو أولى بالقتل ممن كذب عليه فان الكاذب عليه قد زاد في الدين ما ليس منه وهذا قد طعن في الدين بالكلية وحينئذ فالنبي قد أمر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابه فكذلك الساب له أولى

فإن قيل الكذب عليه فيه مفسدة وهو ان يصدق في خبره فيزاد في الدين ما ليس منه أو ينتقص منه ما هو منه والطاعن عليه قد علم بطلان كلامه بما أظهر الله من ايات النبوة

قيل والمحدث عنه لا يقبل خبره ان لم يكن عدلا ضابطا فليس كل من حدث عنه قبل خبره لكن قد يظن عدلا وليس كذلك والطاعن عليه قد يؤثر طعنه في نفوس كثير من الناس ويسقط حرمته من كثير من القلوب فهو اوكد على أن الحديث عنه له دلائل يميز بها بين الكذب والصدق

القول الثاني ان الكاذب عليه تغلظ عقوبته لكن لا يكفر ولا يجوز قتله لأن موجبات الكفر والقتل معلومة وليس هذا منها فلا يجوز ان يثبت مالا أصل له ومن قال هذا فلابد ان يقيد قوله بان لم يكن الكذب عليه متضمنا لعيب ظاهر فاما ان أخبر انه سمعه يقول كلاما يدل على نقصه وعيبه دلالة ظاهرا مثل حديث عرق الخيل ونحوه من الترهات فهذا مستهزئ به استهزاء ظاهر ولا ريب انه كافر حلال الدم

وقد أجاب من ذهب إلى هذا القول عن الحديث بان النبي علم انه كان منافقا فقتله لذلك لا للكذب

وهذا الجواب ليس بشئ لأن النبي لم يكن من سننه انه يقتل أحد من المنافقين الذين اخببر الثقة عنهم بالنفاق اوالذين نزل القران بنفاقهم فكيف يقتل رجلا بمجرد علمه بنفاقه ثم انه سمى خلقا من المنافقين لحذيفة وغيره ولم يقتل منهم أحدا

وأيضا فالسبب المذكور في الحديث إنما هو كذبة على النبي كذبا له فيه غرض وعليه رتب القتل فلا يجوز إضافة القتل إلى سبب آخر وأيضا فان الرجل إنما قصد بالكذب نيل شهوته ومثل هذا قد يصدر من الفساق كما يصدر من الكفار

وأيضا فاما أن يكون نفاقه لهذه االكذبة أو لسبب ماض فان كان لهذه فقد ثبت ان الكذب عليه نفاق والمنافق كافر وان كان النفاق متقدما وهو المقتضي للقتل لا غيره فعلام تاخير الأمر بقتله إلى هذا الحين وعلام لم يؤاخذه الله بذلك النفاق حتى فعل ما فعل

وأيضا فان القوم أخبروا رسول الله بقوله فقال كذب عدو الله ثم أمر بقتله ان وجده حيا وقال ما اراك تجده حيا لعلمه بان ذنبه يوجب تعجيل العقوبة

والنبي إذا أمر بالقتل أو غيره من العقوبات والكفارات عقب فعل وصف له صالح لترتب ذلك الجزاء عليه كان ذلك الفعل هو المقتضي لذلك الجزاء ولا غيره كما ان الاعرابي لما وصف له الجماع في رمضان أمره بالكفارة ولما اقر عنده ماعز والغامدية وغيرهما بالزنى أمر بالرجم وهذا مما لا خلاف فيه بين الناس نعلمه نعم قد يختلفون في نفس الموجب هل هو مجموع تلك الاوصاف أو بعضها وهو نوع من تنقيح المناط فاما ان يجعل ذلك الفعل عديم التاثير والموجب لتلك العقوبة غيره الذي لم يذكر وهذا فاسد بالضرورة لكن يمكن ان يقال فيه ما هو اقرب من هذا وهو ان هذا الرجل كذب على النبي كذبا يتضمن انتقاصه وعيبه لأنه زعم ان النبي حكمه في دمائهم وأموالهم واذن له ان يبيت حيث شاء من بيوتهم ومقصوده بذلك ان يبيت عند تلك المراة ليفجر بها ولا يمكنهم الإنكار عليه إذا كان محكما في الدماء والأموال

ومعلوم ان النبي لا يحلل الحرام ومن زعم انه أحل المحرمات من الدماء والأموال والفواحش فقد انتقصه وعابه ونسبه النبي إلى أنه يأذن له ان يبيت عند أمرأة اجنبية خاليا بها أو أنه يحكم بما شاء في قوم مسلمين طعن على النبي وعيب له وعلى هذا التقدير فقد أمر بقتل من عابه وطعن عليه من غير استتابه وهو المقصود في هذا المكان فثبت ان الحديث نص في قتل الطاعن عليه من غير استتابه على كلا القولين

ومما يؤيد القول الأول ان القوم لو ظهر لهم ان هذا الكلام سب وطعن لبادروا إلى الإنكار عليه ويمكن ان يقال رابهم أمره فتوقفوا حتى استثبتوا ذلك من النبي لما تعارض وجوب طاعة الرسول وعظم ما اتاهم به هذا اللعين ومن نصر القول الأول قال كل كذب عليه فانه متضمن للطعن عليه كما تقدم ثم ان هذا الرجل لم يذكر في الحديث انه قصد الطعن والازراء وانما قصد تحصيل شهوته بالكذب عليه وهذا شان كل من تعمد الكذب عليه فانه إنما يقصد تحصيل غرض له ان لم يقصد الاستهزاء به والاغراض في الغالب اما مال أو شرف كما ان المتنبي إنما يقصد إذا لم يقصد مجرد الاضلال اما الرياسة بنفاذ الأمر وحصول التعظيم أو تحصيل الشهوات الظاهرة وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفر بذلك وان لم يقصد أن يكون كافرا إذ لا يكاد يقصد الكفر أحد الا ما شاء الله

السنة الرابعة عشرة حديث الاعرابي الذي قال للنبي لما اعطاه ما أحسنت ولا اجملت فأراد المسلمون قتله ثم قال النبي لو تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار وسيأتي ذكره في ضمن الأحاديث المتضمنة لعفوه عمن اذاه فان هذا الحديث يدل على أن من اذاه إذا قتل دخل النار وذلك على كفره وجواز قتله والا كان يكون شهيدا وكان قاتله من أهل النار وانما عفا النبي عنه ثم استرضاه بعد ذلك حتى رضي لأنه كان له ان يعفو عمن اذاه كما سيأتي إن شاء الله

ومن هذا الباب ان الرجل الذي قاله له لما قسم غنائم حنين ان هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله فقال عمر دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق فقال معاذ الله ان يتحدث الناس ان محمدا يقتل أصحابه ثم أخبر انه يخرج من ضئضئة اقوام يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم وذكر حديث الخوارج رواه مسلم فأن النبي لم يمنع عمر من قتله الا لئلا يتحدث الناس ان محمدا يقتل أصحابه ولم يمنعه لكونه في نفسه معصوما كما قال في حديث حاطب بن أبي بلتعة فأنه لما قال ما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله انه قد صدقكم فقال عمر دعني اضرب عنق هذا المنافق فقال انه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فبين انه باق على ايمانه وانه صدر منه ما يغفر له به الذنوب فعلم ان دمه معصوم وهنا علل بمفسدة زالت

فعلم ان قتل مثل هذا القائل إذا امنت هذه المفسدة جائز ولذلك لما امنت هذه المفسدة النزل الله قوله " جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " بعد ان كان قد قال له " ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع اذاهم " قال زيد بن أسلم قوله " جاهد الكفار والمنافقين " نسخت ما كان قبلها

وما يشبه هذا ان عبد الله بن أبي لما قال " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وقال " لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " استأمر عمر في قتله فقال اذن ترعد له انوف كثيرة بالمدينة وقال لا يتحدث الناس ان محمدا يقتل أصحابه والقصة مشهورة وهي في الصحيحين وستاتي إن شاء الله تعالى

فعلم ان من آذى النبي بمثل هذا الكلام جاز قتله لذلك مع القدرة وانما ترك النبي قتله لما خيف في قتله من نفور الناس عن الإسلام لما كان ضعيفا

ومن هذا الباب ان النبي لما قال من يعذرني في رجل بلغني اذاه في أهلي قال له سعد بن معاذ انا اعذرك ان كان من الاوس ضربت عنقه والقصة مشهورة فلما لم ينكر عليه ذلك دل على أن من اذى النبي وتنقصه يجوز ضرب عنقه والفرق بين ابن أبي وغيره ممن تكلم في شان عائشة انه كان يقصد بالكلام فيها عيب رسول الله والطعن عليه والحاق العار به ويتكلم بكلام ينتقصه به فلذلك قالوا نقتله بخلاف حسان ومسطح وحمنة فانهم لم يقصدوا ذلك ولم يتكلموا بما يدل على ذلك ولهذا إنما استعذر النبي من ابن أبي دون غيره ولاجله خطب الناس حتى كاد الحيان يقتتلون

الحديث الخامس عشر قال سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في مغازيه حدثني أبي عن المجالد بن سعيد عن الشعبي قال لما افتتح رسول الله مكة دعا بمال العزى فنثره بين يديه ثم دعا رجلا قد سماه فأعطاه منها ثم دعا أبا سفيان بن حرب فأعطاه منها ثم دعا سعيد بن الحارث فأعطاه منها ثم دعا رهطا من قريش فأعطاهم فجعل يعطي الرجل القطعه من الذهب فيها خمسون مثقالاوسبعون مثقالا ونحو ذلك فقام رجل فقال انك لبصير حيث تضع التبر ثم قام الثانية فقال مثل ذلك فأعرض عنه النبي ثم قام الثالثة فقال انك لتحكم وما نرى عدلا قال ويحك إذا لا يعدل أحد بعدي ثم دعا نبي الله أبا بكر فقال اذهب فاقتله فذهب فلم يجده فقال لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم واخرهم

فهذا الحديث نص في قتل مثل هذا الطاعن على رسول الله من غير استتابه وليست هي قصة قصمغنائم حنين ولا قسم التبر الذي بعث به علي من اليمن بل هذه القصة قبل ذلك في قسم مال العزى وكان هدم العزى قبل الفتح في اواخر شهر رمضان سنة ثمان وغنائم حنين قسمت بعد ذلك بالجعرانة في ذي القعدة وحديث علي في سنة عشر

وهذا الحديث مرسل ومخرجه عن مجالد وفيه لين لكن له ما يؤيد معناه فانه قد تقدم ان عمر قتل الرجل الذي لم يرض بحكم النبي ونزل القرآن بإقراره على ذلك وجرعه اسهل من جرم هذا وأيضا فان في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي في حديث الذي لمزه في قسمة الذهيبة التي أرسل بها علي من اليمن وقال يا رسول الله اتق الله انه قال انه يخرج من ضئضى هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الاوثان لئن ادركتهم لاقتلنهم قتل عاد

وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الاسنان سفهاء الاحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز ايمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فاينما لقيتموهم فاقتلوهم فان في قتلهم اجرا لمن قتلهم يوم القيامة وروى النسائي عن أبي برزة قال اتي رسول الله بمال فقسمه فاعطى من عن يمينه ومن عن شماله ولم يعط من ورائه شيئا فقام رجل من وراءه فقال يا محمد ما عدلت في القسمة رجل اسود مطموم الشعر عليه ثوبان ابيضان فغضب رسول الله غضببا شديدا وقال والله لا تجدون بعدي رجلا هو اعدل مني ثم قال يخرج في آخر الزمان قوم كان هذا منهم يقرؤون القرن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق لا يزالون يخرجون حتى يخرج اخرهم مع المسيح الدجال فإذا لقيتموهم فاقتلوهم هم شر الخلق والخليقة

فهذه الأحاديث كلها دليل على أن النبي أمر بقتل طائفة هذا الرجل العائب عليه وأخبر ان في قتلهم اجرا لمن قتلهم وقال لئن ادركتم لاقتلنهم قتل عاد وذكر انهم شر الخلق والخليقة

وفيما رواه الترميذي وغيره عن أبي امامة انه قال هم شر قتلى تحت اديم السماء خير قتلى من قتلوه وذكر انه سمع النبي يقول ذلك مرات متعددة وتلا فيهم قوله تعالى " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فاما الذين اسودت وجوههم اكفرتم بعد ايمانكم " وقال هؤلاء الذين كفروا بعد ايمانهم وتلا فيهم قوله تعالى " فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه " وقال زاغوا فزيغ بهم ولا يجوز أن يكون أمر بقتلهم لمجرد قتالهم الناس كما يقاتل الصائل من قاطع الطريق ونحوه وكما يقاتل البغاة لأن أولئك إنما يشرع قتالهم حتى تنكسر شوكتهم وكفوا عن الفساد ويدخلوا في الطاعة ولا يقتلون اينما لقوا ولا يقتلون قتل عاد وليسوا شر قتلى تحت اديم السماء ولا يؤمر بقتلهم وانما يؤمر في آخر الأمر بقتالهم فعلم ان هؤلاء أوجب قتلهم مروقهم من الدين لما غلوا فيه حتى مرقوا منه كما دل عليه قوله في حديث علي يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميه فاينما لقيتموهم فاقتلوهم فرتب الأمر بالقتل على مروقهم فعلم انه الموجب له ولهذا وصف النبي الطائفه الخارجة وقال ولو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم علي لسان محمد لنكلوا عن العمل واية ذلك ان فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعيرات بيض وقال انهم يخرجون علي خير فرقة من الناس يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق وهذا كله في الصحيح فثبت ان قتلهم لخصوص صفتهم لا لعموم كونهم بغاة أو محاربين وهذا القدر موجود في الواحد منهم كوجوده في العدد منهم وانما لم يقتلهم علي رضي الله عنه أول ما ظهروا لأنه لم يتبين له انهم الطائفة المنعوته حتى سفكوا دم ابن خباب واغاروا على سرح الناس فظهر فيهم قوله " يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الاوثان فعلم انهم المارقون ولانه لو قتلهم قبل المحاربة له لربما غضبت لهم قبائلهم وتفرقوا على علي رضي الله عنه وقد كان حاله في حاجته إلى مداراة عسكره واستئلافهم كحال النبي في حاجته في أول الأمر إلى استئلاف المنافقين

وأيضا فان القوم لم يعترضوا لرسول الله بل كانوا يعظمونه ويعظمون أبا بكر وعمر ولكن غلوا في الدين غلوا جازوا به حده لنقص عقولهم وعملهم فصاروا كما تاوله علي فيهم من قوله عز وجل " قل هل ننبئكم بالاخسرين اعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا "

وأوجب ذلك لهم عقائد فاسدة ترتب عليها أفعال منكرة كفرهم بها كثير من الامة وتوقف فيها أخرون فلما رأى النبي الرجل الطاعن عليه في القسمة الناسب له عدم العدل بجهله وغلوه وظنه ان العدل هو ما يعتقده من التسوية بين جميع الناس دون النظر إلى ما في تخصيص بعض الناس وتفضيله من مصلحة التاليف وغيرها من المصالح علم ان هذا أول أولئك فانه إذا طعن عليه في وجهه فهو على سنته بعد موته وعلى خلفائه اشد طعنا

وقد حكى ارباب المقالات عن الخوارج انهم يجوزون على الأنبياء الكبائرولهذا لايلتفتون إلى السنة المخالفة في رايهم لظاهر القران وان كانت متواترة فلا يرجمون الزاني ويقطعون يد السارق فيما قل أو كثر زعما منهم على ماقيل إن لاحجة الا القران وان السنة الصادرة عن الرسول ليست حجة بناء على ذلك الاصل الفاسد

قال من حكى ذلك عنهم انهم لايطعنون في النقل لتواتر ذلك وانما يبنونه على هذا الاصل ولهذا قال النبي في صفتهم انهم يقرؤون القران لا يجاوز حناجرهم يتاولونه برايهم من غير استدلال على معانيه بالسنه وهم لا يفهمونه بقلوبهم إنما يتلونه بالسنتهم والتحقيق انهم أصناف مختلفه فهذا راي طائفة منهم وطائفة قد يكذبون النقلة وطائفة لم يسمعوا ذلك ولم يطلبوا علمه وطائفة يزعمون ان ما ليس له ذكر في القران بصريحه ليس حجة على الخلق اما لكونه منسوخا أو مخصوصا بالرسول أو غير ذلك وكذلك ما ذكر من تجويزهم الكبائر فاظنه والله أعلم قول طائفة منهم وعلى كل حال فمن كان يعتقد ان النبي جائر في قسمه يقول انه يفعلها بامر الله فهو مكذب له ومن زعم ان يجوز في حكمه أو قسمه فقد زعم انه خائن وان اتباعه لايجب وهو مناقض لما تضمنه الرسالة من أمانته ووجوب طاعته وزوال الحرج عن النفس من قضائه بقوله وفعله فانه قد بلغ عن الله انه أوجب طاعته والانقياد لحكمه ولانه لايحيف على أحد فم طعن في هذا فقدطعن في صحة تبليغه وذلك طعن في نفس الرسالة وبهذا يتبين صحة رواية من روى الحديث ومن يعدل إذا لم اعدل لقد خبت وخسرت ان لم اكن اعدل لأن هذا الطاعن يقول انه رسول الله وانه يجب عليه تصديقه وطاعته فإذا قال انه لم يعدل فقد لزم انه صدق غير عدل ولا أمين ومن اتبع مثل ذلك فهو خائب خاسر كما وصفهم الله تعالى بانهم من الاخسرين اعمالا وان حسبوا انهم يحسنون صنعا ولانه من لم يؤتمن على المال يؤتمن على ماهو أعظم منه ولهذا قال الا تامنون وانا أمين من في السماء ياتيني خبر السماء صباحا ومساء وقال لما قال له اتق الله أولست أحق أهل الأرض ان يتق الله وذلك لأن الله قال فيما بلغه إليهم الرسول " وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " بعد قوله " ما افاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول " الآية فبين سبحانه انه ما نهى عنه من مال الفيء فعلينا ان ننتهي عنه فيجب أن يكون أحق أهل الأرض ان يتق الله إذ لولا ذلك لكانت الطاعة له ولغيره ان تساويا أو لغيره دونه ان كان دونه وهذا كفر بما جاء به وهذا ظاهر

وقوله شر الخلق والخليقة وقوله شر قتلى تحت اديم السماء نص في انهم من المنافقين لأن المنافقين اسوا حالا من الكفار كما ذكر أن قوله تعالى " ومنهم من يلمزك في الصدقات " نزلت فيهم

وكذلك في حديث أبي امامة ان قوله تعالى " اكفرتم بعد ايمانكم " نزلت فيهم وهذا مما لاخلاف فيه إذا صرحوا بالطعن في الرسول والعيب عليه كفعل أولئك اللامريين له

فاذا ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة انه أمر بقتل من كان من جنس ذلك الرجل الذي لمزه اينما لقوا وأخبر انهم شر الخليقة وثبت انهم من المنافقين كان ذلك دليلا على صحة معنى حديث الشعبي في استحقاق أصلهم للقتل

يبقى ان يقال ففي الحديث الصحيح انه نهى عن قتل ذلك اللامز

فنقول حديث الشعبي هو أول ظهور هؤلاء كما تقدم فيشير والله أعلم أن يكون أمر بقتله أولا طمعا في انقطاع أمرهم وان كان قد كان يعفو عن أكثر المنافقين لأنه خاف من هذا أنتشار الفساد من بعده على الامة ولهذا قال لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم واخرهم وكان ما يحصل بقتله من المصلحة العظيمة أعظم مما يخاف من نفور بعض الناس بقتله فلما لم يوجد وتعذر قتله ومع النبي بما اوحاه الله إليه من العلم مافضله الله به فكانه علم انه لا بد من خروجهم انه لامطمع في استئصالهم كما انه لما علم ان الدجال خارج لامحالة نهى عمر عن قتل ابن صياد وقال إن يكنه فلن تسلط عليه وان لا يكنه فلا خير لك في قتله فكان هذا مما أوجب نهيه بعد ذلك عن قتل ذي الخويصرة لما لمزه في غنائم حنين وكذلك لما قال عمر ائذن لي فاضرب عنقه قال دعه فان له أصحابا يحقر احدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية إلى قوله يخرجون على حين فرقة من الناس فامر بتركه لأجل ان له أصحابا خارجين بعد ذلك فظهر ان علمه بانهم لا بد ان يخرجوا منعه من أن يقتل منهم أحدا فيتحدث الناس بان محمدا يقتل أصحابه الذين يصلون معه وتنفر بذلك عن الإسلام قلوب كثير من غير مصلحة تغمر هذه المفسدة هذا مع انه كان له أن يعفو عمن آذاه مطلقا بأبي هو وأمي

وبهذا يتبين سبب كونه في بعض الحديث يعلل بانه يصلي وفي بعضه بان لا يتحدث الناس أو محمدا يقتل أصحابه وفي بعضه بان له أصحابا سيخرجون وسيأتي إن شاء الله ذكر بعض هذه الأحاديث وان كان هذا الموضع خليقا بها أيضا

فثبت ان كل من لمز النبي في حكمه أو قسمه فانه يجب قتله كما أمر به في حياته وبعد موته وانه إنما عفا عن ذلك اللامز في حياته كما قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين لما علم انهم خارجون في الامة لا محالة وان ليس في قتل ذلك الرجل كثير فائده بل فيه من المفسدة مافي قتل سائر المنافقين واشد

ومما يشهد لمعنى هذا الحديث قول أبو بكر رضي الله عنه في الحديث المشهور لما أراد أبو برزة ان يقتل الرجل الذي اغلظ لأبي بكر وتغيظ عليه أبو بكر وقال له أبو برزة اقتله فقال أبو بكر ماكانت لاحد بعد رسول الله

فان هذا كما تقدم من دليل على أن الصديق علم ان النبي يطاع أمره في قتل من أمر بقتله ممن اغضب النبي

فلما كان في حديث الشعبي انه أمر أبا بكر بقتل ذلك الذي لمزه حتى اغضبه كانت هذه القضية بمنزلة العمدة لقول الصديق وكان قول صديق رضى الله عنه دليلا على صحة معناها

ومما يدل على انهم كانوا يرون قتل من علموا انه من أولئك الخوارج وان كان منفردا حديث صبيغ بن عسل وهو مشهور قال أبو عثمان النهدي سال رجل من بني يربوع أو من بني تميم عمر بن الخطاب رضى الله عنه عن الذاريات والمرسلات والنازعات أو عن بعضهن فقال عمر ضع عن راسك فإذا له وفرة فقال عمر اما والله لو رايتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك ثم قال ثم كتب إلى أهل البصرة أو قال الينا ان لا تجالسوه قال فلو جاء ونحن مئة تفرقنا رواه الأموي وغيره بإسناد صحيح

فهذا عمر يحالف بين المهاجرين والانصار انه لو رأى العلامة التي وصف بها النبي الخوارج لضرب عنقه مع انه هو الذي نهاه النبي عن قتل ذي الخويصرة فعلم انه فهم من قول النبي اينما لقيتموهم فاقتلوهم القتل مطلقا وان العفو عن ذلك كان في حال الضعف والاستئلاف

فإن قيل فما الفرق بين قول هؤلاء اللامزين في كونه نفاقا موجبا للكفر وحل الدم حتى صار جنس هذا القائل شر الخلق وبين ما ذكر من موجدة قريش والانصار

ففي حديث أبي سعيد الصحيح ان النبي لما قسم الذهيبة بين أربعة غضبت قريش والانصار وقالوا يعطيه صناديد أهل نجد ويدعنا فقال إنما اتالفهم فاقبل رجل غائر العينين وذكر حديث اللامز

وفي رواية لمسلم فقال رجل من أصحابه كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء قال فبلغ ذلك النبي فقال الا تامنوني وانا أمين من في السماء ياتيني خبر السماء صباحا ومساء فقام رجل غائر العينين الحديث

وكذلك موجدة الانصار في غنائم حنين فعن أنس بن مالك ان ناسا من الانصار قالوا يوم حنين حين افاء الله على رسوله من أموال هوازن ما افاء فطفق رسول الله يعطي رجالا من قريش المئة من الابل فقالوا يغفر الله لرسول يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم وفي رواية لما فتحت مكة قسم الغنائم في قريش فقالت الانصار ان هذا لهو العجب ان سيوفنا تقطر من دمائهم وانا غنائمنا ترد عليهم وفي رواية فقالت الانصار إذا كانت الشدة فنحن ندعى ويعطى الغنائم غيرنا قال أنس فحدثت رسول الله ذلك من قولهم فأرسل إلى الانصار فجمعهم في قبة من ادم ولم يدع معهم غيرهم فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله فقال ما حديث بلغني عنكم فقال له فقهاء الانصاراما ذوو راينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا واما اناس منا حديثة اسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم فقال رسول الله فاني اعطي رجالا حديثي عهد بكفر اتالفهم افلا ترضون ان يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به قالوا بلى يا رسول الله قد رضينا قال فانكم ستجدون بعدي اثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض قالوا نصبر

قيل إن أحدا من المؤمنين من قريش والانصار وغيرهم لم يكن في شئ من كلامه تجوير لرسول الله ولا تجوير ذلك عليه ولا اتهام له انه حابى في القسمة لهوى النفس وطلب الملك ولا نسبة له إلى انه لم يرد بالقسمة وجه الله ونحو ذلك مما جاء مثاله في كلام المنافقين

ثم ذوو الراي من القبيلتين وهم الجمهور لم يتكلموا بشئ أصلا بل قد رضوا ما اتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيوتينا الله من فضله ورسوله كما قالت فقهاء الانصار اما ذوو راينا فلم يقولوا شيئا وانما الذين تكلموا من إحداث الاسنان ونحوهم فراوا ان النبي إنما يقسم المال لمصالح الإسلام ولا يضعه في محل الا لأن وضعه فيه أولى من وضعه في غيره هذا مما لا يشكون فيه

وكان العلم بجهة المصلحة قد ينال بالوحي وقد ينال بالاجتهاد ولم يكونوا علموا ان ذلك مما فعله النبي وقال انه بوحي من الله فان من كره ذلك أو اعترض عليه بعد ان يقول ذلك فهو كافر مكذب

وجوزوا أن يكون قسمة اجتهادا وكانوا يراجعونه بالاجتهاد في الأمور الدنيوية المتعلقة بمصالح الدين وهو باب يجوز له العمل فيه باجتهاده باتفاق الامة وربما سالوه عن الأمر لا لمراجعته فيه لكن ليتبينوا وجهه ويتفقهوا في سببه ويعلموا علته

فكانت المراجعة المشهورة منهم لا تعدو هذين الوجهيين

أما لتكميل نظرة في ذلك ان كان من الأمور السياسة التي للاجتهاد فيها مساغ

أو ليتبين لهم وجه ذلك إذا ذكر ويزدادوا علما وايمانا وينفتح لهم طريق التفقه فيه

فالأول كمراجعة الحباب بن المنذر له لما نزل ببدر منزلا فقال يا رسول الله ارايت هذا المنزل الذي نزلته اهو منزل انزلكه الله فليس لنا ان نتعداه أم هو الراي والحرب والمكيدة فقال بل هو الراي والحرب والمكيدة فقال إن هذا ليس بمنزل قتال فقبل رسول الله رايه وتحول إلى غيره

وكذلك أيضا لما عزم ان يصالح غطفان عام الخندق على نصف تمر المدينة ثم جاء سعد بن معاذ في طائفة من الانصار فقال يانبي الله بابي أنت وامي هذا الذي تعطيهم اشئ من الله أمرك فسمع وطاعة لله ولرسوله أم شئ من قبل رايك قال لا بل من قبل رايي اني رايت القوم اعطوا الأموال فجمعوا لكم ما رايتم من القبائل وانما أنتم قبيل واحد فاردت ان ادفع بعضهم ونعطيهم شيئا وننصب لبعض اشتري بذلك ما قد نزل بكم معشر الانصار فقال سعد والله يا رسول الله لقد كنا في الشرك وما يطمعون منا في أخذ النصف أو كما قال وفي رواية ما ياكلون منها تمرة الا بشرى أو قرى فكيف اليوم والله معنا وأنت بين أظهرنا لا نعطيهم ولا كرامة لهم ثم تناول الصحيفة فتفل فيها ثم رمى بها

وما كان من قبل الراي والظن في الدنيا فقد قال لما قال عن التلقيح ما اظن يغني ذلك شيئا إنما ظننت فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله بشئ فخذوا به فاني لن اكذب على الله رواه مسلم

وفي حديث آخر أنتم اعلم بامر دنياكم فما كان من أمر دينكم فالي

ومن هذا الباب حديث سعد بن أبي وقاص قال اعطي رسول الله رهطا وانا جالس فترك رجلا منهم هو اعجبهم الي فقمت فقلت له يا رسول الله اعطيت فلانا وفلانا وتركت فلانا وهو مؤمن فقال أو مسلم ذكر ذلك سعد له ثلاثا واجابه بمثل ذلك ثم قال اني لاعطي الرجل وغيره أحب الي منه خشية ان يكب في النار على وجهه متفق عليه

فانما ساله سعد رضى الله عنه ليذكر النبي بذلك الرجل لعله يرى انه ممن ينبغي اعطاؤه أو ليتبين لسعد وجه تركه مع اعطاء من هو دونه فاجابه النبي عن المقدمتين فقال إن العطاء ليس لمجرد الايمان بل اعطي وامنع والذي اتركه أحب الي من الذي اعطيه لأن الذي اعطيه لو لم اعطه لكفر فاعطيه لاحفظ عليه ايمانه ولا ادخله في زمرة من يعبد الله على حرف والذي امنعه معه من اليقين والايمان ما يغنيه عن الدنيا وهو أحب الي وعندي أفضل وهو يعتصم بحبل الله ورسوله ويعتاض بنصيبه من الدين عن نصيبه من الدنيا كما اعتاض به أبو بكر وغيره وكما اعتاضت الانصار حين ذهب الطلقاءواهل نجد بالشاة والبعير وانطلقوا هم برسول الله ثم لو كان العطاء لمجرد الايمان فمن أين لك ان هذا مؤمن بل يجوز أن يكون مسلما وان لم يدخل الايمان في قلبه فان النبي اعلم من سعد بتمييز المؤمن عن غيره حيث أمكن التمييز

ومن ذلك أيضا ما ذكره ابن إسحاق عن محمد بن ابراهيم بن الحارث ان قائلا قال يا رسول الله اعطيت عيينه بن حصن والاقرع ابن حابس مئة من الابل مئة من الابل وتركت جعيل بن سراقة الضمري فقال رسول الله اما والذي نفسي بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينه والاقرع ولكني تالفتهما على إسلامهما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه

وقد ذكر بعض أهل المغازي في حديث الانصار وددنا ان نعلم من أين هذا ان كان من قبل الله صبرنا وان كان من راي رسول الله استعتبناه

فهذا يبين ان من وجد منهم جوز أن يكون القسم وقع باجتهاد في المصلحة فاحب ان يعلم الوجه الذي اعطي به غيره ومنع هو مع فضله على غيره في الايمان والجهاد وغير ذلك

وهذا في بادي الراي هو الموجب للعطاء وان النبي لم يعطه كما اعطى غيره وهذا معنى قولهم استعتبناه أي طلبنا منه ان يعتبنا أي يزيل عتبنا اما ببيان الوجه الذي به اعطي غيرنا أو باعطائنا وقد قال ما أحد أحب إليه العذر من الله من اجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين فاحب النبي ان يعذروه فيما فعل فبين لهم ذلك فلما بين لهم الأمر بكوا حتى اخضلوا لحاهم ورضوا حق الرضاء والكلام المحكي عنهم يدل على انهم راوا القسمة وقعت اجتهادا وانهم أحق بالمال من غيرهم فتعجبوا من اعطاء غيرهم وأرادوا ان يعلموا هل هو وحي أو اجتهاد يتعين اتباعه لأنه المصلحة أو اجتهاد يمكن النبي ان ياخذ بغيره إلى راي انه أصلح وان كان هذا القسم إنما يمكن فيما لم يستقر أمره ويقره عليه ربه ولهذا قالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم وقالوا ان هذا لهو العجب ان سيوفنا لتقطر من دمائهم وان غنائمنا لترد عليهم وفي رواية إذا كانت الشدة فنحنبه ندعى ويعطي الغنائم غيرنا

واختلف الناس في العطايا هل كانت من أصل الغنيمة أو من الخمس فروي عن سعد بن ابراهيم ويعقوب بن عتبه قالا كانت العطايا فارغة من الغنائم وعلىهذا فالنبي إنما أخذ نصيبهم من المغنم بطيب أنفسهم

وقد قيل انه أراد ان يقطعهم بدل ذلك قطائع من البحرين فقالوا لا حتى يقطع اخواننا من المهاجرين مثله ولهذا لما جاء مال البحرين وافوه صلاة الفجر وقال لجابر لو قد جاء مال البحرين اعطيتك كذا وكذا لكن لم يستاذنهم النبي قبل القسم لعلمه بانهم يرضون بما يفعل وإذا علم الرجل من حال صديقه انه تطيب نفسه بما ياخذ من ماله فله ان ياخذ وان لم يستاذنه نطقا وكان هذا معروفا بين كثير من الصحابة والتابعين كالرجل الذي سال النبي كبة من شعر فقال اما ما كان لي ولبني هاشم فهو لك وعلى هذا فلا حرج عليهم إذا سالوا نصيبهم

وقال موسى بن ابراهيم بن عقبة عن ابيه كانت من الخمس

قال الواقدي وهو اثبت القولين وعلى هذا فالخمس اما ان يقسمه الإمام باجتهاده كما يقوله مالك أو يقسمه خمسة اقسام كما يقوله الشافعي وأحمد وإذا قسمة خمسة اقسام فإذا لم يوجد يتامى أو مساكين أو ابن سبيل أو استغنى ردت انصباؤهم في مصارف سهم الرسول

وقد كان اليتامى والمساكين وابناء السبيل إذ ذاك مع قلتهم مستغنين بنصيبهم من الزكاة لأنه لما فتحت خيبر استغنى أكثر المسلمين رد رسول الله على الانصار منائح النخل التي كانوا قد منحوها للمهاجرين فاجتمع للانصار أموالهم التي كانت والأموال التي غنموها بخيبر وغيرها فصاروا ميأسير ولهذا قال النبي في خطبته ألم اجدكم عالة فاغناكم الله بي فصرف رسول الله عامة الخمس في مصارف سهم الرسول فان أولى المصالح واهم المصالح تاليف أولئك القوم ومن زعم مجرد خمس الخمس قام بجميع ما اعطي المؤلفة فانه لم يدر كيف القصة ومن له خبرة بالقصة يعلم ان المال لم يكن يحتمل هذا

وقد قيل إن الابل كانت أربعة وعشرين الف بعير والغنم أربعين الفا أو أقل أو أكثر والورق أربعة الاف اوقية والغنم كانت تعدل عشرة منها ببعير فهذا يكون قريبا من ثلاثين الف بعير فخمس الخمس منه الف ومئتا بعير وقد قسم في المؤلفة اضعاف ذلك على ما لاخلاف فيه بين أهل العلم

وأما قول بعض قريش والانصار في الذهيبة التي بعث بها علي من اليمن ايعطي صناديد أهل نجد ويدعنا فمن هذا الباب أيضا إنما سالوا على هذا الوجه

وهنا جوابان اخران

أحدهما ان بعض أولئك القائلين قد كان منافقا يجوز قتله مثل الذي سمعه ابن مسعود يقول في غنائم حنين ان هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله وكان في ضمن قريش والانصار منافقون كثيرون فما ذكر من كلمة لا مخرج لها فانما خرجت من منافق والرجل الذي ذكر عنه أبو سعيد انه قال كنا أحق بهذا من هؤلاء ولم يسمه منافقا والله أعلم

الجواب الثاني ان الاعتراض قد يكون ذنبا ومعصية يخاف على صاحبه النفاق وان لم يكن نفاقا مثل قوله تعالى " يجادلونك في الحق بعد ما تبين " ومثل مراجعتهم له في فسخ الحج إلى العمرة وابطائهم عن الحل وكذلك كراهتهم للحل عام الحديبية وكراهتهم للصلح ومراجعة من راجع منهم فان من فعل ذلك فقد اذنب ذنبا كان عليه ان يسغفر الله منه كما ان الذين رفعوا اصواتهم فوق صوته اذنبوا ذنبا تابوا منه وقد قال تعالى " واعلموا ان فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثيرمن الأمر لعنتم " وقال سهل بن حنيف اتهموا الراي على الدين فلقد رايتني يوم أبي جندل ولو استطيع ان ارد أمر رسول الله لفعلت

فهذه أمور صدرت عن شهوة وعجلة لا عن شك في الدين كما صدر عن حاطب التجسس لقريش مع انها ذنوب ومعاصي يجب على صاحبها ان يتوب وهي بمنزلة عصيان أمر النبي

ومما يدخل في هذا حديث أبي هريرة في فتح مكة قال فقال رسول الله من دخل دار أبي سفيان فهو امن ومن القى السلاح فهو امن ومن اغلق بابه فهو امن فقالت الانصار اما الرجل فقد ادركته رغبة في قرابته ورافة في بعشيرته قال أبو هريرة وجاء الوحي وكان إذا جاء لا يخفى علينا فإذا جاء فليس أحدا منا يرفع طرفه إلى رسول الله حتى ينقضي الوحي فلما قضي الوحي قال رسول الله يا معشر الانصار قالوا لبيك يا رسول الله قال قلتم أم الرجل فادركته رغبة في قرابته ورافة بعشيرته قالوا قد كان ذلك قال كلا اني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله واليكم المحيا محياكم والممات مماتكم فاقبلوا إليه يبكون ويقولون والله ما قلنا الذي قلنا الا الظن بالله وبرسوله فقال رسول الله ان الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم رواه مسلم

وذلك ان الانصار لما راوا النبي قد امن أهل مكة واقرهم على أموالهم وديارهم مع دخوله عليهم عنوة وقهرا وتمكنه من قتلهم واخذ أموالهم لو شاء خافوا أن يكون النبي يريد ان يستوطن مكة ويستبطن قريشا لأن البلد بلده والعشيرة عشيرته وان يكون نزاع النفس إلى الوطن والاهل يوجب انصرافه عنهم فقال من قال منهم ذلك ولم يقله الفقهاء وأولو الالباب الذين يعلمون انه لم يكن له سبيل إلى استيطان مكة فقالوا ذلك لا طعنا ولا عيبا ولكن ضنا بالله وبرسوله والله ورسوله قد صدقاهم إنما حملهم على ذلك الضن بالله ورسوله وعذراهم فيما قالول لما رأوا وسمعوا ولان مفارقة الرسول شديد على مثل أولئك المؤمنين الذين هم شعار وغيرهم دثار والكلمة التي تخرج عن محبة وتعظيم وتشريف وتكريم يغتفر لصاحبها بل يحمد عليها وان كان مثلها لو صدر بدون ذلك استحق صاحبها النكال

وكذلك الفعل الا ترى ان النبي لما قال لأبي بكر حين أراد ان يتاخر عن موقعه في الصلاة لما احس بالنبي مكانك فتاخر أبو بكر فقال له النبي ما منعك ان تثبت مكانك وقد أمرتك فقال ما كان لابن أبي قحافة ان يتقدم بين يدي النبي

وكذلك أبو أيوب الانصاري لما استأذن النبي في ان ينتقل إلى السفل وان يصعد رسول الله إلى العلو وشق عليه ان يسكن فوق النبي فامره النبي بالمكث في مكانه وذكر له ان سكناه اسفل ارفق به من اجل دخول الناس عليه فامتنع أبو أيوب من ذلك ادبا مع النبي وتوقيرا له فكلمة الانصار رضى الله عنهم من هذا الباب

وبالجملة فالكلمات في هذا الباب ثلاثة اقسام

إحداهن ما هو كفر مثل قوله ان هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله

الثاني ما هو ذنب ومعصية يخاف على صاحبه ان يحبط عمله مثل رفع الصوت فوق صوته ومثل مراجعة من راجعه عام الحديبية بعد ثباته على الصلح ومجأدلة من جادله يوم بدر بعد ما تبين له الحق وهذا كله يدخل في المخالفه عن أمره

الثالث ما ليس من ذلك بل يحمد عليه صاحبه أو لايحمد كقول عمر ما بالنا نقصر الصلاة وقد امنا وكقول عائشة ألم يقل الله " فاما من اوتي كتابه بيمينه " وكقول حفصة ألم يقل الله " وان منكم الا واردها " وكمراجعة الحباب في منزل بدر ومراجعة سعد في صلح غطفان على نصف تمر المدينة ومثل مراجعتهم له لما أمرهم بكسر الانية التي فيها لحوم الحمر فقالوا أو لا نغسلها فقال اغسلوها وكذلك رد عمر لأبي هريرة لما خرج مبشرا ومراجعته للنبي في ذلك وكذلك مراجعته له لما اذن له في نحر الظهر في بعض المغازي وطلبه منه ان يجمع الازواد ويدعو الله ففعل ما اشر به عمر ونحو ذلك مما فيه سؤال عن اشكال ليتبين لهم أو عرض لمصلحة قد يفعلها الرسول

فهذا ما اتفق ذكره من السنن الماثورة عن النبي في قتل من سبه من معاهد وغير معاهد وبعضها نص في المسالة وبعضها ظاهر وبعضها مستنبط مستخرج استنباطا قد يقوى في راي من فهمه وقد يتوقف عنه من لم يفهمه أو لم يتوجه عنده أو رأى ان الدلالة منه ضعيفة ولن يخفى الحق على من توخاه وقصده ورزقه الله بصيرة وعلما والله سبحانه أعلم

فصل[عدل]

وأما إجماع الصحابة رضي الله عنهم فلان ذلك نقل عنهم في قضايا متعددة ينتشر مثلها ويستفيض ولم ينكرها أحد منهم فصارت إجماعا واعلم انه لا يمكن ادعاء إجماع الصحابة على مسالة فرعية بابلغ من هذا الطريق

فمن ذلك ما ذكره سيف بن عمر التميمي في كتاب الردة والفتوح عن شيوخه قال ورفع إلى المهاجر يعني المهاجر بن أبي امية وكان أميرا على اليمامة ونواحيها أمراتان مغنيتان غنت إحداهما بشتم النبي فقطع يدها ونزع ثنيتها وغنت الأخرى بهجاء المسلمين فقطع يدها ونزع ثنيتها فكتب أبو بكر بلغني الذي سرت به في المراة التي تغنت وزمرت بشتم النبي فلولا ما قد سبقتني فيها لامرتك بقتلها لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر

وكتب إليه أبو بكر في التي تغنت في بهجاء المسلمين اما بعد فانه بلغني انك قطعت يد امرأة في ان تغنت بهجاء المسلمين ونزعت ثنيتها فان كانت ممن تدعي الإسلام فادب وتقدمة دون المثلة وان كانت ذمية فالمري لما صفحت عنه من الشرك أعظم ولو كنت تقدمت اليك في مثل هذا لبلغت مكروهك فاقبل الدعة واياك والمثله فالناس فانها ماثم ومنفرة الا في قصاص

وقد ذكر هذه القصة غير سيف وهذا يوافق ماتقدم عنه ان من شتم االنبي كان له ان يقتله وليس ذلك لاحد بعده وهو صريح في وجوب قتل من سب النبي من مسلم ومعاهد وان كان امرأة وانه يقتل بدون استتابه بخلاف من سب الناس وان قتله حد للأنبياء كما جلد من سب غيرهم حد له وانما لم يأمر أبو بكر بقتل تلك المراة لأن المهاجر سبق منه فيها حد باجتهاده فكره أبو بكر ان يجمع عليها حدين مع انه لعلها أسلمت أو تابت قبل المهاجر توبتها قبل كتاب أبي بكر وهو محل اجتهاد سبق منه فيه حكم فلم يغيره أبو بكر لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد وكلامه يدل على انه إنما منعه من قتلها ما سبق من المهاجر

وروى حرب في مسائله عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال اتي عمر برجل سب النبي فقتله ثم قال عمر من سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فاقتلوه قال ليث وحدثني مجاهد عن ابن عباس قال أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله وهي ردة يستتاب فان رجع والا قتل وايما معاهد عاند فسب الله أو سب أحدا من الأنبياء أو جهر به فقد نقض العهد فاقتلوه

وعن أبي مشجعة بن ربعي قال لما قدم عمر بن الخطاب الشام قام قسطنطين بطريق الشام وذكر معاهدة عمر له وشروطه عليهم قال اكتب بذلك كتابا قال عمر نعم فبينما هو يكتب الكتاب إذ ذكر عمر فقال اني استثني عليك معرة الجيش مرتين ثانية قال لك ثنياك وقبح الله من أقالك فلما فرغ عمر من الكتاب قال له يا أمير المؤمنين قم في الناس فأخبرهم الذي جعلت لي وفرضت علي ليتناهوا عن ظلمي قال عمر نعم فقام في الناس فحمد الله واثنى عليه فقال الحمد لله أحمده وأستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له فقال النبطي إن الله لا يضل أحدا فقال عمر ما يقول قالوا لا شيء واعاد النبطي لمقالته فقال أخبرني ما يقول قال تزعم ان الله لايضل أحدا قال عمر إنا لم نعطك الذي اعطيناك لتدخل علينا في ديننا والذي نفسي بيده لئن عدت لأضربن الذي فيه عيناك وأعاد عمر ولم يعد النبطي فلما فرغ عمر أخذ النبطي الكتاب رواه حرب

فهذا عمر رضي الله عنه بمحضر من المهاجرين والانصار يقول لمن عاهده إنا لم نعطك العهد على أن تدخل علينا في ديننا وحلف لئن عاد ليضربن عنقه فعلم بذلك إجماع الصحابة على أن أهل العهد ليس لهم أن يظهروا الاعتراض علينا في ديننا وان ذلك منهم مبيح لدمائهم

وإن من أعظم الاعتراض سب نبينا وهذا ظاهر لاخفاء به لأن إظهار التكذيب بالقدر من إظهار شتم النبي

وانما لم يقتله عمر لأنه لم يكن قد تقرر عنده ان هذا الكلام طعنا في ديننا لجواز أن يكون اعتقد أن عمر قال ذلك من عنده فلما تقدم إليه عمر وبين له أن هذا ديننا قال له لأن عدت لأقتلنك

ومن ذلك ما استدل به الإمام أحمد ورواه عنه هشيم ثنا حصين عمن حدثه عن ابن عمر قال مر به راهب فقيل له هذا يسب النبي فقال ابن عمر لو سمعته لقتلته إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا

ورواه أيضا من حديث الثوري عن حصين عن الشيخ أن ابن عمر أصلت على راهب سب النبي بالسيف وقال إنا لم نصالحهم على سب النبي

والجمع بين الروايتين أن يكون ابن عمر أصلت عليه السيف لعله يكون مقرا بذلك فلما أنكر كف عنه وقال لو سمعته لقتلته وقد ذكر حديث ابن عمر غير واحد

وهذه الآثار كلها نص في الذمي والذمية وبعضها عام في الكافر والمسلم أو نص فيهما

وقد تقدم حديث الرجل الذي قتله عمر من غير استتابة حين ابى ان يرضى بحكم النبي وحديث كشفه عن رأس صبيغ بن عسل وقوله لو رايتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك من غير استتابه وانما ذنب طائفته الاعتراض على سنة الرسول

وقد تقدم عن ابن عباس انه قال في قوله تعالى " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات " الآية هذه في شان عائشة وأزواج النبي خاصة ليس فيها توبة ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة وقال نزلت في عائشة خاصة واللعنة للمنافقين عامة ومعلوم أن ذاك إنما هو لأن قذفها أذى للنبي ونفاق والمنافق يجب قتله إذا لم تقبل توبته

وروى الإمام أحمد بإسناده عن سماك بن الفضل عن عروة بن محمد عن رجل من بلقين ان امرأة سبت النبي فقتلها خالد بن الوليد وهذه المرأة مبهمة

وقد تقدم حديث محمد بن مسلمة في ابن يامين الذي زعم ان قتل كعب بن الأشرف كان غدرا وحلف محمد بن مسلمة لئن وجده خاليا ليقتلنه لأنه نسب النبي إلى الغدر ولم ينكر المسلمون عليه ذلك

ولا يرد على ذلك إمساك الأمير اما معاوية أو مروان عن قتل هذا الرجل لأن سكوته لا يدل على مذهب وهو لم يخالف محمد ابن مسلمة ولعل سكوته لأنه لم ينظر في حكم هذا الرجل أو نظر فلم يتبين له حكمه أو لم تنبعث داعيته لإقامة الحد عليه أو ظن أن الرجل قال ذلك معتقدا أنه قتل بدون أمر النبي أو لأسباب أخر

وبالجملة فمجرد كفه لايدل على انه مخالف لمحمد بن مسلمة فيما قاله وظاهر القصة ان محمد بن مسلمة رآه مخطئا بترك إقامة الحد على ذلك الرجل ولذلك هجره لكن هذا الرجل إنما كان مسلما فان المدينة لم يكن بها يومئذ أحد من غير المسلمين

وذكر ابن المبارك أخبرني حرملة بن عمران حدثني كعب ابن علقمة ان غرفة بن الحارث الكندي وكانت له صحبة من النبي سمع نصرانيا شتم النبي فضربه فدق انفه فرفع ذلك إلى عمرو بن العاص فقال له انا قد اعطيناهم العهد فقال له غرفة معاذ الله ان نعطيهم العهد على أن يظهروا شتم النبي وانما اعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنا ئسهم يعملون فيها ما بدا لهم وان لا نحملهم على ما يطيقون وان أرادهم عدو قاتلنا دونهم وعلى ان

نخلي بينهم وبين أحكامهم الا ان يأتونا راضين بأحكامنا فنحكم فيهم بحكم الله وحكم رسوله وان غيبوا عنا لم نعرض لهم فقال عمرو صدقت

فقد اتفق عمرو وغرفة بن الحارث على أن العهد الذي بيننا وبينهم لا يقتضي إقرارهم على إظهار شتم الرسول كما اقتضى إقرارهم على ما هم عليه من الكفر والتكذيب فمتى أظهروا شتمه فقد فعلوا ما يبيح الدم من غير عهد عليه فيجوز قتلهم وهذا كقول ابن عمر في الراهب الذي شتم النبي لو سمعته لقتلتة فانا لم نعطهم العهد على أن يسبوا نبينا

وانما لم يقتل هذا الرجل والله أعلم لأن البينة لم تقم عليه بذلك وانما سمعه غرفة ولعل غرفة قصد قتله بتلك الضربة ولم يمكن من اتمام قتله لعدم البينة بذلك ولان فيه افتئاتا على الإمام والإمام لم يثبت عنده ذلك

وعن خليد ان رجلا سب عمر بن عبد العزيز فكتب عمر انه لا يقتل الامن سب رسول الله ولكن اجلده على راسه اسواطا ولولا اني اعلم ان ذلك خير له لم افعل رواه حرب وذكره الإمام أحمد وهذا مشهور عن عمر بن عبد العزيز وهو خليفة راشد عالم بالسنة متبع لها

فهذا قول أصحاب رسول الله والتابعين لهم باحسان لا يعرف عن صاحب ولا تابع خلاف لذلك بل إقرار عليه واستحسان له

واسنحسان له وأما الاعتبار فمن وجوه أحدها ان عيب ديننا وشتم نبينا مجاهدة لنا ومحاربة فكان نقضا للعهد كالمجاهدة والمحاربة باليد وأولى

يبين ذلك ان الله سبحانه قال في كتابه " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله " الآية والجهاد بالنفس يكون كما يكون باليد بل قد يكون أقوى منه قال النبي جاهدوا المشركين بأيديكم والسنتكم وأموالكم رواه النسائي وغيرة

وكان يقول لحسان بن ثابت اغزهم وغازهم وكان ينصب له منبرا في المسجد ينافح عن رسول الله بشعره وهجائه للمشركين وقال النبي اللهم أيده بروح

القدس وقال إن جبريل معك ما دمت تنافح عن رسوله وقال هي انكى فيهم من النبل

وكان عدد من المشركين يكفون عن أشياء مما يؤذي المسلمين خشية هجاء حسان حتى ان كعب بن الأشرف لما ذهب إلى مكة كان كلما نزل عند أهل بيت هجاهم حسان بقصيدة فيخرجونه من عندهم حتى لم يبقى له بمكة من يؤويه

وفي الحديث أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وافضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل تكلم بحق عند سلطان جائر فأمر به فقتل

وإذا كان شان الجهاد باللسان هذا الشان في شتم المشركين وهجائهم وإظهار دين الله والدعاء إليه علم ان من شتم دين الله ورسوله وأظهر ذلك وذكر كتاب الله بالسوء علانية فقد جاهد المسلمين وحاربهم وذلك نقض للعهد

الوجه الثاني انا وان اقررناهم على ما يعتقدونه من الكفر والشرك فهو كإقرارنا لهم على ما يضمرونه لنا من العداوة وإرادة السوء بنا وتمني الغوائل لنا فانا نحن نعلم انهم يعتقدون خلاف ديننا ويريدون سفك دمائنا وعلو دينهم ويسعون في ذلك لو قدروا عليه فهذا القدر اقررناهم عليه فإذا عملوا بموجب هذه الإرادة بان حاربونا وقاتلونا نقضوا العهد كذلك إذا عملوا بموجب تلك العقيدة

من إظهار السب لله ولكتابه ولدينه ولرسوله نقضوا العهد إذ لا فرق بين العمل بموجب الإرادة وموجب الاعتقاد

الوجه الثالث ان مطلق العهد الذي بيننا وبينهم يقتضي ان يكفوا ويمسكوا عن إظهار الطعن في ديننا وشتم رسولنا كما يقتضي الإمساك عن سفك دمائنا ومحاربتنا لأن معنى العهد ان كل واحد من المتعاهدين يؤمن الآخر مما يحذره منه قبل العهد ومن المعلوم انا نحذر من إظهار كلمة الكفر وسب الرسول أو شتمه كما نحذر إظهار المحاربة بل أولى لأنا نسفك الدماء وبمنزل الأموال في تعزيز الرسول وتوقيره ورفع ذكره وإظهار شرفه وعلو قدره وهم جميعا يعلمون هذا من ديننا فالمظهر منهم لسبه ناقض للعهد فاعل لما كنا نحذره منه ونقاتله عليه قبل العهد وهذا بين واضح

الوجه الرابع ان العهد المطلق لو لم يقتض ذلك فالعهد الذي عاهدهم عليه عمر بن الخطاب وأصحاب رسول الله معه قد بين فيه ذلك وسائر أهل الذمة إنما جروا على مثل ذلك العهد

فروى حرب بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن غنم قال كتب عمر بن الخطاب حين صالح نصارى أهل الشام هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من مدينة كذا وكذا انكم لما قدمتم علينا سالناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأحوالنا على أن لا نحدث وذكر الشروط إلى ان قال ولا نظهر شركا ولا ندعوا إليه أحدا وقال في اخره شرطنا ذلك على أنفسنا وأهلينا وقبلنا عليه الأمان فان نحن خالفنا عن شئ شرطنا لكم وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما حل من أهل المعاندة والشقاق

وقد تقدم قول عمر له في مجلس العقد ان لم نعطك الذي اعطيناك لتدخل علينا في ديننا والذي نفسي بيده لئن عدت لاضربن عنقك وعمر صاحب الشروط عليهم

فعلم بذلك ان شرط المسلمين عليهم ان لا يظهروا كلمة الكفر وانهم متى أظهروها صاروا محاربين وهذا الوجه يوجب أن يكون السب نقضا للعهد عند من يقول لاينتقض العهد به الا إذا شرط عليهم تركه كما خرجه بعض أصحابنا وبعض الشافعية في المذهبين

وكذلك يوجب أن يكون نقضا للعهد عند من يقول إذا شرط عليهم انتقاض العهد بفعله انتقض كما ذكره بعض أصحاب الشافعي فان أهل الذمة إنما هم جارون على شروط عمر لأنه لم يكن بعده امام عقد عقدا يخالف عقده بل كل الائمة جارون علي حكم عقده والذي ينبغي ان يضاف إلى من خالف في هذه السأله انه لا يخالف إذا شرط عليهم انتقاض العهد بإظهار السب فان الخلاف حينئذ لا وجه له البتة مع إجماع الصحابة على صحة هذا الشرط وجريانه على وفق الأصول فإذا كان الائمة قد شرطوا عليهم ذلك وهو شرط صحيح لزم العمل به على كل قول

الوجه الخامس ان العقد مع أهل الذمة على أن تكون الدار لنا تجري فيها أحكام الإسلام وعلى انهم أهل صغار وذلة على هذا عوهدوا وصولحوا فإضهار شتم الرسول أو الطعن في الدين ينافي كونهم أهل صغار وذلة فان من أظهر سب الدين والطعن فيه لم يكن من الصغار في شئ فلا يكون عهده باقيا

الوجه السادس ان الله فرض علينا تعزيز رسوله وتوقيره وتعزيره نصره ومنعه وتوقيره اجلاله وتعضيمه وذلك يوجب صون عرضه بكل طريق بل ذلك أولى درجات التعزير والتوقير

فلا يجوز ان نصالح أهل الذمة على أن يسمعونا شتم نبينا ويظهروا ذلك فان تمكينهم من ذلك ترك للتعزير والتوقير وهم يعلمون ان لأنصالحهم على ذلك بل الواجب علينا ان نكفهم عن ذلك ونزجرهم عنه بكل طريق وعلى ذلك عاهدنهم فإذا فعلوه فقد نقضوا الشرط الذي بيننا وبينهم

الوجه السابع ان نصر رسول الله فرض علينا لأنه من التعزير المفروض ولانه من أعظم الجهاد في سبيل الله ولذلك قال سبحانه " مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض " إلى قوله " الا تنصروه فقد نصره الله " وقال تعالى " يا ايها الذين آمنوا كنوا انصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من انصاري إلى الله " الآية بل نصر احاد المسلمين واجب بقوله انصر اخاك ظالما أو مظلوما وبقوله المسلم اخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه فكيف بنصر رسول الله ومن أعظم النصر حماية عرضه ممن يؤذيه الا ترى إلى قوله من حمى مؤمنا من منافق يؤذيه حمى الله جلده من نار جهنم يوم القيامة

ولذلك سمي من قابل الشاتم بمثل شتمه منتصرا وسب رجلا أبا بكر عند النبي وهو ساكت فلما أخذ لينتصر قام فقال يا رسول الله كان يسبني وأنت قاعد فلما اخذت لأنتصر قمت فقال كان الملك يرد عليه فلما أنتصرت ذهب الملك فلم اكن لااقعد وقد ذهب الملك أو كما قال

وهذا كثير معروف في كلامهم يقولون لمن كافى الساب والشاتم منتصرا كما يقلون لمن كافى الضارب والقاتل منتصرا

وقد تقدم انه قال للذي قتل بنت مروان لما شتمته إذا أحببتم ان نضروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى هذا وقال للرجل الذي خرق صف المشركين حين ضرب بالسيف ساب النبي فقال النبي اعجبتم من رجل نصر الله ورسوله

وحماية عرضه في كونه نصرا ابلغ من ذلك في حق غيره لأن الوقيعة في عرض غيره قد لا تضر مقصودة بل تكتب له بها حسنات

أما انتهاك عرض رسول الله فانه مناف لدين الله بالكلية فان العرض متى أنتهك سقط الاحترام والتعظيم فسقط ما جاء به من الرساله فبطل الدين فقيام المدحة والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله وسقوط ذلك سقوط الدين كله وإذا كان كذلك وجب علينا ان ننتصر له ممن أنتهك عرضه والانتصار له بالقتل لأن انتهاك عرضه انتهاك لدين الله

ومن المعلوم ان من سعى في دين الله تعالى بالفساد استحق القتل بخلاف انتهاك عرض غيره معينا فانه لايبطل الدين والمعاهد لم نعاهده على ترك الانتصار لرسول الله منه ولا من غيره كما لم نعاهده على ترك استيفاء حقوق المسلمين ولا يجوز ان نعاهده على ذلك وهو يعلم انا لم نعاهده على ذلك فإذا سبه فقد وجب علينا ان ننتصر له بالقتل ولا عهد معه على ترك ذلك فيجب قتله وهذا بين واضح لمن تامله

الوجه الثامن أن الكفار قد عوهدوا على أن لايظهروا شيئا من المنكرات التي تختص في دينهم في بلاد الإسلام فمتى أظهروها استحقوا العقوبة على إظهارها وان كان إظهارها دينا لهم فمتى أظهروا سب رسول الله استحقوا عقوبة ذلك وعقوبة ذلك القتل كما تقدم

الوجه التاسع انه لاخلاف بين المسلمين علمناه انهم ممنوعون من إظهار السب وانهم يعاقبون عليه إذا فعلوه بعد النهي فعلم انهم لم يقروا عليه كما اقروا على ماهم عليه من كفر وإذا فعلوا مالم يقروا عليه من الجنايات استحقوا العقوبة بالاتفاق وعقوبة السب اما ان تكون جلدا أو حبسا أو قطعا أو قتلا والأول باطل فان مجرد سب الواحد من المسلمين وسلطان المسلمين يوجب الجلد والحبس فلوا كان سب الرسول كذلك لسوي بين سب الرسول وسب غيره من الامة وهو باطل بالضرورة والقطع لامعنى له فتعين القتل

الوجه العاشر ان القياس الجلي يقتضي انهم متى خالفوا شيئا مما عوهدوا عليه انتقض عهدهم كما ذهب إليه طائفة من الفقهاء فان الدم مباح بدون العهد والعهد عقد من العقود وإذا لم يف أحد المتعاقدين بما عاقد عليه فاما ان ينفسخ العقد بذلك أو يتمكن العاقد الآخر من فسخه هذا أصلا مقرر في عقد البيع والنكاح والهبة وغيرها من العقود والحكمة فيه ظاهرة فانه إنما التزم مالتزمه بشرط ان يلتزم الآخر بما التزمه فإذا لم يلتزم له الآخر صار هذا غير ملتزم فان الحكم المعلق بشرط لا يثبت بعينه عند عدمه باتفاق العقلاء وانما اختلفوا في ثبوت مثله

إذا تبين هذا فان كان المعقود عليه حقا للعاقد بحيث له ان يبذله بدون الشرط لم ينفسخ العقد بفوات الشرط بل له ان يفسخه كما إذا شرط رهنا أو كفيلا أو صفة في المبيع وان كان حقا لله أو لغيره ممن يتصرف له بالولاية ونحوها لم يجز له امضاء العقد بل ينفسخ العقد بفوات الشرط أو يجب عليه فسخه كما إذا شرط ان تكون الزوجة حرة فظهرت امه وهو ممن لا يحل له نكاح الاماء أو شرط أن يكون الزوج مسلما فبان كافرا أو شرط ان تكون الزوجة مسلمة فبانت وثنية وعقد الذمة ليس حقا للامام بل هو حق لله ولعامة المسلمين فإذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم فقد قيل يجب على الإمام ان يفسخ العقد وفسخه ان يلحقه بمامنه ويخرجه من دار الإسلام ظنا ان العقد لاينفسخ بمجرد المخالفة بل يجب فسخه وهذا ضعيف لأن المشروط إذا كان حقا لله لا للعاقد أنفسخ العقد بفواته من غير فسخ

وهذه الشروط على أهل الذمة حقا لله لا يجوز للسلطان ولا لغيره ان ياخذ منهم الجزية ويعاهدهم على المقام بدار الإسلام الا إذا التزموه والا وجب عليه قتالهم بنص القران ولو فرضنا جواز إقرارهم بدون هذه الشروط فانما ذاك فيما لا ضرر على المسلمين فيه فاما ما يضر المسلمين فلا يجوز إقرارهم عليه بحال ولو فرض إقرارهم على ما يضر المسلمين في أنفسهم وأموالهم فلا يجوز إقرارهم على افساد دين الله والطعن على كتابه ورسوله

وبهذه المراتب قال كثير من الفقهاء ان عهدهم ينتقض بما يضر المسلمين من المخالفة دون ما لايضرهم وخص بعضهم ما يضرهم في دينهم دون ما يضرهم في دنياهم والطعن على الرسول أعظم المضرات في دينهم

إذا تبين هذا فنقول قد شرط عليهم ان لا يظهروا سب الرسول وهذا الشرط ثابت من وجهين

أحدهما انه موجب عقد الذمة ومقتضاه كما ان سلامة المبيع من العيوب وحلول الثمن وسلامة المراة والزوج من موانع الوطيء وإسلام الزوج وحريته إذا كانت الزوجة حرة مسلمة هو موجب العقد المطلق ومقتضاه فان موجب العقد هو ما يظهر عرفا ان العاقد شرطه وان لم يتلفظ به كسلامة المبيع

ومعلوم ان الإمساك عن الطعن في الدين وسب الرسول من ما يعلم ان المسلمين يقصدونه بعقد الذمة ويطلبونه كما يطلبون الكف عن مقاتلتهم وأولى فانه من اكبر المؤذيات والكف عن الأذى العام موجب عقد الذمة وإذا كان ظاهر حال المشتري انه دخل على أن السلعة سليمة من العيوب حتى يثبت له الفسخ بظهور العيب وان لم يشترطه فظاهر حال المسلمين الذين عاقدوا أهل الذمة انهم دخلوا على أن المشركين يكفون عن افساد دينهم والطعن فيه بيد أو لسان وانهم لو علموا انهم يظهرون الطعن في دينهم لم يعاهدوهم على ذلك وأهل الذمة يعلمون ذلك كعلم البائع ان المشتري إنما دخل معه على أن المبيع سالم بل هذا أظهر واشهر ولا خفاء به

الوجه الثاني في ثبوت هذا الشرط ان الذين عاهدوهم أولا هم أصحاب رسول الله عمر ومن كان معه وقد نقلنا العهد الذي بيننا وبينهم وذكرنا أقوال الذين عاهدوهم وهو عهد متضمن انه شرط عليهم الإمساك عن الطعن في دين المسلمين وانهم إذا فعلوا ذلك حلت دمائهم وأموالهم ولم يبق بيننا وبينهم عهد وان ثبت ان ذلك مشروط عليهم في العقد فزواله يوجب انفساخ العقد لأن الأنفساخ أيضا مشروط عليهم مع العقد ولان الشرط حق الله كاشتراط إسلام الزوج والزوجة فإذا فات هذا الشرط بطل العقد كما يبطل إذا ظهر الزوج كافرا أو المراة وثنية أو المبيع غصبا أو حرا أو تجدد بين الزوجين صهر أو ارضاع يحرم أحدهما على الآخر أو تلف المبيع بعد القبض فان هذه الأشياء لما لم يجز الاقدام على العقد مع العلم بها أبطل العقد مقارنتها له أو طروؤها عليه فكذلك وجود هذه الأقوال والأفعال من الكافر لما لم يجز للامام ان يعاهده مع إقامته عليها كان وجودها موجبا لفسخ عقده من غير انشاء فسخ على انا لو قدرنا ان العقد لاينفسخ الا بفسخ الإمام فانه يجب عليه فسخه بغير تردد لأنه عقده للمسلمين فانه لو اشترى الوالي سلعة لليتيم فبانت معيبة وجب عليه استدراك ما فات من مال اليتيم وفسخه يكون بقوله وبفعله وقتله له فسخ لعقده

نعم لا يجوز له ان يفسخه بجرد القول فان فيه ضررا على المسلمين وليس للسلطان فعل مافيه ضرر على المسلمين مع القدرة على تركه وقولنا ان الذمي انتقض عهده أي لم يبق له عهد يعصم دمه والأول هو الوجه فان بقاء العقد مع وجود ما ينافيه محال

نعم هنا اختلف الفقهاء فيما ينافي العقد فقائل يقول جميع المخالفات تنافيه بناء على انه ليس للامام ان يصالحهم بدون شيء من الشروط التي شرط عمر

وقائل يقول التي تنافيه هي المخالفات المضرة بالمسلمين بناء على جواز مصالحتهم على ماهو دون ذلك كما صالحهم النبي أولا حال ضعف الإسلام

وقائل يقول التي تنافيه هي ما توجب الضرر العام في الدين أو الدنيا كالطعن على الرسول ونحوها

وبالجملة فكل ما لا يجوز للامام ان يعاهدهم مع كونه يفعلونه فهو مناف للعقد كما ان مالا يجوز للمتبايعين والمتناكحين ان يتعاقدا مع وجوده فهو مناف للعقد

وإظهار الطعن في الدين لا يجوز للامام ان يعاهدهم مع وجوده منهم اعني مع كونهم ممكنين من فعله إذا أرادوا وهذا مما اجمع المسلمون عليه ولهذا بعضهم يعاقبون على فعله بالتعزير وأكثرهم يعاقبون عليه بالقتل

وهو مما لايشك فيه المسلم ومن شك فيه فقد خلع رقبة الإسلام من عنقه

وإذا كان العقد لا يجوز عليه كان منافيا للعقد ومن خالف شرطا مخالفة تنافي ابتداء العقد فان عقده ينفسخ بذلك بلا ريب كأحد الزوجين إذا احدث دينا يمنع ابتداء العقد مثل ارتداد المسلم أو إسلام المراة تحت الكافر فان العقد ينفسخ بذلك اما في الحال أو عقب انقضاء العدة أو بعد عرض القاضي كما هو مقرر في مواضعه

فاحداث أهل الذمة الطعن في الدين مخالفة بموجب العقد مخالفة تنافي ابتداءه فيجب أنفساخ عقدهم بها وهذا بين لما تامله وهو يوجب أنفساخ العقد بما ذكرناه عند جميع الفقهاء ويتبين ان ذلك هو مقتضى قياس الأصول

واعلم ان هذه الوجوه التي ذكرناها من جهة المعنى في الذمي فاما المسلم إذا سب فلم يحتج ان يذكر فيه شيء من جهة المعنى لظهور ذلك في حقه ولكون ان المحل محل وفاق ولكن سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الأمر فيه هل سبه ردة محضة كسائر الردد الخالية عن زيادة مغلظة أو هو نوع من الردة المتغلظ بقتله على كل حال وهل يقتل السب مع الحكم بإسلامه أم لا والله سبحانه أعلم

فإن قيل فقد قال تعالى " لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا اذى كثيرا وان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الأمور " فأخبر ان نسمع منهم الأذى الكثير ودعانا إلى الصبر على اذاهم وانما يؤذينا اذى عاما الطعن في كتاب الله ودينه ورسوله وقوله تعالى " لن يضروكم الا اذى " من هذا الباب

قلنا أولا ليس في الآية بيان أن ذلك مسموع من أهل الذمة والعهد وانما هو مسموع في الجملة من الكفار

وثانيا ان الأمر بالصبر على اذاهم وبتقوى الله لايمنع قتالهم عند المكنة وإقامة حد الله عليهم عند القدرة فانه لا خلاف بين المسلمين ان إذا سمعنا مشركا أو كتابيا يؤذي الله ورسوله ولا عهد بيننا وبينه وجب علينا ان نقاتله ونجاهده إذا أمكن ذلك

وثالثا ان هذه الآية وما شابهها منسوخ من بعض الوجوه وذلك ان رسول الله لما قدم المدينة كان بها يهود كثير ومشركون وكان أهل الأرض إذ ذاك صنفين مشركا أو صاحب كتاب فهادن رسول الله من بها من اليهود وغيرهم وامرهم الله إذ ذاك بالعفو والصفح كما في قوله تعالى " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى ياتي الله بامره " فأمره الله بالعفو والصفح عنهم إلى ان يظهر الله دينه ويعز جنده فكان أول العز وقعة بدر فانها اذلت رقاب أكثر الكفار الذين بالمدينة وارهبت سائر الكفار

وقد أخرجا في الصحيحين عن عروة عن اسامة بن زيد ان رسول الله ركب حمارا على اكاف على قطيفة فدكية واردف اسامة بن زيد يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر فسار حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل ان يسلم عبد الله بي أبي وإذا في المجلس اخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الاوثان واليهود وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر ابن أبي انفه بردائه ثم قال لا تغبروا علينا فسلم رسول الله ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرا عليهم القران فقال عبد الله بن أبي بن سلول ايها المرء انه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبد الله بن رواحة بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فانا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا ثم ركب رسول الله دابته حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له رسول الله ياسعد ألم تسمع ما قال أبو حباب يريد عبد الله بن أبي قال كذا وكذا قال سعد بن عبادة يا رسول الله اعف عنه واصفح فوالذي نزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي انزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي اعطاك شرق بذلك فذلك الذي فعل به ما رايت فعفا عنه رسول الله

وكان رسول الله وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله تعالى ويصبرون على الأذىقال الله تعالى " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا اذى كثيرا وان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الأمور " وقال الله عز وجل " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين له الحق فاعفوا واصفحوا حتى ياتي الله بامره ان الله على كل شيء قدير "

وكان رسول الله يتاول في العفو ما أمره الله عز وجل حتى اذن الله عز وجل فيهم فلما غزا رسول الله بدرا فقتل الله تعالى به من قتل من صناديد كفار قريش وقفل رسول الله وأصحابه منصورين غانمين معهم اسارى من صناديد الكفار وسادة قريش فقال ابن أبي بن سلول ومن معه من المشركين عبده الاوثان هذا أمر قد توجه فبايعوا رسول الله على الإسلام فأسلموا اللفظ للبخاري

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى " واعرض عن المشركين " " لست عليهم بمسيطر " " فاعف عنهم واصفح " " وان تعفوا وتصفحوا " " فاعفوا واصفحوا حتى ياتي الله بامره " " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون ايام الله " ونحو هذا في القران مما أمر الله به المؤمنين بالعفو والصفح عن المشركين فانه نسخ ذلك كله قوله تعالى " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " وقوله تعالى " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " إلى قوله " وهم صاغرون " فنسخ هذا عفوه عن المشركين

وكذلك روى الإمام أحمد وغيره عن قتادة قال أمر الله نبيه ان يعفوا عنهم ويصفح حتى ياتي الله بامره وقضائه ثم انزل الله عز وجل براءة فاتى الله بامره وقضائه فقال تعالى " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله " الآية قال فنسخت هذه الآية ما كان قبلها وامر الله فيها بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يقروا بالجزية صغارا ونقمة لهم

وكذلك ذكر موسى بن عقبة عن الزهري ان النبي لم يكن يقاتل من كف عن قتاله لقوله تعالى " فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم والقو اليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا " إلى ان نزلت براءة

وجملة ذلك انه لما نزلت براءة أمر ان يبتدي جميع الكفار بالقتال وثنيهم وكتابيهم سواء كفوا عنه أو لم يكفوا وان ينبذ إليهم تلك العهود المطلقة التي كانت بينه وبينهم وقيل له فيها " جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " بعد ان كان قد قيل له " ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع اذاهم "

ولهذا قال زيد بن أسلم نسخت هذه الآية ما كان قبلها فاما قبل براءة وقبل بدر فقد كان مأمورا بالصبر على اذاهم والعفو عنهم واما بعد بدر وقبل براءة فقد كان يقاتل من يؤذيه ويمسك عمن سالمه كما فعل بابن الأشرف وغيره ممن كان يؤذيه فبدر كانت اساس عز الدين وفتح مكة كانت كمال عز الدين فكانوا قبل بدر يسمعون الأذى الظاهر ويؤمرون بالصبر عليه وبعد بدر يؤذون في السر من جهة المنافقين وغيرهم فيؤمرون بالصبر عليه وفي تبوك أمروا بالاغلاظ للكفار والمنافقين فلم يتمكن بعدها كافر ولا منافق من اذاهم في مجلس خاص ولا عام بل مات بغيظه لعلمه بانه يقتل إذا تكلم وقد كان بعد بدر لليهود استطالة واذى للمسلمين إلى ان قتل كعب بن الأشرف

قال محمد بن إسحاق في حديثه عن محمد بن مسلمة قال فاصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله فليس بها يهودي الا وهو يخاف على نفسه

وروى بإسناده عن محيصة ان رسول الله قال من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه فوثب محيصة بن مسعود على ابن سليمة رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله وكان حويصة ابن مسعود إذ ذاك لم يسلم وكان اسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول أي عدو الله قتلته اما والله لرب شحم في بطنك من ماله فوالله ان كان إسلام حويصة فقال محيصة فقلت له والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك فقال لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني فقال محيصة نعم والله فقال حويصة والله ان دينا بلغ هذا منك لعجب

وذكر غير ابن إسحاق ان اليهود حذرت وذلت وخافت من يوم قتل ابن الأشرف فلما أتى الله بامره الذي وعده من ظهور الدين وعز المؤمنين أمر رسوله بالبراءة إلى المعاهدين وبقتال المشركين كافة وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

فكان ذلك عاقبة الصبر والتقوى الذين أمر الله بهما في أول الأمر وكان إذ ذاك لايؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه وصارت اية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول الله وعلى عهده خلفائه الراشدين وكذلك هو إلى قيام الساعة لاتزال طائفة من هذه الامة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام فمن كان من المؤمنين بارض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل باية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين اوتوا الكتاب والمشركين واما أهل القوة فانما يعملون باية قتال ائمة الكفر الذين يطعنون في الدين وباية قتال الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

فإن قيل قد قال الله تعالى " ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى " إلى قوله " وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير " فأخبر انهم يحيون الرسول تحية منكرة وأخبر ان العذاب في الآخرة يكفيهم عليها فعلم ان تعذيبهم في الدنيا ليس بواجب

وعن أنس بن مالك قال مر يهودي بالرسول فقال السام عليك فقال رسول الله وعليك فقال رسول الله اتدرون ما يقول قال السام عليك قالوا يا رسول الله الا نقتله قال لا إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم رواه البخاري

وعن عائشة رضي الله عنها قال دخل رهط من اليهود على رسول الله فقالوا السام عليك قالت عائشة ففهمتها فقلت عليكم السام واللعنة قالت فقال رسول الله مهلا يا عائشة ان الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا قال قد قلت وعليكم متفق عليه

وعن جابر قال سلم ناس من اليهود على رسول الله فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقال وعليكم فقالت عائشة وغضبت ألم تسمع ما قالوا قال بلى قد سمعت فرددت عليهم وانا نجاب عليهم ولا يجابون علينا رواه مسلم

ومثل هذا الدعاء اذى للنبي وسب له ولو قاله المسلم لصار به مرتدا لأنه دعاء على النبي في حياته بأن يموت وهذا فعل كافر ومع هذا فلم يقتلهم النبي بل نهى عن قتل اليهودي الذي قال ذلك لما استامره أصحابه في قتله قلنا عن هذا اجوبه

أحدها أن هذا كان في حال ضعف الإسلام ألا ترى أنه قال لعائشة مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله وهذا الجواب كما ذكرناه في الأذى الذي أمر الله بالصبر عليه إلى ان أتى الله بامره

ذكر هذا الجواب طوائف من المالكية والشافعية والحنبلية منهم القاضي أبو يعلى وأبو إسحاق الشيرازي وأبو الوفاء بن عقيل وغيرهم ومن أجاب بهذا جعل الأمان كالايمان في انتقاضه بالشتم ونحوه

وفي هذا الجواب نظر لما روي ابن عمر قال قال رسول الله ان اليهود إذا سلم أحدهم إنما يقول السام عليكم فقولوا عليك

وعن أنس قال قال رسول الله إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم متفق عليهما

فعلم ان هذا سنة قائمة في حق أهل الكتاب مع بقائهم على الذمة وانه حال عز الإسلام لم يأمر بقتلهم لأجل هذا وقد ركب إلى بني النضير فقال إذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم وكان ذلك بعد قتل ابن الأشرف فعلم انه كان بعد قوة الإسلام

نعم قد قدمنا ان النبي كان يسمع من الكفار والمنافقين في أول الإسلام إذا كثيرا وكان يصبر عليه امتثالا لقوله تعالى " ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع اذاهم " لأن إقامة الحدود عليهم كان يفضي إلى فتنة عظيمة ومفسدة أعظم من مفسدة الصبر على كلاماتهم

فلما فتح الله مكة ودخل الناس في دين الله افواجا وانزل الله براءة قال فيها " جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " وقال تعالى " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض " إلى قوله اينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا "

فلما رأى من بقي من المنافقين ما صار الأمر إليه من عز الإسلام وقيام الرسول بجهاد الكفار والمنافقين أضمروا النفاق فلم يكن يسمع من أحد من المنافقين بعد غزوة تبوك كلمة سوء وماتوا بغيظهم حتى بقي منهم اناس بعد موت النبي يعرفهم صاحب السر حذيفة فلم يكن يصلي عليهم هو ولا يصلي عليهم من عرفهم لسبب آخر مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

فهذا يفيد ان النبي كان يحتمل من الكفار والمنافقين قبل براءة ما لم يكن يحتمل فهم بعد ذلك كما قد كان يحتمل من اذى الكفار وهو بمكة ما لم يكن يحتمل بدار الهجرة والنصرة لكن هذه الكلمة ليست من هذا الباب كما قد بيناه

الجواب الثاني ان هذا ليس من السب الذي ينتقض به العهد لأنهم إنما أظهروا التحية الحسنة والسلام المعروف ولم يظهروا سبا ولا شتما وانما حرفوا السلام تحريفا خفيا لا يظهر ولايفطن له أكثر الناس ولهذا لما سلم اليهودي على النبي بلفظ السام لم يعلم به أصحابه حتى اعلمهم وقال إن اليهود إذا سلم أحدهم فانما يقول السام عليكم وعهدهم لا ينتقض بما يقولونه سرا من كفر أو تكذيب فان هذا لا بد منه وكذلك لا ينتقض العهد بما يخفونه من السب وانما ينتقض بما يظهرونه

وقد ذكر غير واحد ان اليهود كانوا يدخلون على النبي فيقولون السام عليك فيرد عليهم رسول الله وعليكم ولا يدري ما يقولون فإذا خرجوا قالوا لو كان نبيا لعذبنا واستجيب فينا وعرف قولنا فدخلوا عليه ذات يوم وقالوا السام عليك ففطنت عائشة إلى قولهم فقالت وعليكم السام والذام والداء واللعنة فقال رسول الله مه ياعائشة ان الله يحب الرفق في الأمر كله ولا يحب الفحش ولا التفحش فقالت يا رسول الله ألم تسمع إلى ما قالوا فقال رسول الله ألم تسمعي ما رددت عليهم فانزل الله تعالى " وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله " الآية فقال رسول الله إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم

فهذا دليل على أن النبي لم يكن يظهر له انه سب ولذلك نهى عائشة عن التصريح بشتمهم وامرها بالرفق بان ترد عليهم تحيتهم فان كانوا قد حيوا تحية سيئة استجيب لنا فيهم ولم يستجب لهم فينا ولو كان ذلك من باب شتم النبي والمسلمين الذي هو السب لكان فيه العقوبة ولو بالتعزير والكلام

فلما لم يشرع رسول الله في مثل هذه التحية تعزيرا ونهى من اغلظ عليهم لاجلها علم ان ذلك ليس من السب الظاهر لكونهم اخفوه كما يخفي المنافقون نفاقهم ويعرفون في لحن القول فلا يعاقبون بمثل ذلك وسيأتي إن شاء الله تمام الكلام في ذلك الجواب الثالث ان قول أصحاب النبي له الا نقتله لما أخبرهم انه قال السام عليكم دليل على انه كان مستقرا عندهم قتل الساب من اليهود لما راوه قتل ابن الأشرف والمراة وغيرهما فنهاهم النبي عن قتله وأخبرهم ان مثل هذا الكلام حقه ان يقابل بمثله لأنه ليس إظهارا للسب والشتم من جنس ما فعلت تلك اليهودية وابن الأشرف وغيرهما وانما هو أسرار به كأسرار المنافقين بالنفاق

الجواب الرابع ان النبي كان له ان يعفو عمن شتمه وسبه في حياته وليس للأمة ان تعفو عن ذلك

يوضح ذلك انه لاخلاف ان من سب النبي أو عابة بعد موته من المسلمين كان كافرا حلال الدم وكذلك من سب نبيا من الأنبياء ومع هذا فقد قال الله تعالى " يا ايها الذين آمنوا لاتكونوا كالذين اذوا موسى فبراه الله مما قالوا " وقال تعالى " واذ قال موسى لقومه ياقوم لم تؤذونني وقد تعلمون انني رسول الله اليكم " فكان بنو إسرائيل يؤذون موسى في حياته بما لو قاله اليوم أحد من المسلمين وجب قتله ولم يقتلهم موسى وكان نبينا يقتدي به في ذلك فربما سمع اذاه أو بلغه فلا يعاقب المؤذي على ذلك قال الله تعالى " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن " الآية وقال " ومنهم من يلمزك في الصدقات فان اعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها إذا هم يسخطون "

وعن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد قال بينا النبي يقسم جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال اعدل يا رسول الله قال ويلك من يعدل إذا لم اعدل قال عمر بن الخطاب دعني اضرب عنقه قال دعه فان له أصحابا يحقرا احدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وذكر الحديث إلى ان قال وفيه نزلت " ومنهم من يلمزك في الصدقات "

هكذا رواه البخاري وغيره من حديث معمر عن الزهري وأخرجاه في الصحيحين من وجوه أخرى عن الزهري عن أبي سلمة والضاحك الهمداني عن أبي سعيد قال بينا نحن جلوس عند النبي وهو يقسم قسما اتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بن تميم فقال يا رسول الله اعدل فقال رسول الله ويلك من يعدل إذا لم اعدل قد خبت وخسرت ان لم اعدل فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ائذن لي فيه اضرب عنقه فقال رسول الله دعه فان له أصحابا يحقر احدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وذكر حديث الخوارج المشهور ولم يذكر نزول الآية

وتسمينة ذو الخويصرة هو المشهور في عامة الأحاديث كما رواه عامة أصحاب الزهري عنه والاشبه ان ما انفرد به معمر وهم منه فان له مثل ذلك وقد ذكروا ان اسمه حرقوص بن زهير

وفي الصحيحين أيضا من حديث عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد قال بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن إلى النبي بذهيبة في تربتها فقسمها بين أربعة نفر وفيه فغضب قريش والانصار وقالوا يعطيه صناديد أهل نجد ويدعنا فقال إنما أتألفهم فأقبل رجل غائر العينين ناتيء الجبين كث اللحية مشرف الوجنتين محلوق الرأس فقال يا محمد اتق الله قال فمن يطع الله إذا عصيته افيامنني على أهل الأرض ولا تامنوني فسال رجل من القوم قتله اراه خالد بن الوليد فمنعه فلما ولى قال إن من ضئضى هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم وذكر الحديث في صفة الخوارج وفي آخر يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الاوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد

وفي رواية لمسلم ألا تامنوني وانا أمين من في السماء ياتيني خبر السماء صباحا ومساء وفيها فقال يا رسول الله اتق الله فقال النبي ويلك أولست أحق أهل الأرض ان يتقي الله قال ثم ولي الرجل فقال خالد بن الوليد يا رسول الله الا اضرب عنقه فقال لا لعله أن يكون يصلي قال خالد وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال رسول الله اني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا اشق بطونهم

وفي رواية في الصحيح فقام إليه عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله ألا اضرب عنقه قال لا فقام إليه خالد سيف الله فقال يا رسول الله ألا اضرب عنقه قال لا

فهذا الرجل قد نص القرآن انه من المنافقين بقوله " ومنهم من يلمزك في الصدقات " أي يعيبك ويطعن عليك وقوله للنبي اعدل واتق الله بعدما خص بالمال أولئك الأربعة نسبة للنبي إلى انه جار ولم يتق الله ولهذا قال أولست أحق أهل الأرض ان يتقي الله الاتامنوني وانا أمين من في السماء

ومثل هذا الكلام لا ريب انه يوجب القتل لو قاله اليوم أحد وانما لم يقتله النبي لأنه كان يظهر الإسلام وهو الصلاة التي يقاتل الناس حتى يفعلوها وانما كان نفاقه بما يختص النبي من الأذى وكان له ان يعفو عنه وكانوا يعفو عنهم تأليفا للقلوب لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وقد جاء ذلك مفسرا في هذه القصة أو في مثلها فروى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير عن جابر رضى الله عنه قال أتى رجل بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة ورسول الله يقبض منها يعطي منها الناس فقال يا محمد اعدل فقال ويلك ومن يعدل إذا لم اكن اعدل لقد خبت وخسرت ان لم اكن اعدل فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه دعني يا رسول فاقتل هذا المنافق فقال معاذ الله ان يتحدث الناس اني اقتل أصحابي ان هذا وأصحابه يقرؤون القران لايجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية

وروى البخاري منه عن عمرو عن جابر رضى الله عنهما قال بينا رسول الله يقسم غنيمة بالجعرانة إذ قال له رجل اعدل فقال لقد شقيت إن لم أعدل

وجاء من كلامه لرسول الله ما هو اغلظ من هذا قال ابن إسحاق في رواية ابن بكير عنه حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن مقسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث قال خرجت وانا وتيلد بن كلاب الليثي فلقينا عبد الله بن عمرو بن العاص يطوف بالكعبة معلقا نعليه في يديه فقلنا له هل حضرت رسول الله وعنده ذو الخويصرة التميمي يكلمه قال نعم ثم حدثنا فقال أتى ذو الخويصرة التميمي رسول الله وهو يقسم المقاسم بحنين فقال يا محمد قد رايت ما صنعت قال فكيف رايت قال لم ارك عدلت فغضب رسول الله إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون فقال عمر يا رسول الله الا اقوم إليه فاضرب عنقه فقال رسول الله دعه فانه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية وذكر تمام الحديث

قال ابن إسحاق حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال أتى ذو الخويصرة التميمي رسول الله وهو يقسم المقاسم بحنين وذكر مثل هذا سواء

ورواه الإمام أحمد عن يعقوب بن ابراهيم بن سعد عن ابيه عن ابن إسحاق نحو هذا

وقال الأموي عن ابن إسحاق وذكر الحديث عن أبي عبيدة وعن محمد بن علي وعن ابن أبي نجيح عن ابيه ان رجلا تكلم عند النبي قال ولم يسمه الا محمد بن علي فانه قال هو ذو الخويصرة التميمي

وكذلك ذكر غيره ان ذا الخويصرة هو الذي اعترض على النبي في قسم غنائم حنين وكذلك المنافق الذي سمعه ابن مسعود فانه في غنائم حنين أيضا

وأما الذي في حديث بن أبي نعم عن أبي سعيد فانه كان بعد هذه المرة لأن فيه ان عليا بعث إلى النبي وهو باليمن بذهيبة فقسمها بين أربعة من أهل نجد ولا خلاف بين أهل العلم ان عليا كان في غزوة حنين مع النبي ولم تكن اليمن فتحت يومئذ ثم انه استعمل عليا على اليمن سنة عشر بعد تبوك وبعد ان بعثه مع أبي بكر إلى الموسم ينبذ العهود ووافى النبي في حجة الوداع منصرفة من اليمن وكان النبي بالمدينة لما بعث علي بالصدقة ومما يبين ذلك ان غنائم حنين نفل النبي منها خلقا كثيرا من قريش وأهل نجد وهذه الذهيبة إنما قسمها بين أربعة نجديين وإذا كان كذلك فاما أن يكون المعترض في هذه المرة غير ذي الخويصرة ويكون أبو سعيد قد شهد القصتين وعلى هذا فالذي في رواية معمر ان اية الصدقات نزلت في قصة ذو الخويصة ليس بجيد بل هو مدرج في الحديث من كلام الزهري أو كلام معمر لأن ذا الخويصرة إنما انكر عليه قسم الغنائم وليست هي الصدقات التي جعلها الله لثمانية أصناف ولا الاتفات إلى ما ذكره بعض المفسرين من أن الآية نزلت في قسم غنائم حنين واما أن يكون المعترض في ذهيبة علي رضي الله عنه هو ذو الخويصرة أيضا وعلى هذا فتكون أحاديث أبي سعيد كلها في هذه القصة لا في قسم الغنائم وتكون الآية قد نزلت في ذلك أو يكون قد شهد القصتين معا والآية نزلت في إحداهما

وقد روى عن أبي برزة الإسلامي قال أتى رسول الله بمالا فقسمه فاعطى من عن يمينه ومن عن شماله ولم يعط من وراءه شيئا فقام رجلا من ورائه فقال يا محمد ما عدلت في القسمة رجل اسود مطموم الشعر عليه ثوبان ابيضان فغضب رصول الله غضبا شديدا وقال والله لا تجدون بعدي رجلا هو اعدل مني ثم قال يخرج في آخر الزمان قوم كان هذا منهم يقرؤون القران لايجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق لايزالون يخرجون حتى يخرج اخرهم مع المسيح الدجال فإذا لقيتموهم فاقتلوهم هم شر الخلق والخليقة رواه النسائي

ومن هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن أبي وائل عن عبد الله قال لما كان يوم حنين اثر رسول الله ناسا في القسمة فاعطى الاقرع بن حابس مئة من الابل واعطي عيينه بن حصن مثل ذلك واعطى ناسا من أشراف العرب واثرهم يومئذ في القسمة فقال رجل والله ان هذه لقسمة ما عدل فيها أو ما أريد بها وجه الله قال فقلت والله لأخبرن رسول الله قال فاتيته فأخبرته بما قال فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ثم قال يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر قال فقلت لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا

وفي رواية للبخاري قال رجل من الانصار ما أريد بها وجه الله

وذكر الواقدي أن المتكلم بهذا كان معتب بن قشير وهو معدود من المنافقين

فهذا الكلام مما يوجب القتل بالاتفاق لأنه جعل النبي ظالما مرائيا وقد صرح النبي بأن هذا من اذى المرسلين ثم اقتدى في العفو عن ذلك بموسى عليه السلام ولم يستتب لأن القول لم يثبت فانه لم يراجع القائل ولا تكلم في ذلك بشيء

ومن ذلك ما رواه ابن أبي عاصم وأبو الشيخ في الدلائل بإسناد صحيح عن قتادة عن عقبة بن وساج عن عمر قال اتي رسول الله بقليد من ذهب وفضة فقسمه بين أصحابه فقام رجل من أهل البادية فقال يا محمد والله لئن أمرك الله ان تعدل فما اراك تعدل فقال ويحك من يعدل عليك بعدي فلما ولى قال ردوه علي رويدا

ومن ذلك قول الانصاري الذي حاكم الزبير في شراج الحرة لما قال أسق يا زبير ثم سرح الماء إلى جارك فقال إن كان ابن عمتك

وحديث الرجل الذي قضى عليه فقال لا ارضى ثم ذهب إلى أبي بكر ثم إلى عمر فقتله

ولهذا نظائر في الحديث إذا تتبعت مثل الحديث المعروف عن بهز ابن حكيم عن ابيه عن جده ان اخاه أتى النبي فقال جيراني على ماذا أخذوا فاعرض عنه النبي فقال إن الناس يزعمون انك تنهى عن الفيء وتستخلي به فقال لئن كنت افعل ذلك انه لعلي وما هو عليهم خلوا له جيرانه رواه أبو داود بإسناد صحيح

فهذا وان كان قد حكى هذا القذف عن غيره فانما قصد به انتقاصه وايذاءه بذلك ولم يحكه على وجه الرد على من قاله وهذا من أنواع السب

ومثل حديث ابن إسحاق عن هشام عن ابيه عن عائشة قالت ابتاع رسول الله جزورا من اعرابي بوسق من تمر الذخيرة فجاء به إلى منزله فالتمس التمر فلم يجده في البيت قالت فخرج إلى الاعرابي فقال يا عبد الله انا ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر الذخيرة ونحن نرى انه عندنا فلم نجده فقال الاعرابي واغدراه واغدراه فوكزه الناس وقالوا لرسول الله تقول هذا فقال رسول الله دعوه رواه ابن أبي عاصم وابن حبان في الدلائل

فهذا الباب كله مما يوجب القتل ويكون به الرجل كافرا منافقا حلال الدم كان النبي وغيره من الأنبياء عليهم السلام يعفون ويصفحون عمن قاله امتثالا لقوله تعالى " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " ولقوله تعالى " ادفع بالتي هي أحسن السيئة " وقوله " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كانه ولي حميم وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " ولقوله تعالى " ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر " ولقوله تعالى " ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم " ذلك لأن درجة الحلم والصبر على الأذى والعفو عن الظلم أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة يبلغ الرجل بها ما لا يبلغه بالصيام والقيام قال تعالى " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " وقال تعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا واصلح فاجره على الله " وقال تعالى " إن تبدو خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا " وقال " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين "

والأحاديث في هذا الباب كثيرة مشهورة ثم الأنبياء أحق الناس بهذه الدرجة لفضلهم واحوج الناس إليها لما ابتلوا به من دعوة الناس ومعالجتهم وتغيير ما كانوا عليه من العادات هو أمر لم يات به أحد الا عودي فالكلام الذي يؤذيهم يكفر به الرجل فيصير به محاربا ان كان ذا عهد ومرتدا أو منافقا ان كان ممن يظهر الإسلام ولهم فيه أيضا حق الآدمي فجعل الله لهم ان يعفوا عن مثل هذا النوع ووسع عليهم ذلك لما فيه من حق الآدمي تغليبا لحق الآدمي على حق الله كما جعل لمستحق القود وحد القذف ان يعفو عن القاتل والقاذف وأولى لما في جواز عفو الأنبياء ونحوهم من المصالح العظيمة المتعلقة بالنبي والامة وبالدين وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها ما ضرب رسول الله بيده خادما له ولا امرأة ولا دابه ولا شيئا قط الا ان يجاهد في سبيل الله ولا انتقم لنفسه قط وفي لفظ ما نيل منه شئ فانتقم من صاحبه الا ان تنتهك محارم الله فإذا أنتهكت محارم الله لم يقم لغضبة شئ حتى ينتقم لله متفق عليه

ومعلوم ان النيل منه أعظم من انتهاك المحارم لكن لما دخل فيها حقه كان الأمر إليه في العفو أو الانتقام فكان يختار العفو وربما أمر بالقتل إذا رأى المصلحة في ذلك بخلاف ما لاحق له فيه من زنى أو سرقة أو ظلم لغيره فانه يجب عليه القيام به

وقد كان أصحابه إذا راوا من يؤذيه أرادوا قتله لعلمهم بانه يستحق القتل فيعفو هو عنه ويبين لهم ان عفوه أصلح مع إقراره لهم على جواز قتله ولو قتله قاتل قبل عفو النبي لم يعرض له النبي لعلمه بانه قد أنتصر لله ورسوله بل يحمده على ذلك ويثني عليه كما قتل عمر رضي الله عنه الرجل الذي لم يرضى بحكمه وكما قتل رجل بنت مروان وآخر اليهودية السابه فإذا تعذر عفوه بموته بقي حقا محضا لله ولرسوله وللمؤمنين لم يعف عنه مستحقه فتجب إقامته

ويبين ذلك ما روى ابراهيم بن الحكم بن ابان حدثني أبي عن عكرمه عن أبي هريرة رضي الله عنه ان اعرابيا جاء إلى النبي يستعينه في شئ فاعطاه شيئا ثم قال أحسنت اليك قال الاعرابي لا ولا أجملت قال فغضب المسلمون وقاموا إليه فأشار إليهم ان كفوا ثم قام فدخل منزله ثم أرسل إلى الاعرابي فدعاه إلى البيت يعني فأعطاه فرضي فقال انك جئتنا فسألتنا فاعطيناك فقلت ما قلت وفي أنفس المسلمين شئ من ذلك فان أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك قال نعم فلما كان الغد أو العشي جاء قال رسول الله ان صاحبكم هذا جاء فسالنا فاعطيناه فقال ما قال وانا دعوناه إلى البيت فاعطيناه فزعم انه قد رضي اكذلك قال الاعرابي نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا فقال النبي الا ان مثلي ومثل هذا الاعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها الا نفورا فناداهم صاحب الناقة خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها فاخذ لها من قمام الأرض فجاءت فاستناحت فشد عليها رحلها واستوى عليها واني لو تركتكم حين قال أرجل ما قال فقتلتموه دخل النار

ورواه أبو أحمد العسكري بهذا الإسناد قال جاء اعرابي إلى النبي فقال يا محمد اعطني فانك لا تعطي من مالك ولا من مال ابيك فاغلظ للنبي فوثب إليه أصحابه فقالوا يا عدو الله تقول هذا لرسول الله وذكره

فهذا يبين لك ان قتل ذلك الرجل لأجل قوله ما قال كان جائزا قبل الاستتابة وانه صار كافرا بتلك الكلمة ولولا ذلك لما كان يدخل النار إذا قتل على مجرد تلك الكلمة بل كان يدخل الجنة لأنه مظلوم شهيد وكان قاتله يدخل النار لأنه قتل مؤمنا متعمدا ولكان النبي يبين ان قتله لم يحل لأن سفك الدم بغير حق من اكبر الكبائروهذا الاعرابي كان مسلما ولهذا قال صاحبكم ولهذا جاءه الاعرابي يستعينه ولو كان كافرا محاربا له لما جاء يستعينه في شئ ولو كان النبي اعطاه ليسلم لذكر في الحديث انه أسلم فلما لم يجر للإسلام ذكر دل على انه كان ممن دخل الإسلام وفيه جفاء الاعراب وممن دخل في قوله تعالى " فان اعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها إذا هم يستخطون "

ومما يوضح ذلك انه كان يعفو عن المنافقين الذين لا يشك في نفاقهم حتى قال لو اعلم اني لو زدت على السبعين غفر له لزدت حتى نهاه الله عن الصلاة عليهم والاستغفار لهم وامره بالاغلاظ عليهم فكثير مما كان يحتمله من المنافقين من الكلام وما يعاملهم من الصفح والعفو والاستغفار كان قبل نزول براءة لما قيل له " ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع اذاهم " لاحتياجه إذ ذاك إلى استعطافهم وخشية نفور العرب عنه إذا قتل أحدا منهم وقد صرح لما قال ابن أبي لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل ولما قال ذو الخويصرة اعدل فانك لم تعدل وعند غير هذه القضية انه إنما لم يقتلهم لئلا يتحدث الناس ان محمدا يقتل أصحابه فان الناس ينضرون إلى ظاهر الأمر فيرون واحدا من الصحابة قد قتل فيظن الظان انه يقتل بعض أصحابه على غرض أو حقد أو نحو ذلك فينفر الناس عن الدخول في الإسلام وإذا كان من شريعته ان يتألف الناس على الإسلام بالأموال العظيمة ليقوم دين الله وتعلو كلمته فلان يتألفهم بالعفو أولى واحرى

فلما انزل الله براءة ونهاه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم وامره ان يجاهد الكفار والمنافقين ويغلظ عليهم نسخ جميع ما كان المنافقون يعاملون به من العفو كما نسخ ما كان الكفار يعاملون به من الكف عمن سالم ولم يبقى الا إقامة الحدود واعلاء كلمة الله في حق الانسان

فإن قيل فقد قال تعالى " ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الظلالة " إلى قوله " من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بالسنتهم وطعنا في الدين "

وقوله " اسمع غير مسمع " مثل قولهم اسمع لا سمعت واسمع غير مقبول منك لأن من لا يقصد اسماعه لا يقبل كلامه

وقولهم " راعنا " قال قتادة وغيره كانت اليهود تقوله استهزاء فكره الله للمؤمنين ان يقولوا مثل قولهم

وقال أيضا كانت اليهود تقول للنبي راعنا سمعك يستهزئون بذلك وكانت في اليهود قبيحة

وروى الإمام أحمد عن عطية قال كان يأتي ناس من اليهود فيقولون راعنا سمعك حتى قالها ناس من المسلمين فكره الله لهم ما قالت اليهود

وقال عطاء الخرساني كان الرجل يقول ارعني سمعك ويلوي بذلك لسانه ويطعن في الدين

وذكر بعض أهل التفسير ان هذه اللفظة كانت سبا قبيحا بلغة اليهود

فهؤلاء قد سبوه بهذا الكلام ولووا السنتهم به واستهزؤوا به وطعنوا في الدين ومع ذلك فلم يقتلهم النبي

قلنا عن ذلك اجوبة إحداها ان ذلك كان في حال ضعف الإسلام في الحال التي أخبر الله رسوله والمؤمنين انهم يسمعون من الذين اوتوا الكتاب والمشركين اذى كثيرا وامرهم بالصبر والتقوى ثم ان ذلك نسخ عند القوة بالأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون والصاغر لا يفعل شيئا من الأذى في الوجه ومن فعله فليس بصاغر

ثم ان من الناس من يسمي ذلك نسخا لتغير الحكم ومنهم من لا يسميه نسخا لأن الله تعالى أمرهم بالعفو

والصفح إلى ان ياتي الله بامره وقد أتى الله بامره من عز الإسلام وإظهاره والأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

وهذا مثل قوله تعالى " فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " وقال النبي قد جعل الله لهن سبيلا فبعض الناس يسمي ذلك نسخا وبعضهم لا يسميه نسخا والخلاف لفظي

ومن الناس من يقول الأمر بالصفح باق عند الحاجة إليه بضعف المسلم عن القتال بان يكون في وقت أو مكان لا يتمكن منه وذلك لا يكون منسوخا إذ المنسوخ ما ارتفع في جميع الازمنة المستقبلة

وبالجملة فلا خلاف ان النبي كان مفروضا عليه لما قوي ان يترك ما كان يعامل به أهل الكتاب والمشركين ومظهري النفاق من العفو والصفح إلى قتالهم وإقامة الحدود عليهم سمي نسخا أو لم يسم

الجواب الثاني ان النبي قد كان له ان يعفو عمن سبه وليس للأمة ان تعفو عمن سبه كما قد كان يعفو عمن سبه من المسلمين مع انه لا خلاف بين المسلمين في وجوب قتل من سبه من المسلمين

الجواب الثالث ان هذا ليس بإظهار للسب وانما هو اخفاء له بمنزلة السام عليكم وبمنزلة ظهور النفاق في لحن القول لأنهم كانوا يظهرون انهم يقصدون مسألته ان يسمع كلامهم وان يراعيهم فينضرهم حتى يقضوا كلامهم وحتى يفهموا كلامه وياتونه على هذا الوجه ثم انهم يلوون السنتهم بالكلام وينوون به الاستهزاء والسب والطعن في الدين كما يلوون السنتهم بالسلام وينوون به الدعاء عليه بالموت واليهود امة معروفة بالنفاق والخبث وان تظهر خلاف ما تبطن ولكن ذلك لا يوجب إقامة حد لهم

ولو كان هذا سبا ظاهرا لما كان المسلمون يخاطبون بمثل ذلك قاصدين به الخير حتى نهوا عن التكلم بكلام يحتمل الاستهزاء ويوهمه بحيث يصير سبا بالنية ودلالة الحال

وذلك ان هذه اللفظة كانت العرب تتخاطب بها تقصد سبا قال عطا كانت لغة في الانصار في الجاهلية وقال أبو العاليه ان مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه ارعني سمعك فنهو عن ذلك وكذلك قال الضحاك وذلك ان العرب تقول ارعيته سمعي ارعاء إذا فرغته لكلامه لأنك جعلت السمع يرعى كلامه وتقول راعيته سمعي بهذا المعنى لكن كانت اليهود تعتقدها سبا بينها اما لما فيه من الاشتراك فانها كما تستعمل في استرعاء السمع تستعمل بمعنى المفاعله كانه قيل راعني حتى اراعيك وهذا إنما يكون بين الأمثال والنظراء ومرتبة الرئيس اعلى من ذلك

أو أن اليهود ينوون بها معنى الرعونة أو فيها طلب حفظ الكلام والاهتمام به وهذا إنما يكون من الاعلى للاسفل لأن الرعاية هي الحفظ والكلاءه ومنه استرعاء الشهادة أو قد غلبت في عرفهم ولغتهم على معنى رديء كما قد قيل انهم ينوون بها اسمع لا سمعت وبالجملة إنما يصير مثل هذا سبا بالنية ولي اللسان ونحوه فنهي المسلمون عنها حسما لمادة التشبه باليهود وتشبه اليهود بهم وجعل ذلك ذريعة إلى الاستهزاء به ولما يحتمله لفظها من قلة الادب في مخاطبة الرسول

الجواب الرابع ما ذكره بعض أهل التفسير الذي ذكر انها كانت سبا قبيحا بلغة اليهود قال كان المسلمون يقولون راعنا يا رسول الله وارعنا سمعك يعنون من المراعاه وكانت هذه اللفظه سبا قبيحا بلغة اليهود فلما سمعتها اليهود اغتنموها وقالوا فيما بينهم كنا نسب محمدا سرا فأعلنوا له الآن بالشتم وكانوا يأتونه ويقولون راعنا يا محمد ويضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها وكان يعرف لغتهم فقال لليهود عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده يا معشر اليهود لأن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لاضربن عنقه فقالوا أولستم تقولنها فانزل الله " يا يها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا " لئلا يتخذ اليهود ذلك سبيلا إلىشتم رسول الله فهذا القول دليل على أن اللفظة مشتركه في لغة العرب ولغة العبرانيين وان المسلمين لم يكونوا يفهمون من اليهود إذا قالوها الا معناها في لغتهم فلما فطنوا لمعناها في اللغة الأخرى نهوهم عن قولها واعلموهم ان ذلك ناقض لعهدهم ومبيح لدمائهم وهذا اوضح دليل على انهم إذا تكلموا بما يفهم منه السب حلت دماؤهم وانما لم يستحلوا دماءهم لأن المسلمين لم يكونوا يفهمون السب والكلام في السب الظاهر وهو ما يفهم منه السب

فإن قيل أهل الذمة قد اقررناهم على دينهم ومن دينهم استحلال سب النبي فإذا قالوا ذلك لم يقولوا غير ما اقررناهم عليه وهذه نكتة المخالف

قلنا ومن دينهم استحلال قتال المسلمين واخذ أموالهم ومحاربتهم بكل طريق ومع هذا فليس لهم ان يفعلوا ذلك بعد العهد ومتى فعلوه نقضوا العهد وذلك لأنا وان كنا نقرهم على أن يعتقدوا ما يعتقدونه ويخفوا ما يخفونه فلم نقرهم على أن يظهروا ذلك ويتكلموا به بين المسلمين ونحن لا نقول ينتقض عهد الساب حتى نسمعه يقول ذلك أو يشهد به المسلمون ومتى حصل ذلك كان قد أظهره وأعلنه

وتحرير الجواب ان كلتا المقدمتين باطلة

أما قوله اقررناهم على دينهم فيقال لو اقررناهم على كل ما يدينون به لكانوا منزلة أهل ملتهم المحاربين ولو اقررناهم على كل ما يدينون به لم يعاقبوا على إظهار دينهم وإظهار الطعن في ديننا ولا خلاف انهم يعاقبون على ذلك ولو اقررناهم على دينهم مطلقا لاقررناهم على هدم المساجد واحراق المصاخف وقتل العلماء والصالحين فان ما يدينون به مما يؤذي المسلمين كثيرة ثم لا خلاف انهم لا يقرون على شيء من ذلك وانما اقررناهم كما قال غرفة بن الحارث على أن نخليهم يفعلون بينهم ماشاؤوا مما لا يؤذي المسلمين ولا يضرهم ولا نعترض عليهم في أمور لا تظهر فان الخطيئة إذا اخفيت لم تضر الا صاحبها ولكن إذا اعلنت فلم تنكر ضرت العامة وشرطنا عليهم ان لايفعلوا شيئا يؤذينا ولا يضرنا سواء كانوا يستحلونه أو لايستحلونه فمتى اذو الله ورسوله فقد نقضوا العهد وشرطنا عليهم التزام حكم الإسلام وان كانوا يرون ان ذلك لا يلزمهم في دينهم وشرطنا عليهم اداء الجزية وان اعتقدوا ان اخذها منهم حرام وشرطنا عليهم اخفاء دينهم فلا يظهرون الاصوات بكتابهم ولا على جنائزهم ولا صوت ناقوس وشرطنا عليهم ان لا يرتفعوا على المسلمين وان يخالفوا بهيئتم هيئة المسلمين على وجهه يتميزون به ويكونون اذلاء في تميزه إلى غير ذلك من الشروط التي يعتقدون انها ذا تجب عليهم في دينهم

فعلم انا شرطنا عليهم ترك كثير مما يعتقدون دينا لهم اما مباحا أو واجبا وفعل كثير مما يعتقدون ليس من دينهم فكيف يقال اقررناهم على دينهم مطلقا

وأما المقدمة الثانية فنقول هب انا اقررناهم على دينهم فقوله استحلال السب من دينهم جوابه ان يقال اهو من دينهم قبل العهد أو من دينهم وان عاهدوا على تركه

الأول مسلم لكن لا ينفع لأن هؤلاء قد عاهدوا فان لم يكن هذا من دينهم في هذه الحال لم يكن لهم ان يفعلوه لأنه من دينهم في حال أخرى وهذا كما ان المسلم من دينه استحلال ديمائهم وأموالهم واذاهم بالهجاء والسب إذا لم نعاهدهم وليس من دينه استحلال ذلك إذا عاهدهم فليس لنا ان نؤذيهم ونقول قد عاهدناكم على ديننا ومن ديننا استحلال اذاكم فان المعاهدة التي بين المتحاربين تحرم على كل واحد منهما في دينه ما كان يستحله من ضرر الآخر واذاه قبل العهد

وأما الثاني فمنوع فانه ليس من دينهم استحلال نقض العهد ولا مخالفة من عاهدوه في شئ مما عاهدوه بل من دين جميع أهل الأرض الوفاء بالعهد وان لم يكن هذا معتقدهم فنحن إنما عاهدناهم على أن يدينوا بوجوب الوفاء بالعهد فان لم يكن دينهم وجوب الوفاء به فلم نعاهدهم على دين يستحل صاحبه نقض العهد ولو عاهدناهم على هذا الدين لكنا قد عاهدناهم على أن يدينوا بنقض العهد فينقضوه ونحن موفون بالعهد وبطلان هذا واضح وإذا لم يكن فعل ما عاهدوا على تركه من دينهم فنحن قد عاهدناهم على أن يكفوا عن اذانا بالسنتهم وايديهم وان لا يظهروا شيئا من اذى الله ورسوله وان يخفوا دينهم الذي هو باطل في حكم الله ورسوله وإذا عاهدوا على ترك هذا واخفاء هذا كان فعله حراما عليهم في دينهم لأن ذلك غدر وخيانة وترك للوفاء بالعهد ومن دينهم ان ذلك حرام ولو ان مسلما عاهده قوما من الكفار طائعا غير مكره على أن يمسك عن ذكر صليبهم لوجب عليه في دينه ان يمسك ما دام العهد قائما

فقول القائل من دينهم استحلال سب نبيا باطل إذ ذلك مع العهد المقتضي لتركه حرام في دينهم كما يحرم عليهم في دينهم استحلال دمائنا وأموالنا لأجل العهد وهم يعتقدون عند أنفسهم انهم إذا اذوا الله ورسوله بالستنهم أو ضروا المسلمين بعد العهد فقد فعلوا ما هو حرام في دينهم كما ان المسلم يعلم انه إذا اذاهم بعد العهد فقد فعل ما هو حرام في دينه ويعلمون ان ذلك مخالفة للعهد وان ظنوا ان لاعهد بيننا وبينهم وانما هم مغلبون تحت يد الإسلام فذلك ابعد لهم عن العصمة وأولى بالانتقام فانه لا عاصم لهم منا الا العهد فان لم يعتقدوا

الوفاء بالعهد فلاعاصم أصلا وهذا كله بين لمن تامله يتبين به بعض فقه المسالة

ومن الفقهاء من أجاب عن هذا بان اقررناهم على ما يعتقدونه ونحن إنما نقول بنقض العهد إذا سبوه بما لا يعتقدونه من القذف ونحوه وهذا التفصيل ليس بمرض وسيأتي إن شاء الله تحقيق ذلك

فإن قيل فهب انهم صولحوا على أن لا يظهروا ذلك لكن مجرد إظهار دينهم كيف ينقض العهد وهل ذلك الا بمثابة ما لو أظهروا اصواتهم بكتابهم أو صليبهم أو اعيادهم فان ذلك موجب لتنكيلهم وتعزيرهم دون نقض العهد

قلنا واي ناقض للعهد أعظم من أن يظهروا كلمة الكفر ويعلوها ويخرجوا عن حد الصغار ويطعنوا في ديننا ويؤذونا اذى هو ابلغ من قتل النفوس واخذ الأموال

وأما إظهار تلك الأشياء بعد شرط عمر المعروف ففيها وجهان عندنا

أحدهما ينتقض العهد فلا يلزمنا

والآخر لا ينتقض العهد والفرق بينهما من وجهين

أحدهما ان ظهور تلك الأشياء ليس فيه ظهور كلمة الكفر وعلوها وانما فيه ظهور لدين المشركين وبين البابين فرق فان المسلم لو تكلم بكلمة الكفر كفر ولو لم يفعل الا مجرد مشاركة الكافر في هدية عوقب ولم يكفر وكان ذلك كإظهار المعاصي من المسلم يوجب عقوبته ولا يبطل ايمانه والمتكلم بكلمة الكفر يبطل ايمانه كذلك أهل العهد إذا أظهروا الكفر ونحوه نقضوا أمانهم وإذا أظهروا زيهم عصوا ولم ينقضوا أمانهم

وهذا جواب من يقول من أصحابنا وغيرهم انهم لو أظهروا التثليث ونحوه مما هو دينهم نقضوا العهد

الجواب الثاني ان ظهور تلك الأشياء ليس فيها ضرر عظيم على المسلمين ولا معرة في دينهم لا طعن في ملتهم وانما فيه أحد أمرين اما اشتباه زيهم بزي المسلمين أو إظهار لمنكرات دينهم في دار الإسلام كإظهار الواحد من المسلمين لشرب الخمر ونحوه واما سب الرسول والطعن في الدين ونحوه ذلك فهو مما يضر المسلمين ضررا يفوق ضرر قتل النفس واخذ المال من بعض الوجوه فانه لا ابلغ في اسفال كلمة الله واذلال كتاب الله واهانة كتاب الله من أن يظهر الكافر المعاهد السب والشتم لمن جاء بالكتاب

ولاجل هذا الفرق فصل أصحابنا وأصحاب الشافعي الأمور المحرمة عليهم في العهد الذي بيننا وبينهم إلى ما يضر المسلمين في نفس أو مالا أو دين والى مالا يضر وجعلوا القسم الأول ينقض العهد حيث لاينقضه القسم الثاني لأن مجرد العهد ومطلقه يوجب الإمساك عما يضر المسلمين ويؤذيهم فحصوله تفويت لمقصود العقد فيفسخه كما لو فات مقصود البيع بتلف العوض قبل القبض أو ظهوره مستحقا ونحوه بخلاف غيره ولان تلك المضرات يوجب جنسها عقوبة المسلم بالقتل فلان توجب عقوبة المعاهد بالقتل أولى واحرى لأن كليهما ملتزم اما بايمانه أو بأمانة ان لايفعلها ولان تلك المضرات من جنس المحاربة والقتال وذلك لابقاء العهد معه بخلاف المعاصي التي فيها مراغمة ومصارمة

فإن قيل فقد اقروا على ما هم عليه من الشرك الذي هو أعظم من سب الرسول فيكون إقرارهم على سب الرسول أولى بل قد اقروا على سب الله تعالى وذلك لأن النصارى معتقدون التثليث ونحوه وهو شتم لله تعالى لما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله " قال الله عز وجل كذبني ابن ادم ولم يكن له ذلك وشتمني والم يكن له ذلك فاما تكذيبه اياي فقوله لن يعيدني كما بداني وليس أول الخلق باهون علي من اعادته واما شتمه اياي فقوله اتخذ الله ولدا وانا الاحد الصمد الذي لم الد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد "

وروى في صحيحه عن ابن عباس عن النبي نحوه وكان معاذ ابن جبل يقول إذا رأى النصارى لا ترحموهم فلقد سب الله سبه ما سبه اياها أحد من البشر

وقد قال الله تعالى " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ان دعوا للرحمن ولدا " الآية

وقد أقر اليهود على مقالتهم في عيسى عليه السلام وهي من أبلغ القذف

قلنا الجواب من وجوه

أحدها ان هذا السؤال فاسد الاعتبار فان كون الشئ في نفسه أعظم اثما من غيره يظهر اثره في العقوبة عليه في الآخرة لا في الإقرار عليه في الدنيا الا ترى ان أهل الذمة يقرون على الشرك ولا يقرون على الزنى ولا على السرقة ولا على قطع الطرق ولا على قذف المسلم ولا على محاربة المسلمين وهذه الأشياء دون الشرك بل سنة الله في خلقه كذلك فانه عجل لقوم لوط العقوبة وفي الأرض مدائن مملوئة بالشرك لم يعاجلهم بالعقوبة لاسيما والمحتج بهذا الكلام يراى ان قتل الكفار إنما هو لمجرد المحاربة سواء كان كفره أصليا أو طارئا حتى انه لا يراى قتل المرتد ويقول الدنيا ليست دار الجزاء على الكفر وانما الجزاء على الكفر في الآخرة وانما يقاتل من يقاتل فقت لدفع اذاه

ثم لا يجوز ان يقال إذا اقررناهم على الكفر فلان نقرهم على المحاربة التي هي دون الكفر بطريق الأولى وسبب ذلك ان ما كان من الذنوب يتعدى ضرره فاعله عجلت لصاحبه العقوبة في الدنيا تشريعا وتقديرا ولهذا قال ما من ذنب احرى ان تعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم لأن تاخير عقوبته فساد لاهل الأرض لخلاف ما لا يتعدى ضرره فاعله فانه قد توخر عقوبته وان كان أعظم كالكفر ونحوه فإذا إقرارهم على الشرك أكثر ما فيه تاخير العقوبة عليه وذلك لا يستلزم تاخير عقوبة ما يضر بالمسلمين لأنه دونه كما قدمناه

الوجه الثاني ان يقال لاخلاف انهم إذا اقروا على ما هم عليه من الكفر غير مضارين للمسلمين لا يجوز اذاهم لا في دمائهم ولا في ابشارهم ولو أظهروا السب ونحوه عوقبوا على ذلك اما في الدماء أو في الابشار

ثم انه لا يقال إذا لم يعاقبوا بالعزير على الشرك لم يعاقبوا على السب الذي هو دونه وإذا كان هذا السؤال معترضا على الإجماع لم يجب جوابه كيف والمنازع قد سلم انهم يعاقبون على السب فعلم انه لم يقرهم عليه فلا يقبل منه السؤال والجواب عن هذه الشبه مشترك فلا يجب علينا الانفراد به

الوجه الثالث ان الساب ينضم السب إلى شركه الذي عوهد عليه بخلاف المشرك الذي لم يسب ولا يلزم من الإقرار على ذنب مفرد الإقرار عليه مع ذنب آخر وان كان دونه فان اجتماع الذنبين يوجب جرما مغلظا لا يحصل حال الانفراد

الوجه الرابع قوله ما هم عليه من الكفر أعظم من سب الرسول ليس بجيد على الاطلاق وذلك لأن أهل الكتاب طائفتان اما اليهود فاصل كفرهم تكذيب الرسول وسبه أعظم من تكذيبه فليس لهم كفر أعظم ةمن سب الرسول فان جميع ما يكفرون به من الكفر بدين الإسلام وبعيسى وبما أخبر الله به من أمور الآخرة وغير ذلك متعلق بالرسول فسبه كفر بهذا كله لأن ذلك إنما علم من جهته وليس عند أهل الأرض في وقتنا هذا علم موروث يشهد عليه انه من عند الله الا العلم الموروث عن محمد وما سوى ذلك مما يؤثر عن غيره من الأنبياء فقد اشتبه واختلط كثير منه أو أكثره والواجب فيما لم نعلم حقيقته منه ان لا يصدق ولا يكذب

وأما النصارى فسبهم للرسول طعنا فيما جاء به من التوحيد وانباء الغيب والشرائع وانما ذنبه الأعظم عندهم ان قال إن عيسى عبد الله ورسوله كما ان ذنبه الأعظم عند اليهود ان غير شريعة التوراة والا فانصارى ليس محافظين على شريعة موروثة بل كل برهة من الدهر تبتدع لهم الاحبار شريعة من الدين لم ياذن الله بها ثم لا يرعونه حق رعايتها فسبهم له متضمن للطعن في التوحيد وللشرك وللتكذيب بالأنبياء والدين ومجرد شركهم ليس متضمنا لتكذيب جميع الأنبياء ورد جميع الدين فلا يقال ماهم عليه من الشرك أعظم من سب الرسول بل سب الرسول فيه ماهم عليه من الشرك وزياده وبالجملة فينبغي للعاقل ان يعلم ان قيام دين الله في الأرض إنما هو بواسطة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين فلولا الرسل لما عبد الله وحده ولا شريك له ولما علم الناس أكثر ما يستحقه سبحانه من الاسماء الحسنى والصفات العلى ولا كانت له شريعة في الأرض

ولا تحسبن ان العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته واسمائه على وجهه اليقين فان عامة من تكلم في هذا الباب بالعقل فانما تكلم بعد ان بلغه ما جاءت به الرسل واستضاء بذلك واستانس به سواء أظهر الانقياد للرسل أو لم يظهر وقد اعترف عامة الرؤوس منهم انه لاينال بالعقل علم جازم في تفاصيل الأمور الالهية وانما ينال به الظن والحسبان

والقدر الذي يمكن العقل اداركه بنظره فان المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم نبهوا الناس عليه وذكروهم به ودعوهم إلى النظر فيه حتى فتحوا أعينا عميا واذانا صما وقلوبا غلفا

والقدر الذي تعجز العقول رعن ادراكه علموهم اياه وانباوهم به فالطعن فيهم طعن في توحيد الله واسمائه وصفاته وكلامه ودينه وشرائعه وانبيائه وثوابه وعقابه وعامة الاسباب التي بينه وبين خلقه بل يقال انه ليس في الأرض مملكة قائمة الا في بنبوة أو اثر نبوة وان كل خير في الأرض فمن اثار النبواة ولا يستريبن العاقل في هذا فان الذين درست النبوة فيهم مثل البارهمة والصابئة والمجوس ونحوهم فلا سفتهم وعامتهم قد اعرضوا عن الله وتوحيده واقبلوا على عبادة الكواكب والنيران والاصنام وغير ذلك من الاوثان والطوغين فلم يبق بايديهم لا توحيد ولا غيره

وليست امة مستمسكة بالتوحيد الا أتباع الرسل قال الله سبحانه " شرع لكم منه الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه " فأخبر ان دينه الذي يدعوا إليه المرسلون كبر على المشركين فما الناس الا تابع لهم أو مشرك وهذا حق لا ريب فيه فعلم ان سب الرسل والطعن فيهم ينبوع جميع أنواع الكفر وجماع جميع الضلالات وكل كفر ففرع منه كما ان تصديق الرسل أصل جميع شعب الايمان وجماع مجموع اسباب الهدى

الوجه الخامس ان نقول قد ثبت بالسنة ثبوتا لايمكن دفعه ان النبي كان يأمر بقتل من سبه وكان المسلمون يحرضون على ذلك مع الإمساك عمن هو مثل هذا الساب في الشرك أو هو اسوء منه من محارب أو معاهد فلو كانت هذه الحجة مقبولة لتوجه ان يقال إذا امسكوا عن الشرك فالإمساك عن الساب أولى وإذا عوهد الذمي على كفره فمعاهدته على السب أولى وهذا لو قبل معارضة لسنة رسول الله وكل قياس عارضه السنة فهو رد

الوجه السادس ان يقال ما هم عليه من الشرك وان كان سبا لله فهم لا يعتقدونه سبا وانما يعتقدونه تمجيدا وتقديسا فليسواقاصدين به قصد السب والاستهانة بخلاف سب الرسول فلا يلزم من إقرارهم على شئ لا يقصدون به الاستخفاف إقرارهم على ما يقصدون به الاستخفاف وهذا جواب من يقتلهم إذا أظهروا سب الرسول ولا يقتلهم إذا أظهروا ما يعتقدونه من دينهم

الوجه السابع ان إظهار سب الرسول طعن في دين المسلمين واضرار بهم ومجرد التكلم بدينهم ليس فيه اضرار بالمسلمين فصار إظهار سب الرسول بمنزلة المحاربة يعاقبون عليها وان كانت دون الشرك وهذا أيضا جواب هذا القائل

الوجه الثامن منع الحكم في الاصل المقيس عليه فانا نقول متى أظهروا كفرهم واعلنوا به نقضوا العهد بخلاف مجرد رفع الصوت بكتابهم فانه ليس كل ما فيه كفر ولسنا نفقه ما يقولون وانما فيه إظهار شعار الكفر وفرق بين إظهار الكفر وبين إظهار شعار الكفر

أو نقول متى أظهروا الكفر الذي هو طعن في دين الله نقضوا به العهد بخلاف كفر لا يطعنون به في ديننا وهذا لأن العهد إنما اقتضى ان يقولوا يفعلوا بينهم ما شاؤوا مما لا يضر المسلمين فاما ان يظهروا كلمة الكفر أو ان يؤذوا المسلمين فلم يعاهدوا عليه البته وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذين القولين والذين قبلهما

قال كثير من فقهاء الحديث وأهل المدينة من أصحابنا وغيرهم لم نقرهم على أن يظهروا شيئا من ذلك ومتى أظهروا شيئا من ذلك نقضوا العهد

قال أبو عبد الله في رواية حنبل كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تبارك وتعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا وهذا مذهب أهل المدينة

وقال جعفر بن محمد سمعت أبا عبد الله يسال عن يهودي مر بمؤذن وهو يؤذن فقال له كذبت فقال يقتل لأنه شتم ومن الناس من فرق بين ما يعتقدونه وما لا يعتقدونه ومن الناس من فرق بين ما يعتقدونه وإظهاره يضر بنا لأنه قدح في ديننا وبين ما يعتقدونه وإظهاره ليس بطعن في نفس ديننا وسيأتي إن شاء الله ذلك فان فروع المسالة تظهر ماخذها وقد قدمنا عن عمر رضى الله عنه انه قال بمحضر من المهاجرين والانصار للنصراني الذي قال إن الله لا يضل أحدا انا لم نعطك

ما اعطيناك على أن تدخل علينا في ديننا فوالذي نفسي بيده لأن عدت لاخذنا الذي فيه عيناك وجميع ما ذكرناه من الآيات والاعتبار يجئ أيضا في ذلك فان الجهاد واجب حتى تكون كلمة الله هي العليا وحتى يكونالدين كله لله وحتى يظهر دين الله على الدين كله وحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

والنهي عن إظهار المنكر واجب بحسب القدرة فإذا أظهروا كلمة الكفر واعلنوها خرجوا عن العهد الذي عاهدونا عليه والصغار الذي التزموه وجب علينا ان نجاهد الذي أظهروا كلمة الكفرر وجهادهم بالسيف لأنهم كفار لا عهد لهم والله سبحانه أعلم

المسالة الثانية

انه يتعين قتله ولا يجوز استرقاقه ولا المن عليه ولا فداءه

أما ان كان مسلما فبالإجماع لأنه نوع من المرتد أو من الزنديق والمرتد يتعين قتله وكذلك الزنديق وسواءا كان رجلا أو امرأة وحيث قتل يقتل مع الحكم بإسلامه فان قتله حد بالاتفاق فيجب إقامته وفيما قدمناه دلالة واضحه على قتل السابة المسلمة من السنة وأقاويل الصحابة فان في بعضها تصريحا بقتل السابه المسلمة وفي بعضها تصريحا بقتل السابة الذمية وإذا قتلت الذمية للسب فقتل المسلمة أولى كما لا يخفى على الفقيه

ومن قال من أهل الكوفة ان المرتدة لا تقتل فقياس مذهبة ان لا تقتل السابه لأن الساب عنده مرتد وقد كان يحتمل مذهبه ان تقتل السابه حدا كقتل الساحرة عند بعضهم وقتل قاطعة الطريق ولكن أصوله تابى ذلك

والصحيح الذي عليه العامة قتل المرتدة فالسابه أولى وهو الصحيح لما تقدم وان كان الساب معاهدا فانه يتعين أيضا قتله سواء كان رجلا أو أمراه عند عامة الفقهاء من السلف ومن تبعهم

وقد ذكرنا قول ابن المنذر فيما يجب على من سب النبي قال اجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي القتل وممن قاله مالك والليث وأحمد وإسحاق وهو مذهب الشافعي

قال وحكي عن النعمان لا يقتل من سبه من أهل الذمة وهذا لفظ دليل على وجوب قتله عند العامة وهذا مذهب مالك وأصحابه وسائر فقهاء المدينة وكلام أصحابه يقتضي ان لقتله ماخذين

أحدهما انتقاض عهده

والثاني انه حد من الحدود وهو قول فقهاء الحديث قال إسحاق بن راهوية ان أظهروا سب رسول الله فسمع منهم ذلك أو تحقق عليهم قتلوا واخطا هؤلاء الذين قالوا ما هم فيه من الشرك أعظم من سب رسول الله قال إسحاق يقتلون لأن ذلك نقض العهد وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز ولا شبهه في ذلك لأنه يصير في ذلك ناقضا للصلح وهو كما قتل ابن عمر الراهب الذي سب النبي وقال ما على هذا صالحناهم

وكذلك نص الإمام أحمد على وجوب قتله وانتقاض عهده وقد تقدم بعض نصوصه في ذلك وكذلك نص عامة أصحابه على وجوب قتل هذا الساب ذكروه بخصوصه في مواضع هكذا وذكروه أيضا في جملة ناقضي العهد من أهل الذمة

ثم المتقدمون منهم وطوائف من المتاخرين قالوا ان هذا وغيره من ناقضي العهد يتعين قتلهم كما دل عليه كلام أحمد

وذكر طوائف منهم ان الإمام مخير فيمن نقض العهد من أهل الذمة كما يخير في الأسير بين الاسترقاق والقتل والمن والفداء ويجب عليه فعل الاصلح للأمة من هذه الأربعة بعد ان ذكروه في الناقضين للعهد فدخل هذا الساب في عموم هذا الكلام واطلاقه وأوجب ان يقال فيه بالتخيير إذا قيل به في غيره من ناقضي العهد لكن قيد محققوا أصحاب هذه الطريقة ورؤوسهم مثل القاضي أبي يعلي في كتبه المتاخره وغيره هذا الكلام وقالوا التخيير هو غير ساب الرسول واما سابه فيتعين قتله وان كان غيره كالأسير وعلى هذا فاما ان لايحكى في تعين قتله خلاف لكون الذين أطلقوا التخيير في موضع قد قالوا في موضع آخر بان الساب يتعين قتله وصرح رأس أصحاب هذه الطريقة بانه مستثنى من ذلك الاطلاق أو يحكى فيه وجه ضعيف لأن الذين قالوا به في موضع نصوا على خلافه في موضع آخر واختلف أصحاب الشافعي أيضا فيه فمنهم من قال يجب قتل الساب حتما وان خير في غيره

ومنهم من قال هو كغيره من الناقضين للعهد وفيه قولان اضعفهما انه يلحق بمامنه والصحيح منهما جواز قتله قالوا ويكون كالأسير يجب على الإمام ان يفعل فيه الاصلح للأمة من القتل والاسترقاق والمن والفداء

وكلام الشافعي في موضع يقتضي ان حكم الناقض للعهد حكم الحربي فلهذا قيل انه كالأسير وفي موضع آخر أمر بقتله عينا من غير تخيير

وتحريم الكلام في ذلك يحتاج إلى ان نقدم مقدمة فيما ينتقض به العهد وفي حكم ناقض العهد على سبيل العموم ثم نتكلم في خصوص مسالة السب

أما الأول فان ناقض العهد قسمان ممتنع لا يقدر عليه الا بقتال ومن هو في أيدي المسلمين

أما الأول فان يكون لهم شوكه ومنعة فيمتنع بها على الإمام من أيداء الجزية والتزام أحكام الملة الواجبه عليهم دون ما يظلمهم به الولاه أو يلحقوا بدار الحرب مستوطنين بها فهؤلاء قد نقضوا العهد بالإجماع فإذا اسر الرجل منهم فحكمه عند الإمام أحمد في ظاهر مذهبه حكم أهل الحرب إذا اسروا يفعل بهم الإمام ما يراه أصلح

قال في رواية أبي الحارث وقد سئل عن قوم من أهل العهد

نقضوا العهد وخرجوا بالذرية إلى دار الحرب فبعث في طلبهم فلحقوهم فحاربوهم قال أحمد إذا نقضوا العهد فمن كان منهم بالغا فيجري عليه ما يجري علىا أهل الحرب من الأحكام إذا اسروا فامرهم إلى الإمام يحكم فيهم بما يرى واما الذرية فما ولد بعد نقضهم العهد فهو بمنزلة من نقض العهد ومن كان ممن ولد قبل نقض العهد فليس عليه شئ وذلك ان امرأة علقمة بن علاثه قالت ان كان علقمة ارتد فانا لم ارتد وكذلك روى عن الحسن فيمن نقض العهد ليس على النساء شئ وقال في رواية صالح وقد سئل عن قوم من أهل العهد في حصن ومعهم مسلمون فنقضوا العهد والمسلمون معهم في الحصن ما السبيل فيهم قال ما ولد لهم من بعد نقض العهد فالذرية بمنزلة من نقض العهد يسبون ومن كان قبل ذلك لا يسبون

فقد نص على أن ناقض العهد إذا اسر بعد المحاربة بخير الإمام فيه وعلى أن الذرية الذين ولدوا بعد نقض العهد بمنزلة من نقض العهد يسبون فعلم ان ناقض العهد يجوز استرقاقه وهذا هو المشهور من مذهبه

وعنه انهم إذا قدر عليهم فانهم لا يسترقون بل يردون إلى الذمة قال في رواية أبي طالب في رجل من أهل العهد لحق بالعدوا هو وأهله وولده وولد له في دار العدوا قال يسترق أولادهم الذين ولدوا في دار العدوا ويردون هم واولدهم الذين ولدو في دار الإسلام إلى الجزية قيل له لا يسترق أولادهم الذين ولدوا في دار الإسلام قال لا قيل له فان كانوا ادخلوهم صغارا ثم صاروا رجلا قال لا يسترقون ادخلوهم مامنهم

وكذلك قال في رواية ابن ابراهيم وقد ساله عن رجل لحق بدار الحرب هو وأهله وولد له في بلاد العدو وقد اخذه المسلمون قال ليس على ولده وأهله شئ ولكن ما ولد له وهو في أيديهم يسترقون ويردون هم إلى الجزية

فقد نص على أن الرجل الذي نقض العهد يرد إلى الجزية هو وولده الذين كانوا موجدين وانهم لا يسترقون وان ولده الذين حدثوا بعد المحاربة يسترقون وذلك لأن صغار ولده سبي من أولاد أهل الحرب وهم يصيرون رقيقا بنفس السبي فلا يدخلون في عقد الذمة أولا ولا اخرا واما أولاده الذين ولدوا قبل النقض فلهم حكم الذمة المتقدمة

فعلى الرواية الأولى المشهورة يخير الإمام في الرجال إذا اسروا فيعل ما هو الاصلح للمسلمين من قتل واسترقاق ومن فداء وإذا جاز ان يمن عليهم جاز ان يطلقهم على قبول الجزية منهم وعقد الذمة لهم ثانيا لكن لايجب عليه ذلك كما لا يجب عليه في الأسير الحربي الاصلي إذا كان كتابيا وقد قتل رسول الله أسرى بني قريضه وأسرى من أهل خيبر ولم يدعهم إلى اعطاء الجزية ولو دعاهم إليها لاجابوه

وعلى الرواية الثانية يجب دعائهم إلى العود إلى الذمة كما كانوا كما يجب دعاء المرتد إلى ان يعود إلى الإسلام أو يستحب كما يستحب دعاء المرتد ومتى بذلوا العود إلى الذمة وجب قبول ذلك منهم كما يجب قبول الإسلام من المرتد وقبول الجزية من الحربي الاصلي إذا بذلها قبل الاسر ومتى امتنعوا فقياس هذه الرواية وجوب قتلهم دون استرقاقهم جعلا لنقض الأمان كنقض الايمان ولو تكرر النقض منهم فقد يقال فيهم ما يقال فيمن تكررت ردته

وبنحو من هذه الرواية قال اشهب صاحب مالك في مثل هؤلاء قال لا يعود الحر قنا ولا يسترق أبدا بحال بل يردون إلى ذمتهم بكل حال

وكذلك قال الشافعي في الام وقد ذكر نواقض العهد وغيرها قال وايهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا وكذلك إذا كان ذلك فعلا لم يقتل الا أن يكون في دين المسلمين ان من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا بنقض عهد

وان فعل مما وصفنا وشرط انه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ولكنه قال أتوب واعطي الجزية كما كنت اعطيها أو على صلح اجدده عوقب ولم يقتل الا أن يكون قد فعل فعلا يوجب القصاص أو الحد فان فعله أو قال مما وصفنا وشرط انه يحل دمه فظفرنا به فامتنع من أن يقول أسلم أو اعطي جزية قتل واخذ ماله فيئا

فقد نص على أن وجوب قبول الجزية منه إذا بذلها وهو في أيدينا وانه إذا امتنع منها ومن الإسلام قتل واخذ ماله ولم يخير فيه

ولأصحابه في وجوب قبول الجزية من أسير الحربي الاصلي وجهان

وعن الإمام أحمد رواية ثالثه انهم يصرون رقيقا إذا اسروا

وقال في رواية ابن ابراهيم إذا اسر الروم من اليهود ثم ظهر المسلمون عليهم فانهم لا يتبعونهم وقد وجبت لهم الجزية الا من ارتد منهم عن جزيته فهو بمنزلة المملوك

وهذا هو المشهور من مذهب مالك قال ابن القاسم وغيره من المالكيه إذا خرجوا ناقضين للعهد ومنعوا الجزية وامتنعوا منا من غير ان يظلموا ولحقوا بدار الحرب فقد انتقض عهدهم وإذا انتقض عهدهم ثم اسروا فهم فئ ولا يردون إلى ذمتنا

فأوجبوا استرقاقهم ومنعوا ان يعقد لهم الذمة ثانيا كانه جعل خروجهم من الذمة مثل ردة المرتد يمنع إقراره بالجزية لكن هؤلاء لا يسترقون لكون كفرهم أصليا

وقال أصحاب أبي حنيفة من نقض العهد فانه يصير كالمرتد الا انه يجوز استرقاقه والمرتد لا يجوز استرقاقه

فاما ان لم يقدر عليهم حتى بذلوا الجزية وطلبوا العود إلى الذمة فإنه يحوز عقدها لهم لأن أصحاب رسول الله عقدوا الذمه لاهل الكتاب من أهل الشام مرة ثانية وثالثة بعد ان نقضوا العهد والقصة في ذلك مشهورة في فتوح الشام وما احسب في هذا خلافا فان مالكا

وأصحابه قالوا إذا منعوا الجزية وقاتلوا المسلمين والإمام عدل فانهم يقاتلون حتىا يردوا إليه مع ان المشهور عندهم ان الأسير منهم لا يرد إلى الذمة بل يكون فيئا فإذا كان مالك لا يخالف في هذه المسالة فغيره أولى ان لا يخالف فيها لأنه هو الذي اشتهر عنه القول بمنع عود الأسير منهم إلى الذمة

فان بذل هؤلاء العود إلى الذمة فهل يجب قبول ذلك منهم كما يجب قبوله من الحربي الاصلي ان قلنا انه يجب رد الأسير منهم إلى ذمته فهؤلاء أولى وان قلنا لا يجب هناك فيتوجه ان لا يجب هنا أيضا لأن بني قينقاع لما نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي أرادوا قتلهم حتى الح عليه عبد الله بن أبي في الشفاعة فيهم فاجلاهم إلى اذرعات ولم يقرهم بالمدينة مع ان القوم كانوا حراصا على المقام بالمدينة بعهد يجددونه وكذلك بنو قريضة لما حاربت أرادوا الصلح والعود إلى الذمة فلم يجبهم النبي حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ وكذلك بنوا النضير لما نقضوا العهد فحاصرهم فانزلهم على الجلاء من المدينة مع انهم كانوا احرص شئ على المقام بدارهم بان يعودوا إلى الذمة وهؤلاء الطوائف كانوا أهل ذمة عاهدوا النبي على أن الدار دار الإسلام يجري فيها حكم الله ورسوله وانه مهما كان بين أهل العهد من المسلمين ومن هؤلاء المعاهدين من حدث فامره إلى النبي هكذا في كتاب الصلح فإذا كانوا نقدوا العهد فبعضا قتل وبعضا اجلا ولم يقبل منهم ذمة ثانيه مع حرصهم على بذلها علم ان ذلك لا يجب ولا يجوز أن يكون ذلك لكون ارض الحجاز لا يقر فيها أهل دينين ولا يمكن الكفار من المقام بها لأن هذا الحكم لم يكن شرع بعد بل قد توفي رسول الله ودرعه مرهونة عند أبي شحمة اليهودي بالمدينة وبالمدينة غيره من اليهود وبخيبر خلائق منهم وهي من الحجاز ولكن عهد النبي في مرضه ان تخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وان لا يبقى بها دينان فانفذ عهده في خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه

والفرق بين هؤلاء وبين المرتدين ان المرتد إذا عاد إلى الإسلام فقد أتى بالغاية التي يقاتل الناس حتى يصلوا إليها فلا يطلب منه غير ذلك وان ظننا ان باطنه خلاف ظاهره فانا لم نؤمر ان نشق عن قلوب الناس واما هؤلاء فان الكف عنهم إنما كان لأجل العهد ومن خفنا منه الخيانة جاز لنا ان ننبذ إليه العهد وان لم يجز نبذ العهد إلى من خفنا منه الردة فإذا نقضوا العهد فقد يكون ذلك امارة على عدم الوفاء وان أجابتهم إلى العهد إنما فعلوه خوفا وتقية ومتى قدروا غدروا فيكون هذا الخوف مجوزا لترك معاهدتهم على أخذ الجزية كما كان يجوز نبذ العهد إلى أهل الهدنة بطريق الأولى

وفي هذا دليل على انه لا يجب رد الأسير الناقض للعهد إلى الذمة بطريق الأولى فان النبي إذا لم يردهم إلى الذمة وقد طلبوها ممتنعين فان لا يردهم إليها إذا طلبوها موثقين أولى وقد اسر بني قريضة بعد نقض العهد فقتل مقاتلتهم ولم يردهم إلى العهد ولان الله تعالى قال " فمن نكث فانما ينكث على نفسه " فلو كان الناكث كلما طلب العهد منا وجب ان نجيبه لم يكن للنكث عقوبة يخافها بل ينكث إذا أحب لكن يجوز ان نعيدهم إلى الذمة لأن النبي وهب الزبير بن باطا القرظي لثابت بن قيس بن شماس هو وأهله وماله على أن يسكن ارض الحجاز وكان من أسرى بني قريضة الناكثين فعلم جواز إقرارهم في الدار بعد النكث واجلاء بني قينقاع بعد القدرة عليهم إلى اذرعات فعلم جواز المن عليهم بعد النكث وإذا جاز المن على الأسير الناكث وإقراره في دار الإسلام فالمفاداة به أولى

وسيرة النبي في هؤلاء الناقضين تدل على جواز القتل والمن على أن يقيموا بدار الإسلام وان يذهبوا إلى دار الحرب إذا كانت المصلحة في ذلك وفي ذلك حجة على من أوجب اعادتهم إلى الذمة وعلى من أوجب استرقاقهم

فإن قيل إنما أوجبنا اعادتهم إلى الذمة لأن خروجهم عن الذمة ومفارقتهم لجماعة المسلمين كخروجهم عن الإسلام ومفارقه جماعة المسلمين إذ نقض الأمان كنقض الايمان فإذا كان المرتد عن الإسلام لا يقبل منه ما يقبل من الكافر الاصلي بل اما الإسلام أو السيف فكذلك المرتد عن العهد لا يقبل منه ما يقبل من الحربي الاصلي بل اما

الإسلام أو العهد والا فالسيف ولانه قد صارت لهم حرمة العهد المتقدم فمنعت استرقاقهم كما منع استرقاق المرتد حرمة إسلامه المتقدم

وقلنا المرتد بخروجه عن الدين الحق بعد دخوله فيه تغلظ كفره فلم يقر عليه بوجه من الوجوه فتحتم قتله ان لم يسلم عصمه للدين كما تحتم غيره من الحدود حفظا للفروج وغير ذلك ولم يجز استرقاقه لأن فيه إقرارا له على الردة لا لتشرفه بدين قد بدله وناقض العهد قد نقض عهده الذي كان يرعى به فزالت حرمته وصار بايدي المسلمين من غير عقد ولا عهد فصار كحربي اسرناه واسوء حالا منه ومثل ذلك لا يجب المن عليه بجزية ولا بغيرها لأن الله تعالى أمرنا بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فمن اخذناه قبل ان يعطي الجزية لم يدخل في الآية لأنه لا قتال معه بل قد خيرنا الله إذا شددنا الوثاق بين المن والفداء ولم يوجب المن في حق ذمي ولا كتابي ولا ان الأسير قد صار للمسلمين فيه حق بامكان استبعاده والمفاده به فلا يجب عليهم بذل حقهم منه مجانا وجاز قتله لأنه كافر لا عهد له وانما هو باذل للعهد في حال لايجب معاهدته وذلك لا يعصم دمه

فان قال من منع من اعادته إلى الذمة وجعله فيئا هذا من على الأسير مجانا وذلك اضاعة لحق المسلمين فلم يجز اتلاف أموالهم

قلنا هذا مبني على انه لا يجوز المن على الأسير والمرضى جوازه كما دل عليه الكتاب والسنة ومدعي النسخ يفتقر إلى دليل

فإن قيل خروجه عن العهد موجب للتغليظ عليه فينبغي اما ان يقتل أو يسترق كما ان المرتد يغلظ حاله بتعين قتله فاذ جاز في هذا ما يجوز في الحربي الاصلي لم يبق بينهما فرق قلنا إذا جاز استرقاقه جاز إقراره والجزية بالجزية إذا لم يكن المانع حقا لله لأنه ليس في ذلك الا فوات ملك رقبته وقد يرى الإمام ان في إقراره بالجزية أو في المن عليه والمفادة به مصلحة أكثر من ذلك بخلاف المرتد فانه لا سبيل في استبقائه وبخلاف الوثني إذا جوزنا استرقاقه فان المانع من إقراره بالجزية حق لله وهو دينه وناقض العهد دينه قبل التقض وبعده سواء ونقضه إنما يعود ضرره على من يحاربه من المسلمين فكان الراي فيه إلى الأمير

فإن قيل فهلا حكيتم خلافا انه يتعين قتل هذا الناقض للعهد كما يتعين قتل غيره من الناقضين كما سيأتي وقد قال أبو الخطاب إذا حكمنا بنقض عهد الذمي فظاهر كلام الإمام أحمد انه يقتل في الحال قال وقال شيخنا يخير الإمام فيه بين أربعة أشياء فاطلق الكلام فيمن نقض العهد مطلقا وتبعه طائفة على الاطلاق ومن قيده قيده بان ينقضه بما فيه ضرر على المسلمين مثل قتالهم ونحوه فاما ان نقضه بمجرد اللحاق بدار الحرب فهو كالأسير ويؤيد هذا ما رواه عبد الله ابن أحمد قال سالت أبي عن قوم نصارى نقضوا العهد وقاتلوا المسلمين قال أرى ان لا تقتل الذرية ولا يسبون ولكن تقتل رجالهم قلت لأبي فان ولد لرجالهم أولاد في دار الحرب قال أرى ان يسبوا أولئك ويقتبوا

قلت لأبي فان هرب من الذرية إلى دار الحرب أحد فسياهم المسلمون ترى لهم ان يسترقوا قال الذرية لا يسترقون ولا يقتلون لأنهم لم ينقضوا هم إنما نقض العهد رجالهم وما ذنب هؤلاء

فقد أمر رحمه الله بقتل المقاتله من هؤلاء لمجرد النقض أو للنقض والقتال

قلنا قد ذكرنا فيما مضى نص أحمد على أن من نقض العهد وقاتل المسلمين فانه يجري عليه ما يجري على أهل الحرب من الأحكام وإذا اسر حكم فيه الإمام بما رأى

ونص رحمه الله فيمن لحق بدار الحرب على انه يسترق في رواية وعلى أن يعاد إلي ذمته في رواية أخرى فلم يجز ان يقال ظاهر كلامه في هذه الصورة يدل على وجوب قتله مع تصريحه بخلاف ذلك كيف والذين قالوا إنما اخوا من كلامه في مسائل شتى ليست هذه الصورة منها على أن أبا الخطاب وغيره لم يذكروا هذه الصورة ولم تدخل في كلامهم اعني صورة اللحاق بدار الحرب وانما ذكروا من نقض العهد بان ترك ما يجب عليه في العهد أو فعل ما ينتقض به عهده وهو في قبضة المسلمين

وذكروا ان ظاهر كلام الإمام أحمد تعين قتله وهو صحيح ممن فهم من كلامهم عموم الحكم في كل من انتقض عهده فمن فهم أدنى لا من كلامهم ومن ذكر اللحاق بدار الحرب وقتال المسلمين والامتناع من اداء الجزية وغير ذلك في النواقض فانه احتا ج ان يفرق بين الحاق بدار الحرب وبين غيره كما ذكرناه من نصوص الإمام أحمد وغيره من الائمة على الناقض الممتنع

والفرق بينهما من لم يوجد منه الا اللحاق بدار الحرب فانه لم يجن جناية فيها ضرر على المسلمين حتى يعاقب عليها بخصوصها وانما ترك العهد الذي بيننا وبينه فصار ككافر لا عهد له كما سياي إن شاء الله تعالى تقريره

ويجب ان يعلم ان من لحق بدار الحرب صار حربيا فما وجد منه من الجنايات بعد ذلك فهي كجنايات الحربي لا يؤخذ بها ان أسلم أو عاد إلى الذمة ولذلك قال الخرقي ومن هرب من ذمتنا إلى دار الحرب ناقضا للعهد عاد حربيا وكذلك أيضا إذا امتنعوا بدار الإسلام من الجزية أو الحكم ولهم شوكة ومنعة قاتلوا بها عن أنفسهم فانهم قد قاتلوا بعد ان انتقض عهدهم وصار حكمهم حكم المحاربين فلا يتعين قتل من استرق منهم بل حكمه إلى الإمام ويجوز استرقاقه كما نص الإمام أحمد على هذه الصورة بعينها لأن المكان الذي تحيزوا فيه وامتنعوا بمنزلة دار الحرب ولم يجنوا على المسلمين جناية ابتدؤوا بها للمسلمين وانما قاتلوا عن أنفسهم بعد ان تحيزوا وامتنعوا وعلم انهم محاربون فمن قال من أصحابنا ان من قاتل المسلمين يتعين قتله ومن لحق بدار الحرب خير الإمام فيه فانما ذاك إذا قاتلهم ابتداء قبل ان يظهر نقض العهد ويظهر الامتناع بان يعين أهل الحرب على قتال المسلمين ونحو ذلك فاما ان قاتل بعد ان صار في شوكة ومنعة يمتنع بها عن اراء الجزية فانه يصير كالحربي سواء كما تقدم ولهذا قلنا على الصحيح ان المرتدين إذا اتلفوا دما أو مالا بعد الامتناع لم يضمنوه وما اتلفوه قبل الامتناع ضمنوه وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في الفرق

وأما ما ذكره الإمام أحمد في رواية عبد الله فانما أراد به الفرق بين الرجال والذرية ليتبين ان الذرية لا يجوز قتلهم وان الرجال يقتلون كما يقتل أهل الحرب ولهذا قال في الذرية الذين ولدوا بعد نقض العهد يسبون ويقتلون وانما أراد انهم يسبون إذا كانوا صغارا ويقتلون إذا كانوا رجالا أي يجوز قتلهم كاهل الحرب الاصليين ولم يرد ان القتل يتعين لهم فانه على خلاف الإجماع والله أعلم

القسم الثاني إذا لم يكن ممتنعا عن حكم الإمام فمذهب أبي حنيفه ان مثل هذا لا يكون ناقضا للعهد ولا ينتقض عهد أهل الذمة عنده الا أن يكونوا أهل شوكة ومنعه فيمتنعوا بذلك على الإمام ولا يمكنه اجراء أحكامنا عليهم أو يلحقوا بدار الحرب لأنهم إذا لم يكونوا ممتنعين أمكن الإمام ان يقيم عليهم الحدود ويستوفي منهم الحقوق فلا يخرجون بذلك عن العصمة الثابته كمن خرج عن طاعة الإمام من أهل البغي ولم يكن له شوكة

وقال الإمام مالك لا ينتقض عهدهم الا ان يخرجوا ناقضين للعهد ومنعا للجزية وامتنعوا منا من غير ان يظلموا أو يلحقوا بدار الحرب فقد انتقض عهدهم ولكن يقتل عنده الساب والمستكره للمسلمة على الزنى وغيرهما واما مذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد فانهم قسموا الأمور المتعلقة بذلك قسمين

أحدهما يجب عليهم فعله

والثاني يجب عليهم تركه

فاما الأول فانهم قالوا إذا امتنع الذمي مما يجب عليه فعله وهو اداء الجزية أو جريان أحكام الملة عليه إذا حكم بها حاكم المسلمين انتقض العهد بلا تردد

قال الإمام أحمد في الذي يمنع الجزية ان كان واجدا اكره عليها واخذت منه وان لم يعطها ضربت عنقه وذلك لأن الله أمرنا بقتالهم إلى ان يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون والاعطاء له مبتدا وتمام فمبتدؤه الالتزام والضمان ومنتهاه الاداء والاعطاء ومن الصغار جريان أحكام المسلمين عليهم فمتى لم يتم اعطاء الجزية أو اعطوها وليسوا بصاغرين فقد زالت الغاية التي أمرنا بقتالهم إليها فيعود القتال ولان حقن دماؤهم إنما ثبت ببذل الجزية والتزام جريان أحكام الإسلام عليهم فمتى امتنعوا منه واتوا بضده صاروا كالمسلم الذي ثبت حقن دمه بالإسلام إذا امتنع منه واتى بكلمة الكفر

وعلى ماذكره الإمام أحمد فلا بد ان يمتنع من ذلك على وجه لايمكن استيفاؤه منه مثل ان يمتنع من حق بدني لايمكن فعله ونيابة عنه فيه دائما أو يمتنع من اداء الجزية ويعيب ماله كما قلنا في المسلم إذا امتنع من الصلاة اوالزكاة فاما ان قاتل الإمام على ذلك فذلك هو الغاية في انتقاض العهد كمن قاتل على ترك الصلاة أو الزكاة

وأما القسم الثاني وهو مايجب عليهم تركه فنوعان

أحدهما ما فيه ضرر على المسلمين

والثاني مالا فيه ضرر عليهم والأول قسمان أيضا

أحدهما مافيه ضرر على المسلمين في أنفسهم وأموالهم مثل ان يقتل مسلما أو يقطع الطريق على المسلمين أو يعين على قتال المسلمين أو يتجسس للعدو بمكاتبه أو كلام أو ايواء عين من عيونهم أو يزني بمسلمة اويصيبها باسم نكاح

والقسم الثاني مافيه اذى وغضاضة عليهم مثل ان يذكر الله أو كتابه أو رسوله أو دينه بالسوء

والنوع الثاني مالا ضرر عليهم فيه مثل إظهار اصواتهم بشعائر دينهم من الناقوس والكتاب ونحو ذلك ومثل مشابهة المسلمين في هياتهم ونحو ذلك قد تقدم القول في انتقاض العهد بكل واحد من هذه الاقسام

فاذا نقض الذمي العهد ببعضها وهو في قبضة الإمام مثل ان يزني بمسلمة أو يتجسس للكفار فالمنصوص عن الإمام أحمد انه يقتل قال في رواية حنبل كل من نقض العهد واحدث في الإسلام حدثا مثل هذا يعني مثل سب النبي رايت عليه القتل ليس على هذا اعطوا العهد والذمة

فقد نص على أن من نقض العهد واتى بمفسدة مما ينقض العهد قتل عينا وقد تقدمت نصوصه ان من لم يوجد منه الانقض العهد بالامتناع فانه كالحربي

وقال في مواضع متعدده في ذمي فجر بامراة مسلمة يقتل ليس على هذا صولحوا والمراة ان كانت طاوعته اقيم عليها الحد وان كان استكرهها فلا شئ عليها

وقال في يهودي زنى بمسلمة يقتل لأن عمر رضي الله عنه أتى بيهودي نخس بمسلمة ثم غشيها فقتله فالزنى اشد من نقض العهد قيل فعبد نصراني زنى بسلمة قال يقتل أيضا وان كان عبدا

وقال في مجوسي فجر بمسلمة يقتل هذا نقض العهد وكذلك ان كان من أهل الكتاب يقتل أيضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد فقيل له ترى عليه الصلب مع القتل قال إن ذهب رجل إلى حديث عمر كانه لم يعب عليه

وقال مهنا سالت أحمد عن يهودي أو نصراني فجر بامراة مسلمة ما يصنع به قال يقتل فاعدت عليه قال يقتل قلت ان الناس يقولون غير هذا قال كيف يقولن فقلت يقولون عليه الحد قال لا ولكن يقتل قلت له في هذا شيء قال نعم عن عمر انه أمر بقتله

وقال في رواية جماعة من أصحابه في ذمي فجر بمسلمة يقتل قيل فان أسلم قال يقتل هذا قد وجب عليه

فقد نص رحمه الله على وجوب قتله بكل حال سواء كان محصنا أو غير محصن وان القتل واجب عليه وان أسلم وانه لا يقام عليه حد الزنى الذي يفرق فيه بين المحصن وغير المحصن واتبع ذلك ما رواه خالد الحذاء عن ابن اشوع عن الشعبي عن عوف بن مالك ان رجلا نخس بامراة فتجللها فامر به عمر فقتل وصلب ورواه المروزي عن المجالد عن الشعبي عن سويد بن غفلة ان رجلا من أهل الذمة نخس بامراة من المسلمين بالشام وهي على الحمار فصرعها والقى نفسه عليها فراه عوف بن مالك فضربه فشجه فانطلق إلى عمر يشكو عوفا فاتى عوف عمر فحدثه حديثه فأرسل إلى المراة فسالها فصدقت عوفا فقال اخوتها قد شهدت اختنا فامر به عمر فصلب قال فكان أول مصلوب في الإسلام ثم قال عمر ايها الناس اتقوا الله في ذمة محمد ولا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له

وروى سيف في الفتوح هذه القصة عن عوف بن مالك مبسوطة وذكر فيها ان الحمار صرع المراة وان النبطي أرادها فامتنعت واستغاثت قال عوف فاخذت عصاي فمشيت في اثره فادركته فضربت راسه ضربة واعجز فرجعتالى منزلي وفيه فقال للنبطي اصدقني فأخبره

وقال الإمام أحمد أيضا في الجاسوس إذا كان ذميا قد نقض العهديقتل وقال في الراهب لا يقتل ولا يؤذى ولا يسال عن شيء الا ان يعلم منه انه يدل على عورات المسلمين ويخبرعن أمرهم عدوهم فيستحل حينئذ دمه

وقد نص الإمام أحمد على انه من نقض العهد بسب الله أو رسوله فانه يقتل

ثم اختلف أصحابنا بعد ذلك فقال القاضي وأكثر أصحابه مثل ابنه أبي الحسين والشريف أبي جعفر وابي المواهب العكبري وابن عقيل وغيره وطوائف بعدهم ان من نقض العهد بهذه الأشياء وغيرها فحكمه كحكم الأسير يخير الإمام فيه كما يخير بالأسير بين القتل والمن والاسترقاق والفداء وعليه ان يختار من الأربعة ما هو أصلح للمسلمين قال القاضي في المجرد إذا قلنا قد انتقض عهده فانا نستوفي منه الحقوق والقتل والحد والتعزي ر لأن عقد الذمة على أن تجري أحكامنا عليه وهذه أحكامنا فإذا استوفينا منه فالإمام مخير فيه بين القتل والاسترقاق ولا يرد إلى مامنه لأنه بفعل هذه الأشياء قد نقض العهد وإذا نقض عاد بمعناه الأول فكأنه رجل نصراني بدار الإسلام

ثم ان القاضي في الخلاف قال حكم ناقض العهد حكم الأسير الحربي يتخير الإمام فيه بين أربعة أشياء القتل والاسترقاق والمن والفداء لأن الإمام أحمد قد نص في الأسير على الخيار بين أربعة أشياء وحكم هذا حكم الأسير لأنه كافر حصل في أيدينا بغير أمان قال ويحمل كلام الإمام أحمد على القتل إذا راه الإمام صالحا واستثنى في الخلاف وهو الذي صنفه اخرا في ساب النبي خاصة قال فانه لا تقبل توبته ويتحتم قتله ولا يخير الإمام في قتله وتركه لأن قذف النبي حق لميت فلا يسقط بالتوبة كقذف الآدمي

وقد يستدل لهؤلاء من المذهب بعموم كلام الإمام أحمد وتعليله حيث قال في قوم من أهل العهد نقضوا العهد وخرجوا بالذرية إلى دار الحرب فبعث في طلبهم فلحقوهم فحاربوهم قال إذا نقضوا العهد فمن كان منهم بالغا فيجري عليه ما يجري على أهل الحرب من الأحكام إذا اسروا فامرهم إلى الإمام يحكم فيهم بما يراى وعلى هذا القول فللامام ان يعيدهم إلى الذمة إذا رأى المصلحة في ذلك كما له مثل ذلك في الأسير الحربي الاصلي

وهذا القول في الجملة هو الصحيح من قولي الإمام الشافعي والقول الآخر للشافعي ان من نقض العهد من هؤلاء يرد إلى مامنه ثم من أصحابه من استثنى سب النبي خاصة فجعله موجبا للقتل حتما دون غيره ومنهم من عمم الحكم هذا هو الذي ذكره أصحابه

وأما لفظه فانه قال في الام إذا أراد الإمام ان يكتب كتاب صلح على الجزية كتب وذكر الشروط إلى ان قال وعلى أن أحدا منكم ان ذكر محمدا أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي ان يذكره به فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة أمير المؤمنين وجميع المسلمين ونقض ما اعطي من الإمام وحل لامير المؤمنين ماله ودمه كما تحمل أموال أهل الحرب ودمائهم وعلى أن أحدا من رجالهم ان أصاب مسلمة بزنى أو اسم نكاح أو قطع الطريق على مسلم أو فتن مسلما عن دينه أو اعان المحاربين على المسلمين بقتال أو دلالة على عورات المسلمين أو ايواء لعيونهم فقد نقض عهده واحل دمه وماله وان نال مسلما بما دون هذا في ماله أو عرضه لزمه فيه الحكم

ثم قال فهذه الشروط اللازمه ان رضيها فان لم يرضها فلا عقد له ولا جزية

ثم قال وايهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا وكذلك إذا كان فعلا لم يقتل الا أن يكون في دين المسلمين ان من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا نقد عهد وان فعل مما وصفنا وشرط انه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ولكنه قال أتوب واعطي الجزية كما كنت اعطيها أو على صلح اجدده

عوقب ولم يقتل الا أن يكون فعل فعلا يوجب القصاص أو الحد اما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول فيعاقب عليه ولا يقتل

قال فان فعل أو قال ماوصفنا وشرط انه يحل دمه فظفر به فامتنع من أن يقول أسلم أو اعطي جزية قتل واخذ ماله فيئا وهذا اللفظ يعطي وجوب قتله إذا امتنع من الإسلام والعوده إلى الذمة

وسلك أبو الخطاب في الهداية والحلواني وكثير من متاخري أصحابنا مسلك المتقدمين في إقرار نصوص الإمام أحمد بحالها وهو الصواب فان الإمام أحمد قد نص على القتل عينا فيمن زنى بمسلمة حتى بعد الإسلام وجعل هذا اشد من نقض العهد باللحاق بدار الحرب ثم انه نص هناك على أن الأمر إلى الإمام كالأسير ونص هنا على أن على الإمام ان يقتل ولا يخفي لمن تامل نصوصه ان القول بالتخيير مطلقا مخالف لها

وأما أبو حنيفه فلا تجئ هذه المسالة على أصوله لأنه لا ينتقض عهد أهل الذمة عنده الا أن يكونوا أهل شوكة ومنعه فيمتنعون بذلك على الإمام ولا يمكنه اجراء أحكامنا عليهم

ومذهب مالك لا ينتقض عهدهم الا ان يخرجوا ممتنعين منا ما نعين للجزية من غير ظلم أو يلحقوا بدار الحرب لكن ماللكا يوجب قتل ساب الرسول عينا ونحوه وقال إذا استكره الذمي مسلمة على الزنى قتل ان كانت حره وان كانت امه عوقب العقوبة الشديده فمذهبه ايجاب القتل لبعض أهل الذمة الذين يفعلون ما فيه ضرر على المسلمين فمن قال انه يرد إلى مامنه قال لأنه حصل في دار الإسلام بأمان فلم يجز قتله حتى يرد إلى مامنه كما لو دخلها بأمان صبي وهذا ضعيف جدا لأن الله تعالى قال في كتابه " وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا ائمة الكفر انهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون الا تقاتلون قوما نكثوا ايمانهم " الآية فهذه الآية وان كانت نزلت في أهل الهدنه فعمومها لفظا ومعنى يتناول كل ذي عهد على ما لا يخفى وقد أمر سبحانه بالمقاتلة حيث وجدناهم فعم ذلك فامنهم وغير فامنه ولئن الله أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فمتى لم يعطوا الجزية أو لم يكونوا صاغرين جاز قتالهم من غير شرط على معنى الآية ولانه قد ثبت ان النبي أمر بقتل من راوه من رجال يهود صبيحة قتل ابن الأشرف وكانوا معه معاهدين ولم يأمر بردهم إلى مامنهم وكذلك لما نقضت بنو قينقاع العهد قاتلهم ولم يردهم إلى مامنهم ولما نقضت بنو قريضه العهد قاتلهم واسرهم وقتلهم ولم يبلغهم مامنهم وكذلك كعب بن الأشرف نفسه أمر بقتله غيلة ولم يشعره انه يريد قتله فضلا عن ان يبلغه مامنه وكذلك بنو النضير اجلاهم على أن لا ينقلوا الا ماحملته الابل الا الحلقة وليس هذا بابلاغ للمامن لأن من ابلغ مامنه يؤمن على نفسه وأهله وماله حتى يبلغ مامنه وكذلك سلام ابن أبي الحقيق وغيره من يهود لما نقضوا العهد قتلهم نوبة خبير ولم يبلغهم مامنهم ولانه قد ثبت ان أصحاب رسول الله عمر وابا عبيده ومعاذ ابن جبل وعوف بن مالك قتلوا النصراني الذي أراد ان يفجر بالمسلمة وصلبوه ولم ينكره منكر فصار إجماعا ولم يردوه إلى مامنه ولان في شروط عمر التي شرطها على النصارى فان نحن خالفا عن شيء شرطناه لكم وظمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما حل لاهل المعاندة والشقاق رواه حرب بإسناد صحيح وقد تقدم عن عمر وغيره من الصحابة مثل ابن بكر وعمر وابن عباس وخالد بن الوليد وغيرهم رضوان الله عليهم انهم قتلوا وامروا بقتل ناقض العهد ولم يبلغوه مامنه ولئن دمه كان مباحا وان عصمته الذمة فمتى ارتفعت الذمة

بقي على الاباحه ولان الكافر لو دخل دار الإسلام بغير أمان وحصل في أيدينا جاز قتله فالذي نقض العهد أولى ان يجوز قتله في دارنا واما من دخل بأمان صبي فانما ذاك لأنه يعتقد انه مستأمن فصارت له شبهة أمان وذلك يمنع قتله كمن وطء فرجا يعتقد انه حلال لاحد عليه وكذلك لا ينسب في دخوله دار الإسلام إلى تفريط واما هذا فانه ليس له أمان ولا شبهة أمان لأن مجرد حصوله في الدار ليس بشبهة أمان بالاتفاق بل هو مقدم على ما ينتقض به العهد مفرط في ذلك عالم انا لم نصالحه على ذلك فاي عذر له في حقن دمه حتى يلحقه بمامنه

نعم لو فعل من نواقض العهد ما لم يعلم انه بضرنا مثل ان يذكر الله تعالى أو كتابه بشئ يحسبه جائزا عندنا كان معذورا بذلك فلا ينقض عهده كما تقدم مالم يتقدم إليه كما فعل عمر بقسطنتين النصراني

وأما من قال انه كالأسير الحربي إذا حصل في أيدينا فقال لأنه كافر حلال الدم حصل في أيدينا وكل من كان كذلك فانه ماسور

فلنا ان نقتله كما قتل النبي عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث ولنا ان نمن عليه كما من النبي على ثمامه بن اثال الحنفي وعلى أبي عزة الجمحي ولنا ان نفادي به كما فادى النبي بعقيل وغيره ولنا ان نسترقه كما استرق المسلمون خلقا من الأسرى مثل أبي لؤلؤة قاتل عمر ومماليك العباس وغيرهم اما قتل الأسير واسترقاقه فما اعلم فيه خلافا لكن قد اختلف العلماء في المن عليه والمفادة هل هو باق أو منسوخ على ما هو معروف في مواضعه وهذا لأنه إذا نقض العهد عاد كما كان والحربي الذي لا عهد له إذا قدر عليه جاز قتله واسترقاقه ولانه ناقض للعهد فجاز قتله واسترقاقه كاللاحق بدار الحرب والمحارب في طائفة ممتنعه إذا اسر بل هذا أولى لأن نقض العهد بذلك متفق عليه فهو اغلظ فإذا جاز ان يحكم فيه بحكم الأسير ففي هذا أولى

نعم إذا انتقض العهد بفعل له عقوبة تخصه مثل ان يقتل مسلما أو يقطع الطريق عليه ونحو ذلك اقيمت عليه تلك العقوبة سواء كانت قتلا أو جلدا ثم ان بقي حيا بعد إقامة حد تلك الجريمة عليه صار كالكافر الحربي الذي لاحد عليه

ومن فرق بين سب رسول الله وبين سائر النواقض قال لأن هذا حق لرسول الله وهو لم يعف عنه فلا يجوز إسقاطه بالاسترقاق ولا بالتوبه كسب غير رسول إله وسيأتي إن شاء الله تحرير ماخذ السب

وأما من قال انه يتعين قتله إذا نقضه بما فيه مضرة على المسلمين دون ما إذا لم يوجد منه الا مجرد اللحاق بدار الحرب والامتناع عن المسلمين فلئن الله تعالى قال " وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلو ائمة الكفر انهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون الا تقاتلون قوما نكثوا ايمانهم وهموا باخراج الرسول وهم بدءوكم أول مره " إلى قوله " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشفي صدور قوم المؤمنين " فأوجب سبحانه قتال الذين نكثوا العهد وطعنوا في الدين ومعلوم ان مجرد نكث العهد موجب للقتال الذي كان واجبا قبل العهد واوكد فلابد ان يفيد هذا زيادة توكيد وما ذاك الا لأن الكافر الذي ليس بمعاهد يجوز الكف عنى قتاله إذا اقتضت المصلحه ذلك إلى وقت فيجوز استبقائه بخلاف هذا الذي نقض وطعن فانه يجب قتاله من غير استتابه وكل طائفة وجب قتالها من غير استيناء لفعل يبيح دم احادها فانه يجب قتل الواحد منهم إذا فعله وهو في أيدينا كالردة والقتل في المحاربة والزنى ونحو ذلك بخلاف البغي فانه لايبيح دم الطائفة الا إذا كانت ممتنعة وبخلاف الكفر الذي لاعهد معه فانه يجوز الاستيناء بقتل أصحابه بالجمله وقوله سبحانه يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم دليل على أن الله تعالى يريد الانتقام منهم وذلك لايحصل من الواحد الا إذا قتل ولا يحصل ان من عليه أو فودي به أو استرق

نعم دلت الآية على أن الطائفة الناقضه الممتنعة يجوز ان يتوب الله على من يشاء منها بعد ان يعذبها ويخزيها بالغلبة لأن ما حاق بهم من العذاب والخزي يكفي في ردعهم وردع أمثالهم عما فعلوه من النقض والطعن اما الواحد فلو لم يقتل بل من عليه لم يكن هناك رادع قوي عن قوله فعله

وأيضا فان النبي لما سبا بني قريضه قتل المقاتله واسترق الذرية الا امرأة واحده كانت قد القت رحى من فوق الحصن على رجل من المسلمين فقتلها لذلك وحديثها مع عائشه رضي الله عنها معروف ففرق بين من اقتصر على نقض العهد وبين من اذى المسلمين مع ذلك وكان لا يبلغه عن أحد من المعاهدين انه اذى المسلمين الا ندب إلى قتله وقد اجلى كثير ومن على كثير ممن نقض العهد فقط

وأيضا فان أصحاب رسول الله عاهدوا أهل الشام من الكفار ثم نقضوا العهد فقاتلوهم ثم عاهدوهم مرتين أو ثلاث وكذلك مع أهل مصر ومع هذا فلم يظفروا بمعاهد اذى المسلمين بطعن في الدين أو زني بمسلمة ونحو ذلك الا قتلوه وامر بقتل هؤلاء الاجناس عينا من غير تخير فعلم انهم فرقوا بين النوعين

وأيضا فان النبي أمر بقتل مقيس بن صبابه وعبد الله بن خطل ونحوهما مما ارتد وجمع إلى ردته قتل مسلم ونحوه من الضرر ومع هذا فقد ارتد في عهد أبي بكر رضي الله عنه خلق كثير وقتلوا من المسلمين عددا بعد الامتناع مثل ما قتل طليحه الاسدي عكاشه بن محصن وغيره ولم يؤخذ أحد منهم بقصاص بعد ذلك فإذا كان المرتد يؤخذ بما أصابه قبل الامتناع من الجنايات ولا يؤخذ بما فعله بعد الامتناع فكذلك الناقض للعهد لأن مكيهما خرج عما عصم به دمه هذا نقض ايمانه وهذا نقض أمانه وان كان في هذا خلاف بين الفقهاء في المذهب وغيره فانما قسنا على أصل ثبت بالسنة وإجماع الصحابه نعم المرتد إذا عاد إلى الإسلام عصم دمه الا من حد يقتل بمثله المسلم والمعاهد يقتل على ما فعله من الجنايات المضره بالمسلمين لأنه يصير مباحا بالنقض ولم يعد إلى شئ يعصم دمه فيصير كحربي تغلظ قتله يبين ذلك ان الحربي على عهد رسول كان إذا اذى المسلمين وضرهم قتله عقوبه له على ذلك ولم يمن عليه بعد القدرة عليه فهذا الذي نقض عهده بضرر الممسلمين أولى بذلك الا ترى انه لما من على أبي عزه الجمحي وعاهده ان لا يعين عليه فغدر به ثم قدر عليه بعد ذلك وطلب ان يمن عليه فقال لا تسمح سبلاتك بمكه وتقول سخرت بمحمد مرتين ثم قال لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين فلما نقض يمينه منعه ذلك من المن عليه لأنه ضر بعد ان كان عاهده على ترك ضراره فكذلك من عاهد من أهل الذمه انه لايؤذي المسلمين ثم اذاهم لو أطلقوا للدغوا من جحر واحد مرتين ولمسح المشرك سبلاته وقال سخرت بهم مرتين وأيضا فلانه إذا لحق بدار الحرب وامتنع لم يضر المسلمين وانما أبطل العقد الذي بينهم وبينه فصار كحربي أصلي اما إذا فعل ما يضر بالمسلمين من مقاتله أو زنى بمسلمه أو قطع الطريق أو جس أو نحو ذلك فانه يتعين قتله لأنه لو لم يقتل لخلن هذا المفاسد عن العقوبة عليها وتعطلت حدود هذه الجرائم ومثل هذه الجرائم لا يجوز العفو عن عقوبتها في حق المسلم فلئن لا يجوز العفو عن عقوبتها في حق الذمي أولى واحرى ولا يجوز ان يقام عليه حدها منذرا كما يقام على من بقيت ذمته الحد لأن صاحبها صار حربيا والحربي لايقم عليه الا القتل فتعين قتله وصار هذا كالأسير اقتضت المصلحه قتله لعلمنا انه متى افلت كان فيه ضرر على المسلمين أكثر من ضرر قتله فانه لا يجوز المن عليه ولا المفاداه به اتفاقا ولئن الواجب في مثل هذا اما القتل أو المن أو الاسترقاق أو الفداء فأما الاسترقاق فانه ابقى له على ذمته بنحو مما كان فانه كان تحت ذمتنا ناخذ منه الجزية بمنزلة العبد ولهذا قال بعض الصحابه لعمر في مسلم قتل ذميا اتقيد عبدك من اخيك بل ربما كان استبعاده انفع له من جعله ذميا واستبعاد مثل هذا لا تؤمن عاقبته وسوء مغبته واما المن عليه والمفادة به فابلغ في المفسدة واعادته إلى الذمة ترك لعقوبته بالكلية فتعين قتله

يوضح ذلك ان على هذا التقرير لا نعاقبه إذا عاد إلى الذمة الا بما يعاقب به المسلم أو الباقي على ذمته وهذا في الحقيقة يؤول إلى قول من يقول إن العهد لا ينتقض بهذه الأشياء فلا معنى لجعل هذه الأشياء ناقضه للعهد وايجاب اعادة أصحابها إلى العهد وان لا يعاقبوا إذا عادوا الا بما يعاقب به المسلم

ويؤيد ذلك ان هذه الجرائم إذا رفعت العهد وفسخته فلئن تمنع ابتداء بطريق الأولى لأن الدوام أقوى من الابتداء الا ترى ان العدة والردة تمنع ابتداء عقد النكاح دون دوامه فاذ كان وجود هذه المضرات يمنع دوام العقد فمنعه ابتدائه أولى واحرى وإذا لم يجز ابتداء عقد الذمه فلان لا يجوز المن عليه أولى ولأن الله تعالى أمر بقتل جميع المشركين الا ان المشدود وثاقه من المحاربين جعل لنا ان نعامله بما نراى والخارج عن العهد وليس بمنزلة الذي لم يدخل فيها كما ان الخارج عن الدين ليس بمنزلة الذي لم يدخل فيه فان الذي لم يدخل فيه باق على حاله والذي خرج من الايمان والأمان قد احدث فسادا فلا يلزم من احتمال الفساد الباقي المستصحب احتمال الفساد المحدث المتجدد لأن الدوام أقوى من الابتداء

يبين ذلك ان كل أسير كان يؤذي المسلمين مع كفره فان النبي قتله مثل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط ومثل أبي عزة الجمحي في المرة الثانية

وأيضا فانه إذا امتنع بطائفة أو بدار الحرب كان ما يتوفى من ضرره متعلقا بعزة ومنعته كالحربي الاصلي فإذا زالت المنعة باسره لم يبق منه ما يبقى الا من جهة كونه كافرا فقط فلا فرق بينه وبين غيره اما إذا ضر المسلمين واذاهم بين ظهرانيهم أو تمرد عليهم بالامتناع مما أو جبته الذمة عليه كان ضرره بنفسه من غير طائفة تمنعه وتنصره فيجب ازهاق نفسه التي لا عصمة لها وهي منشا الضرر وينبوع الأذى للمسلمين الا ترى ان الممتنع ليس فيما فعله اغراء للاحاد غير ذوي المنعة بخلاف الواحد فان فيما يفعله فتح باب الشر فان لم يعاقب فعل ذلك غيره وغيره ولا عقوبة لمن لا عهد له من الكفار الا السيف

وأيضا فان الممتنع منهم قد أمرنا بقتاله إلى ان يعطي الجزية عن يد وهو صاغر وامرنا بقتاله حتى إذا اثخناه فشد الوثاق فكل اية فيها ذكر القتال دخل فيها فينتظمه حكم غيره من الكفار الممتنعين ويجوز انشاء عقد ثان لهم واسترقاقهم ونحو ذلك اما من فعل جناية انتقض بها عهده وهو في أيدينا فلم يدخل في هذه العمومات لأنه لا يقاتل وانما يقتل إذ القتال للممتنع وإذا كان أخذ الجزية والمن والفداء إنما هو لمن قوتل هذا لم يقاتل فيبقى داخلا في قوله " فاقتلوا المشركين " غير داخل في اية الجزية والفداء

وأيضا فان الممتنع يصير بمنزلة الحربي والحربي تندرج جميع سيئاته تحت الحراب بحيث لو أسلم لم يؤخذ بضمان شئ من ذلك بخلاف الذي في أيدينا وذلك لأنه ما دام تحت أيدينا في ذمتنا فانه لا تاويل له في ضرر المسلمين وايذائهم اما اللحاق بدار الحرب فقد يكون له معه شبهة في دينه يرى انه إذا تمكن من الهرب هرب لا سيما وبعض فقهائنا يبيح له ذلك فإذا فعل ذلك بتاويل كان بمنزلة ما يتلفه أهل البغي والعدل حال القتال لاضمان فيه وما اتلفوه في غير حال الحرب ضمنته كل طائفة للأخرى فليس حال من تاول فيما فعله من النقض كحال من لم يتاول

وأيضا فان ما يفعله بالمسلمين من الضرر الذي ينتقض به عهده لا بد له من عقوبة لأنه يجوز اخلاء الجرائم التي تدعوا إليها الطباع من عقوبة زاجرة وشرع الزواج شاهد لذلك ثم لا يخلو اما ان تكون عقوبته من جنس عقوبة من يفعل ذلك من مسلم وذمي باقية ذمته أو دون ذلك أو فوق ذلك والأول باطل لأنه يلزم أن يكون عقوبة المعصوم والمباح سواء ولان الذي نقض العهد يستحق العقوبة على كفره وعلى ما فعله من الضرر الذي نقض به العهد وانما اخرت عقوبة الكفر لأجل العهد فإذا ارتفع العهد استحق العقوبة على الأمرين وبهذا يظهر الفرق بينه وبين من فعل ذلك وهو معصوم وبين مباح دمه لم يفعل ذلك لأن هذه المعاصي إذا فعلها المسلم فانها منجبرة بما يلتزمه من نصر المسلمين ومنفعتهم وموالاتهم فلم يتمحض مضرا للمسلمين لأن فيه منفعة ومضرة وخيرا وشرا بخلاف الذمي فانه إذا ضر المسلمين تمحض ضررا لزوال العهد الذي هو مظنة منفعته ووجود هذه الأمور المضرة وإذا لم يجز ان يعاقب بما يعاقب به المسلم فان لا يعاقب بما هو دونه أولى واحرى فوجب ان يعاقب بما هو فوق عقوبة المسلم ثم المسلم عقوبته تحتم قتله إذا فعل مثل هذه الأشياء فتحتم عقوبة ناقض العهد أولى لكن يختلفان في جنس العقوبة فهذا عقوبته القتل فيجب ان يتحتم وذلك عقوبته تارة القتل وتارة القطع وتارة الرجم أو الجلد

فصل[عدل]

إذا تلخصت هذه القاعدة فيمن نقض العهد على العموم فنقول شاتم رسول الله يتعين قتله كما ثققد نص عليه الائمة

أما على قول من يقول يتعين قتل كل من نقض العهد وهو في أيدينا أو يتعين قتل كل من نقض العهد بما فيه ضرر على المسلمين واذى لهم كما ذكرناه في مذهب الإمام أحمد وكما دل عليه كلام الشافعي الذي نقلناه أو نقول يتعين قتل من نقض العهد بسب الرسول وحده كما ذكره القاضي أبو يعلي وغيره من أصحابنا وكما ذكره طائفة من أصحاب الشافعي وكما نص عليه عامة الذين ذكروه في نواقض العهد وذكروا ان الإمام يتخير فيمن نقض العهد على سبيل الاجمال فانهم ذكروا في مواضع آخر انه يقتل من غير تخيير فظاهر

وأما على قول من يقول إن كل ناقض للعهد فان الإمام يتخير فيه كالأسير فقد ذكرنا انهم قالوا انه يستوفي منه الحقوق كالقتل والحد والتعزير لأن عقد الذمة على أن تجري أحكامنا عليه وهذه أحكامنا ثم إذا استوفينا منه ذلك فالإمام مخير فيه كالأسير وعلى هذا القول فيمكنهم ان يقولوا انه يقتل لأن سب رسول الله موجب للقتل حدا من الحدود كما لو نقض العهد بزنى أو قطع طريق فانه يقام عليه حد ذلك فيقتل ان أوجب القتل بل قد يقتل الذمي حدا من الحدود وان لم ينتقض عهده كما لو قتل ذميا آخر أو زنى بذمية فانه يستوفي منه القود وحد الزنى وعهده باق ومذهب مالك يمكن ان يوجه على هذا الماخذ ان كان فيهم من يقول لم ينتقض عهده

وبالجملة فالقول بان الإمام يتخير في هذا إنما يدل عليه عموم كلام بعض الفقهاء أو إطلاقه وكذلك القول بانه يلحق بمامنه واخذ مذاهب الفقهاء من الاطلاقات من غير مراجعة لما فسروا به كلامهم وما تقتضيه أصولهم يجر إلى مذاهب قبيحة فان تقرر في هذا خلاف فهو ضعيف نقلا لما قدمناه وتوجيها لما سنذكره

والدليل على انه يتعين قتله ولا يجوز استرقاقه ولا المن عليه ولا المفاداة به من طريقين

أحدهما ما تقدم من الأدلة على وجوب قتل ناقض العهد إذا نقضه بما فيه ضرر على المسلمين مطلقا

الثاني ما يخصه وهو من وجوه

أحدها ما تقدم من الآيات الدالة على وجوب قتل الطاعن في الدين

الثاني حديث الرجل الذي قتل المراة اليهودية على عهد رسول الله واهدر النبي دمها وقد تقدم من حديث على بن أبي طالب وابن عباس فلو كان سب النبي يرفع العهد فقط ولا يوجب القتل لكانت هذه المراة بمنزلة كافرة أسيرة وبمنزلة كافرة دخلت إلى دار الإسلام ولا عهد لها ومعلوم انه لا يجوز قتلها وانها تصير رقيقة للمسلمين بالسبي وهذه المراة المقتولة كانت رقيقة والمسلم إذا كانت له امة كافرة حربية لم يجز له ولا لغيره قتلها لمجرد كونها حربية بل تكون ملكا لسيدها ترد عليه إذا اخذها المسلمون ولا نعلم بين المسلمين خلافا ان المراة لا يجوز قتلها لمجرد الكفر إذا لم تكن معاهدة كما يقتل الرجل لذلك ولا نعلم أيضا خلافا في ان المراة إذا ثبت في حقها حكم نقض العهد فقط مثل ان تكون من أهل الهدنة وقد نقضوا العهد فانه لا يجوز قتل نسائهم واولادهم بل تسترق النساء والأولاد وكذلك الذمي إذا نقض العهد ولحق بدار الحرب فمن ولد له بعض نقض العهد لم يجز قتل النساء منهم والاطفال بل يكونون رقيقا للمسلمين وكذلك أهل الذمة إذا امتنعوا بدار الحرب ونحوها

فمن الفقهاء من قال العهد باق في ذريتهم ونسائهم كما هو المعروف عن الإمام أحمد وقال أكثرهم ينتقض العهد في الذرية والنساء أيضا ثم لايختلفون ان النساء لا يقتلن واصل ان الله تبارك وتعالى يقول في كتابه " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين " فامر بقتال الذين يقاتلون فعلم ان شرط القتال كون المقاتل مقاتلا

وفي الصحيحين عن ابن عمر قال وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله فنهى رسول الله عن قتل النساء والصبيان

وعن رباح بن ربيع انه خرج مع رسول الله في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد فمر رباح وأصحاب رسول الله على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة فوقفوا ينظرون إليها يعني ويعجبون من خلقها حتى لحقهم رسول الله على راحلته فانفرجوا عنها فوقف عليها رسول الله فقال ما كنت هذه لتقاتل فقال لاحدهم الحق خالدا فقل له لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا ولا امرأة رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة

وعن ابن كعب بن مالك عن عمه ان النبي حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان رواه الإمام أحمد

وفي الباب أحاديث مشهورة على أن هذا من العلم العام الذي تناقلته الامة خلفا عن سلف وذلك لأن المقصود بالقتال ان تكون كلمة الله هي العليا وان يكون الدين كله لله وان لا تكون فتنة أي لا يكون أحد يفتن أحدا عن دين الله فانما يقاتل من كان ممانعا عن ذلك وهم أهل القتال فاما من لا يقاتل عن ذلك فلا وجه لقتله كالمراة والشيخ الكبير والراهب ونحو ذلك ولان المراة تصير رقيقة للمسلمين ومالا لهم ففي قتلها تفويت لذلك عليهم من غير حاجة واضاعة المال لغير حاجة لا يجوز نعم لو قاتلت المراة جاز ان تقتل بالاتفاق لوجود المعنى فيها الذي جعل الله ورسوله عدمه مانعا من قتلها بقوله ما كانت هذه لتقاتل لكن هل يجوز ان تقصد بالقتل كما يقصد الرجل أو يقصد كفها كما يقصد كف الصائل فيه خلاف بين الفقهاء فإذا كان الحكم في المراة كذلك وقد اهدر النبي دم امرأة ذمية لأجل سبها مع ان قتلها لو كان حراما لأنكره النبي كما انكر قتل المراة التي وجدها مقتولة في بعض مغازيه وان لم تكن مضمونة بدية ولا كفارة فانه لا يسكت عن إنكار المنكر بل إقراره دليل على الجواز والاباحة علم ان السابة ليست بمنزلة الأسيرة الكافرة لأن تلك لا يجوز قتلها وعلم ان السب أوجب قتلها بنفسه كما يجب قتلها بالإجماع إذا قطعت الطريق وقتلت فيه وإذا زنت وكما يجب قتلها بالردة عند جماهير العلماء فإن قيل يجوز أن يكون سبها للنبي بمنزلة قتالها والمراة إذا قاتلت وكانت معاهدة انتقض عهدها كالرجل إذا فعل ذلك ويجوز ان تكون حينئذ بمنزلة المراة المقاتله إذا اسرت يتخير الإمام فيها بين أربعة أشياء كما يتخير في الرجل المقاتل إذا اسر

قلنا الجواب من وجوه

أحدها ان هذه المراة لم يصدر عنها الا مجرد شتم النبي بحضرة سيدها المسلم ولم تحض أحدا من المشركين على القتال ولا أشارت على الكفار براي تعين به على قتال المسلمين ومعلوم ان من لم يقاتل بيده ولا اعان على القتال بلسانه لم يجز ان ينسب إليه القتال بوجه من الوجوه ونحن لا ننكر ان من لا يجوز قتله كالراهب والأعمى والشيخ الفاني والمقعد ونحوهم إذا كان لهم راي في القتال وكلام يعينون به على قتال المسلمين كانوا بمنزلة المقاتلين لكن مجرد سب المراة لرسول الله عند قوم مسلمين ليس من هذا القبيل وانما هو اذى لله ولرسوله ابلغ من القتال من بعض الوجوه فلو لم يكن موجبا للقتل لكانت المراة الكافرة قد قتلت لأنها مقاتلة وهي لم تقاتل وذلك غير جائز فعلم انه موجب للقتل وان لم يكن قتالا وقد يكون قتالا إذا ذكر في معرض الحض على قتال المسلمين واغراء الكفار بحربهم فاما في هذه الواقعة فلم يكن من القتال المعروف

الجواب الثاني انا نسلم ان سب النبي بمنزلة محاربة المسلمين ومقاتلهم من بعض الوجوه كما كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه ان حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك يعني سب الأنبياء من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر بل هو من ابلغ أنواع الحراب كما تقدم تقريره لكن الجواب نوعان

أحدهما ما ينقطع مفسدته بالقتل تارة وبالاسترقاق أخرى وبالمن أو الفداء أخرى وهو حراب الكافر بالقتال يدا ولسانا فان الحربي والحربية المقاتلة إذا اسرا فاسترقا انقطع عن المسلمين ضررهما كما قد يزول بالقتل وكذلك لو من عليهما رجاء ان يسلما إذا بدت مخائل الإسلام أو رجاء ان يكفا عن المسلمين شر من خلفهما أو فودي بهما فهنا مفسدة المحاربة قد تزول بهذه الأمور

والثاني ما لاتزول مفسدته الا بإقامة الحد فيه مثل حراب المسلم أو المعاهدة في دار الإسلام بقطع الطريق ونحوه فان ذلك يتحتم إقامة الحد فيه باتفاق الفقهاء

فهذه الامة التي كانت تسب النبي قد حاربت في دار الإسلام فإن قيل تعاقب بالاسترقاق فهي رقيقة فلا يتغير حالها وإن قيل يمن عليها أو يفادي بها لم يجز لوجهين

أحدهما انها ملك مسلم ولا يجوز اخراجها عن ملكه مع حياتها

الثاني ان ذلك احسان إليها وازالة للرق عنها فلا يجوز أن يكون جزاء لسبها وحرابها فتعين قتلها

الجواب الثالث ان مفسدة السب لا تزول الا بالقتل لأنها متى اسنيقبت طمعت هي وغيرها في السب الذي هو من أعظم الفساد في الأرض كقاطع الطريق سواء بخلاف المراة المقاتله إذا اسرت فان مفسدة مقاتلتها قد زالت باسرها ولا يمكنها مع استرقاقها ان تقاتل ويمكنها ان تظهر السب والشتم فصار سبها بمنزلة الجنايات التي توجب العقوبات لا تزول مفسدتها الا بإقامة الحد فيها وعلم ان الذمية التي تسب ليست بمنزلة الحربية التي تقاتل إذا اسرت بل هي بمنزلة الذمية التي تقطع الطريق وتزني

الجواب الرابع ان الحديث فيه حكم وهو القتل وسبب وهو السب فيجب إضافة الحكم إلى السب والاصل اتحاد الحكم فمن زعم ان للسبب حكما اخرا احتاج إلى دليل وقياسه على الأسيرة لا يصح لما سيأتي إن شاء الله تعالى

الخامس انها لو كانت بمنزلة الأسيرة لكن النظر فيها للامام لا يجوز لاحاد الرعية تخير واحدة من الخصال الأربع فيها ومن قتلها ضمنها بقيمتها للمسلمين ان كان فيئا وللغانمين ان كانت مغنما فعلم ان القتل كان واجبا فيها عينا

يبقى ان يقال الحدود لا يقيمها الا الإمام أو نائبه وجوابه من وجوه

أحدها ان السيد له ان يقيم الحد على عبده بدليل قوله اقيموا الحدود على ما ملكت ايمانكم وقوله إذا زنت امة احدكم فليجلدها ولا اعلم خلافا بين فقهاء الحديث ان له ان يقيم عليه الحد مثل حد الزنى والقذف والشرب ولا خلاف بين المسلمين ان له ان يعزره واختلفوا هل له ان يقيم عليه قتلا أو قطعا مثل قتله لردته أو لسبه النبي وقطعه للسرقة وفيه عن الإمام أحمد روايتان

إحداهما يجوز وهو منصوص عن الشافعي

والأخرى لا يجوز كأحد الوجهين لأصحاب الشافعي وهو قول مالك وقد صح عن ابن عمر انه قطع يد عبد له سرق وصح عن حفصة انها قتلت جارية لها اعترفت بالسحر وكان ذلك براي ابن عمر فيكون الحديث حجة لمن يجوز للسيد ان يقيم الحد على عبده مطلقا وعلى هذا القول فالسيد له ان يقيم الحد على عبده بعلمه في المنصوص عن الإمام أحمد هو إحدى الروايتين عن مالك والنبي لم يطلب من سيد الامة بينة على سبه بل صدقة في قوله كانت تسبك وتشتمك ففي الحديث حجة لهذا القول أيضا

الوجه الثاني ان ذلك أكثر ما فيه انه افتئات على الإمام والإمام له ان يعفو عمن أقام حدا واجبا دونه

الوجه الثالث ان هذا وان كان حدا فهو قتل حربي أيضا فصار بمنزلة قتل حربي تحتم قتله وهذا يجوز قتله لكل أحد وعلى هذا يحمل قول ابن عمر في الراهب الذي قيل له انه يسب النبي فقال لو سمعته لقتلته

الوجه الرابع ان مثل هذا قد وقع على عهد رسول الله مثل المنافق الذي قتله عمر بدون اذن النبي لما لم يرض بحكمه فنزل القران بإقراره ومثل بنت مروان التي قتلها ذلك الرجل حتى سماه النبي ويفسده ليس بمنزلة من قتل لأجل معصية من زنى ونحوه 3 الجواب السادس ان الفقهاء قد اختلفوا في المراة المقاتله إذا اسرت هل يجوز قتلها ومذهب الشافعي انها لا تقتل فلو كانت هذه إنما قتلت لكونها قد قاتلت لم يجز ان تقتل بعد الاسر عنده فلا يصح ان يورد هذا السؤال على أصله

الدليل الثالث ان الساب لو صار بمنزلة الحربي فقط لكان دمه معصوما بأمان يعقد له أو ذمه أو هدنه ومعلوم ان شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدم والنفر الذين أرسلهم النبي إلى كعب بن الأشرف جاؤوا إليه على أن يستسلفوا منه وحادثوه وماشوه وقد امنهم على دمه وماله وكان بينه وبينهم قبل ذلك عهد وهو يعتقد بقاءه ثم انهم استاذنوه في ان يشموا ريح الطيب من راسه فاذن لهم مرة بعد أخرى وهذا كله يثبت الأمان فلو لم يكن في السب الا مجرد كونه كافرا حربيا لم يجز قتله بعد أمانة إليهم وبعد ان أظهروا له انهم مؤمنون له واستئذانهم اياه في إمساك يديه فعلم بذلك ان ايذاء الله ورسوله موجب للقتل لا يعصم منه أمان ولا عهد وذلك لا يكون الا فيما أوجب القتل عينا من الحدود كحد الزنى وحد قطع الطريق وحد المرتد ونحو ذلك فان عقد الأمان لهؤلاء لايصح ولا يصيرون مستأمنين بل يجوز اغتيالهم والفتك بهم لتعين قتلهم فعلم ان ساب النبي كذلك

يؤيد هذا ما ذكره أهل المغازي من قول النبي انه لو قر كما قر غيره ما اغتيل ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر ولم يفعل هذا أحد منكم الا كان السيف فان ذلك دليل على أن لا جزاء له الا القتل

الدليل الرابع قوله ان كان ثابتا من سب نبيا قتل ومن سب أصحابه جلد فأوجب القتل عينا على كل ساب ولم يخير بينه وبين غيره وهذا ما يعتمد في الدلالة ان كان محفوظا

الدليل الخامس ان النبي دعا الناس إلى قتل ابن الأشرف لأنه كان يؤذي الله ورسوله وكذلك كان يأمر بقتل من يسبه ويهجوه الا من عفا عنه بعد القدرة وامره للايجاب فعلم وجوب قتل الساب وان لم يجب قتل غيره من المحاربين وكذلك كانت سيرته لم يعلم انه ترك قتل أحد من السابين بعد القدرة عليه الا من تاب أو كان من المنافقين وهذا يصلح أن يكون امتثالا للامر بالجهاد وإقامة الحدود فيكون على الايجاب يؤيد ذلك ان في ترك قتله تركا لنصر الله ورسوله وذلك غير جائز

الدليل السادس أقاويل الصحابة فانها نصوص في تعيين قتله مثل قول عمر رضى الله عنه من سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فاقتلوه فامر بقتله عينا ومثل قول ابن عباس رضي الله عنهما أيما معاهد عاند فسب الله أو سب أحدا من الأنبياء عليهم السلام أو جهر به فقد نقض العهد فاقتلوه فامر بقتل المعاهد إذا سب عينا ومثل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيما كتب به إلى المهاجر في المراة التي سبت النبي لولا ما قد سبقتني فيها لامرتك بقتلها لأن حد الأنبياء لا يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر فبين ان الواجب كان قتلها عينا لولا فوات ذلك ولم يجعل فيه خيرة إلى الإمام لا سيما والسابة امرأة وذلك وحده دليل كما تقدم ومثل قول ابن عمر في الراهب الذي بلغه انه يسب النبي لو سمعته لقتلته ولو كان كالأسير الذي يخير فيه الإمام لم يجز لابن عمر اختيار قتله وهذا الدليل واضح

الدليل السابع ان ناقض العهد بسب النبي ونحوه حاله اغلظ من حال الحربي الاصلي كما ان حال المرتد اغلظ من حال الكافر الاصلي لأنه اجتمع فيه الحراب الاصلي وخروجه عما عاهدنا عليه بالطعن في الدين واذى الله ورسوله ومثل هذا يجب ان يعاقب عقوبة تزجر أمثاله عن مثل حاله والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى " ان شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لايؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لايتقون فاما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون " فامر الله رسوله إذا صادف الناكثين بالعهد في الحرب ان يشرد بهم غيرهم من الكفار بان يفعل بهم ما يتفرق به أولئك وقال تعالى " الا تقاتلون قوما نكثوا ايمانهم وهموا باخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة " فحض على قتال من نكث اليمين وهم باخراج الرسول وبدا بنقض العهد ومعلوم ان من سب الرسول فقد نقض العهد وفعل ما هو أعظم من الهم باخراج الرسول وبدئنا أول مرة ثم قال تعالى " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم " فعلم ان تعذيب هؤلاء واخزاءهم ونصر المؤمنين عليهم وشفاء صدورهم بالانتقام منهم وذهاب غيظ قلوبهم مما اذوهم به أمر مقصود لشارع مطلوب في الدين ومعلوم ان هذا المقصود لا يحصل ممن سب النبي واذى الله ورسوله وعباده المؤمنين الا بقتله لا يحصل بمجرد استرقاقه ولا بالمن عليه والمفادة به

وكذلك أيضا تنكيل غيره من الكفار الذين قد يردون إظهار السب لا يحصل على سبيل التمام الا بذلك ولا يعارض هذا من نقض العهد في طائفة ممتنعة إذا اسرنا واحدا منهم لأن قتال أولئك والظهور عليهم يحصل هذا المقصود بخلاف ما كان في أيدينا قبل السب وبعده فان لم نحدث فيه قتالا لم يحصل هذا المقصود

وجماع ذلك ان ناقض العهد لا بد له من قتال أو قتل إذ لا يحصل المقصود الا بذلك وهذا الوجه وان كان فيه عموم لكل من نقض العهد بالأذى لكن ذكرناه هنا لخصوص الدلالة أيضا فانها تدل عموما وخصوصا

الدليل الثامن أن الذمي إذا سب النبي فقد صدر منه فعل تضمن أمرين أحدهما انتقاض العهد الذي يننا وبينه والثاني جنايته على عرض رسول الله وانتهاكه حرمته ويذاء الله تعالى ورسوله والمؤمنين وطعنه في الدين وهذا معنى زائد على مجرد كونه كافرا قد نقض العهد

ونظير ذلك ان ينقضه بالزنى بمسلمة أو بقطع الطريق على المسلمين وقتلهم واخذ أموالهم أو بقتل مسلم فان فعله مع كونه نقضا للعهد قد تضمن جناية أخرى فان الزنى وقطع الطريق والقتل من حيث هو هو جناية ونقض العهد جناية كذلك هنا سب رسول الله من حيث هو هو جناية منفصله عن نقض العهد له عقوبة تخصه في الدنيا والآخرة زائدة على مجرد عقوبة التكذيب بنبوته والدليل عليه قوله سبحانه " ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة واعد لهم عذابا مهينا " فعلق العنة في الدنيا والآخرة والعذاب المهين بنفس اذى الله ورسوله فعلم انه موجب ذلك وكذلك قوله تعالى " وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا ائمة الكفر انهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون " وقد تقدم تقريره

يوضح ذلك ان النبي لما دخل مكة امن الناس الذين كانوا يقاتلونه قبل ذلك والذين نقضوا العهد الذي كان بينه وبينهم وخانوه الا نفرا منهم القينتان اللتان كانتا تغنيان بهجائه وساره مولاة بني عبد المطلب التي كانت تؤذيه بمكة فإذا كان قد أمر بقتل التي كانت تهجوه من النساء مع ان قتل المراة لا يجوز الا إذا قاتلت وهو قد امن جميع أهل مكة من كان قد قاتل ونقض العهد من الرجال والنساء علم بذلك ان الهجاء جناية زائدة على مجرد القتال والحراب لأن التفريق بين المتامثلين لا يقع من النبي كما انه أمر بقتل ابن خطل لأنه كان قد قتل مسلما ولانه كان مرتدا ولانه كان يأمر بهجائه وكل واحد من القتل الردة والأمر بهجائة جناية زائدة على مجرد الكفر والحراب مما يبين ذلك انه قد كان أمر بقتل من كان يؤذيه بعد فتح مكة مثل ابن الزبعري وكعب بن زهير والحويرث بن نقيد وابن خطل وغيرهم مع أمانه لسائر أهل البلد وكذلك اهدر دم أبي سفيان بن الحارث وامتنع من ادخاله عليه وادخال عبد الله بن أبي امية لما كان يقعان في عرضه وقتل ابن أبي معيط والنضر بن الحارث دون غيرهما من الأسرى وسمى من يبذل نفسه في قتله ناصرا لله ورسوله وكان يندب إلى قتل من يؤذيه ويقول من يكفيني عدوي وكذلك أصحابه يسارعون إلى قتل من اذاه بلسانه وان كان أبا أو غيره وينذرون قتل من ظفروا به من هذا الضرب وقد تقدم من بيان ذلك ما فيه بلاغ ومن المعلوم ان هؤلاء لو كانوا بنمزلة سائر الكفار الذين لاعهد لهم لم يقتلهم ولم يأمرهم بقتلهم في مثل هذه الاوقات التي امن فيها الناس وكف عمن هو مثلهم

فعلم ان السب جناية زائدة على الكفر وقد تقدم تقرير ذلك في المسالة الأولى على وجه يقطع العاقل ان سب الرسول جناية لها موقع يزيد على عامة الجنايات بحيث يستحق صاحبها مع العقوبة ما لايستحقه غيره وان كان حافرا حربيا مبالغا في محاربة المسلمين وان وجوب الانتصار ممن كان هذه حاله كان مؤكدا في الدين والسعي في إهدار دمه من أفضل الاعمال وأوجبها واحقها بالمسارعة عليه وابتغاء رضوان الله تعالى فيه وابلغ الجهاد الذي كتبه الله على عباده وفرضه عليهم ومن تامل الذين اهدر النبي دماءهم يوم الفتح واشتد غضبه عليهم حتى قتل بعضهم في نفس الحرم واعرض عن بعضهم وانتظر قتل بعضهم وجد لهم جرائم زائدة على الكفر والحراب من ردة وقتل ونحو ذلك وجرم أكثرهم إنما كان من سب رسول الله واذاه بالسنتهم فاي دليل اوضح من هذا

على أن سبه وهجائه جناية زائدة على الكفر والحراب لا يدخل في ضمن الكفر كما تدخل سائر المعاصي في ضمن الكفر وعلى أن المعاهدين إذا نقضوا العهد وفيهم من سب النبي كان للسب عقوبة زائدة على عقوبة مجرد نقض العهد ومما يدل على أن السب جناية زائدة على كونه كفرا وحرابا وان كان متضمنا لذلك ان النبي قد كان يعفوا عمن يؤذيه من المنافقين كما تقدم بيانه وقد كان له ان يقتلهم كما تقدم ذكره في حديث أبي بكر وغيره ولو كان السب مجرد ردة لوجب قتله كالمرتد يجب قتله فعلم انه قد يغلب في السب حق النبي بحيث يجوز له العفو عنه

ومما يدل على أن السب جناية مفردة ان الذمي لو سب واحدا من المسلمين أو المعاهدين ونقض العهد لكان سب ذلك الرجل جناية عليه يستحق بها من العقوبة ما لايستحقه بمجرد نقض العهد فيكون سب رسول الله دون سب واحد من البشر

ومما يدل على ذلك ان ساب النبي وشاتمه يؤذيه شتمه وهجائه كما يؤذيه التعرض لدمه وماله قال الله تعالى لما ذكر الغيبة " ايحب احدكم ان ياكل لحم اخيه ميتا فكرهتموه " فجعل الغيبة التي هي كلام صحيح بمنزلة اكل لحم المغتاب ميتا فكيف ببهتانه وسب النبي لا يكون قط الا بهتانا

وفي الصحيحين عن النبي انه قال لعن المؤمن كقتله وكما يؤذي ذلك غيره من البشر

وأيضا فان ذلك يؤذي جميع المؤمنين ويؤذي الله سبحانه وتعالى ومجرد الكفر والمحاربة لا يحصل بهما من اباه ما يحصل بالوقيعة في العرض مع المحاربة فلو قيل إن الواقع في عرضه ممن انتقض عهده بمنزله غيره ممن انتقض عهده لكانت الوقيعة في عرض رسول الله واذاه بذلك جرما لا جزاء له من حيث خصوص النبي وخصوص اذاه كما لو قتل رجل نبيا من الأنبياء فان لقتله من العقوبة ما لايستحق على مجرد الكفر والمحاربة وهذا كله ظاهر لا خفاء به فان دماء الأنبياء واعراضهم اجل من دماء المؤمنين واعراضهم فإذا كان دماء غيرهم واعراضهم لا تندرج عقوبتها في عقوبة مجرد نقض العهد فان لا تندرج عقوبة دمائهم واعراضهم في عقوبة نقض العهد بطريق الأولى

مما يوضح ذلك ان سب النبي تعلق به عدة حقوق حق الله سبحانه من حيث كفر برسوله وعادى أفضل أوليائه وبارزه بالمحاربة ومن حيث طعن في كتابه ودينه فان صحتهما موقوفه على صحة الرساله ومن حيث طعن في الوهيته فان الطعن في الرسول طعن في المرسل وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى وإنكار لكلامه وامره وخبره وكثير من صفاته وتعلق به حق جميع المؤمنين من هذه الامة ومن غيرها من الامم فان جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصا امته فان قيام أمر دنياهم ودينهم واخرتهم به بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بواسطته وسفارته فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم واباءهم وابناءهم وسب جميعهم كما انه أحب إليهم من أنفسهم واولادهم وابائهم والناس اجمعين وتعلق به حق رسول الله من حيث خصوص نفسه فان الانسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله وأكثر مما يؤذيه الضرب بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه خصوصا من يجب عليه ان يظهر للناس كمال عرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة فان هتك عرضه قد يكون أعظم عنده من قتله فان قتله لا يقدح عند الناس في نبوته ورسالته وعلة قدره كما ان موته لا يقدح في ذلك بخلاف الوقيعة في عرضه فانها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النفره عنه وسوء الظن به ما يفسد عليهم ايمانهم ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة فكيف يجوز ان يعتقد عاقل ان هذه الجناية بمنزلة ذمي كان في ديار المسلمين فلحق ببلاد الكفار مستوطنا لها

مع ان ذلك اللحاق ليس في خصوصه حق لله ولا لرسوله ولا لاحد من المسلمين أكثر ما فيه ان الرجل كان معتصما بحبلنا فخرق تلك العصمة فانما اضر بنفسه لا بأحد من المؤمنين

فعلم بذلك ان السب فيه من الأذى لله ولرسوله ولعباده المؤمنين ما ليس في الكفر والمحاربة وهذا ظاهر إن شاء الله تعالى

إذا ثبت ذلك فنقول هذه الجناية جناية السب موجبها القتل لما تقدم من قوله من لكعب بن الأشرف فانه قد ذاى الله ورسوله فعلم ان من اذى الله ورسوله كان حقه ان يقتل ولما تقدم من إهدار النبي دم المراة السابه مع انها لاتقتل لمجرد نقض العهد ولما تقدم من أمره بقتل من كان يسبه مع إمساكه عمن هو بمنزلته في الدين وندبه الناس إلى ذلك والثناء على من سارع في ذلك ولما تقدم من الحديث المرفوع ومن أقوال الصحابة رضي الله عنهم ان من سب نبيا قتل ومن سب غير نبي جلد

والذي يختص بهذا الموضع ان نقول هذه الجناية اما أن يكون موجبها بخصوصها القتل أو الجلد أو لاعقوبة لها بل تدخل عقوبتها في ضمن عقوبة الكفر والحراب

وقد أبطلنا القسم الثالث والقسم الثاني باطل أيضا لوجوه

أحدها انه لو كان الأمر كذلك لكان الذمي إذا نقض العهد بسب النبي ينبغي ان يجلد لسب النبي لأنه حق ادمي ثم يكون كالكافر الحربي يقتل للكفر ومعلوم ان هذا خلاف ما دلت عليه السنة وإجماع الصحابة فانهم اتفقوا على القتل فقط فعلم ان موجب كلا الجنايتين القتل والقتل لا يمكن تعدده وكذلك كان ينبغي ان يجلد المرتد لحق النبي ثم يقتل لردته كمرتد سب بعض المسلمين فانه يستوفى منه حق الآدمي ثم يقتل

إلا ترى ان السارق يقطع لسرقته التي هي حق لله ويرد المال المسروق إذا كان باقيا بالاتفاق ويغرم بدله ان كان تالفا عند أكثر الفقهاء ويدخل حق الآدمي في حق الله مع ايجاد السبب

الثاني انه لو لم يكن موجبه القتل وانما القتل موجب كونه ردة لم يجز للنبي العفو عنه لأن إقامة الحد على المرتد واجبة بالاتفاق ولا يجوز العفو عنه فلما عفا عنه النبي في حياته دل على السب نفسه يوجب القتل حقا للنبي ويدخل فيه حق الله تعالى ويكون سابه وقاذفه بمنزلة ساب غيره وقاذفه قد اجتمع في سبه حقان حق لله وحق لآدمي فلو ان المسبوب والمقذوف عفا عن حقه لم يعزر القاذف والساب على حق الله بل دخل في العفو كذلك النبي إذا عفا عمن سبه دخل في عفوه عنه حق الله فلم يقتل لكفره كما لا يعزر ساب غيره لمعصيته مع ان المعصية المجردة عن حق ادمي توجب التعزيز

يوضح ذلك انه قد ثبت كان له ان يقتل من سبه كما في حديث أبي بكر وحديث الذي أمر بقتله لما كذب عليه وحديث الشعبي في قتل الخارجي وكما دلت عليه أحاديث قد تقدم ذكرها وثبت ان له ان يعفو عنه كما دل عليه حديث ابن مسعود وابي سعيد وجابر وغيرهم فعلم ان سبه يوجب القتل كما ان سب غيره يوجب الجلد وان تضمن سبه الكفر بالله كما تضمن سب غيره المعصية لله ويكون الكفر والحراب نوعين

إحداهما حق خالص لله تعالى والثاني ما فيه حق لله وحق لآدمي كما ان المعصية فسمان أحدهما حق خالص لله

والثاني حق لله ولآدمي ويكون هذا النوع من الكفر والحراب بمنزلة غيره من الأنواع في استحقاق فاعله القتل ويفارقه في الاستيفاء فانه إلى الآدمي كما ان المعصية بسب غير النبيين بمنزلة غيرها من المعاصي في استحقاق فاعلها الجلد وتفارق غيرها في ان الاستيفاء فيها إلى الآدمي

يوضح هذا ان الحق الوجب على الانسان قد يكون حقا محضا لله وهو ما إذا كفر أو عصى على وجه لا يؤذي أحدا من الخلق فهذا إذا وجب فيه حد لم يجز العفو عنه بحال وقد يكون حقا محضا لآدمي بمنزلة الديون للانسان على غيره من ثمن مبيع أو بدل قرض ونحو ذلك من الديون التي ثبتت بوجه مباح فهذا لا عقوبة فيه بوجه وانما يعاقب على الدين إذا امتنع عن وفائه والامتناع معصية وقد يكون حقا لله ولآدمي مثل حد القذف والقود وعقوبة السب ونحو ذلك فهذه الأمور فيها العقوبة من الحد والتعزيز والاستيفاء فيها مفوض إلى الاختيار الآدمي ان أحب استوفى القود وحد القذف وان شاء عفا فسب النبي لو كان من القسم الأول لم يجز العفو عنه للنبي ولو كان من القسم الثاني لم يكن فيه عقوبة بحال فتعين أن يكون من القسم الثالث وقد ثبت ان عقوبته القتل فعلم ان سب النبي من حيث هو سب له وحق لآدمي عقوبته القتل كما ان سب غيره من حيث هو سب له وحق لآدمي عقوبته الجلد أم حدا أو تعزيرا وهذا معنى صحيح واضح

وسر ذلك انه إذا اجتمع الحقان فلابد من عقوبة لأن معصية الله توجب العقوبة اما في الدنيا أو في الآخرة فإذا كان الاستيفاء جعل الله ذلك إلى المستحق من الآدميين لأن الله اغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيره فهو كله للذي أشرك كذلك من عمل عملا لغيره فيه عقوبه جعل عقوبتة كلها لذلك الغير وكانت عقوبته على معصية الله تمكين ذلك الانسان من عقوبته

وتمام هذا المعنى ان يقال بعد موت النبي يتعين القتل لأن المستحق لا يمكن منه المطالبة والعفو كما ان من سب أو شتم أحدا من اموات المسلمين عزر على ذلك الفعل لكونه معصية لله وان كان في حياته لا يؤدب حتى يطلب إذا علم

الوجه الثالث ان سب النبي لا يجوز أن يكون من حيث هو سب بمنزلة سب غيره من المؤمنين لأنه يباين سائر المؤمنين من امته في عامة الحقوق فرضا وخطرا وغيرهما مثل وجوب طاعته ووجوب محبته وتقديمه في المحبة على جميع الناس ووجوب تعزيره وتوقيره على

وجه لا يساويه فيه أحد ووجوب الصلاة عليه والتسليم إلى غيره ذلك من الخصائص التي لا تحصى وفي سبه ايذاء لله ولرسوله ولسائر المؤمنين من عباده واقل ما في ذلك ان سبه كفر ومحاربة وسب غيره ذنب ومعصية ومعلوم ان العقوبات على قدر الجرائم فلو سوى بين سبه وسب غيره لكان تسوية بين الشيئين المتباينين وذلك لا يجوز فإذا كان سب غيره مع كونه معصية يوجب الجلد وجب أن يكون سبه مع كونه كفرا يوجب القتل ويصير ذلك نوعا من أنواع الكفر من وجه ونوعا من أنواع السب من وجه فمن حيث هو من جنس الكفر أوجب القتل ومن حيث هو من جنس السب كان حقا لآدمي

الوجه الرابع ان النبي لم يعاقب أحدا منهم الا بالقتل ولو كان هو بانفراده لا يوجب القتل وانما يوجب ما دونه وهو قد عفا عن عقوبته في ما دونه وامن من فعل ذلك ء لكان صاحب ذلك لا ينبغي قتله لأن ذنبه الذي يغتصه لا يقتضي القتل

فإن قيل فقتله بمجموع الأمرين

قلنا وهذا المقصود لأن السب حيث كان فانه مستلزم لكفر لا عهد له الدليل التاسع أن سب رسول الله مع كونه من جنس الكفر والحراب أعظم من مجرد الردة عن الإسلام فإنه من المسلم ردة وزيادة كما تقدم تقريره فإذا كان كفر المرتد قد تغلظ لكونه قد خرج عن الدين بعد أن دخل فيه فأوجب القتل عينا فكفر الساب الذي آذى الله ورسوله وجميع المؤمنين من عباده أولى أن يتغلظ فيوجب القتل عينا لأن مفسدة السب في أنواع الكفر أعظم من مفسدة مجرد الردة

وقد اختلف الناس في قتل المرتدة وإن كان المختار قتلها ونحن قد قدمنا نصوصا عن النبي وأصحابه في قتل السابة الذمية وغير الذمية والمرتد يستتاب من من الردة ورسول الله وأصحابه قتلوا الساب ولم يستتيبوه فعلم أن كفره أغلظ فيكون تعيين قتله أولى

الدليل العاشر أن تطير الأرض من إظاهر سب رسول الله وأجب حسب الإمكان لأنه من تمام ظهور دين الله وعلو كلمة الله وكون الدين كله لله فحيث ما ظهر سبه ولم ينتقم ممن فعل ذلك لم يكن الدين ظاهرا ولا كلمة الله عالية وهذا كما يجب تطهيرها من الزناة والسراق وقطاع الطريق بحسب الإمكان بخلاف تطهيرها من أصل الكفر فإنه ليس بواجب لجواز إقرار أهل الكتابين على دينهم بالذمة لأن إقرارهم بالذمة ملتزمين جريان حكم الله ورسوله عليهم لا ينافي إظاهر الدين وعلو الكلمة وإنما تجوز مهادنة الكافر وأمانه عند العجز أو

المصلحة المرجوة في ذلك وكل جناية وجب تطهير الأرض منها بحسب القدرة يتعين عقوبة فاعلها العقوبة المحدودة في الشرع إذا لم يكن لها مستحق معين فوجب ان يتعين قتل هذا لأنه ليس لهذه الجناية مستحق معين لأنه تعلق بها حق الله ورسوله وجميع المؤمنين وبهذا يظهر الفرق بين الساب وبين الكافر لجواز إقرار ذلك على كفره مستخفيا به ملتزما حكم الله ورسوله بخلاف المظهر للسب

الدليل الحادي عشر ان قتل ساب النبي وان كان قتل كافر فهو حد من الحدود ليس قتلا على مجرد الكفر والحراب لما تقدم من الأحاديث الداله على انه جناية زائدة على مجرد الكفر والمحاربة ومن أن النبي وأصحابه أمروا فيه بالقتل عينا وليس هذا موجب الكفر والمحاربة ولما تقدم من قول الصديق رضي الله عنه في التي سبت النبي ان حد الأنبياء ليس يشبه الحدود ومعلوم ان قتل الأسير الحربي ونحوه من الكفار والمحاربين لا يسمى حدا ولان ظهور سبه في ديار المسلمين فساد عظيم أعظم من جرائم كثيرة فلابد ان يشرع له حد يزجر عنه من يتعاطاه فان الشارع لا يهمل مثل هذه المفاسد ولا يخليها من الزواجر وقد ثبت ان حده القتل بالسنة والإجماع وهو حد لغير معين حي لأن الحق فيه لله تعالى ولرسوله وهو ميت ولكل مؤمن وكل حد يكون بهذه المثابة فانه يتعين إقامته بالاتفاق

الدليل الثاني عشر ان نصر رسول الله وتعزيره وتوقيره واجب وقتل سابه مشروع كما تقدم فلو جاز ترك قتله لم يكن ذلك نصرا له ولا تعزيرا ولا توقيرا بل ذلك أقل نصره لأن الساب في أيدينا ونحن متمكنون منه فان لم نقتله مع ان قتله جائز لكان ذلك غاية في الخذلان وترك التعزير له والتوقير وهذا ظاهر

واعلم ان تقرير هذه المسالة له طرق متعددة غير ما ذكرناه ولم نطل الكلام هنا لأن عامة الدلائل المذكورة في المسألة الأولى تدل على وجوب قتله لمن تأملها فاكتفينا بما ذكرناه هناك وان كان القصد في المسالة الأولى بيان جواز قتله مطلقا وهنا بيان وجوب قتله مطلقا وقد اجبنا هناك عمن ترك النبي قتله منم أهل الكتاب والمشركين السابين وبينا ان ذلك إنما كان في أول الأمر حين كان مأمورا بالعفو والصفح قبل ان يؤمر بقتال الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية ويجاهد الكفار والمنافقين وانه كان له ان يعفو عمن سبه لأن هذه الجريمة غلب فيها حقه وبعد موته لا عافي عنها والله أعلم

المسالة الثالثة

انه يقتل ولا يستتاب سواء كان مسلما أو كافرا

قال الإمام أحمد في رواية حنبل كل من شتم النبي وتنقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل وارى ان يقتل ولا يستتاب

وقال كل من نقض العهد واحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رايت عليه القتل ليس على هذا اعطوا العهد والذمة

وقال عبد الله سألت أبي عمن شتم النبي يستتاب قال قد وجب عليه القتل ولا يستتاب خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي ولم يستتبه

هذا مع نصه انه مرتد ان كان مسلما وانه قد نقض العهد ان كان ذميا واطلق في سائر اجوبته انه يقتل ولم يأمر فيه باستتابة هذا مع انه لا يختلف نصه ومذهبه ان المرتد المجرد يستتاب ثلاثا الا أن يكون ممن ولد على الفطره فقد روي عنه انه يقتل ولا يستتاب والمشهور عنه استتابة جميع المرتدين واتبع في استتابته ما صح في ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابي موسى وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم انهم أمروا باستتابة المرتد في قضايا متفرقة وقدرها عمر رضي الله عنه ثلاثا وفسر الإمام أحمد قول النبي من بدل دينه فاقتلوه بأنه المقيم على التبديل الثابت عليه فإذا تاب لم يكن مبدلا وهو راجع يقول قد أسلمت

وهل استتابة المرتد واجبه أو مستحبة؟ فيه عن الإمام أحمد روايتان وكذلك الخرقي أطلق القول بأن من قذف أم النبي قتل مسلما كان أو كافرا واطلق أبو بكر انه يقتل من سب النبي وكذلك غيرهما مع انهم في المرتد يذكرون انه لايقتل حتى يستتاب فإن من تاب السب بان يسلم أو يعود إلى الذمة ان كان كافرا أو يعود إلى الإسلام ان كان مسلما ويقلع عن السب فقال القاضي في المجرد وغيره من أصحابنا والردة تحصل بجحد الشهادتين وبالتعريض بسب الله تبارك وتعالى وبسب النبي الا ان الإمام أحمد قال لا تقبل توبة من سب النبي لأن المعرة تلحق النبي بذلك وكذلك وقال ابن عقيل قال أصحابنا في سب النبي انه لا تقبل توبته من ذلك لما يدخل من المعرة بالسب على النبي وهو حق لآدمي لم يعلم إسقاطه

وقال القاضي في خلافه وابنه أبو الحسين إذا سب النبي قتل ولم تقبل توبته مسلما كان أو كافرا ويجعله ناقصا للعهد نص عليه أحمد

وذكر القاضي النصوص التي قدمناها عن الإمام أحمد في انه يقتل ولا يستتاب وقد وجب عليه القتل قال القاضي لأن حق النبي يتعلق به حقان حق لله وحق للآدمي والعقوبة إذا تعلق بها حق لله وحق لآدمي لم تسقط بالتوبة كالحد في المحاربة فانه لو تاب قبل القدرة لم يسقط حق الآدمي من القصاص ويسقط حق الله

وقال أبو المواهب العكبري يجب لقذف النبي الحد المغلظ وهو القتل تاب أو لم يتب ذميا كان أو مسلما

وكذلك ذكر جماعات أخرون من أصحابنا انه يقتل ساب النبي ولا تقبل توبته سواء كان مسلما أو كافرا ومرادهم بانه لاتقبل توبته ان القتل لا يسقط عنه بالتوبة والتوبة اسم جامع للرجوع عن السب بالإسلام وبغيره فلذلك اتوا بها وأرادوا انه لو رجع عن السب بالإسلام أو بالاقلاع عن السب والعود إلى الذمة ان كان ذميا لم يسقط عنه القتل لأن عامة هؤلاء لما ذكروا هذه المسألة قالوا خلافا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما ان كان مسلما يستتاب فان تاب والا قتل كالمرتد وان كان ذميا فقال أبو حنيفة لايتنقض عهده واختلف أصحاب الشافعي فيه فعلم انهم أرادوا بالتوبة توبة المرتد وهي الإسلام ولانهم قد حكموا بانه مرتد وقد صرحوا بان توبة المرتد ان يرجع إلى الإسلام وهذا ظاهر فيه فإن كل من ارتد بقول فتوبته ان يرجع إلى الإسلام ويتوب من ذلك القول واما الذمي فان توبته لها صورتان

إحداهما ان يقلع عن السب ويقول لااعود إليه وانا اعود إلى الذمة والتزام موجب العهد

والثانية ان يسلم فان إسلامه توبة من السب

وكلا الصورتين تدخل في كلام هؤلاء الذين قالوا لا تقبل توبته مسلما كان أو كافرا وان كانت الصورة الثانية ادخل في كلامهم في الأولى لكن إذا لم يسقط عنه القتل بتوبة هي الإسلام فلأن لا يسقط بتوبة هي العود إلى الذمة أولى وانما كانت ادخل لأنه قد علم ان التوبة من المسلم إنما هي الإسلام فكذلك من الكافر لذكرهم توبة الاثنين بلفظ واحد ولان تعليلهم بكونه حق ادمي وقياسة على المحارب دليل على انه لا يسقط بالإسلام ولانهم قد صرحوا في مواضع يأتي بعضها ان التوبة من الكافر هنا إسلامه

وقد صرح بذلك جماعة غيرهم فقال القاضي الشريف أبو علي بن أبي موسى في الارشاد وهو ممن يعتمد نقله ومن سب رسول الله قتل ولم يستتب ومن سبه من أهل الذمة قتل وان أسلم

وقال أبو علي بن البناء في الخصال والاقسام له ومن سب النبي وجب قتله ولاتقبل توبته وان كان كافرا فأسلم فالصحيح من المذهب انه يقتل أيضا ولا يستتاب قال ومذهب مالك كمذهبنا

وعامة هؤلاء لم يذكروا خلافا في وجوب قتل المسلم والكافر وانه لا يسقط بالتوبة من إسلام وغيره وهذه طريقة القاضي في كتبه المتاخره من التعليق الجديد وطريقة من وافقه وكان القاضي في التعليق القديم وفي الجامع الصغير يقول إن المسلم يقتل ولا تقبل توبته وفي الكافر إذا أسلم روايتان قال القاضي بالجامع الصغير الذي ضمنه مسائل التعليق القديم ومن سب أم النبي قتل ولن تقبل توبته فان كان كافرا فأسلم ففيه رويتان إحداهما يقتل أيضا والثانية لا يقتل ويستتاب قياسا على قوله في الساحر إذا كان كافرا لم يقتل وان كان مسلما قتل وكذلك ذكر من نقل من التعليق القديم مثل الشريف أبي جعفر قال إذا سب أم النبي قتل ولم تقبل توبته وفي الذمي إذا سب أم النبي روايتان إحداهما يقتل والأخرى لا يقتل

قال وبهذا التفصيل قال مالك وقال أكثرهم تقبل توبته في الحالين

لنا انه حد وجب لقذف آدمي فلا يسقط بالتوبة كقذف غير أم النبي

وكذلك قال أبو الخطاب في رؤوس المسائل إذا قذف أم النبي لاتقبل التوبة منه وفي الكافر إذا سبها ثم أسلم روايتان وقال أبو حنيفة والشافعي تقبل توبته في الحالين

لنا انه حد وجب لقذف ادمي فلا يسقط بالتوبة دليله قذف غير أم النبي

وانما ذكرت عبارة هؤلاء ليتبين ان مرادهم بالتوبة هنا من الكافر الإسلام ويظهر ان طريقتهم هي بعينها طريقة ابن البناء في ان المسلم إذا سب لم تقبل توبته وان الذمي إذا سب ثم أسلم قتل أيضا في الصحيح من المذهب

فإن قيل فقد قال القاضي في خلافه فإن قيل اليس قد قلتم لو نقض العهد بغير سب النبي مثل ان نقضه بمنع الجزية أو قتال المسلمين أو اذيتهم ثم تاب قبلتم توبته وكان الإمام فيه بالخيار بين أربعة أشياء كالحربي إذا حصل أسيرا في أيدينا هلا قلتم في سب النبي إذا تاب منه كذلك قيل لأن سب النبي قذفا لميت فلا يسقط بالتوبة كما لو قذف ميتا وهذا من كلامه يدل على أن التوبة غير الإسلام لأنه لو نقض العهد بغير السب ثم أسلم لم يتخير الإمام فيه

قلنا لا فرق في التخيير بين الأربعة قبل التوبة التي هي الاقلاع وبعده عند من يقول به وانما أراد المخالف ان يقيس على صورة تشبه صورة النزاع وهي الحكم فيه بعد التوبة إذا كان قبل التوبة قد ثبت جواز قتله

على أن توبة الذمي الناقض للعهد لها صورتان

إحداهما ان يسلم فان إسلامه توبة من الكفر وتوابعه

والثانية ان يرجع إلى الذمة تائبا من الذنب الذي احدثه حتى انتقض عهده فهذه توبة من نقض العهد فإذا تاب هذه التوبة وهو مقدور عليه جاز لامام ان يقبل توبته حيث يكون حكمه حكم الأسير كما ان الأسير إذا طلب ان تعقد له الذمه جاز ان يجاب إلى ذلك

فالزم المخالف القاضي على طريقته ان الناقض التائب من الناقض يخير الإمام فيه فهلا خيرتموه في الساب إذا تاب توبة يمكن التخيير بعدها بان يقلع عن السب ويطلب عقد الذمة له ثانيا فلذلك قيل في هذه الصورة هلا خير الإمام فيه بعد التوبة وان كان في صورة أخرى لا يمكن التخيير بعد توبة هي الإسلام

وقد تقدم ذكر ذلك وقد قدمنا أيضا ان الصحيح انه لا يخير فيمن نقض العهد بما يضر المسلمين بحال وقد ظهر ان الرواية الأخرى التي حكوها في الفرق بين المسلم والكافر مخرجة من نصه على الفرق بين الساحر الكافر والساحر المسلم وذلك انه قد قال في الساحر الذمي لا يقتل ما هو عليه من الكفر أعظم واستدل بإن النبي لم يقتل لبيد ابن أعصم لما سحره والساحر المسلم يقتل عنده لما جاء في ذلك عن النبي وعمر وعثمان وابن عمر وحفصة رضي الله عنهم وغيرهم من الأحاديث

ووجه التخريج ان ماهو الكافر عليه من الشرك أعظم مما هو عليه من السب والسحر فنسبة السب والسحر إليه واحدة بخلاف المسلم فإذا قتل الساحر المسلم دون الذمي فكذلك الساب الذمي دون المسلم لكن السب ينقض العهد فيجوز قتله لأجل نقض العهد فإذا أسلم امتنع قتله لنقض العهد وهو لايقتل لخصوص السب كما لا يقتل لخصوص السحر فيبقى دمه معصوما

وقد حكى هذه الرواية الخطابي عن الإمام أحمد نفسه فقال قال مالك بن أنس من شتم النبي من اليهود والنصارى قتل الا ان يسلم وكذلك قال أحمد بن حنبل وحكى أخرون من أصحابنا رواية عن الإمام أحمد ان المسل تقبل توبته من السب بان يسلم ويرجع عن السب كذلك ذكر أبو الخطاب في الهداية ومن احتذى حذوه من متاخري أصحابنا في ساب الله ورسوله من المسلمين هل تقبل توبته أم يقتل بكل حال روايتان

فقد تلخص ان أصحابنا حكوا في الساب إذا تاب ثلاث روايات

إحداهن يقتل بكل حال وهي التي نصروها كلهم ودل عليها كلام الإمام أحمد في نفس هذه المسالة وأكثر محققيهم لم يذكروا سواها

والثانية تقبل توبته مطلقا

والثالثة تقبل توبة الكافر ولا تقبل توبة المسلم وتوبة الذمي التي تقبل إذا قلنا بها ان يسلم فأما إذا أقلع وطلب عقد الذمة له ثانيا لم يعصم ذلك دمه رواية واحدة كما تقدم

وذكر أبو عبد الله السامري ان من سب النبي من المسلمين فهل تقبل توبته على روايتين قال ومن سبه من أهل الذمة قتل وان أسلم ذكره ابن أبي موسى فعلى ظاهر كلامه يكون الخلاف في المسلم دون الذمي عكس الرواية التي حكاها جماعة من الأصحاب وليس الأمر كذلك فان ابن أبي موسى قال ومن سب النبي قتل ولم يستتب ومن سبه من أهل الذمة قتل وان أسلم فلم يذكر خلافا في شيء من ذلك كما دل عليه المأثور عن الإمام أحمد وكتاب أبي عبد الله السامري تضمن نقل أبي الخطاب ونقل ابن أبي موسى كما اقتضى شرطه انه يضمنه عدة كتب صغار فلما ذكر ما حكاه أبو الخطاب من الروايتن في المسلم وما ذكره ابن أبي موسى في الذمي إذا أسلم ظهر نوع خلل والا فلا ريب انا إذا قبلنا توبة المسلم بإسلامه فتوبة الذمي بإسلامه أولى فإن كل ما يفرض في الكافر من غلظ السب فهو في المسلم وزيادة فإنهما يشتركان في اذى النبي وينفرد سب المسلم بإنه يدل على زندقته وان سابه منافق ظهر نفاقه بخلاف الذمي فإن سبه مستند إلى اعتقاد وذلك الاعتقاد زال بالإسلام

نعم قد يوجه ما ذكره السامري بإن يقال السب قد يكون غلطا من المسلم لا اعتقادا فإذا تاب منه قبلت توبته إذ هو عثرة لسان وسوء ادب أو قلة علم والذمي سبه اذى محض لا ريب فيه فإذا وجب الحد عليه لم يسقط بإسلامه كسائر الحدود وقد ينزع هذا إلى قول من يقول إن السب لايكون كفرا في الباطن الا أن يكون استحلالا وهو قول مرغوب عنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى

واعلم ان أصحابنا ذكروا انه لاتقبل توبته لأن الإمام أحمد قال لا يستتاب ومن أصله ان كل من قبلت توبته فانه يستتاب كالمرتد ولهذا لما اختلفت الرواية عنه في الزنديق والساحر والكاهن والعراف ومن ارتد وكان مسلم الاصل هل يستتابون أم لا على روايتين فان قلنا لا يستتابون يقتلون بكل حال وان تابوا

وقد صرح في رواية عبد الله بأن من سب النبي قد وجب عليه القتل ولا يستتاب فتبين ان القتل قد وجب وما وجب من القتل لم يسقط بحال

يؤيد هذا انه قد قال في ذمي فجر بمسلمة يقتل قيل له فان أسلم قال يقتل هذا قد وجب عليه فتبين ان الإسلام لا يسقط القتل الواجب وقد ذكر في الساب انه قد وجب عليه القتل

وأيضا فإنه أوجب على الزاني بسملمة بعد الإسلام القتل الذي وجب عقوبة على الزنى بالمسلمة حتى انه يقتله سواء كان حرا أو عبدا أو محصنا أو غير محصنا كما قد نص عليه في مواضع ولم يسقط ذلك القتل بالإسلام ويوجب عليه مجرد حد الزنى لأنه ادخل على المسلمين من الضرر والمعرة ماأوجب قتله ونقض عهده فإذا أسلم لم تزل عقوبة ذلك الاضرار عنه كما لا تزول عنه عقوبة قطعه للطريق لو أسلم ولم يجز ان يقال هو بعد الإسلام كمسلم فعل ذلك يفعل به ما يفعل بالمسلم لأن الإسلام يمنع ابتداء العقوبة ولا يمنع دوامها لأن الدوام أقوى كما لو قتل ذمي ذميا ثم أسلم قتل ولو قتله وهو مسلم لم يقتل

ولهذا ينتقض عهد الذمي بأشياء مثل الزنى بالمسلمة وان لم يكن محصنا وقتل أي مسلم كان والتجسس للكفار وقتال المسلمين واللحاق بدار الحرب وان كان المسلم لا يقتل بهذه الأشياء على الاطلاق فإذا وجب قتل الذمي بها عينا ثم أسلم كان كما لو وجب قتله بذمي ثم أسلم إذ لا فرق بين ان يجب عليه حد لا يجب على المسلم فيسلم أو يجب عليه قصاص لا يجب على المسلم فيسلم فان القصاص في اندرائه بالإسلام كالحدود وهو يسقط بالشبهه حكما يمنع الإسلام ابتداؤه دون دوامه فكذلك العقوبات الواجبه على المعاهد وهذا ينبني على قولنا يتعين قتل الذمي إذا فعل هذه الأشياء وان لخصوص هذه الجنايات اثرا في قتله وراء كونه كافرا غير ذي عهد ويقتضي ان قتله حد من الحدود التي تجب على أهل دار الإسلام من مسلم ومعاهد ليس بمنزلة رجل من أهل دار الحرب أخذ أسيرا إذ المقصود بقتله تطهير دار الإسلام من فساد هذه الجنايات وحسم مادة جناية المعاهدين وإذا كان قد نص على أن لا تزول عنه عقوبة ما ادخله على المسلمين من الضرر في زناه بالمسلمة فان لاتزول عنه عقوبة اضراره بسب رسول الله أولى لأن ما يلحق المسلمين من المضرة في دينهم بسب رسول الله أكثر مما يلحقهم بالزنى بمسلمة إذا اقيم على الزاني الحد

ونصه هذا يدل على أن الذمي إذا قذف النبي أو سبه ثم أسلم قتل بذلك ولم يقم عليه مجرد حد قذف واحد من الناس وهو ثمانون أو سب واحد من الناس وهو التعزير كما انه لم يوجب على من زنى بمسلمة إذا أسلم حد الزنى وانما أوجب القتل الذي كان واجبا وعلى الرواية التي خرجها القاضي في كتبه القديمة ومن اتبعه فان الذمي يستتاب من السب فان تاب والا قتل

وكذلك يستتاب المسلم على الرواية التي ذكرها أبو الخطاب وغيره كما يستتاب الزنديق والساحر ولم اجد للاستتابه في كلام الإمام أحمد أصلا فاما استتابة المسلم فظاهرة كاستتابة من ارتد بكلام تكلم به واما استتابة الذمي فان يدعي إلى الإسلام فاما استتابة بالعود إلى الذمة فلا يكفي على المذهب لأن قتله متعين

فاما على الوجه المضطرب الذي يقال فيه ان الإمام يخيير فيه فيشرع استتابتة بالعود إلى الذمة لأن إقراره بها جائز بعد هذا لكن لاتجب هذه الاستتابة رواية واحدة وان أوجبنا الاستتابة بالإسلام على إحدى الروايتين واما على الرواية التي ذكرها الخطابي فانه إذا أسلم الذمي سقط عنه القتل مع انه لايستتاب كالأسير الحربي وغيره من الكفار يقتلون قبل الاستتابة ولو أسلموا سقط عنهم القتل وهذا اوجه من قول من يقول بالاستتابة فان الذمي إذا نقض العهد جاز قتله لكونه كافرا محاربا وهذا لاتجب استتابته بالاتفاق اللهم الا أن يكون على قول من يوجب دعوة كل كافر قبل قتاله فإذا أسلم جاز ان يقال عصم دمه كالحربي الاصلي بخلاف المسلم فانه إذا قبلت توبته فانه يستتاب ومع هذا فمن تقبل توبته فقد تجوز استتابته كما تجوز استتابة الأسير لأنه من جنس دعاء الكافر إلى الإسلام قبل قتله لكن لايجب لكن المنصوص عن أصحاب هذا القول انه لا يقال له أسلم ولا لاتسلم لكن ان أسلم سقط عنه القتل فتلخص من ذلك انهما لايستتابان في المنصوص المشهور فان تابا لم تقبل توبتهما في المشهور أيضا

وحكي عنه في الذمي انه إذا أسلم سقط عنه القتل وان لم يستتب

وحكي عنه ان المسلم يستتاب وتقبل توبته وخرج عنه في الذمي انه يستتاب وهو بعيد

واعلم انه لافرق بين سبه بالقذف وغيره كما نص عليه الإمام أحمد وعامة أصحابه وعامة العلماء

وفرق الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله بين القذف والسب فذكر الروايتين في المسلم وفي الكافر في القذف ثم قال وكذلك سبه بغير القذف الا ان سبه بغير القذف يسقط بالإسلام لأن سب الله تعالى يسقط بالإسلام فسب النبي أولى وسيأتي إن شاء الله تعالى تحرير ذلك إذا ذكرنا أنواع السب فهذا مذهب الإمام أحمد

وأما مذهب مالك رضي الله عنه فقال مالك في رواية ابن القاسم ومطرف ومن سب النبي قتل ولم يستتب قال ابن القاسم من سبه أو شتمه أو عابه أو تنقصه فانه يقتل كالزنديق وقال أبو مصعب وابن أبي اويس سمعنا مالكا يقول من سب رسول الله أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل مسلما كان أو كافرا ولا يستتاب وكذلك قال محمد بن عبد الحكم أخبرنا أصحاب مالك انه قال من سب النبي أو غيره من النبيين من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب قال وروي لنا عن مالك الا ان يسلم الكافر وقال اشهب عنه من سب النبي من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب فهذه نصوصه نحوا من نصوص الإمام أحمد والمشهور من مذهبه انه لاتقبل توبة المسلم إذا سب النبي وحكمه حكم الزنديق عندهم ويقتل عندهم حدا لا كفرا إذا أظهر التوبة من السب وروى الوليد بن مسلم عن مالك انه جعل سب النبي ردة قال أصحابه فعلى هذا يستتاب فان تاب نكل وان ابى قتل ويحكم له بحكم المرتد واما الذمي إذا سب النبي ثم أسلم فهل يدرأ عنه الإسلام القتل على الروايتين ذكرهما القاضي عبد الوهاب وغيره إحداهما يسقط عنه قال مالك في رواية جماعة من أصحابه منهم ابن القاسم من شتم نبينا من أهل الذمة أو أحدا من الأنبياء قتل الا ان يسلم وفي رواية لايقال له أسلم ولا لا تسلم ولكن ان أسلم فذلك له توبة وفي رواية مطرف عنه من سب رسول الله من المسلمين أو أحدا من الأنبياء أو انتقصه قتل وكذلك من فعل ذلك من اليهود والنصارى قتل ولا يستتاب الا ان يسلم قبيل القتل قال ابن حبيب وسمعت ابن الماجشون يقوله وقاله لي ابن عبد الحكم وقاله لي اصبغ عن ابن القاسم فعلى هذه الرواية قال ابن القاسم قال مالك ان شتم النصراني النبي شتما يعرف فانه يقتل الا ان يسلم قاله مالك غير مرة ولم يقل يستتاب قال ابن القاسم ومحمل قوله عندي ان أسلم طائعا وعلى هذا فإذا أسلم بعد ان يؤخذ وثبت عليه السب ويعلم انهم يريدون قتله ان لم يسلم لم يسقط عنه القتل لأنه مكره في هذه الحال والرواية الثانية لا يدرأ عنه إسلامه القتل قال محمد بن سحنون وحد القذف وشبهه من حقوق العباد لا يسقطه عن الذمي إسلامه وانما تسقط عنه بإسلامه حدود الله فاما حد القذف فحد للعباد كان ذلك من نبي أو غيره

وأما مذهب الشافعي رضي الله عنه فلهم في ساب النبي وجهان أحدهما هو كالمرتد إذا تاب سقط عنه القتل وهذا قول جماعة منهم وهو الذي يحكيه أصحاب الخلاف عن مذهب الشافعي والثاني ان حد من سبه القتل فكما لا يسقط حد القذف بالتوبة لا يسقط القتل الواجب بسب النبي بالتوبة قالوا ذكر ذلك أبو بكر الفارسي وادعى فيه الإجماع ووافقه الشيخ أبو بكر القفال وقال الصيدلاني قولا ثالثا وهو ان الساب بالقذف مثلا يستوجب القتل للردة لا للسب فان تاب زال القتل الذي هو موجب الردة وجلد ثمانين للقذف ولهذا الوجه لو كان السب غير قذف عزر بحسبه ثم منهم من ذكر هذا الخلاف في المسلم إذا سب ثم أسلم ولم يتعرض للكلام في الذمي إذا سب ثم أسلم ومنهم من ذكر الخلاف في الذمي كالخلاف في المسلم إذا جدد الإسلام بعد السب ومنهم من ذكر في الذمي إذا سب ثم أسلم انه يسقط عنه القتل وهو الذي حكاه أصحاب الخلاف عن مذهب الشافعي وعليه يدل عموم كلام الشافعي في موضع من الام فانه قال بعد ان ذكر نواقض العهد وذكر فيها سب النبي وايهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا وكذلك إذا كان فعلا لم يقتل الا أن يكون في دين المسلمين ان من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لأنقض عهد وان فعل مما وصفنا وشرط انه نقض لعهد الذمة فلم يلسم ولكنه قال أتوب واعطي الجزية كما كنت اعطيها أو على صلح أجدده عوقب ولم يقتل الاان يكون فعل فعلا يوجب القصاص أو القود فاما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول فيعاقب عليه ولا يقتل قال فان فعل أو قال مما وصفنا وشرط انه يحل دمه فظفرنا به فامتنع من أن يقول أسلم أو اعطي الجزية قتل واخذ ماله فيئا فقد ذكر أن من نقض العهد فانه تقبل توبته اما بان يسلم أو بان يعود إلى الذمة

وذكر الخطابي قال قال مالك بن أنس من شتم النبي من اليهود والنصارى قتل الا ان يسلم وكذلك قال أحمد بن حنبل وقال الشافعي يقتل الذمي إذا سب النبي وتبرأ منه الذمة واحتج في ذلك بخبر كعب بن الأشرف وظاهر هذا النقل والاستدلال يقتضي ان لايكف عنه إذا أظهر التوبة لأنه لم يحك عنه شيئا ولان ابن الأشرف كان مظهرا للذمة مجيبا إلى إظهار التوبة لو قبلت منه

والكلام في فصلين

أحدهما في استتابة المسلم وقبول توبة من سب النبي وقد ذكرنا ان المشهور عن مالك وأحمد انه لا سيتتاب ولا تسقط القتل عنه توبته وهو قول الليث بن سعد وذكر القاضي عياض انه المشهور من قول السلف وجمهور العلماء وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وحكي عن مالك وأحمد انه تقبل توبته وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وهو المشهور من مذهب الشافعي بناء على قبول توبة المرتد فنتكلم أولا في قبول توبته والذي عليه عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين انه تقبل توبة المرتد في الجملة وروي عن الحسن البصري انه يقتل وان أسلم جعله كالزاني والسارق وذكر عن أهل الظاهر نحو ذلك ان توبته تنفعه عند الله ولكن لا تدرأ القتل عنه وروي عن أحمد ان من ولد في الإسلام قتل ومن كان مشركا فأسلم استتيب وكذلك روي عن عطاء وهو قول إسحاق بن راهوية والمشهور عن عطاء وأحمد الاستتابة مطلقا وهو الصواب ووجه عدم قبول التوبة قوله من بدل دينه فاقتلوه رواه البخاري

ولم يستثن ما إذا تاب وقال لايحل دم أمرئ مسلم يشهد ان لا إله إلا الله واني رسول الله الا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة متفق عليه فإذا كان القاتل والزاني لا يسقط عنهما القتل بالتوبة فكذلك التارك لدينه المفارق للجماعة وعن حكيم بن معاوية عن ابيه ان رسول الله قال لا يقبل الله توبة عبد كفر بعد إسلامه رواه الإمام أحمد ولانه لايقتل لمجرد الكفر والمحاربة لأنه لو كان كذلك لما قتل المترهب والشيخ الكبير الأعمى والمقعد والمراة ونحوهم فلما قتل هؤلاء علم ان الردة حد من الحدود والحدود لاتسقط بالتوبة

والصواب ما عليه الجماعة لأن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد ايمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات والله لايهدي القوم الظالمين " إلى قوله تعالى " الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فإن الله غفور رحيم " فأخبر الله انه غفور رحيم لمن تاب بعد الردة وذلك يقتضى مغفرته له في الدنيا والآخرة ومن هذه حاله لم يعاقب بالقتل

يبين ذلك ما رواه أحمد قال حدثنا على بن عاصم عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس ان رجلا من الانصار ارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين فانزل الله تعالى " كيف يهدي الله قوما كفروا " إلى آخر الآية فبعث بها قومه إليه فرجع تائبا فقبل النبي ذلك منه وخلى عنه ورواه النسائي من حديث داود مثله

وقال الإمام أحمد حدثنا علي عن خالد عن عكرمة بمعناه وقال والله ما كذبني قومي على رسول الله ولا كذب رسول الله على الله والله اصدق الثلاثة فرجع تائبا فقبل رسول الله ذلك منه وخلى عنه

وقد حدثنا حجاج عن ابن جريح حدثت عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله تعالى " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد ايمانهم وشهدوا ان الرسول حق " في أبي عامر بن النعمان ووحوح بن الاسلت والحارث بن سويد بن الصامت في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهليهم هل لنا من توبة فنزلت " الا الذين تابوا من بعد ذلك " في الحارث بن سويد بن الصامت

وقال حدثنا عبد الرزاق أخبرنا جعفر عن حميد عن مجاهد قال جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه القران " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد ايمانهم " إلى قوله " غفور رحيم " قال فحملها إليه رجل من قومه فقراها عليه فقال الحارث والله انك ما علمت لصادق وان رسول الله لأصدق منك وان الله لأصدق الثلاثة قال فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه

وكذلك ذكر غير واحد من أهل العلم انها نزلت في الحارث بن سويد وجماعة معه ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة كهيئة البدأ ولحقوا بمكة كفارا فأنزل الله فيهم هذه الآية فندم الحارث وأرسل إلى قومه ان سلوا رسول الله هل لي توبة ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى " الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فإن الله غفور رحيم " فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث انك والله ما علمت لصدوق وان رسول الله لاصدق منك وان الله عز وجل لاصدق الثلاثة فرجع الحارث إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه

فهذا رجل قد ارتد ولم يقتله النبي بعد عوده إلى الإسلام ولان الله سبحانه قال في اخباره عن المنافقين " أبا لله واياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة " فدل على أن الكافر بعد ايمانه قد يعفى عنه وقد يعذب وانما يعفى عنه إذا تاب فعلم ان توبته مقبولة

وذكر أهل التفسير انهم كانوا جماعة وان الذي تاب منهم رجل واحد يقال له مخشي بن حمير وقال بعضهم كان قد انكر عليهم بعض ما سمع ولم يمالئهم عليه وجعل يسير مجانبا لهم فلما نزلت هذه الآيات بريء من نفاقه وقال اللهم اني لا ازال اسمع اية تقر عيني بها تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك وذكروا القصة

وفي الاستدلال بهذا نظر ولان الله تعالى قال " ياايها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " إلى قوله " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا ومانقموا الا ان اغناهم الله ورسوله من فضله فان يتوبوا يك خيرا لهم وان يتولوا يعذبهم الله عذابا اليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير "

وذلك دليل على قبول توبة من كفر بعد إسلامه وانهم لا يعذبون في الدنيا ولا في الآخرة عذابا اليما بمفهوم الشرط ومن جهة التعليل ولسياق الكلام والقتل عذاب اليم فعلم ان من تاب منهم لم يعذب بالقتل لأن الله سبحانه قال " من كفر بالله من بعد ايمانه الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وان الله لايهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم واولئك هم الغافلون لاجرم انهم في الآخرة هم الخاسرون ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم " فتبين ان الذين هاجروا إلى دار الإسلام بعد ان فتنوا عن دينهم بالكفر بعد الإسلام وجاهدوا وصبروا فان الله يغفر لهم ويرحمهم ومن غفر له ذنبه مطلقا لم يعاقبه عليه في الدنيا ولا في الآخرة

وقال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة خرج ناس من المسلمين يعني مهاجرين فأدركهم المشركون ففتنوهم فأعطوهم الفتنة فنزلت فيهم " ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله " الآية ونزل فيهم " من كفر بالله من بعد إيمانه " الآية ثم انهم خرجوا مرة أخرى فانقلبوا حتى أتوا المدينة فأنزل الله فيهم " ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا " إلى آخر الآية ولأنه سبحانه قال " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت اعمالهم في الدنيا والآخرة " فعلم ان من لم يمت وهو كافر من المرتدين لا يكون خالدا في النار وذلك دليل على قبول التوبة وصحة الإسلام فلا يكون تاركا لدينه فلا يقتل ولعموم قوله تعالى " فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين " إلى قوله " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم " فان هذا الخطاب عام في قتال كل مشرك وتخلية سبيله إذا تاب من شركه وأقام الصلاة واتى الزكاة سواء كان مشركا أصليا أو مشركا مرتدا

وأيضا فان عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد على عهد النبي ولحق بمكة وافترى على الله ورسوله ثم انه بعد ذلك بايعه النبي وحقن دمه وكذلك الحارث بن سويد اخو الجلاس بن سويد وكذلك جماعة من أهل مكة أسلموا ثم ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام فحقنت دماؤهم وقصص هؤلاء وغيرهم مشهورة عند أهل العلم بالحديث والسيرة

وأيضا فالإجماع من الصحابة رضي الله عنهم ظاهر على ذلك فان النبي لما توفى ارتد أكثر العرب الا أهل مكة والمدينة والطائف واتبع قوم منهم من تنبا فيهم مثل مسيلمة والعنسي وطليحة الاسدي فقاتلهم الصديق وسائر الصحابة رضي الله عنهم حتى رجع أكثرهم إلى الإسلام فأقروهم على ذلك ولم يقتلوا واحدا ممن رجع إلى الإسلام ومن رؤوس من كان قد ارتد ورجع طليحة الاسدي المتنبي والاشعث بن قيس وخلق كثير لا يحصون والعلم بذلك ظاهر لاخفاء به على أحد وهذه الرواية عن الحسن فيها نظر فان مثل هذا لا يخفى عليه ولعله أراد نوعا من الردة كظهور الزندقة ونحوها أو قال ذلك في المرتد الذي ولد مسلما ونحو ذلك مما قد شاع فيه الخلاف

وأما قوله من بدل دينه فاقتلوه فنقول بموجبه فانما يكون مبدلا إذا دام على ذلك واستمر عليه فاما إذا رجع إلى الدين الحق فليس بمبدل وكذلك إذا رجع إلى المسلمين فليس بتارك لدينه مفارق للجماعة بل هو متمسك لدينه ملازم للجماعة وهذا بخلاف القتل والزنى فانه فعل صدر عنه لايمكن دوامه عليه بحيث إذا تركه يقال انه ليس بزان ولا سارق ولا قاتل فمتى وجد منه ترتب حده عليه وان عزم على أن لا يعود إليه لأن العزم على ترك العود لايقطع مفسدة ما مضى من الفعل

على أن قوله التارك لدينه المفارق للجماعة قد يفسر بالمحارب قاطع الطريق كذلك رواه أبو داود في سننه مفسرا عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله لايحل دم أمريء مسلم يشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله الا بإحدى ثلاث رجل زنى بعد إحصان فانه يرجم ورجل خرج محاربا لله ورسوله فانه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض أو يقتل نفسا فيقتل بها فهذا المستثنى هنا هو المذكور في قوله التارك لدينه المفارق للجماعة ولهذا وصفه بفراق الجماعة وانما يكون هذا بالمحاربة

يؤيد ذلك ان الحديثين تضمنا انه لايحل دم من يشهد ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والمرتد لم يدخل في هذا العموم فلا حاجة إلى استثنائه وعلى هذا فيكون ترك دينه عبارة عن خروجه عن موجب الدين ويفرق بين ترك الدين وتبديله أو يكون المراد به من ارتد وحارب كالعرنيين ومقيس بن صبابة ممن ارتد وقتل واخذ المال فان هذا يقتل بكل حال وان تاب بعد القدرة عليه ولهذا والله أعلم استثني هؤلاء الثلاثة الذين يقتلون بكل حال وان أظهروا التوبة بعد القدرة ولو كان أريد المرتد المجرد لما احتيج إلى قوله المفارق للجماعة فان مجرد الخروج عن الدين يوجب القتل وان لم يفارق جماعة الناس فهذا وجه يحتمله الحديث وهو والله أعلم مقصود هذا الحديث

وأما قوله لا يقبل الله توبة عبد أشرك بعد إسلامه فقد رواه ابن ماجة من هذا الوجه ولفظه لا يقبل الله من مشرك أشرك بعد إسلامه عملا حتى يفارق المشركين إلى المسلمين وهذا دليل على قبول إسلامه إذا رجع إلى المسلمين وبيان أن معنى الحديث ان توبته لاتقبل ما دام مقيما بين ظهراني المشركين مكثرا لسوادهم كحال اللذين قتلوا ببدر ومعناه ان من أظهر الإسلام ثم فتن عن دينه حتى ارتد فانه لاتقبل توبته وعمله حتى يهاجر إلى المسلمين وفي مثل هؤلاء نزل قوله تعالى " ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " الآية وأيضا فان ترك الدين وتبديله وفراق الجماعة يدوم ويستمر لأنه تابع للاعتقاد والاعتقاد دائم فمتى قطعه وتركه عاد كما كان ولم يبق لما مضى حكم أصلا ولا فيه فساد ولا يجوز ان يطلق عليه القول بانه مبدل للدين ولا انه تاركك لدينه كما يطلق على الزاني والقاتل بان هذا زان وقاتل فان الكافر بعد إسلامه لا يجوز ان يسمى كافرا عند الاطلاق ولان تبديل الدين وتركه في كونه موجبا للقتل بمنزلة الكفرالاصلي والحراب في كونهما كذلك فإذا كان زوال الكفر بالإسلام أو زوال المحاربة بالعهد يقطع حكم الكفر فكذلك إذا زال تبديل الدين وتركه بالعود إلى الدين واخذه انقطع حكم ذلك التبديل والترك

فصل[عدل]

إذا تقرر ذلك فان الذي عليه جماهير أهل العلم ان المرتد يستتاب ومذهب مالك وأحمد انه يستتاب ويؤجل بعد الاستتابه ثلاثة ايام وهل ذلك واجب أو مستحب على روايتين عنهما اشهرهما عنهما ان الاستتابة واجبة وهو قول إسحاق بن راهوية

وكذلك مذهب الشافعي هل الاستتابه واجبة أو مستحبة على قولين لكن عنده في أحد القولين يستتاب فان تاب في الحال والا قتل وهو قول ابن المنذر والمزني وفي القول الآخر يستتاب ثلاثا كمذهب مالك وأحمد وقال الزهري وابن القاسم في رواية يستتاب ثلاث مرات

ومذهب أبي حنيفة انه يستتاب أيضا فان لم يتب والا قتل والمشهور عندهم ان الاستتابة مستحبة وذكر الطحاوي عنهم لايقتل المرتد حتى يستتاب وعندهم يعرض عليه الإسلام فان أسلم والاقتل مكانه الا ان يطلب ان يؤجل فانه يؤجل ثلاثة ايام

وقال الثوري يؤجل ما رجيت توبته وكذلك معنى قول النخعي

وذهب عبيد بن عمير وطاوس إلى انه يقتل ولا يستتاب لأنه أمر بقتل المبدل دينه والتارك لدينه المفارق للجماعة ولم يأمر باستتابتة كما أمر الله سبحانه بقتال المشركين من غير استتابة مع انهم لو تابوا لكففنا عنهم

يؤيد ذلك ان المرتد اغلظ كفرا من الكافر الاصلي فإذا جاز قتل الأسير الحربي من غير استتابة فقتل المرتد الأولى

وسر ذلك انا لأنجيز قتل كافر حتى نستتيبه بان يكون قد بلغته دعوة محمد إلى الإسلام فان قتل من لم تبلغه الدعوة غير جائز والمرتد قد بلغته الدعوة فجاز قتله كالكافر الاصلي الذي بلغته وهذا هو عله من رأى الاستتابة مستحبة فان الكفار يستحب ان ندعوهم إلى الإسلام عند كل حرب وان كانت الدعوة قد بلغتهم فكذلك المرتد ولايجب ذلك فيهما

نعم لو فرض المرتد من يخفى عليه جواز الرجوع إلى الإسلام فان الاستتابة هنا لا بد منها

ويدل على ذلك أيضا ان النبي اهدر يوم الفتح مكة دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ودم مقيس بن صبابه ودم عبد الله بن خطل وكانوا مرتدين ولم يستتبهم بل قتل ذانك الرجلان وتوقف عن مبايعة بن أبي سرح لعل بعض المسلمين يقتله فعلم ان قتل المرتد جائز ما لم يسلم وانه لا يستتاب

وأيضا فان النبي عاقب العرنيين الذين كانوا في اللقاح ثم ارتدوا عن الإسلام بما أوجب موتهم ولم يستتبهم ولانه فعل شيئا من الاسباب المبيحة للدم فقتل قبل استتابتة كالكافر الاصلي وكالزاني وكقاطع الطريق ونحوهم فان كل هؤلاء من قبلت توبته ومن لم تقبل يقتل قبل الاستتابة ولان المرتد لو امتنع بان يلحق بدار الحرب أو بان يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام فانه يقتل قبل الاستتابة بلا تردد فكذلك إذا كان في أيدينا

وحجة من رأى الاستتابة اما واجبة أو مستحبة قوله سبحانه وتعالى " قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " أمر الله ورسوله ان يخبر جميع الذين كفروا انهم ان أنتهوا غفر لهم ما سلف وهذا معنى الاستتابة والمرتد من الذين كفروا والأمر للوجوب فعلم ان استتابة المرتد واجبة ولا يقال فقد بلغهم عموم الدعوة إلى الإسلام لأن هذا الكفر اخص من ذلك الكفر فانه يوجب قتل كل من فعله ولا يجوز استبقاؤه وهو لم يستتب من هذا الكفر

وأيضا فان النبي بعث بالتوبة إلى الحارث بن سويد ومن كان قد ارتد معه إلى مكة كما قدمناه بعد ان كانت قد نزلت فيهم اية التوبة فتكون استتابته مشروعة ثم ان هذا الفعل منه خرج امتثالا للأمر بالدعوة إلى الإسلام والابلاغ لدينه فيكون واجبا

وعن جابر رضى الله عنه ان امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام فامر النبي ان يعرض عليها الإسلام فان رجعت والا قتلت

وعن عائشة رضى الله عنها قالت ارتدت امرأة يوم أحد فأمر النبي ان تستتاب فان تابت والا قتلت رواهما الدارقطني

وهذا ان صح أمر بالاستتابة والأمر للوجوب والعمدة فيه إجماع الصحابة عن محمد بن عبد الله بن عبد القاري قال قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الاشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال هل من مغربة خبر قال نعم رجل كفر بعد إسلامه قال فما فعلتم به قال قربناه فضربنا عنقه قال عمر فهلا حبستموه ثلاثا واطعتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله اللهم اني لم احضر ولم أمر ولم ارض إذ بلغني رواه مالك والشافعي وأحمد قال اذهب إلى حديث عمر وهذا يدل على أن الاستتابة واجبة والا لم يقل عمر لم ارض إذ بلغني

وعن أنس بن مالك قال لما افتتحنا تستر بعثني الاشعري إلى عمر بن الخطاب فلما قدمت عليه قال ما فعل البكريون جحينة وأصحابه قال فاخذت به في حديث آخر قال فقال ما فعل النفر البكريون قال فلما رايته لا يقطع قلت يا أمير المؤمنين ما فعلوا انهم قتلوا ولحقوا بالمشركين ارتدوا عن الإسلام وقاتلوا مع المشركين حتى قتلوا قال فقال لأن اكون اخذتهم سلما كان أحب الي مما على وجه الأرض من صفراء أو بيضاء قال فقلت وما كان سبيلهم لو اخذتهم سلما قال كنت اعرض عليهم الباب الذي خرجوا منه فان ابوا استودعتهم السجن

وعن عبد الله بن عتبة قال أخذ ابن مسعود قوما ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق قال فكتب فيهم إلى عثمان بن عفان رضى الله عنه فكتب إليه ان اعرض عليهم دين الحق وشهادة ان لا إله إلا الله فان قبلوا فخل عنهم وان لم يقبلوا فاقتلهم فقبلها بعضهم فتركه ولم يقبلها بعضهم فقتله رواهما الإمام أحمد بسند صحيح

وعن العلاء أبي محمد ان عليا رضي الله عنه أخذ رجلا من بني بكر بن وائل قد تنصر فاستتابه شهرا فابى فقدمه ليضرب عنقه فنادى يالبكر فقال علي اما انك واجده امامك في النار رواه الخلال وصاحبه أبو بكر

وعن أبي موسى رضى الله عنه انه أتى برجل قد ارتد عن الإسلام فدعاه عشرين لليلة أو قريبا منها فجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه رواه أبو داود

وروى من وجه آخر ان أبا موسى استتابه شهرا ذكره الإمام أحمد

وعن رجل عن ابن عمر قال يستتاب المرتد ثلاثا رواه الإمام أحمد

وعن أبي وائل عن ابن معين السعدي قال مررت في السحر بمسجد بني حنيفة وهم يقولون ان مسيلمة رسول الله فاتيت عبد الله فأخبرته فبعث الشرط فجاءوا بهم فاستتابهم فتابوا فخلى سبيلهم وضرب عنق عبد الله بن النواحة فقالوا احدث قوم في أمر فقتلت بعضهم وتركت بعضهم فقال اني سمعت رسول الله وقدم إليه هذا وابن اثال فقال اتشهدان اني رسول الله فقالا اتشهد أنت ان سيلمة رسول الله فقال النبي امنت بالله ورسوله ولو كنت قاتلا وفدا لقتلتكما قال فلذلك قتلته رواه عبد الله بن أحمد بإسناد صحيح

فهذه أقوال الصحابة في قضايا متعددة لم ينكرها منكر فصارت إجماعا

والفرق بين هذا وبين الكافر الاصلي من وجوه

أحدها ان توبة هذا اقرب لأن المطلوب منه اعادة الإسلام والمطلوب من ذاك ابتداؤه والاعادة اسهل من الابتداء فإذا أسقط عنا استتابة الكافر لصعوبتها لم يلزم سقوط استتابة المرتد

الثاني ان هذا يجب قتله عينا وان لم يكن من أهل القتال وذاك لا يجوز ان يقتل الا أن يكون من أهل القتال ويجوز استبقاؤه بالأمان والهدنة والذمة والارقاق والمن والفداء فإذا كان حده اغلظ فلم يقدم عليه الا بعد الاعذار إليه بالاستتابة بخلاف من يكون جزاؤه دون هذا

الثالث ان الاصلي قد بلغته الدعوة وهي استتابة عامة من كل كفر واما هذا فانما نستتيبه من التبديل وترك الدين الذي كان عليه ونحن لم نصرح له بالاستتابة من هذا ولا بالدعوة إلى الرجوع

وأما ابن أبي سرح وابن خطل ومقيس بن صبابه فانه كانت لهم جرائم زائدة على الردة وكذلك العرنيون فان أكثر هؤلاء قتلوا مع الردة واخذوا الأموال فصاروا قطاع طريق ومحاربين لله ورسوله وفيهم من كان يؤذي بلسانه اذى صار به من جنس المحاربين فلذلك لم يستتابوا على أن الممتنع لا يستتاب وانما يستتاب المقدور عليه ولعل بعض هؤلاء قد استتيب قبل ذلك

فصل[عدل]

ذكرنا حكم المرتد استطرادا لأن الكلام في الساب متعلق به تعلقا شديدا فمن قال إن ساب النبي من المسلمين يستتاب قال انه نوع من الكفر فان من سب الرسول أو جحد نبوته أو كذب بآية من كتاب الله أو تهود أو تنصر ونحو ذلك كل هؤلاء قد بدلوا دينهم وتركوه وفارقوا الجماعة فيستتابون وتقبل توبتهم كغيرهم

يؤيد ذلك ان كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى المهاجر في المراة السابة ان حد الانياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك منها مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله وهي ردة يستتاب فان رجع والا قتل

والأعمى الذي كانت له أم ولد تسب النبي كان ينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر فقتلها بعد ذلك فإن كانت مسلمة فلم يقتلها حتى استتابها وان كانت ذمية وقد استتابها فاستتابة المسلم أولى

وأيضا فاما ان يقتل الساب لكونه كفر بعد إسلامه أو لخصوص السب والثاني لا يجوز لأن النبي قال لا يحل دم أمريء مسلم يشهد ان لا إله إلا الله واني رسول الله الا بإحدى ثلاث كفر بعد إسلام أو زني بعد احصان أو قتل نفس فيقتل بها

وقد صح ذلك عنه من وجوه متعددة وهذا الرجل لم يزن ولم يقتل فان لم يكن قتله لأجل الكفر بعد الإسلام امتنع قتله فثبت انه إنما يقتل لأنه كفر بعد إسلامه وكل من كفر بعد إسلامه فان توبته تقبل لقوله تعالى " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد ايمانهم " إلى قوله " الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا " الآية ولما تقدم من الأدلة الدالة على قبول توبة المرتد

وأيضا فعموم قوله تعالى " قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " وقوله الإسلام يجب ما قبله والإسلام يهدم ماكان قبله رواه مسلم يوجب ان من أسلم غفر له كل ما مضى

وأيضا فان المنافقين الذين نزل فيهم قوله تعالى " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن قل اذن خير لكم " إلى قوله " لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم " وقد قيل فيهم " ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة " مع ان هؤلاء قد اذوه بالسنتهم وايديهم أيضا ثم العفو مرجو لهم وانما يرجى العفو مع التوبة فعلم ان توبتهم مقبولة ومن عفى عنه لم يعذب في الدنيا ولا في الآخرة

وأيضا فقوله سبحانه وتعالى " جاهد الكفار والمنافقين " إلى قوله " فان يتوبوا يك خيرا لهم وان يتولوا يعذبهم الله عذابا اليما " الآية فانها تدل على أن المنافق إذا كفر بعد إسلامه ثم تاب لم يعذب عذابا اليما في الدنيا ولا في الآخرة والقتل عذاب اليم فعلم انه لا يقتل

وقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه انها نزلت في رجال من المنافقين اطلع أحدهم على النبي فقال علام تشتمني أنت وأصحابك فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا فانزل الله هذه الآية

وعن الضحاك قال خرج المنافقون مع رسول الله إلى تبوك فكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله وأصحابه وطعنوا في الدين فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله فقال النبي يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم فحلفوا لرسول الله ما قالوا شيئا من ذلك فانزل الله هذه الآية اكذابا لهم

وأيضا فلا ريب ان توبتهم فيما بينهم وبين الله مقبولة إذا كانت توبة صحيحة ويغفر لهم في ضمنها ما نالوه من عرض رسول الله بما أبدلوه من الايمان به وما في ضمن الايمان به من محبته وتعظيمه وتعزيزه وتوقيره واعتقاد براءته من كل ما رموه به وهذه التوبة صحت فيما بينهم وبين الله وان تضمنت التوبة من حقوق الآدميين لاوجه

أحدها انه قد قيل كفارة الغيبة الاستغفار لمن استغتبته وقد ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى مثل ذلك فجاز أن يكون ما أتى به من الايمان برسول الله الموجب لأنواع الثناء عليه والتعظيم له ما حيا لما ناله من عرض

الثاني ان حق الأنبياء تابع لحق الله وانما عظمت الوقيعة في اعراضهم لما يتضمن ذلك من الكفر والوقيعة في دين الله وكتابه ورسالته فإذا تبعت حق الله في الوجوب تبعته في السقوط لئلا تكون أعظم منه ومعلوم ان الكافر تصح توبته من حقوق الله فكذلك من حقوق الأنبياء المتعلقة بنبوتهم بخلاف التوبة من الحقوق التي تجب للناس بعضهم على بعض

الثالث ان الرسول قد علم منه انه يدعوالناس إلى الايمان به واتباعه ويخبرهم ان من فعل ذلك فقد غفر الله له كل ما اسلفه في كفره فيكون قد عفي لمن قد أسلم عما ناله من عرضه

وبهذه الوجوه يظهر الفرق بين سب الرسول وبين سب واحد من الناس فانه إذا سب واحدا من الناس لم يأت بعد سبه ما يناقض موجب السب وسبه حق ادمي محض لم يعف عنه والمقتضي للسب هو موجود بعد التوبة والإسلام كما كان موجودا قبلها ان يزجر عنه بالحد وهناك كان الداعي إليه الكفر وقد زال بالايمان وإذا ثبت ان توبته وايمانه مقبول منه فيما بينه وبين الله فإذا أظهرها وجب ان يقبلها منه لما روى أبو سعيد في حديث ذي الخويصرة التميمي الذي اعترض على النبي في القسمة فقال خالد بن الوليد يا رسول الله الا اضرب عنقه فقال لا لعله أن يكون يصلي قال خالد وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال رسول الله لم اومر ان انقب عن قلوب الناس ولا اشق بطونهم رواه مسلم

وقال لاسامة في الرجل الذي قتله بعد ان قال لا إله إلا الله كيف قتلته بعد ان قال لا إله إلا الله قال إنما قالها تعوذا قال فهلا شققت عن قلبه

وكذلك في حديث المقداد نحو هذا وفي ذلك نزل قوله تعالى " ولا تقولوا لمن القى اليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا " ولا خلاف بين المسلمين ان الحربي إذا أسلم عند رؤية السيف وهو مطلق أو مقيد يصح إسلامه وتقبل توبته من الكفر وان كانت دلالة الحال تقضي ان باطنه بخلاف ظاهره

وأيضا فان النبي كان يقبل من المنافقين علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع اخبار الله له انهم اتخذوا ايمانهم جنة وانهم " يحلفون بالله ماقالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا " فعلم ان من أظهر الإسلام والتوبة من الكفر قبل ذلك منه فهذا قول هؤلاء وسيأتي إن شاء الله تعالى الاستدلال على تعين قتله من غير استتابة والجواب عن هذه الحجج

الفصل الثاني

في الذمي إذا سبه ثم تاب

وقد ذكرنا فيه ثلاثة أقوال

أحدها يقتل بكل حال وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب مالك إذا تاب بعد اخذه وهو وجه لأصحاب الإمام الشافعي

الثاني يقتل الا ان يتوب بالإسلام وهو ظاهر الرواية الأخرى عن مالك وأحمد

والثالث يقتل الا ان يتوب بالإسلام أو بالعودة إلى الذمة كما كان وعليه يدل ظاهر عموم كلام الشافعي الا ان يتاول وعلى هذا فانه يعاقب إذا عاد إلى الذمة ولا يقتل

فمن قال إن القتل يسقط عنه بالإسلام فانه يستدل بمثل ما ذكرناه في المسلم فانه كله يدل على أن الكافر أيضا إذا أسلم سقط عنه موجب السب ويدل على ذلك أيضا ان الصحابة ذكروا انه إذا فعل ذلك فهو غادر محارب وانه ناقض للعهد ومعلوم ان من حارب ونقض العهد إذا أسلم عصم دمه وماله وقد كان كثير من المشركين مثل ابن الزبعرى وكعب بن زهير وابي سفيان بن الحارث وغيرهم يهجون النبي بأنواع الهجاء ثم أسلموا فعصم الإسلام دماءهم وأموالهم وهؤلاءوان كانوا محاربين لم يكونوا من أهل العهد فهو دليل على أن حقوق الآدميين التي يستحلها الكافر إذا فعلها ثم أسلم سقطت عنه كما تسقط عنه حقوق الله ولهذا اجمع المسلمون إجماعا مستنده كتاب الله وسنة نبيه الظاهرة ان الكافر الحربي إذا أسلم لم يؤخذ بما كان أصابه من المسلمين من دم أو مال أو عرض والذمي إذا سب رسول الله فانه يعتقد حل ذلك وعقد الذمة لم يوجب عليه تحريم ذلك فإذا أسلم لم يؤخذ به بخلاف ما يصيبه من دماء المسلمين وأموالهم واعراضهم فان عقد الذمة يوجب تحريم ذلك عليه منا كما يوجب تحريم ذلك علينا منه وان كان لايوجب علينا الكف عن سب دينهم والطعن فيه فهذا اقرب ما يتوجه به الاستدلال بقصص هؤلاء وان كان الاستدلال به خطا

وأيضا فان الذمي اما ان يقتل إذا سب لكفره اوحرابه كما يقتل الحربي الساب أو يقتل حدا من الحدود كما يقتل لزناه بذمية وقطع الطريق على ذمي والثاني باطل فتعين الأول وذلك لأن السب من حيث هو سب ليس فيه أكثر من انتهاك العرض وهذا القدر لايوجب الا الجلد بل لايوجب على الذمي شيئا لاعتقاده حل ذلك نعم إنما صولح على الكف عنه والإمساك فمتى أظهر السب زال العهد وصار حربيا ولان كون السب موجبا للقتل حدا حكم شرعي فيفتقر إلى دليل ولا دليل على ذلك إذا أكثر ما يذكر من الأدلة إنما تفيد انه يقتل وذلك متردد بين كون القتل لكفره وحرابه أو لخصوص السب ولا يجوز اثبات الأحكام بمجرد الاستحسان والاستصلاح فان ذلك شرع للدين بالراي وذلك حرام لقوله تعالى " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم ياذن به الله " والقياس في المسالة متعذر لوجهين

أحدهما ان كثيرا من النظار يمنع جريان القياس في الاسباب والشروط والموانع لأن ذلك يفتقر إلى معرفة نوع الحكمة وقدرها وذلك متعذرا ولان ذلك يخرج السبب عن أن يكون سببا وشرط القياس بقاء حكم الاصل ولانه ليس في الجنايات الموجبة للقتل حدا ما يمكن الحاق السب بها لاختلافهما نوعا وقدرا واشتراكهما في عموم المفسدة لا يوجب الالحاق بالاتفاق وكون هذه المفسدة مثل هذه المفسدة يفتقر إلى دليل والا كان شرعا بالراي ووضعا للدين بالمعقول وذلك انحلال عن معاقد الدين وانسلال عن روابط الشريعة وانخلاع من ربق الإسلام وسياسة للخلق بالاراء الملكية والانحاء العقليه وذلك حرام بلا ريب فثبت انه إنما يقتل لأجل كفره وحرابه ومعلوم ان الإسلام يسقط القتل الثابت للكفر والحراب بالاتفاق

وأيضا فالذمي لو كان يسب النبي فيما بينه وبين الله تعالى ويقول فيه ما عسى ان يقول من القبائح ثم أسلم واعتقد نبوته ورسالته لمحا ذلك عنه جميع تلك السيئات ولا يجوز ان يقال إن النبي يطالبه بموجب سبه في الدنيا ولا في الآخرة ومن قال ذلك علم انه مبطل في مقالته للعلم بان الكافرين يقولون في الرسول شر المقالات واشنعها وقد أخبر الله تعالى عنهم في القران ببعضها مثل قولهم ساحر وكاهن ومجنون ومفتر وقول اليهود في مريم بهتانا عظيما ونسبتها إلى الفاحشة وان المسيح لغير رشدة وهذا هو القذف الصريح ثم لو أسلم اليهودي واقر بنبوة المسيح وانه عبد الله ورسوله وانه بريء مما رمته به اليهود لم يبقى للسميح عليه تبعه

ونحن نعلم ان من الكفار من يعتقد نبوة نبينا إلى الاميين ومنهم من يعتقد نبوته مطلقا لكن الف الدين وعادته واغراض آخر تمنع من الدخول في الإسلام ومنهم المعرض عن ذلك الذي لاينظر فيه ولا يتفكر فهؤلاء قد لا يسبونه ومنهم من يعتقد فيه العقيدة الرديه ويكف عن سبه وشتمه أو يسبه ويشتمه بما يعتقده فيه مما يكفر به ولا يظهر ذلك ومنهم من يظهر ذلك عند المسلمين ومنهم من يسبه بما لم يكفر به مما يكون سبا للنبي وغير النبي كالقذف ونحوه ولكن إذا أسلم الكفار غفر لهم جميع ذلك ولم يجئ في كتاب ولا سنة ان الكافر إذا أسلم يبقى عليه تبعة من التبعات بل الكتاب والسنة دليلان على أن الإسلام يجب ما قبله مطلقا وإذا كان اثم السب مغفورا له لم يجز ان يعاقب عليه بعد الإسلام

وأيضا فلو سب الله سبحانه ثم أسلم لم يؤخذ بموجب ذلك وقد قال النبي فيما يروي عنه ربه تبارك وتعالى شتمني ابن ادم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن ادم وما ينبغي له ذلك اما شتمه اياي فقوله اني اتخذت ولدا وانا الاحد الصمد

ثم لو تاب النصراني ونحوه من شتم الله سبحانه لم يعاقب على ذلك في الدنيا ولا في الآخرة بالاتفاق قال تعالى " لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة وما من إله الا إله واحد وان لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب اليم افلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم " فسب النبي لا يكون أعظم من سب الله فانه إنما عظم وصار موجبا للقتل لكون حقه تابعا لحق الله فإذا سقط المتبوع بالإسلام فالتابع أولى وبهذا يظهر الفرق بين سب الأنبياء وسب غيرهم من المؤمنين فان سب الواحد من الناس لا يختلف بين ما قبل الإسلام وما بعده والأذى والغضاضه التي تلحق المسبوب قبل الإسلام الساب وبعده سواء بخلاف سب النبي فانه قد زال موجبه بالإسلام وتبدل بالتعزير له والتوقير والثناء عليه والمدح له كما تبدل السب لله بالايمان وتوحيده وتقديسه وتحميده وعبادته

يوضح ذلك ان الرسول له نعت البشرية ونعت الرسالة كما قال " سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا " فمن حيث هو بشر له أحكام البشر ومن حيث هو رسول قد ميزه الله سبحانه وفضله بما خصه به فسبه موجب للعقوبة من حيث هو بشر كغيره من المؤمنين وموجب للعقوبة من حيث هو رسول بما خصه الله به لكن إنما أوجب القتل من حيث هو رسول فقط لأن السب المتعلق بالبشرية لايوجب قتلا وسبه من حيث هو رسول حق لله فقط فإذا أسلم الساب انقطع حكم السب المتعلق برسالته كما انقطع حكم السب المتعلق بالمرسل فسقط القتل الذي هو موجب ذلك السب ويبقى حق بشريته من هذا السب وحق البشرية إنما يوجب جلد ثمانين

فمن قال انه يجلد لقذفه بعد إسلامه ويعزر لسبه بغير القذف قال إن الإسلام يسقط حق الله وحق الرسالة ويبقى حق خصوص الآدمية كغيره من الآدميين فيؤدب سابه كما يؤدب ساب جميع المؤمنين بعد إسلامه

ومن قال انه لا يعاقب بشيء قال هذا الحق اندرج في حق النبوة وحق البشرية انغمر في حق الرسالة فان الجريمة الواحدة إذا أوجبت القتل لم توجب معه عقوبة أخرى عند أكثر الفقهاء ولهذا اندرج حق الله المتعلق بالقتل والقذف في حق الآدمي فإذا عفي للجاني عن القصاص وحد القذف لم يعاقب على ما أنتهكه من الحرمه كذلك هنا اندرج حق البشرية في حق الرسالة وفي هذين الاصلين المقيس عليهما خلاف بين الفقهاء فان مذهب مالك ان القاتل يعزره الإمام إذا عفا عنه ولي الدم

وعند أبي حنيفة ان حد القذف لا يسقط بالعفو وكذلك تردد من قال إن القتل يسقط بالإسلام هل يؤدب حدا أو تعزيرا على خصوص القذف والسب ومن قال هذا القول قال لا يستدل علينا بان الصحابة قتلوا سابه أو أمروا بقتل سابه أو أرادوا قتل سابه من غير استتابة فان الذمي إذا سبه لا يستتاب بلا تردد فانه يقتل لكفره الاصلي كما يقتل الأسير الحربي ومثل ذلك لا يستتاب كاستتابة المرتد إجماعا لكن لو أسلم عصم دمه

كذلك نقول من شتمه من أهل الذمة فانه يقتل ولا يستتاب كانه حربي اذى المسلمين وقد اسرناه فانا نقتله فان أسلم سقط عنه القتل

وكذلك أكثر نصوص مالك وأحمد وغيرهما إنما هي انه يقتل ولا يستتاب وهذا لاتردد فيه إذا سبه الذمي

ومن قال إن الذمي يستتاب فقد يقول انه قد لا يعلم انه إذا أسلم سقط عنه القتل فيستتاب كما يستتاب المرتد وأولى فان قتل الكفار قبل الاعذار إليهم وتبليغهم رسالات الله غير جائز

ومن لم يستتبه قال هذا هو القياس المثلي في قتل كل كافر أصلي أسير وقد ثبت ثبوتا لا يمكن دفعه ان النبي وخلفاءه الراشدين كانوا يقتلون كثيرا من الأسرى من غير عرض للإسلام عليهم وان كانوا ناقضين للعهد وذلك في قصة قريضه وخيبر ظاهر لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم بالسيرة فان رسول الله اخذهم أسرى بعد ان نقضوا العهد وضرب رقابهم من غير ان يعرض عليهم الإسلام وقد أمر بقتل ابن الأشرف من غير عرض للإسلام عليه وانما قتله لأنه كان يؤذي الله ورسوله وقد نقض العهد

ومن قال انه إذا تاب بالعود إلى الذمة قبلت توبته أو خير الإمام فيه قال انه في هذه الحال بمنزلة حربي قد بذل الجزية عن يد وهو صاغر فيجب الكف عنه

واعلم ان هنا معنى لا بد من التنبيه عليه وهو ان الأسير الحربي الاصل لو أسلم فان إسلامه لا يزيل عنه حكم الاسر بل ان يصير رقيقا للمسلمين بمنزلة النساء والصبيان كأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد أو يخير الإمام فيه بين الثلاثة غير القتل على القول الآخر في المذهبين

والدليل على ذلك ما روى مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين قال كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فاسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي واسر أصحاب رسول الله رجلا من بني عقيل وأصابوا معه العضباء فأتى عليه رسول الله وهو في الوثاق فقال يا محمد فاتاه فقال ما شانك فقال بم اخذتني واخذت سابقة الحاج يعني العضباء فقال اخذتك بجريرة حلفائك من ثقيف ثم انصرف عنه فناداه فقال يا محمد يامحمد وكان رسول الله رحيما رقيقا فرجع إليه فقال ما شانك قال اني مسلم قال لو قلتها وأنت تملك أمرك افلحت كل الفلاح ثم انصرف فناداه يا محمد يا محمد فاتاه فقال ما شانك فقال اني جائع فاطعمني وظمان فاسقني قال هذه حاجتك ففدى بالرجلين فأخبر النبي انه إذا أسلم بعد الاسر لم يفلح كل الفلاح كما إذا أسلم قبل الاسر وان ذلك الإسلام لا يوجب اطلاقه

وكذلك العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أظهر الإسلام بعد الاسر بل أخبر انه قد كان أسلم قبل ذلك فلم يطلقه النبي حتى فدى نفسه والقياس يقتضي ذلك فانه لو أسلم رقيق للمسلمين لم يمنع ذلك دوام رقه فكذلك إسلام الأسير لا يمنع دوام اسره لأنه نوع رق ومجوز للاسترقاق كما ان إسلامه لا يوجب ان يرد عليه ما أخذ من ماله قبل الإسلام فإذا كان هذا حال من أسلم بعد ان اسر ممن هو حربي الاصل فهذا الناقض للعهد حاله اشد بلا ريب فإذا أسلم بعد ان نقض العهد وهو في أيدينا لم يجز ان يقال انه يطلق بل حيث قلنا قد عصم دمه فاما ان يصير رقيقا وللامام ان يبيعه بعد ذلك وثمنه لبيت المال أو انه يتخير فيه وهذا قياس قول من يجوز استرقاق ناقض العهد ومن لم يجوز استرقاقهم فانه يجعل هذا بمنزلة المرتد ويقول إذا عاد إلى الإسلام لم يسترق ولم يقتل ومعنى قوله لو أسلمت وأنت تملك أمرك افلحت كل الفلاح دليل على أن من أسلم وهو لا يملك أمره لم يكن حاله كحال من أسلم وهو مالك أمره فلا تجوز التسوية بينهما بحال وفي هذا أيضا دليل على انه إذا بذل الجزية لم يجب اطلاقه فانه إذا لم يجب اطلاقه بالإسلام فببذل الجزية أولى لكن ليس في الحديث ما ينفي استرقاقه

فصل[عدل]

والدليل على أن المسلم يقتل إذا سب من غير استتابة وان أظهر التوبة بعد اخذه كما هو مذهب الجمهور قوله سبحانه " ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة واعد لهم عذابا مهينا "

وقد تقدم ان هذا يقتضي قتله ويقتضي تحتم قتله وان تاب بعد الاخذ لأنه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله ورسوله والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات فإذا كانت عقوبة أولئك لا تسقط إذا تابوا بعد الاخذ فعقوبة هؤلاء أولى واحرى لأن عقوبة كليهما على الأذى الذي قاله بلسانه لا على مجرد كفر هو باق عليه

وأيضا فانه قال " لئن لم ينته المنافقون " إلى قوله " ملعونين اينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا " وهو أمر يقتضي ان من لم ينته فانه يؤخذ ويقتل فعلم ان الانتهاء العاصم ما كان قبل الاخذ

وأيضا فانه جعل ذلك تفسيرا للعن فعلم ان الملعون متى أخذ قتل إذا لم يكن قد أنتهى قبل الاخذ وهذا ملعون فيدخل في الآية

يؤيد ذلك ما قدمناه عن ابن عباس انه قال في قوله تعالى " ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم " قال هذه في شأن عائشة وأزواج النبي خاصة ليس فيها توبة ثم قرا " والذين يرمون المحصنات ثم لم ياتوا بأربعة شهداء " إلى قوله " الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا " فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لاولئك توبة قال فهم رجل ان يقوم فيقبل راسه من حسن ما فسر فهذا ابن عباس قد بين ان من لعن هذه اللعنة لا توبة له واللعنة الأخرى ابلغ منها

يقرره ان قاذف أمهات المؤمنين إنما استحق هذه اللعنة على قوله لأجل النبي فعلم ان مؤذيه لا توبة له

وأيضا قوله سبحانه " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " الآية

وهذا الساب محارب لله ورسوله كما تقدم تقريره من انه محاد لله ورسوله وان المحاد لله ورسوله مشاق لله ورسوله محارب لله ورسوله ولان المحارب ضد المسالم والمسالم الذي تسلم منه ويسلم منك ومن اذاه لم يسلم منه فليس بمسالم فهو محارب وقد تقدم من غير وجه ان النبي سماه عدوا له ومن عاداه فقد حاربه وهو من أعظم السأعين في الأرض بالفساد قال الله تعالى في صفة المنافقين " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون الا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون "

وكل مل ما في القران من ذكر الفساد مثل قوله " ولاتفسدوا في الأرض بعد أصلاحها " وقوله " وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها " إلى قوله " والله لايحب الفساد " وغير ذلك فان السب داخل فيه فانه أصل لكل فساد في الأرض إذ هو افساد للنبوة التي هي عماد صلاح الدين والدنيا والآخرة

وإذا كان هذا الساب محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا وجب ان يعاقب بإحدى العقوبات المذكورة في الآية الا ان يتوب قبل القدرة عليه وقد قدمنا الأدلة على أن عقوبته متعينة بالقتل كعقوبة من قتل في قطع الطريق فيجب ان يقام ذلك عليه الا ان يتوب قبل القدرة عليه وهذا الساب الذي قامت عليه البينة ثم تاب بعد ذلك إنما تاب بعد القدرة فلا تسقط العقوبة عنه ولهذا كان الكافر الحربي إذا أسلم بعد الاخذ لم تسقط عنه العقوبة مطلقا كما قال النبي للعقيلي لو قلتها وأنت تملك أمرك افلحت كل الفلاح بل يعاقب بالاسترقاق أو بجواز الاسترقاق وغيره ولكن هذا مرتد محارب فلم يمكن استرقاقه كالعرنيين إذ المحاربة باللسان كالمحاربة باليد فتعين عقوبته بالقتل

وأيضا فسنة رسول الله دلت من غير وجه على قتل الساب من غير استتابة فانه أمر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابة وقد ذكرنا ان ذلك يقتضي قتل الساب سواء اجرينا الحديث على ظاهره أو حملناه على من كذب عليه كذبا يشينه وكذلك في حديث الشعبي انه أمر بقتل الذي طعن عليه في قسم مال العزى من غير استتابة

وفي حديث أبي بكر لما استاذنه أبو برزة ان يقتل الرجل الذي شتمه من غير استتابة قال انها لم تكن لاحد بعد رسول الله فعلم انه كان له قتل من شتمه من غير استتابة وعمر رضى الله عنه قتل الذي لم يرض بحكمه من غير استتابة أصلا فنزل القران بإقراره على ذلك وهو من أدنى أنواع الاستخفاف به فكيف باعلاها

وأيضا فان عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما طعن عليه وافترى افتراء عابه به بعد ان أسلم اهدر دمه وامتنع عن مبايعتة وقد تقدم تقرير الدلالة منه على أن الساب يقتل وان أسلم وذكرنا انه كان قد جاءه مسلما تائبا قد أسلم قبل ان يجيء إليه كما رويناه عن غير واحد وقد جاء يريد الإسلام وقد علم النبي انه قد جاء يريد الإسلام ثم كف عنه أنتظار ان يقوم إليه رجل فيقتله

وهذا نص ان مثل هذا المرتد الطاعن لا يجب قبول توبته بل يجوز قتله وان جاء تائبا وان تاب وقد قررنا هذا فيما مضى وبينا من وجوه آخر ان الذي عصم دمه عفو رسول الله عنه لا مجرد إسلامه وان بالإسلام والتوبة امتحى الإثم وبعفو النبي احتقن الدم والعفو بطل بموته إذ ليس للأمة ان يعفو عن حقه وامتناعه من بيعته حتى يقوم إليه بعض القوم فيقتله نص في جواز قتله وان جاء تائبا

وأما عصمة دمه ذلك فليس دليلا لنا على أن نعصم دم من سب وتاب بعد ان قدرنا عليه لأنا قد بينا من غير وجه أن النبي كان يعفو عمن سبه ممن لا خلاف بين الامة في وجوب قتله إذا فعل ذلك وتعذر عفو النبي عنه وقد ذكرنا أيضا ان حديث عبد الله بن خطل يدل على قتل الساب لأنه كان مسلما فارتد وكان يهجوه فقتل من غير استتابة

وأيضا فما تقدم من حديث أنس المرفوع واثر أبي بكر في قتل من اذاه في أزواجه وسراريه من غير استتابة وما ذاك الا لأجل انه نوع من الأذى ولذلك حرمه الله ومعلوم ان السب اشد اذى منه بدليل ان السب يحرم منه ومن غيره ونكاح الأزواج لا يحرم الا منه وانما ذاك مبالغة في تحريم ما يؤذيه ووجوب قتل من يؤذيه أي اذى كان من غير استتابة

وأيضا فانه أمر بقتل النسوة اللاتي كن يؤذينه بالسنتهن بالهجاء مع أمانة لعامة أهل البلد ومع ان قتل المراة لا يجوز الا ان تفعل ما يوجب القتل ولم يستتب واحدة منهن حين قتل من قتل والكافرة الحربية من النساء لا تقتل ان لم تقاتل والمرتدة لاتقتل حتى تستتاب وهؤلاء النسوة قتلن من غير ان يقاتلن ولم يستتبن فعلم ان قتل من فعل مثل فعلهن جائز بدون استتابة فان صدور ذلك عن مسلمة أو معاهدة أعظم من صدوره عن حربية

وقد بسطنا بعض هذه الدلالات فيما مضى بما اغنى عن اعادته هنا وذكرنا ان السنة تدل على أن السب ذنب مقتطع عن عموم الكفر وهو من جنس المحاربة والتوبة التي تحقن الدم دم المرتد إنما هي التوبة عن الكفر فاما ان ارتد بمحاربة مثل سفك الدم واخذ المال كما فعل العرنيون وكما فعل مقيس بن صبابه حيث قتل الانصاري واستاق المال ورجع مرتدا فهذا يتعين قتله كما قتل النبي مقيس بن صبابه وكما قيل له في مثل العرنيين " إنما جزاؤهم ان يقتلوا " الآية فكذلك من تكلم بكلام من جنس المحادة والمحاربة لم يكن بمنزلة من ارتد فقط

وأيضا ما اعتمده الإمام أحمد من أن أصحاب رسول الله فرقوا بين الساب وبين المرتد المجرد فقتلوا الأول من غير استتابة واستتابوا الثاني وامروا باستتابته وذلك انه قد ثبت انهم قتلوا سابه ولم يستتيبوه وانهم أمروا بقتل سابه وحرصوا على قتل سابه وقد تقدم ذكر بعض ذلك مع انه قد تقدم عنهم انهم كانوا يستتيبون المرتد ويامرون باستتابته فثبت بذلك انهم كانوا لا يقبلون توبة من سبه من المسلمين لأن توبته لو قبلت لشرعت استتابته كالمرتد فانه على هذا القول نوع من المرتدين ومن خص المسلم بذلك قال لايدل ذلك على أن الكافر الساب لا يسقط عنه إسلامه القتل فان الحربي يقتل من غير استتابة مع ان إسلامه يسقط عنه القتل إجماعا ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة انه أمر باستتابة الساب الا ما روى عن ابن عباس وفي إسناد الحديث عنه مقال ولفظه أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله وهي ردة يستتاب فان رجع والا قتل وهذا والله أعلم فيمن كذب بنبوة شخص من الأنبياء وسبه بناء على انه ليس بنبي الا ترى إلى قوله فقد كذب برسول الله ولا ريب ان من كذب بنبوة بعض الأنبياء وسبه بناء على ذلك ثم تاب قبلت توبته كمن كذب ببعض ايات القران فان هذا أظهر أمره فهو كالمرتد فاما من كان يظهر الإقرار بنبوة النبي ثم أظهر سبه فهذا هو مسالتنا

يؤيد هذا انا قد روينا عنه انه كان يقول ليس لقاذف أزواج النبي توبة وقاذف غيرهن له توبة ومعلوم ان ذلك رعاية لحق رسول الله فعلم ان من مذهبه ان ساب النبي وقاذفه لا توبة له وان وجه الرواية الأخرى عنه ان صحت ما ذكرناه أو نحوه

وأيضا فإن سبه أو شتمه ممن يظهر الإقرار بنبوته دليل على فساد اعتقاده وكفره به بل هو دليل على الاستهانة به والاستخفاف بحرمته فإن من وقر الايمان في قلبه والايمان موجب لاكرامه واجلاله لم يتصور منه ذمه وسبه والتنقص به وقد كان من اقبح المنافقين نفاقا من يستخف بشتم النبي كما روي عن ابن عباس قال كان رسول الله جالسا في ظل حجرة من حجر نسائه في نفر من المسلمين قد كان تقلص عنهم الظل فقال سيأتيكم انسان ينظر بعين شيطان فلا تكلموه فجاء رجل أزرق فدعاه النبي فقال علام تشتمني أنت وفلان وفلان ودعاهم بأسمائهم فانطلق فجاء بهم فحلفوا له واعتذروا إليه فانزل الله تبارك وتعالى " يحلفون لكم لترضوا عنهم " الآية رواه أبو مسعود ابن الفرات ورواه الحاكم في صحيحه وقال فأنزل الله تعالى " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له " الآية وإذا ثبت انه كافر مستهين به فإظهار الإقرار برسالته بعد ذلك لا يدل على زوال الكفر والاستهانة لأن الظاهر إنما يكون دليلا صحيحا معتمدا إذا لم يثبت ان الباطن بخلافه فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم ان الباطن بخلافه

ولهذا اتفق العلماء على انه لا يجوز للحاكم ان يحكم بخلاف علمه وان شهد عنده بذلك العدول ويجوز له ان يحكم بشهادتهم إذا لم يعلم خلافها وكذلك أيضا لو اقر إقرارا علم انه كاذب فيه مثل ان يقول لمن هو اكبر منه هذا ابني لم يثبت نسبه ولا ميراثه باتفاق العلماء وكذلك الأدلة الشرعية مثل خبر العدل الواحد ومثل الأمر والنهي والعموم والقياس يجب اتباعها الا ان يقوم دليل أقوى منها يدل على أن باطنها مخالف لظاهرها ونظائر هذا كثيرة

فاذا علمت هذا فنقول هذا الرجل قد قام الدليل على فساد عقيدته وتكذيبه به واستهانته له فإظهاره الإقرار برسالته الان ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا وهذا القدر بطلت دلالته فلا يجوز الاعتماد عليه وهذه نكتة من لا يقبل توبة الزنديق وهو مذهب أهل المدينة ومالك أصحابه والليث بن سعد وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة وهو إحدى الروايات عن أحمد نصرها كثير من أصحابه وعنهما انه يستتاب وهو المشهور عن الشافعي

وقال أبو يوسف اخرا اقتله من غير استتابة لكن ان تاب قبل ان اقتله قبلت توبته وهذا أيضا الرواية الثالة عن أحمد

وعلى هذا المأخذ فإذا كان الساب قد تكرر منه السب ونحوه مما يدل على الكفر اعتضد السبب بدلالات آخر من الاستخفاف بحرمات الله والاستهانة بفرائض الله ونحو ذلك من دلالات النفاق والزندقة كان ذلك ابلغ في ثبوت زندقته وكفره وفي ان لا يقبل منه مجرد ما يظهر من الإسلام مع ثبوت هذه الأمور وما ينبغي ان يتوقف في قتل مثل هذا وفي ان لا يسقط عنه القتل بما يظهر من الإسلام إذ توبة هذا بعد اخذه لم تجدد له حالا لم تكن قبل ذلك فكيف تعطل الحدود بغير موجب نعم لو انه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال والاعمال ما يدل على حسن الإسلام وكف عن ذلك لم يقتل في هذه الحال وفيه خلاف بين أهل هذا القول سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره

وعلى مثل هذا ومن هو اخف منه ممن لم يظهر نفاقه قط تحمل ايات التوبة من النفاق وعلى الأول تحمل ايات إقامة الحد

ثم من أسقط القتل عن الذمي إذا أسلم قال بهذا يظهر الفرق بينه وبين الكافر إذا أسلم فانه كان مظهرا لدين يبيح سبه أو لا يمنعه من سبه فأظهر دين الإسلام الذي يوجب تعزيره وتوقيره فكان ذلك دليلا على صحة انتقاله ولم يعارضه ما يخالفه فوجب العمل به وهذه الطريقة مبنية على عدم قبول توبة الزنديق كما قررناه من ظهور دليل الكفر مع عدم ظهور دليل الإسلام وهو من القياس الجلي

ويدل على جواز قتل الزنديق والمنافق من غير استتابة قوله سبحانه وتعالى " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني " إلى قوله " قل هل تربصون بنا الا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم ان يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا "

قال أهل التفسير أو بأيدينا بالقتل ان أظهرتم ما في قلبوكم قتلناكم وهو كما قالوا لأن العذاب على ما يبطنونه من النفاق بأيدينا لايكون الا القتل لكفرهم ولو كان المنافق يجب قبول ما يظهره من التوبة بعد ما ظهر نفاقه وزندقته لم يمكنا ان نتربص بهم ان يصيبهم الله تعالى بعذاب من عنده أو بأيدينا لأنا كلما اردنا ان نعذبهم على ما أظهروه أظهروا التوبة منه وقال قتادة وغيره في قوله تعالى " وممن حولكم من الاعراب منافقون " إلى قوله " سنعذبهم مرتين " قالوا في الدنيا القتل وفي البرزخ عذاب القبر

ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى " يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق ان يرضوه " وقوله تعالى " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فاعرضوا عنهم " إلى قوله " يحلفون لكم لترضوا عنهم فان ترضوا عنهم فان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين "

وكذلك قوله تعالى " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " وقوله سبحانه " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله والله يعلم انك لرسوله والله يشهد ان المنافقين لكاذبون اتخذوا ايمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله انهم ساء ماكانوا يعملون " وقوله تعالى " ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون " إلى قوله تعالى " اتخذوا ايمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين " إلى قوله " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون انهم على شيء الا انهم هم الكاذبون "

دلت هذه الآيات كلها على أن المنافقين كانوا يرضون المؤمنين بالايمان الكاذبة وينكرون انهم كفروا ويحلفون انهم لم يتكلموا بكلمة الكفر

وذلك دليل على انهم يقتلون إذا ثبت ذلك عليهم بالبينة لوجوه

أحدها انهم لو كانوا إذا أظهروا التوبة قبل ذلك منهم لم يحتاجوا إلى الحلف والإنكار ولكانوا يقولون قلنا وقد تبنا فعلم انهم كانوا يخافون إذا ظهر ذلك عليهم انهم يعاقبون من غير استتابة

الثاني انه قال تعالى " اتخذوا ايمانهم جنة " واليمين إنما تكون جنة إذا لم تات ببينة عأدلة تكذبها فإذا كذبتها بينة عأدلة انخرقت الجنة فجاز قتلهم ولايمكنه ان يجتن بعد ذلك الا بجنة من جنس الأولى وتلك جنة مخروقة

الثالث ان الآيات دليل على أن المنافقين إنما عصم دماءهم الكذب والإنكار ومعلوم ان ذلك إنما يعصم إذا لم تقم البينة بخلافه وسنذكر لم لم يقتلهم النبي

ويدل على ذلك قوله سبحانه " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر " الآية وقوله تعالى في موضع آخر " جاهد الكفار والمنافقين " قال الحسن وقتادة بإقامة الحدود عليهم وقال ابن مسعود رضي الله عنه بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وعن ابن عباس وابن جريج باللسان وتغليظ الكلام وترك الرفق

ووجه الدليل ان الله أمر رسوله بجهاد المنافقين كما أمره بجهاد الكافرين ومعلوم ان جهادهم إنما يمكن إذا ظهر منهم من القول أو الفعل ما يوجب العقوبة فانه ما لم يظهر منه شيء البته لم يكن لنا سبيل عليه فإذا ظهر منه كلمة الكفر فجهاده القتل وذلك يقتضي ان لا يسقط عنه بتجديد الإسلام له ظاهرا لأنا لو أسقطنا عنهم القتل بما أظهروه من الإسلام لكانوا بمنزلة الكفار وكان جهادهم من حيث هم كفار فقط لا من حيث هم منافقون والآية تقتضي جهادهم لأنهم صنف غير الكفار لا سيما قوله تعالى " جاهد الكفار والمنافقين " يقتضي جهادهم من حيث هم منافقون لأن تعليق الحكم باسم مشتق مناسب يدل على أن موضع الاشتقاق هو العلة فيجب ان يجاهد لأجل النفاق كما يجاهد الكافر لأجل الكفر

ومعلوم ان الكافر إذا أظهر التوبة من الكفر كان تركا له في الظاهر ولا يعلم ما يخالفه

أما المنافق فإذا أظهر الإسلام لم يكن تركا للنفاق لأن ظهور هذه الحال منه لا ينافي النفاق ولان المنافق إذا كان جهاده بإقامة الحد عليه كجهاد الذي في قلبه مرض وهو الزاني إذا زنى لم يسقط عنه حده إذا أظهر التوبة بعد اخذه لإقامة الحد عليه كما عرفت ولانه لو قبلت علانيتهم دائما مع ثبوت ضدها عنهم لم يكن إلى الجهاد على النفاق سبيل فإن المنافق إذا ثبت عنه انه أظهر الكفر فلو كان إظهار الإسلام حينئذ ينفعه لم يمكن جهاده

ويدل على ذلك قوله " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها الا قليلا ملعونين اينما ثقفوا أخذو وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل " دلت هذه الآية على أن المنافقين إذا لم ينتهوا فان الله يغري نبيه بهم وانهم لا يجاورونه بعد الاغراء بهم الا قليلا وان ذلك في حال كونهم ملعونين اينما وجدوا واصيبوا اسروا وقتلوا وانما يكون ذلك إذا أظهروا النفاق لأنه ما دام مكتوما لا يمكن قتلهم

وكذلك قال الحسن أراد المنافقون ان يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فاوعدهم الله في هذه الآية فكتموه واسروه وقال قتادة ذكر لنا ان المنافقين أرادوا ان يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فاوعدهم الله في هذه الآية فكتموه ولو كان إظهار التوبة بعد إظهار النفاق مقبولا لم يمكن أخذ المنافق ولاقتله لتمكنه من إظهار التوبة لا سيما إذا كان كلما شاء أظهر النفاق ثم أظهر التوبة وهي مقبولة منه

يؤيد ذلك ان الله تبارك وتعالى جعل جزاءهم ان يقتلوا ولم يجعل جزاءهم ان يقاتلوا ولم يستثن حال التوبة كما استثناء من قتل المحاربين وقتل المشركين فانه قال " فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم " وقال في المحاربين " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ان يقتلوا أو يصلبوا " إلى قوله تعالى " الا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم " فعلم انهم يقتلون من غير استتابة وانه لا يقبل منهم ما يظهرونه من التوبة

يوضح ذلك انه جعل أنتهاءهم النافع قبل الاغراء بهم وقبل الاخذ والتقتيل وهناك جعل التوبة بعد ذكر الحصر والاخذ والقتل فعلم ان الانتهاء بعد الاغراء بهم لا ينفعهم كما لا تنفع المحارب التوبة بعد القدرة عليه وان نفعت المشرك من مرتد واصلي التوبة بعد القدرة عليه وقد أخبر سبحانه ان سنته فيمن لم يتب عن النفاق حتى قدر عليه ان يؤخذ ويقتل وان هذه السنة لا تبديل لها والانتهاء في الآية ان يعنى به الانتهاء عن النفاق بالتوبة الصحيحة أو الانتهاء عن إظهاره عند شياطينه وعند بعض المؤمنين

والمعنى الثاني اظاهر فان من المنافقين من لم ينته عن أسرار النفاق حتى مات النبي وانتهوا عن إظهاره حتى كان في آخر الأمر لا يكاد أحد يجتريء على إظهار شيء من النفاق نعم الانتهاء يعم القسمين فمن أنتهى عن إظهاره فقط أو عن أسراره واعلانه خرج من وعيد هذه الآية ومن أظهره لحقه وعيدها ومما يشبه ذلك قوله تعالى " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر " إلى قولله تعالى " فان يتوبوا يك خيرا لهم وان يتولوا يعذبهم الله عذابا اليما في الدنيا والآخرة " فانه دليل على أن المنافق إذا لم يتب عذبه الله في الدنيا والآخرة وكذلك قوله تعالى " وممن حولكم من الاعراب منافقون " إلى قوله تعالى " سنعذبهم مرتين " واما قوله " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة " فقد قال أبو رزين هذا شيء واحد هم المنافقون وكذلك قال مجاهد كل هؤلاء منافقون فيكون من باب عطف الخاص على العام كقوله تعالى " وجبريل وميكال " وقال سلمة بن كهيل وعكرمة الذين في قلوبهم مرض أصحاب الفواحش والزناةومعلوم ان من يظهر الفاحشة لم يكن بد من إقامة الحد عليه فكذلك من أظهر النفاق

ويدل على جواز قتل الزنديق المنافق من غير استتابة ما خرجاه في الصحيحين في قصة حاطب بن أبي بلتعة قال فقال عمر دعني يا رسول الله اضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله انه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم فدل على أن ضرب عنق المنافق من غير استتابة مشروع إذ لم ينكر النبي على عمر استحلال ضرب عنق المنافق ولكن أجاب بان هذا ليس بمنافق ولكنه من أهل بدر المغفور لهم فإذا ظهر النفاق الذي لاريب انه نفاق فهو مبيح للدم

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها في حديث الافك قالت فقام رسول الله من نومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله وهو على المنبر من يعذرني من رجل بلغني اذاه في أهلي فوالله ما علمت على أهلي الا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه الا خيرا وماكان يدخل على أهلي الا معي فقالت فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الاشهل فقال يا رسول الله انا والله اعذرك منه ان كان من الاوس ضربنا عنقه وان كان من اخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقال سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعديعني ابن معاذ فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فانك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان الاوس والخزرج حتى هموا ان يقتتلوا ورسول الله قائم على المنبر فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا وسكت متفق عليه

وفي الصحيحين عن عمر وعن جابر بن عبد الله قال غزونا مع النبي وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع انصاريا فغضب الانصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال الانصاري ياللانصار وقال المهاجري ياللمهاجرين فخرج النبي فقال ما بال دعوى الجاهلية ثم قال ما بالهم فأخبر بكسعة المهاجري الانصاري قال فقال النبي دعوها فانها خبيثة وقال عبد الله بن أبي بن سلول اقد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل قال عمر الا تقتل يا نبي الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي لا يتحدث الناس ان محمدا يقتل أصحابه

وذكر أهل التفسير وأصحاب السير ان هذه القصة كانت في غزوة بني المصطلق اختصم رجل من المهاجرين ورجل من الانصار حتى غضب عبد الله بن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن ارقم غلام حديث السن وقال عبد الله بن أبي افعلوها قد نافرونا وكابرونا في بلادنا والله ما مثلنا ومثلهم الا كما قال القائل سمن كلبك ياكلك اما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل يعني بالاعز نفسه وبالاذل رسول الله ثم اقبل على من حضره من قومه فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقا سمتموهم أموالكم اما والله لوامسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولأوشكوا ان يتحولوا عن بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن ابن ارقم أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد في عز من الرحمن ومودة من المسلمين والله لا أحبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله اسكت فانما كنت العب فمشى زيد بن ارقم بها إلى رسول الله وذلك بعد فراغه من الغزوة وعنده عمر بن الخطاب فقال دعني اضرب عنقه يا رسول الله فقال إذا ترعد له انف كثيرة بيثرب فقال عمر فان كرهت يا رسول الله ان يقتله رجل من المهاجرين فمر سعد بن معاذ أو محمد بن مسلمة أو عباد بن بشر فليقتلوه فقال رسول الله فكيف يا عمر إذا تحدث الناس ان محمدا يقتل أصحابه لا ولكن اذن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله يرتحل فيها وأرسل رسول الله إلى عبد الله بن أبي فاتاه فقال أنت صاحب هذا الكلام فقال عبد الله والذي انزل عليك الكتاب بالحق ما قلت من هذا شيئا وان زيدا لكاذب فقال من حضر من الانصار يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لاتصدق عليه كلام غلام من غلمان الانصار عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه ولم يحفظ ما قال فعذره رسول الله وفشت الملامة في الانصار لزيد وكذبوه قالوا وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من فضلاء الصحابة ما كان من أمر ابيه فاتى رسول الله فقال يا رسول الله بلغني انك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه فان كنت فاعلا فمرني فانا احمل اليك راسه فوالله لقد علمت الخزرج ماكان بها رجل ابر بوالديه مني واني اخشى ان تامر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي انظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فاقتله فاقتل مؤمنا بكافر فادخل النار فقال له رسول الله بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا وقال النبي لا يتحدث الناس انه يقتل أصحابه ولكن بر اباك وأحسن صحبته وذكروا القصة قالوا وفي ذلك نزلت سورة المنافقين

وقد أخرجا في الصحيحين عن زيد بن ارقم قال خرجنا مع رسول الله في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي لاتنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل فاتيت رسول الله فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فساله فاجتهد بيمينه مافعل فقالوا كذب زيد يا رسول الله قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى انزل الله تصديقي " إذا جاءك المنافقون " قال ثم دعاهم رسول الله ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم

ففي هذه القصة بيان أن قتل المنافق جائز من غير استتابة وان أظهر إنكارذلك القول وتبرا منه وأظهر الإسلام وانما منع النبي من قتله ما ذكره من تحدث الناس انه يقتل أصحابه لأن النفاق لم يثبت عليه بالبينة وقد حلف انه ما قال وانما علم بالوحي وخبر زيد ابن ارقم

وأيضا لما خافه من ظهور فتنة بقتله وغضب اقوام يخاف افتتانهم بقتله

وذكر بعض أهل التفسير ان النبي عد المنافقين الذين وقفوا له على العقبة في غزوة تبوك ليفتكوا به فقال حذيفة الا تبعث إليهم فتقتلهم فقال أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيناهم الله بالدبيلة

وذكر بعضهم ان رجلا من المنافقين خاصم رجلا من اليهود إلى النبي فقضى رسول الله لليهودي فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال انطلق بنا إلى عمر بن الخطاب فاقبل إلى عمر فقال اليهودي اختصمت انا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم انه مخاصم اليك وتعلق بي فجئت معه فقال عمر للمنافق اكذلك قال نعم فقال عمر لهما رويداكما حتى أخرج اليكما فدخل عمر البيت فاخذ السيف واشتمل عليه ثم خرج إليهما فضرب به المنافق حتى برد فقال هكذا اقضي بين من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله فنزل قوله " ألم تر إلى الذين يزعمون " الآية وقال جبريل ان عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق وقد تقدمت هذه القصة مروية من وجهين

ففي هذه الأحاديث دلالة على أن قتل المنافق كان جائزا إذ لولا ذلك لأنكر النبي على من استأذنه في قتل المنافق ولانكر على عمر إذ قتل من قتل من المنافقين والأخبرب النبي ان الدم معصوم بالإسلام ولم يعلل ذلك بكراهية غضب عشائر المنافقين لهم وان يتحدث الناس ان محمدا يقتل أصحابه وان يقول القائل لما ظفر بأصحابه اقبل يقتلهم لأن الدم إذا كان معصوما كان هذا الوصف عديم التاثير في عصمة دم المعصوم ولا يجوز تعليل الحكم بوصف لا اثر له ويترك تعليله بالوصف الذي هو مناط الحكم وكما انه دليل على القتل فهو دليل على القتل من غير استتابة على ما لايخفى

فإن قيل فلم لم يقتلهم النبي مع علمه بنفاق بعضهم وقبل علانيتهم

قلنا إنما ذاك لوجهين

أحدهما ان عامتهم لم يكن ما يتكلمون به من الكفر مما يثبت عليهم بالبينة بل كانوا يظهرون الإسلام ونفاقهم يعرف تارة بالكلمة يسمعها منهم الرجل المؤمن فينقلها إلى النبي فيحلفون بالله انهم ما قالوها أو لايحلفون وتارة بما يظهر من تاخرهم عن الصلاة والجهاد واستثقالهم للزكاة وظهور الكراهية منهم لكثير من أحكام الله وعامتهم يعرفون في لحن القول كما قال تعالى " أم حسب الذين في قلوبهم مرض ان لن يخرج الله اضغانهم ولو نشاء لاريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول " فأخبر سبحانه انه لوشاء لعرفهم رسوله بالسيماء في وجوههم ثم قال " ولتعرفنهم في لحن القول " فاقسم على انه لا بد ان يعرفهم في لحن القول ومنهم من كان يقول القول أو يعمل العمل فينزل القران يخبر ان صاحب ذلك القول والعمل منهم كما في سورة براءة " ومنهم " ومنهم " وكان المسلمون أيضا يعلمون كثيرا منهم بالشواهد والدلالات والقرائن والامارات ومنهم من لم يكن يعرف كما قال تعالى " وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم " ثم جميع هؤلاء المنافقين يظهرون الإسلام ويحلفون انهم مسلمون

وقد اتخذوا ايمانهم جنة وإذا كانت هذه حالهم فالنبي لم يكن يقيم الحدود بعلمه ولا بخبر الواحد ولا بمجرد الوحي ولا بالدلائل والشواهد حتى يثبت الموجب للحد ببينة أو إقرار الا ترى كيف أخبر عن المراة الملاعنه انها ان جاءت بالولد على نعت كذا وكذا فهو للذي رميت به وجاءت على النعت المكروه فقال لولا الايمان لكان لي ولها شان

وكان بالمدينة امرأة تعلن الشر فقال لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمتها

وقال للذين اختصموا إليه انكم تختصمون الي ولعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض فاقضي بنحو مما اسمع فمن قضيت له من حق اخيه شيئا فلا ياخذه فانما اقطع له قطعة من النار فكان ترك قتلهم مع كونهم كفارا لعدم ظهور الكفر منهم بحجة شرعية

ويدل على هذا انه لم يستتبهم على التعيين ومن المعلوم ان أحسن حال من ثبت نفاقه وزندقته ان يستتاب كالمرتد فان تاب والا قتل ولم يبلغنا انه استتاب واحد بعينه منهم فعلم ان الكفر والردة لم تثبت على واحد بعينه ثبوتا يوجب ان يقتل كالمرتد ولهذا كان يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله فإذا كانت هذه حال من ظهر نفاقه بغير البينة الشرعية فكيف حال من لم يظهر نفاقه ولهذا قال اني لم اومر ان انقب عن قلوب الناس ولا اشق بطونهم لما استؤذن في قتل ذي الخويصرة ولما استؤذن أيضا في قتل رجل من المنافقين قال اليس يشهد ان لا إله إلا الله قيل بلى قال اليس يصلي قيل بلى قال أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم فأخبر انه نهي عن قتل من أظهر الإسلام من الشهادتين والصلاة وان زن بالنفاق ورمي به وظهرت عليه دلالته إذا لم يثبت بحجة شرعية انه أظهر الكفر وكذلك قوله في الحديث الآخر أمرت ان اقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا إله إلا الله واني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على الله معناه اني أمرت ان اقبل منهم ظاهر الإسلام واكل بواطنه إلى الله والزنديق والمنافق إنما يقتل إذا تكلم بكلمة الكفر وقامت عليه بذلك بينة وهذا حكم بالظاهر لا بالباطن وبهذا الجواب يظهر فقه المسألة

الوجه الثاني انه كان يخاف ان يتولد من قتلهم من الفساد أكثر مما في استبقائهم وقد بين ذلك حيث قال لا يتحدث الناس ان محمدا يقتل أصحابه وقال إذا ترعد له انف كثيرة بيثرب فانه لو قتلهم بما يعلمه من كفرهم لاوشك ان يظن الظان انه إنما قتلهم لاغراض واحقاد وانما قصده الاستعانة بهم على الملك كما قال اكره ان تقول العرب لما ظفر بأصحابه اقبل يقتلهم وان يخاف من يريد الدخول في الإسلام ان يقتل مع إظهاره الإسلام كما قتل غيره

وقد كان أيضا يغصب لقتل بعضهم قبيلته وناس أخرون ويكون ذلك سببا للفتنة واعتبر ذلك بما جرى في قصة عبد الله بن أبي لما عرض سعد بن معاذ بقتله خاصم له اناس صالحون واخذتهم الحمية حتى سكتهم رسول الله وقد بين ذلك رسول الله لما استأذنه عمر في قتل ابن أبي قال أصحابنا ونحن الان إذا خفنا مثل ذلك كففناعن القتل

فحاصله ان الحد لم يقم على واحد بعينه لعدم ظهوره بالحجة الشرعيةالتي يعلمه بها الخاص والعام أو لعدم امكان إقامته الا مع تنفير اقوام عن الدخول في الإسلام وارتداد اخرين عنه وإظهار قوم من الحرب والفتنة ما يربى فساده على فساد ترك قتل منافق وهذان المعنيان حكمهما باق إلى يومنا هذا الا في شيء واحد وهو انه ربما خاف ان يظن الظان انه يقتل أصحابه لغرض آخر مثل اغراض الملوك فهذا منتف اليوم

والذي يبين حقيقة الجواب الثاني ان النبي لما كان بمكة مستضعفا هو وأصحابه عاجزين عن الجهاد أمرهم الله بكف أيديهم والصبرعلى اذى المشركين فلما هاجروا إلى المدينة وصار له دار عز ومنعة أمرهم بالجهاد وبالكف عمن سالمهم وكف يده عنهم لأنه لو أمرهم إذ ذاك بإقامة الحدود على كل كافر ومنافق لنفر عن الإسلام أكثر العرب إذ رأوا ان بعض من دخل فيه يقتل وفي مثل هذه الحال نزل قوله تعالى " ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع اذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا " وهذه السورة نزلت بالمدينة بعد الخندق فامره الله في تلك الحال ان يترك اذى الكافرين والمنافقين له فلا يكافئهم عليه لما يتولد في مكافأتهم من الفتنة ولم يزل الأمر كذلك حتى فتحت مكة ودخلت العرب في دين الله قاطبة ثم أخذ النبي في غزو الروم وانزل الله تبارك وتعالى سورة براءة وكمل شرائع الدين من الجهاد والحج والأمر بالمعروف فكان كمال الدين حين نزل قوله تعالى " اليوم اكملت لكم دينكم " قبل الوفاة بأقل من ثلاثة اشهر ولما أنزل براءة أمره بنبذ العهود التي كانت للمشركين وقال فيها " يا ايها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى " ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع اذاهم " وذلك انه لم يبق حينئذ للمنافق من يعينه لو اقيم عليه الحد ولم يبق حول المدينة من الكفار من يتحدث بان محمد يقتل أصحابه فامره الله بجهادهم والاغلاظ عليهم وقد ذكر أهل العلم ان اية الأحزاب منسوخة بهذه الآية ونحوها وقال في الأحزاب " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورنك فيها الا قليلا ملعونين اينما ثقفوا أخذوا " الآية فعلم انهم كانوا يفعلون أشياءاذ ذاك ان لم ينتهوا عنها قتلوا عليها في المستقبل لما اعز الله دينه ونصر رسوله فحيث ما كان للمنافق ظهور يخاف من إقامة الحد عليه فتنة اكبر من بقائه عملنا بآية " دع اذاهم " كما انه حيث عجزنا عن جهاد الكفار عملنا بآية الكف عنهم والصفح وحيث ما حصل القوة والعز خوطبنا بقوله " جاهد الكفار والمنافقين "

فهذا يبين ان الإمساك عن قتل من أظهر نفاقه بكتاب الله على عهد رسول الله إذ لا نسخ بعده ولم ندع ان الحكم تغير بعده لتغير المصلحة من غير وحي نزل فان هذا تصرف في الشريعة وتحويل لها بالراي ودعوى ان الحكم المطلق كان لمعنى وقد زال وهو غير جائز كما قد نسبوا ذلك إلى من قال إن حكم المؤلفة انقطع ولم يأت على انقطاعه بكتاب ولا سنة سوى ادعاء تغير المصلحة

ويدل على المسألة ما روى أبو ادريس قال أتى على رضي الله عنه بأناس من الزنادقة ارتدوا عن الإسلام فسألهم فجحدوا فقامت عليهم البينة العدول قال فقتلهم ولم يستتبهم وقال واتى برجل كان نصرانيا وأسلم ثم رجع عن الإسلام قال فسأله فأقر بما كان منه فاستتابه فتركه فقيل له كيف تستتيب هذا ولم تستتب أولئك قال إن هذا اقر بما كان منه وان أولئك لم يقروا وجحدوا حتى قامت عليهم البينة فلذلك لم استتبهم رواه الإمام أحمد

وروى الأثرم عن أبي ادريس قال أتى علي برجل قد تنصر فاستتابه فأبى ان يتوب فقتله وأتى برهط يصلون القبلة وهم زنادقة وقد قامت عليهم بذلك الشهود العدول فجحدوا وقالوا ليس لنا دين الا الإسلام فقتلهم ولم يستتبهم ثم قال اتدرون لم استتبت هذا النصراني استتبته لأنه أظهر دينه واما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة وجحدوني فانما قتلتهم لأنهم جحدوا وقامت عليهم البينة

فهذا من أمير المؤمنين على رضي الله عنه بيان أن كل زنديق كتم زندقته وجحدها حتى قامت عليه البينة قتل ولم يستتب وان النبي لم يقتل من جحد زندقته من المنافقين لعدم قيام البينة

ويدل على ذلك قوله تعالى " وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة " إلى قوله " وأخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا " فعلم ان من لم يعترف بذنبه كان من المنافقين ولهذا الحديث قال الإمام أحمد في الرجل يشهد عليه بالبدعة فيجحد ليست له توبة إنما التوبة لمن اعترف فاما من جحدها فلا توبة له

قال القاضي أبو يعلي وغيره وإذا اعترف بالزندقة ثم تاب قبلت توبته لأنه باعترافه يخرج عن حد الزندقة لأن الزنديق هو الذي يستبطن الكفر وينكره ولا يظهره فإذا اعترف به ثم تاب خرج عن حده فلهذا قبلنا توبته ولهذا لم يقبل علي رضي الله عنه توبة الزنادقة لما جحدوا

وقد يستدل على المسالة بقوله تعالى " وليست التوبة للذين يعملون السيئات " الآية وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي العالية في قوله تعالى " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهاله ثم يتوبون من قريب " قال هذه في أهل الايمان " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال اني تبت الان " قال هذه في أهل النفاق " ولا الذين يموتون وهم كفار " قال هذه في أهل الشرك هذا مع انه الراوي عن أصحاب محمد فيما اظن انهم قالوا كل عبد أصاب ذنبا فهو جاهل بالله وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب

ويدل على ما قال إن المنافق إذا أخذ ليقتل ورأى السيف فقد حضره الموت بدليل دخول مثل هذا في عموم قوله تعالى " كتب عليكم إذا حضر احدكم الموت " وقوله تعالى " شهادة بينكم إذا حضر احدكم الموت " وقد قال حين حضره الموت " اني تبت الان " فليست له توبة كما ذكره الله سبحانه نعم ان تاب توبة صحيحه فيما بينه وبين الله لم يكن ممن قال " اني تبت الان " بل يكون ممن تاب من قريب لأن الله سبحانه إنما نفى التوبة عمن حضره الموت وتاب بلسانه فقط ولهذا قال في الأول " ثم يتوبون " وقال هنا " اني تبت الان " فمن قال اني تبت قبل حضور الموت أو تاب توبة صحيحه بعد حضور اسباب الموت صحت توبته

وربما استدل بعضهم بقوله تعالى " فلما راوا بأسنا قالوا امنا بالله وحده " الايتين وبقوله تعالى " حتى إذا ادركه الغرق " الآية وقوله سبحانه " فلولا كانت قرية امنت فنفعها ايمانها " الآية فوجه الدلالة ان عقوبة الامم الخالية بمنزلة السيف للمنافقين ثم أولئك إذا تابوا بعد معاينة العذاب لم ينفعهم فكذلك المنافق ومن قال هذا فرق بينه وبين الحربي بانا لأنقاتله عقوبة على كفره بل نقاتله ليسلم فإذا أسلم فقد أتى بالمقصود والمنافق إنما يقاتل عقوبة لا ليسلم فانه لم يزل مسلما والعقوبات لا تسقط بالتوبة بعد مجئ الباس وهذا كعقوبات سائر العصاة فهذه طريقة من يقتل الساب لكونه منافقا

وفيه طريقة أخرى وهي ان سب النبي بنفسه موجب للقتل مع قطع النظر عن ككونه مجرد ردة فانا قد بينا انه موجب للقتل وبينا انه جناية غير الكفر إذا لو كان ردة محضة وتبديلا للدين وتركا له لما جاز للنبي العفو عمن كان يؤذيه كما لا يجوز العفو عن المرتد ولما قتل الذين سبوه وقد عفا عمن قاتل وحارب

وقد ذكرنا أدلة أخرى على ذلك فيما تقدم ولان التنقص والسب قد يصدر عن الرجل مع اعتقاد النبوة والرسالة لكن لما وجب تعزير الرسول وتوقيره بكل طريق غلظت عقوبة من أنتهك عرضه بالقتل فصار قتله حدا من الحدود لأن سبه نوع من الفساد في الأرض كالمحاربة باليد لا لمجرد كونه بدل الدين وتركه وفارق الجماعة وإذا كان كذلك لم يسقط بالتوبة كسائر الحدود غير عقوبة الكفر وتبديل الدين قال الله تعالى " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ان يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم الا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم فاعلموا ان الله غفور رحيم "

فثبت بهذه الآية ان من تاب بعد ان قدر عليه لم تسقط عنه العقوبة وكذلك قال سبحانه " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه واصلح فان الله يتوب عليه ان الله غفور رحيم " فامر بقطع أيديهم جزاء على ما مضى ونكالا عن السرقة في المستقبل منهم ومن غيرهم وأخبر ان الله يتوب على من تاب ولم يدرا القطع بذلك لأن القطع له حكمتان الجزاء والنكال والتوبة تسقط الجزاء ولا تسقط النكال فان الجاني متى علم انه إذا تاب لم يعاقب لم يردع ذلك الفساق ولم يزجرهم عن ركوب العظائم فان إظهار التوبة والاصلاح لمقصود حفظ النفس والمال سهل

ولهذا لم نعلم خلافا يعتمد في ان السارق أو الزاني لو أظهر التوبة بعد ثبوت الحد عليه عند السلطان لم يسقط الحد عنه وقد رجم النبي ماعزا والغامدية وأخبر بحسن توبتهما وحسن مصيرهما وكذلك لو قيل إن سب النبي يسقط بالتوبة وتجديد الإسلام لم يردع ذلك الالسن عن انتهاك عرضه ولم يزجر النفوس عن الاستحلال حرمته بل يؤذيه الانسان بما يريد ويصيب من عرضه ما شاء من أنواع السب والأذى ثم يجدد إسلامه ويظهر ايمانه وقد ينال المرء من عرضه ويقع منه تنقص له واستهزاء ببعض أقواله أو اعماله وان لم يكن منتقلا من دين إلى دين فلا يصعب على من هذه سبيله كلما نال من عرضه واستخف بحرمته ان يجدد إسلامه بخلاف الردة المجردة عن الدين فان سقوط القتل فيها بالعود إلى الإسلام لا يوجب اجتراء الناس على الردة إذ الانتقال عن الدين عسير لا يقع الا عن شبهة قادحة في القلب أو شهوة قامعة للعقل فلا يكون قبول التوبة من المرتد مجريا للنفوس على الردة ويكون ما يتوقعه من خوف القتل زاجرا له عن الكفر فانه إذا أظهر ذلك لا يتم مقصوده لعلمه بانه يجبر على العود إلى الإسلام وهنا من فيه استخفاف أو اجتراء أو سفاهة يتمكن من انتقاص النبي وعيبه والطعن عليه كلما شاء ثم يجدد الإسلام ويظهر التوبة وبهذا يظهر ان السب والشتم يشبه الفساد في الأرض الذي يوجب الحد اللازم من الزنى وقطع الطريق والسرقة وشرب الخمر فان مريد هذه المعاصي إذا علم انه تسقط عنه العقوبة إذا تاب فعلها كلما شاء كذلك من يدعوه ضعف عقله أو ضعف دينه إلى الانتقاص برسول الله إذا علم ان التوبة تقبل منه أتى ذلك متى شاء ثم تاب منه وقد حصل مقصوده بما قاله كما حصل مقصود أولئك بما فعلوه بخلاف مريد الردة فان مقصوده لا يحصل الا بالمقام عليها وذلك لا يحصل له إذا قتل ان لم يرجع فيكون ذلك وازعا له وهذا الوجه لا يخرج السب عن أن يكون ردة لكن حقيقته انه نوع من الردة تغلظ بما فيه من انتهاك عرض رسول الله كما قد تتغلظ ردة بعض الناس بان ينضم إليها قتل وغيره فيتحتم القتل فيها دون الردة المجردة كما يتحتم القتل في القتل من قاطع الطريق لتغلظ الجرم وان لم يتحتم قتل من قتل لغرض آخر فعوده إلى الإسلام يسقط موجب الردة المحضة ويبقى خصوص السب ولابد من إقامة حده كما ان توبة القاطع قبل القدرة عليه تسقط تحتم القتل ويبقى حق أولياء المقتول من القتل الدية أو العفو وهذه مناسبة ظاهرة وقد تقدم نص الشارع وتنبيهه على اعتبار هذا المعنى

فإن قيل تلك المعاصي يدعو إليها الطبع مع صحة الاعتقاد فلو لم يشرع عنها زاجر لتسارعت النفوس إليها بخلاف سب رسول الله فان الطباع لا تدعوا إليه الا لخلل في الاعتقاد والخلل في الاعتقاد أكثر ما يوجب الردة فعلم ان مصدره أكثر ما يكون الكفر فيلزمه عقوبة الكافر وعقوبة الكافر مشروطة بعدم التوبة وإذا لم يكن إليه بمجرده باعث طبيعي لم يشرع ما يزجر عنه وان كان حراما كالاستخفاف بالكتاب والدين ونحو ذلك

قلنا بل قد يكون إليه باعث طبيعي غير الخلل في الاعتقاد من الكبر الموجب للاستخفاف ببعض أحواله وأفعاله والغضب الداعي إلى الوقيعة فيه إذا خالف الغرض بعض أحكامه والشهوة الحاملة على ذم ما يخالف الغرض من أموره وغير ذلك فهذه الأمور قد تدعو الانسان إلى نوع من السب له وضرب من الأذى والانتقاص وان لم يصدر الا مع ضعف الايمان به كما ان تلك المعاصي لا تصدر أيضا الامع ضعف الايمان وإذا كان كذلك فقبول التوبة ممن هذه حاله يوجب اجتراء أمثاله علىأمثال كلماته فلا يزال العرض منهوكا الحرمة محقورة بخلاف قبول التوبة ممن يرتد انتقالا عن الدين اما إلى دين آخر أو إلى تعطيل فانه إذا علم انه يستتاب على ذلك فان تاب والاقتل لم ينتقل بخلاف ما إذا صدر السب عن كافر به ثم امن به فان علمه بانه إذا أظهر السب لا يقبل منه الا الإسلام أو السيف يزعه عن هذا السب الا أن يكون مريدا للإسلام ومتى أراد الإسلام فالإسلام يجب ما كان قبله فليس في سقوط القتل بإسلام الكافر من التطريق إلى الوقيعة في عرضه ما في سقوطه بتجديد إسلام من يظهر الإسلام

وأيضا فان سب النبي حق لآدمي فلا يسقط بالتوبة كحد القذف وكسب غيره من البشر

ثم من فرق بين المسلم والذمي قال المسلم قد التزم ان لا يسبه ولا يعتقد سبه فإذا أتى ذلك اقيم عليه حده كما يقام عليه حد الخمر وكما يعزر على اكل لحم الميته والخنزير والكافر لم يلتزم تحريم ذلك ولا يعتقده فلا تجب عليه إقامة حده كما لاتجب عليه إقامة حد الخمر ولا يعزر على الميته والخنزير

نعم إذا أظهره نقض العهد الذي بيننا وبينه فصار بمنزلة الحربي فنقتله لذلك فقط لا لكونه أتى حدا يعتقد تحريمه فإذا أسلم سقط عنه العقوبة على الكفر ولا عقوبة عليه لخصوص السب فلا يجوز قتله

وحقيقة هذه الطريقة ان سب النبي لما فيه من الغضاضة عليه يوجب القتل تعظيما لحرمته وتعزيرا له وتوقيرا ونكالا عن التعرض له والحد إنما يقام على الكافر فيما يعتقد تحريمه خاصة لكنه إذا أظهر ما يعتقد حله من المحرمات عندنا زجر عن ذلك وعوقب عليه كما إذا أظهر الخمر والخنزير فإظهار السب اما أن يكون كهذه الأشياء كما زعمه بعض الناس أو يكون نقضا للعهد كمقاتلة المسلمين وعلى التقديرين فالإسلام يسقط تلك العقوبة بخلاف ما يصيبه المسلم مما يوجب الحد عليه

وأيضا فان الردة على قسمين ردة مجردة وردة مغلظة شرع القتل على خصوصها وكلاهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها والأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعم القسمين بل إنما تدل على القسم الأول كما يظهر لمن ذلك تامل الأدلة على قبول توبة المرتد فيبقى القسم الثاني وقد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه ولم يات نص ولا إجماع بسقوط القتل عنه والقياس متعذر مع وجود الفرق الجلي فانقطع الالحاق

والذي يحقق هذه الطريقة انه لم يات في كتاب ولا سنة ولا إجماع ان كل من ارتد باي قول أو أي فعل كان فانه يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه بل الكتاب والسنة والإجماع قد فرق بين أنواع المرتدين كما سنذكره

وانما بعض الناس يجعل برأيه الردة جنسا واحدا على تباين أنواعه ويقيس بعضها ببعض فإذا لم يكن معه عموم نطقي يعم أنواع المرتدين لم يبق الا القياس وهو فاسد إذا فارق الفرع الاصل بوصف له تاثير في الحكم وقد دل على تاثيره نص الشارع وتنبيهه والمناسبة المشتملة على المصلحة المعتبرة

وتقرير هذا من ثلاثة اوجه

أحدها ان دلائل قبول توبة المرتد مثل قوله تعالى " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد ايمانهم " إلى قوله " الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا " وقوله تعالى " من كفر بالله من بعد ايمانه " ونحوها ليس فيها الاتوبة من كفر بعد الايمان فقط دون من انضم إلى كفره مزيد اذى واضرار وكذلك سنة رسول الله إنما فيها قبول توبة من جرد الردة فقط وكذلك سنة الخلفاء الراشدين إنما تضمنت قبول توبة من جرد الردة وحارب بعد ارتداده كمحاربة الكافر الاصلي على كفره فمن عزم ان في الأصول ما يعم توبة كل مرتد سواء جرد الردة أو غلظها باي شئ كان فقد أبطل وحينئذ فقد قامت الأدلة على وجوب قتل الساب وانه مرتد ولم تدل الأصول على أن مثله يسقط عنه القتل فيجب قتله بالدليل السالم عن المعارض

الثاني ان الله سبحانه قال " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد ايمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم ان عليهم لعنة الله والملائكة والناس اجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون الا الذين تابوا بعد ذلك واصلحوا فان الله غفور رحيم ان الذين كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم واولئك هم الضالون " فأخبر سبحانه ان من ازداد كفرا بعد ايمانه لن تقبل توبته وفرق بين الكفر المزيد كفرا والكفر المجرد في قبول التوبة من الثاني دون الأول فمن زعم ان كل كفر بعد الايمان تقبل منه التوبة فقد خالف نص القران

وهذه الآية ان كان قد قيل فيها ان ازدياد الكفر المقام عليه إلى حين الموت وان التوبة المنفية هي توبته عند الغرغرة أو يوم القيامة فالآية أعم من ذلك

وقد راينا سنة رسول الله فرقت بين النوعين فقبل توبة جماعة من المرتدين ثم انه أمر بقتل مقيس بن صبابه يوم الفتح من غير استتابة لما ضم إلى ردته قتل المسلم واخذ المال ولم يتب قبل القدرة عليه وامر بقتل العرنيين لما ضموا ردتهم نحوا من ذلك وكذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم وامر بقتل ابن أبي سرح لما ضم إلى ردته الطعن عليه والافتراء وإذا كان الكتاب والسنة قد حكما في المرتدين بحكمين وراينا ان من ضر واذى بالردة اذى يوجب القتل لم يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه وان تاب مطلقا دون من بدل دينه فقط لم يصح القول بقبول توبة المرتد مطلقا وكان الساب من القسم الذي لايجب ان تقبل توبته كما دلت عليه السنة في قصة ابن أبي سرح ولان السب ايذاء عظيم للمسلمين أعظم عليهم من المحاربة باليد كما تقدم تقريره فيجب ان يتحتم عقوبة فاعله ولان المرتد المجرد إنما نقتله لمقامه على التبديل للدين فإذا عاود الدين الحق زال المبيح لدمه كما يزول المبيح لدم الكافر الاصلي بإسلامه وهذا الساب أتى من الأذى لله ورسوله بعد المعاهدة على ترك ذلك بما أتى به وهو لايقتل لمقامه عليه فان ذلك ممتنع فصار قتله كقتل المحارب باليد

وبالجملة فمن كانت ردته محاربة لله ورسوله بيد أو لسان فقد دلت السنة المفسرة للكتاب انه ممن كفر كفرا مزيدا لا تقبل توبته منه

الوجه الثالث ان الردة قد تتجرد عن السب فلا تتضمنه ولا تستلزمه كما تتجرد عن قتل المسلمين واخذ أموالهم إذ السب والشتم افراط في العداوة وابلاغ في المحادة مصدره شدة سفه الكافر وحرصه على فساد الدين واضرار أهله ولربما صدر عمن يعتقد النبوة والرسالة لكن لم يات بموجب هذا الاعتقاد من التوقير والانقياد فصار بمنزلة ابليس حيث اعتقد ربوبية الله سبحانه وتعالى بقوله رب وقد ايقن ان الله أمره بالسجود ثم لم يات بموجب هذا الاعتقاد من الاستسلام والانقياد بل استكبر وعاند معاندة معارض طاعن في حكمة الأمر

ولا فرق بين من يعتقد ان الله ربه وان الله أمره بهذا الأمر ثم يقول انه لا يطيعه لأنه أمره ليس بصواب ولا سداد وبين من يعتقد ان محمدا رسول الله وانه صادق واجب الاتباع في خبره وامره ثم يسبه أو يعيب أمره اوشيئا من أحواله أو ينتقصه انتقاصا لا يجوز ان يستحقه الرسول وذلك ان الايمان قول وعمل فمن اعتقد الوحدانيه في الالوهية لله سبحانه وتعالى والرسالة لعبده ورسوله ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبه من الاجلال والاكرام والذي هو حال في القلب يظهر اثره على الجوارح بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل كان وجودذلك الاعتقاد كعدمه وكان ذلك موجبا لفساد ذلك الاعتقاد ومزيلا لما فيه من المنفعة والصلاح إذا الاعتقادات الايمانية تزكي النفوس وتصلحها فمتى لم توجب زكاة النفس ولا صلاحا فما ذاك الا لأنها لم ترسخ في القلب ولم تصل صفة ونعتا للنفس وإذا لم يكن علم الايمان المفروض صفة لقلب الانسان لازمة لم ينفعه فانه يكون بمنزلة حديث النفس وخواطر القلب والنجاة لا تحصل الا بيقين في القلب ولو انه مثقال ذرة

هذا فيما بينه وبين الله واما في الظاهر فتجري الأحكام على ما يظهره من القول والفعل

والغرض بهذا التنبيه على أن الاستهزاء بالقلب والانتقاص ينافي الايمان الذي في القلب منافاة الضد ضده والاستهزاء باللسان ينافي الايمان الظاهر باللسان كذلك

والغرض بهذا التنبيه على أن السب الصادر عن القلب يوجب الكفر ظاهرا وباطنا

هذا مذهب الفقهاء وغيرهم من أهل السنة والجماعة خلاف مايقوله بعض الجهمية والمرجئة القائلين بان الايمان هو المعرفة والقول بلا عمل من اعمال القلب من انه إنما ينافيه في الظاهر وقد يجامعه في الباطن وربما يكون لنا انشاء الله تعالى عودة إلى هذا الموضع

والغرض هنا انه كما ان الردة تتجرد عن السب فكذلك السب قد يتجرد عن قصد تبديل الدين وإرادة التكذيب بالرسالة كما تجرد كفر ابليس عن قضد التكذيب بالربوبية وان كان عدم هذا القصد لا ينفعه كما لا ينفع من قال الكفر ان لا يقصد ان يكفر

وإذا كان كذلك فالشارع إذا أمر بقبول توبة من قصد تبديل دينه الحق وغير اعتقاده وقوله فانما ذاك لأن المقتضى للقتل الاعتقاد الطارىء وإعدام الاعتقاد الأول فإذا عاد ذلك الاعتقاد الايماني وزال هذا الطاريء كان بمنزلة الماء والعصير يتنجس بتغيره ثم يزول التغير فيعود حلالا لأن الحكم إذا ثبت بعلة يزول بزوالها وهذا الرجل لم يظهر مجرد تغير الاعتقاد حتى يعود معصوما بعوده إليه وليس هذا القول من لوازم تغير الاعتقاد حتى يكون حكمه كحكمه إذا قد يتغير الاعتقاد كثيرا ولا يكون أتى باذى لله ورسوله

واضرار بالمسلمين يزيد على تغيير الاعتقاد ويفعله من يظن سلامة الاعتقاد وهوكاذب عند الله ورسوله والمؤمنين في هذه الدعوة والظن ومعلوم ان المفسدة في هذا أعظم من المفسدة في مجرتغيير الاعتقاد من هذين الوجهين من جهة كونه ا ضرارا زائدا ومن جهة كونه قد يظن أو يقال إن الاعتقاد قد يكون سالما معه فيصدر عمن لايريد الانتقال من دين إلى دين ويكون فساده أعظم من فساد الانتقال إذا الانتقال قد علم انه كفر فنزع ما نزع عن الكفر وهذا قد يظن انه ليس بكفر الا إذا صدر استحلالا بل هو معصية وهو من أعظم أنواع الكفر فإذا كان الداعي إليه غير الداعي إلى مجرد الردة والمفسدة فيه مخالفة لمفسدة الردة وهي اشد منها لم يجز ان يلحق التائب منها بالتائب من الردة لأن من شروط القياس قياس المعنى استواء الفرع والاصل في حكمة الحكم باستوائهما في دليل الحكمة إذا كانت خفية فإذا كان في الاصل معان مؤثرة يجوز ان تكون التوبة إنما قبلت لاجلها وهي معدومة في الفرع لم يجز إذا لا يلزم من قبول توبة من خفت مفسدة جنايته أو أنتفت قبول توبة من تغلظت مفسدته أو بقية

وحاصل هذا الوجه ان عصمة دم هذا بالتوبة قياسا على المرتد متعذر لوجود الفرق المؤثر فيكون المرتد المنتقل إلى دين آخر ومن أتى من القول بما يضر المسلمين ويؤذي الله ورسوله وهو موجب للكفر نوعين تحت جنس الكافر بعد إسلامه وقد شرعت التوبة في حق الأول فلا يلزم شرع التوبة في حق الثاني لوجود الفارق من حيث الاضرار ومن حيث ان مفسدته لاتزول بقبول التوبة

فصل[عدل]

قد تضمن هذا الدلالة على وجوب قتل الساب من المسلمين وان أسلم وتوجيه قول من فرق بينه وبين الذمي الذي إذا أسلم وقد تضمن الدلالة على أن الذمي إذا عاد إلى الذمة لم يسقط عنه القتل بطريق الأولى فان عود المسلم إلى الإسلام أحقن لدمه من عود الذمي إلى ذمته ولهذا عامة العلماء الذين حقنوا دم هذا وأمثاله بالعود إلى الإسلام لم يقولوا مثل ذلك في الذمي إذا عاد إلى الذمة

ومن تامل سنة رسول الله في قتله لبني قريظة وبعض أهل خيبر وبعض بني النضير واجلائه لبني النضير وبني قينقاع بعد ان نقض هؤلاء الذمة وحرصوا على أن يجيبهم إلى عقد الذمة ثانيا فلم يفعل ثم سنة خلفائه وصحابته في مثل هذا المؤذي وأمثاله مع العلم بانه كان احرص شيء على العود إلى الذمة لم يسترب في ان القول بوجوب اعادة مثل هذا إلى الذمة قول مخالف للسنة ولإجماع خير القرون وقد تقدم التنبيه على ذلك في حكم نا قضي العهد مطلقا ولولا ظهوره لاشبعنا القول فيه وانما أحلنا على سيرة رسول الله وسنته من له بها علم فانهم لا يستريبون انه لم يكن الذي بين النبي وهؤلاء اليهود هدنة مؤقته وانما كانت ذمة مؤبدة على أن الدار دار إسلام وانه يجري عليهم حكم الله ورسوله فيما يختلفون فيه الا انهم لم يضرب عليهم جزية ولم يلزموا بالصغار الذي الزموه بعد نزول براءة لأن ذلك لم يكن شرع بعد

وأما من قال إن الساب يقتل وان تاب وأسلم وسواء كان كافرا أو مسلما فقد تقدم دليله ان المسلم يقتل بعد التوبة وان الذمي يقتل وان طلب العود إلى الذمة

وأما قتل الذمي إذا وجب عليه القتل بالسب وان أسلم بعد ذلك فلهم فيه طرق وهي دالة على تحتم قتل المسلم أيضا كما تدل على تحتم قتل الذمي

إحداها قوله تعالى " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ان يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم الا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم فاعلموا ان الله غفور رحيم " فوجه الدلالة ان هذا الساب المذكور من المحاربين لله ورسوله السأعين في الأرض فسادا الداخلين في هذه الآية سواء كان مسلما أو معاهدا وكل من كان من المحاربين الداخلين في هذه الآية فانه يقام عليه الحد إذا قدر عليه قبل التوبة سواء تاب بعد ذلك أو لم يتب فهذا الذمي أو المسلم إذا سب ثم أسلم بعد ان أخذ وقدر عليه قبل التوبة فيجب إقامة الحد عليه وحده القتل فيجب قتله سواء تاب أو لم يتب

والدليل مبني على مقدمتين

إحداهما انه داخل في هذه الآية

والثانية ان ذلك يوجب قتله إذا أخذ قبل التوبة

أما المقدمة الثانية فظاهرة فانا لم نعلم مخالفا في ان المحاربين إذا أخذوا قبل التوبة وجب إقامة الحد عليهم وان تابوا بعد الاخذ وذلك بين في الآية فان الله أخبر ان جزاءهم أحد هذه الحدود الأربعة الا الذين تابوا قبل ان يقدر عليهم فالتائب قبل القدرة ليس جزاؤه شيئا من ذلك وغيره هذه جزاؤه وجزاء أصحاب الحدود تجب إقامته على الائمة لأن جزاء العقوبة إذا لم يكن حقا لآدمي حى بل كان حدا من حدود الله وجب استيفاؤه باتفاق المسلمين وقد قال تعالى في اية السرقة " فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا " فامر بالقطع جزاء على ما كسباه فلو لم يكن الجزاء المشروع المحدود من العقوبات واجبا لم يعلل وجوب القطع به إذ العلة المطلوبة يجب ان تكون ابلغ من الحكم واقوى منه والجزاء اسم للفعل واسم لما يجازى به ولهذا قرا قوله تعالى " فجزاء مثل ما قتل " بالتنوين وبالإضافة وكذلك الثواب والعقاب وغيرهما فالقتل والقطع قد يسمى جزاء ونكالا وقد يقال فعل هذا ليجزيه وللجزاء

ولهذا قال الأكثرون انه نصب على المفعول له والمعنى أن الله أمر بالقطع ليجزيهم ولينكل عن فعلهم

وقد قيل انه نصب على المصدر لأن معنى اقطعوا اجزوهم ونكلوا وقيل انه على الحال أي فاقطعوهم مجزين منكلين هم وغيرهم أو جازين منكلين وبكل حال فالجزاء مأمور به أو مأمور لاجله فثبت انه واجب الحصول شرعا وقد أخبر ان جزاء المحاربين أحد الحدود الأربعة فيجب تحصيلها إذ الجزاء هنا يتحد فيه معنى الفعل المجزي به لأن القتل والقطع والصلب وهي أفعال وهي غير ما يجزى به وليست اجساما بمنزلة المثل من النعم

يبين ذلك ان لفظ الآية خبر عن أحكام الله سبحانه التي يؤمر الإمام بفعلها ليست عن الحكم الذي يخير بين فعله وتركه إذا ليس لله أحكاما في أهل ذنوب يخير الإمام بين فعلها وترك جميعها

وأيضا فانه قال " ذلك لهم خزي في الدنيا " والخزي لايحصل الا بإقامة الحدود لا بتعطيلها

وأيضا فإنه لو كان هذا الجزاء إلى الإمام له إقامته وتركه بحسب المصلحة لندب إلى العفو كما في قوله تعالى " وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " وقوله " والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له " وقوله " ودية مسلمة إلى أهله الا ان يصدقوا "

وأيضا فالأدلة على وجوب إقامة الحدود على السلطان من السنة والإجماع ظاهرة ولم نعلم مخالفا في وجوب جزاء المحاربين ببعض ما ذكر الله في كتابه وانما اختلفوا في هذه الحدود هل يخير الإمام بينها بحسب المصلحة أو لكل جرم جزاء محدود شرعا كما هو مشهور فلا حاجة إلى الاطناب في وجوب الجزاء لكن نقول جزاء الساب القتل عينا بما تقدم من الدلائل الكثيرة ولا يخير الإمام فيه بين القتل والقطع بالاتفاق وإذا كان جزائه القتل من هذه الحدود وقد أخذ قبل التوبة وجب إقامة الحد عليه إذا كان من المحاربين بلا تردد

فلنبين المقدمة الأولى وهي ان هذا من المحاربين لله ورسوله السأعين في الأرض فسادا وذلك من وجوه

أحدها ما رويناه من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث قال حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال وقوله " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " قال كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله ان شاء ان يقتل وان شاء ان يصلب وان شاء ان يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف

وأما النفي فهو ان يهرب في الأرض فان جاء تائبا فدخل في الإسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما سلف منه ثم قال في موضع آخر وذكر هذه الآية من شهر السلاح في قبة الإسلام واخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فامام المسلمين فيه بالخيار ان شاء قتله وان شاء صلبه وان شاء قطع يده ورجله ثم قال " أو ينفوا من الأرض " يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب فان تابوا من قبل ان تقدروا عليهم فاعلموا ان الله غفور رحيم

وكذلك روى محمد بن يزيد الواسطي عن جويبر عن الضحاك قوله تعالى " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " قال كان ناس من أهل الكتاب بينهم وبين النبي عهد وميثاق فقطعوا الميثاق وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله ان يقتل ان شاء أو يصلب أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف واما النفي ان يهرب في الأرض فلا يقدر عليه فإن جاء تائبا داخلا في الإسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما عمل

وقال الضحاك أيما رجل مسلم قتل أو أصاب حدا أو مالا لمسلم فلحق بالمشركين فلا توبة له حتى يرجع فيضع يده في يد المسلمين فيقر بما أصاب قبل ان يهرب من دم أو غيره اقيم عليه أو أخذ منه

ففي هذين الأثرين انها نزلت في قوم معاهدين من أهل الكتاب لما نقضوا العهد وأفسدوا في الأرض وكذلك في تفسير الكلبي

عن أبي صالح عن ابن عباس وان كان لايعتمد عليه إذا انفرد انها نزلت في قوم موادعين وذلك ان رسول الله وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على الا يعينه ولا يعين عليه ومن اتاه من المسلمين فهو امن أن يهاج ومن أتى المسلمين منهم فهو امن أن يهاج ومن مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله فهو امن أن يهاج

قال فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من أسلم من قوم هلال بن عويمر ولم يكن هلال يومئذ شاهدا فنهدوا إليهم فقتلوهم واخذوا أموالهم فبلغ ذلك رسول الله فنزل عليه جبريل بالقصة فيهم فقد ذكر انها نزلت في قوم معاهدين لكن من غير أهل الكتاب

وروى عكرمة عن ابن عباس وهو قول الحسن انها نزلت في المشركين ولعله أراد الذين نقضوا العهد كما قال هؤلاء فان الكافر الاصلي لا ينطبق عليه حكم الآية

والذي يحقق ان ناقض العهد بما يضر المسلمين داخل في هذه الآية من الأثر ما قدمناه من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه انه أتى برجل من أهل الذمة نخس بامراة من المسلمين بالشام حتى وقعت فتجللها فامر به عمر فقتل وصلب فكان أول مصلوب في الإسلام وقال يا ايها الناس اتقوا الله في ذمة محمد ولا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له وقد رواه عنه عوف بن مالك الاشجعي وغيره كما تقدم

وروى عبد الملك بن حبيب بإسناده عن عياض بن عبد الله الاشعري قال مرت امرأة تسير على بغل فنخس بها علج فوقعت من البغل فبدا بعض عورتها فكتب بذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر رضى الله عنه فكتب إليه عمر ان أصلب العلج في ذلك المكان فإنا لم نعاهدهم على هذا إنما عاهدناهم على أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

وقد قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل في مجوسي فجر بمسلمة يقتل هذا قد نقض العهد وكذلك ان كان من أهل الكتاب يقتل أيضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد قيل له ترى عليه الصلب مع القتل قال إن ذهب رجل إلى حديث عمر كأنه لم يعب عليه

فهؤلاء أصحاب رسول إله عمر وأبو عبيده وعوف بن مالك ومن كان في عصرهم من السابقين الأولين قد استحلوا قتل هذا وصلبه وبين عمر انا لم نعاهدهم على مثل هذا الفساد وان العهد انتقض بذلك فعلم انهم تأولوا فيمن نقض العهد بمثل هذا انه من محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا واستحلوا لذلك قتله وصلبه والا فالصلب مثله لا يجوز الا لمن ذكره الله في كتابه

وقد قال أخرون منهم ابن عمر وانس بن مالك ومجاهد وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن جبير ومكحول وقتادة وغيرهم رضي الله عنهم انها نزلت في العرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام وقتلوا راعي رسول الله واستاقوا ابل رسول الله وحديث العرنيين مشهور ولا منافاة بين الحديثين فان سبب النزول قد يتعدد مع كون اللفظ عاما في مدلوله وكذلك كان عامة العلماء على أن الآية عامة في المسلم والمرتد والناقض كما قال الاوزاعي في هذه الآية هذا حكم حكمه الله في هذه الامة على من حارب مقيما على الإسلام أو مرتدا عنه وفيمن حارب من أهل الذمة

وقد جاءت اثار صحيحة عن علي وابي موسى وابي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم تقتضي ان حكم هذه الآية ثابت فيمن حارب المسلمين بقطع الطريق ونحوه مقيما على إسلامه لهذا يستدل جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على حد قطع الطريق بهذه الآية

والمقصود هنا ان هذا الناقض للعهد والمرتد عن الإسلام بما فيه الضرر داخل فيها كما ذكرنا دلائله عن الصحابة والتابعين وان كان يدخل فيها بعض من هو على الإسلام وهذا الساب ناقض للعهد بما فيه ضرر على المسلمين ومرتد بما فيه ضرر على المسلمين فيدخل في الآية

ومما يدل على انه قد عني بها ناقضوا العهد في الجملة ان النبي نفى بني قينقاع والنضير لما نقضوا العهد إلى ارض الحرب وقتل بني قريظة وبعض أهل خيبر لما نقضوا العهد والصحابة قتلوا وصلبوا بعض من فعل ما ينقض العهد من الأمور المضرة فحكم النبي وخلفائه في أصناف ناقض العهد كحكم الله في هذه الآية مع صلاحه لأن يكون امتثالا لامر الله فيها دليل على انهم مرادون منها

الوجه الثاني ان ناقض العهد والمرتد المؤذي لا ريب انه محارب لله ورسوله فان حقيقة نقض العهد محاربة المسلمين ومحاربة المسلمين محاربة لله ورسوله وهو أولى بهذا الاسم من قاطع الطريق ونحوه لأن ذلك مسلم لكن لما حارب المسلمين على الدنيا كان محاربا لله ورسوله فالذي يحاربهم على الدين أولى أن يكون محاربا لله ورسوله ثم لايخلوا اما ان لا يكون محاربا لله ورسوله حتى يقاتلهم ويمتنع عنهم أو يكون محاربا إذا فعل ما يضرهم مما فيه نقض العهد وان لم يقاتلهم الأول لايصح لما قدمناه من أن هذا قد نقض العهد وصار من المحاربين ولان أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال أيما معاهد تعاطى سب الأنبياء فهو محارب غادر

وعمر وسائر الصحابة قد جعلوا الذمي الذي تجلل المسلمة بعد أن نخس بها الدابة محاربا بمجرد ذلك حتى حكموا فيه بالقتل والصلب فعلم انه لا يشترط في المحاربة المقاتلة بل كل ما نقض العهد عندهم من الأقوال والأفعال المضرة فهو محاربة داخله في هذه الآية

فإن قيل فيلزم من هذا أن يكون كل من نقض العهد بما فيه ضرر يقتل إذا أسلم بعد القدرة عليه

قيل وكذلك نقول وعليه يدل ما ذكرناه في سبب نزولها فانها إذا نزلت فيمن نقض العهد بالفساد وقيل فيها " الا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم " علم ان التائب بعد القدرة مبقي على حكم الآية

الوجه الثالث ان كل ناقض للعهد فقد حارب الله ورسوله ولولا ذلك لم يجز قتله ثم لا يخلوا اما ان يقتصر على نقض العهد بان يلحق بدار الحرب أو يضم إلى ذلك فسادا فان كان الأول فقد حارب الله ورسوله فقط فهذا لم يدخل في الآية وان كان الثاني فقد حارب وسعى في الأرض فسادا مثل ان يقتل مسلما أو يقطع الطريق على المسلمين أو يغصب مسلمة على نفسها أو يظهر الطعن في كتاب الله ورسوله ودينه أو يفتن مسلما عن دينه فان هذا قد حارب الله ورسوله بنقضه العهد وسعى في الأرض فسادا بفعله ما يفسد على المسلمين اما دينهم أو دنياهم وهذا قد دخل في الآية فيجب ان يقتل أو يقتل ويصلب أو ينفى من الأرض حتى يلحق بارض الحرب ان لم يقدر عليه أو تقطع يده ورجله ان كان قد قطع الطرق واخذ المال ولا يسقط عنه ذلك الا ان يتوب من قبل ان يقدر عليه وهو المطلوب

الوجه الرابع ان هذا الساب محارب الله ورسوله ساع في الأرض فسادا فيدخل في الآية وذلك لأنه عدو لله ولرسوله ومن عادى الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله وذلك لأن النبي قال للذي يسبه من يكفنني عدوي وقد تقدم ذكر ذلك من غير وجه إذا كان عدوا له فهو محارب

وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال يقول الله تبارك وتعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة

وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله يقول اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربه فإذا كان من عادى واحذا من الأولياء قد بارز الله بالمحاربة فكيف من عادى صفوة الله من أوليائه فانه يكون اشد مبارزة له بالمحاربة وإذا كان محاربا لله لأجل عداوته للرسول فهو محارب للرسول بطريق الأولى فثبت ان الساب للرسول محارب لله ورسوله

فإن قيل فلو سب واحدا من أولياء الله غير الأنبياء فقد بارز الله بالمحاربة فانه إذا سبه فقد عاداه كما ذكرتم وإذا عاداه فقد بارز الله بالمحاربة كما نصه الحديث الصحيح ومع هذا فلا يدخل في المحاربة المذكورة في الآية فقد انتقض الدليل وذلك يوجب صرف المحاربة إلى المحاربة باليد

قيل هذا باطل من وجوه

أحدها انه ليس كل من سب غير الأنبياء يكون قد عاداهم إذ لا دليل يدل على ذلك وقد قال الله سبحانه وتعالى " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا " بعد ان أطلق انه من اذى الله ورسوله فقد لعنه الله في الدنيا والآخرة فعلم ان المؤمن قد يؤذى بما اكتسب ويكون اذاه بحق كإقامة الحدود والانتصار في الشتيمة ونحو ذلك مع كونه وليا لله وإذا كان واجبا في بعض الاحيان أو جائزا لم يكن مؤذيه في تلك الحال عدوا له لأن المؤمن يجب عليه ان يوالي المؤمن ولا يعاديه وان عاقبه عقوبة شرعية كما قال تعالى " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " وقال تعالى " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا "

الثاني أن من سب غير النبي فقد يكون مع السب مواليه من وجه آخر فإن سباب المسلم إذا لم يكن بحق كان فسوقا والفاسق لا يعادي المؤمنين بل يواليهم ويعتقد مع السب للمؤمن انه تجب موالاته من وجه آخر اما سب النبي فإنه ينافي اعتقاد نبوته ويستلزم البراءة منه والمعاداة له لأن اعتقاد عدم نبوته وهو يقول انه نبي يوجب ان يعامله معاملة المتنبئين وذللك يوجب ابلغ العداوات له

الثالث لو فرض ان سب غير النبي عداوة له لكن ليس أحد بعينه يشهد له انه ولي لله شهادة توجب ان ترتب عليها الأحكام المبيحة للدماء بخلاف الشهادة للنبي بالولاية فإنها يقينية نعم لما كان الصحابة قد يشهد لبعضهم بالولاية خرج في قتل سابهم خلاف مشهور ربما ننبه إن شاء الله تعالى عليه

الرابع انه لو فرض انه عادى وليا علم انه ولي فإنما يدل على انه بارز الله بالمحاربة وليس فيه ذكر محاربة الله ورسوله والجزاء المذكور في الآية إنما هو لمن حارب الله ورسوله ومن سب الرسول فقد عاداه ومن عاداه فقد حاربه وقد حارب الله أيضا كما دل عليه الحديث فيكون محاربا لله ورسوله ومحاربة الله ورسوله اخص من محاربة الله والحكم المعلق بالأخص لا يدل على انه معلق بالأعم وذلك ان محاربة الرسول تقتضي مشاقته على ماجاء به من الرسالة وليس في معاداة ولي بعينه مشاقة في الرسالة بخلاف الطعن في الرسول

الخامس ان الجزاء في الآية لمن حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا والطاعن في الرسول قد حارب الله ورسوله كما تقدم وقد سعى في الأرض فسادا كما سيأتي وهذا الساب للولي وان كان قد حارب الله فلم يسع في الأرض فسادا لأن السعي في الأرض فسادا إنما يكون بإفساد عام لدين الناس أو دنياهم وهذا إنما يتحقق في الطعن في النبي ولهذا لا يجب على الناس الايمان بولاية الوالي ويجب عليهم الايمان بنبوة النبي

السادس ان ساب الولي لو فرض انه محارب لله ورسوله فخروجه من اللفظ العام لدليل أوجبه لايوجب ان يخرج هذا الساب للرسول لأن الفرق بين العداوتين ظاهر والقول العام إذا خصت منه صورة لم تخص منه صورة أخرى لا تساويها الا بدليل آخر

السابع ان حمله على المحاربة باليد متعذر أيضا في حق الولي فإن من عاداه بيده لم يوجب ذلك ان يدخل في حكم الآية على الاطلاق مثل ان يضربه ونحو ذلك فلا فرق إذا في حقه بين المعادة باليد واللسان بخلاف النبي فإنه لا فرق بين ان يعاديه بيد أو لسان فإنه يمكن دخوله في الآية وذلك مقرر الاستدلال كما تقدم

وإذا ثبت ان هذا الساب محارب الله ورسوله فهو أيضا ساع في الأرض فسادا لأن الفساد نوعان فساد الدنيا من الدماء والأموال والفروج وفساد الدين والذي يسب الرسول ويقع في عرضه يسعى ليفسد على الناس دينهم ثم بواسطة ذلك يفسد عليهم دنياهم وسواء فرضنا انه أفسد على أحد دينه أو لم يفسد لأنه سبحانه وتعالى إنما قال " ويسعون في الأرض فسادا " قيل انه نصب على المفعول له أي ويسعون في الأرض للفساد كما قال " وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد " والسعي هو العمل والفعل فمن سعى ليفسد أمر الدين فقد سعى في الأرض فسادا وان خاب سعيه وقيل انه نصب على المصدر أو على الحال تقديره سعى في الأرض مفسدا كقوله " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " أو كما يقال جلس قعودا وهذا يقال لكل من عمل عملا يوجب الفساد وان لم يؤثر لعدم قبول الناس له وتمكينهم اياه بمنزلة قاطع الطريق إذا لم يقتل أحدا ولم يأخذ مالا على أن هذا العمل لا يخلو من فساد في النفوس قط إذا لم يقم عليه الحد

وأيضا فإنه لا ريب ان الطعن في الدين وتقبيح حال الرسول في أعين الناس وتنفيرهم عنه من أعظم الفساد كما ان الدعاء إلى تعزيره وتوقيره من أعظم الصلاح والفساد ضد الصلاح فكما ان كل قول أو عمل يحبه الله فهو من الصلاح فكل قول أو عمل يبغضه الله فهو من الفساد قال سبحانه وتعالى " ولا تفسدوا في الأرض بعد أصلاحها " يعني الكفر والمعصية بعد الايمان والطاعة ولكن الفساد نوعان لازم وهو مصدر فسد يفسد فسادا ومتعد وهو اسم مصدر أفسد يفسد افسادا كما قال تعالى " سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لايحب الفساد " وهذا هو المراد هنا لأنه قال " ويسعون في الأرض فسادا " وهذا إنما يقال لمن أفسد غيره لأنه لو كان الفساد في نفسه فقط لم يقل سعى في الأرض فسادا وانما يقال في الأرض لما انفصل عن الانسان كما قال سبحانه وتعالى " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم الا في كتاب "

وقال تعالى " سنريهم اياتنا في الافاق وفي أنفسهم " وقال تعالى " وفي الأرض ايات للموقنين وفي أنفسكم "

وأيضا فان الساب ونحوه أنتهك حرمة الرسول وغض قدره واذى الله ورسوله وعباده المؤمنين وجرا النفوس الكافرة والمنافقة على اصطلام أمر الإسلام وطلب اذلال النفوس المؤمنة وازالة عز الدين واسفال كلمة الله وهذا من ابلغ السعي فسادا

ويؤيد ذلك ان عامة ما ذكر في القران من السعي في الأرض فسادا والافساد في الأرض فإنه قد عني به افساد الدين فثبت ان هذا الساب محارب لله ورسوله ساع في الأرض فسادا فيدخل في الآية

الوجه الرابع ان المحاربة نوعان محاربة باليد ومحاربة باللسان والمحاربة باللسان في باب الدين قد تكون انكى من المحاربة باليد كما تقدم تقريره في المسألة الأولى ولذلك كان النبي يقتل من كان يحاربه باللسان مع استبقائه بعض من حاربه باليد خصوصا محاربة الرسول بعد موته فإنها إنما تمكن باللسان وكذلك الافساد قد يكون باليد وقد يكون باللسان وما يفسده اللسان من الاديان اضعاف ما تفسده اليد كما ان ما يصلحه اللسان من الاديان اضعاف ما تصلحه اليد فثبت ان محاربة الله ورسوله باللسان اشد والسعي في الأرض لفساد الدين باللسان أو كد فهذا الساب لله ورسوله أولى باسم المحارب المفسد من قاطع الطريق

الوجه الخامس ان المحاربة خلاف المسالة والمسالة ان يسلم كل من المتسالمين من اذى الآخر فمن لم تسلم من يده أو لسانه فليس بمسالم لك بل هو محارب

ومعلوم ان محاربة الله ورسوله هي المغالبة على خلاف ما أمر الله ورسوله إذ المحاربة لذات الله ورسوله محال فمن سب الله ورسوله لم يسالم الله ورسوله لأن الرسول لم يسلم منه بل طعنه في رسول الله مغالبة لله ورسوله على خلاف ما أمر الله به على لسان رسوله وقد أفسد في الأرض كما تقدم فيدخل في الآية

وقد تقدم في المسالة الأولى ان هذا الساب محاد لله ورسوله مشاق لله تعالى ورسوله وكل من شاق الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله ولانن المحاربة والمشاقة سواء فان الحرب هو الشق ومنه سمي المحارب محاربا واما كونه مفسدا في الأرض فظاهر

واعلم ان كل ما دل على أن السب نقض للعهد فقد دلل على انه محاربة لله ورسوله لأن حقيقة نقض العهد ان يعود الذمي محاربا فلو لم يكن بالسب يعود محاربا لما كان ناقضا للعهد وقد قدمنا في ذلك من الكلام ما لايليق اعادته لما فيه من الاطالة فليراجع ما مضى في هذا الموضوع يبقى انه سعى في الأرض فسادا وهذا اوضح من أن يحتاج إلى دليل فان إظهار كلمة الكفر والطعن في المرسلين والقدح في كتاب الله ودينه ورسله وكل سبب بينه وبين خلقه لا يكون اشد منه فسادا وعامة الاي في كتاب الله التي تنهى عن الافساد في الأرض فان من أكثر المراد بها الطعن في الأنبياء كقوله سبحانه عن المنافقين الذين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون الا أنفسهم " وإذا قيل لهم لاتفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون " قال تعالى " الاانهم هم المفسدون " وانما كان افسادهم نفاقهم وكفرهم وقوله " ولا تفسدوا في الأرض بعد أصلاحها " وقوله سبحانه " والله لايحب الفساد "

وقوله سبحانه " واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " وإذا كان هذا لمحاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا تناولته الآية وشملته

ومما يقرر الدلالة من الآية ان الناس فيها قسمان منهم من يجعلها مخصوصة بالكفار من مرتد وناقض عهد ونحوها ومنهم من يجعلها عامة في المسلم المقيم على إسلامه وفي غيره ولا أعلم أحدا خصها بالمسلم المقيم على إسلامه فتخصيصها به خلاف الإجماع ثم الذين قالوا انها عامة قال كثير منهم قتادة وغيره قوله " الا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم " هذا لاهل الشرك خاصة فمن أصاب من المشركين شيئا من المسلمين وهو لهم حرب فاخذ مالا أو أصاب دما ثم تاب من قبل ان يقدر عليه اهدر عنه ما مضى لكن المسلم المقيم على إسلامه محاربته إنما هي باليد لأن لسانه موافق مسالم للمسلمين غير محارب اما المرتد والناقض للعهد فمحاربته باليد تارة وباللسان أخرى ومن زعم ان اللسان لا تقع به محاربة فالأدلة المتقدمة في أول المسألة مع ما ذكرناه هنا تدل على انه محاربة على أن الكلام في هذا المقام إنما هو بعد ان تقرر ان السب محاربة ونقض للعهد

واعلم ان هذه الآية اية جامعة لأنواع من المفسدين والدلالة منها ظاهرة قوية لمن تأملها لا اعلم شيئا يدفعها

فإن قيل مما يدل على أن المحاربة هنا باليد فقط انه قال " إلا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم " إنما يكون هذا فيمن يكون ممتنعا والشاتم ليس ممتنعا

قيل الجواب من وجوه

أحدها ان المستثنى إذا كان ممتنعا لم يلزم أن يكون المستبقى ممتنعا لجواز ان تكون الآية تعم كل محارب بيد أو لسان ثم استثنى منهم الممتنع إذا تاب قبل القدرة فيبقى المقدور عليه مطلقا والممتنع إذا تاب بعد القدرة

الثاني ان كل من جاء تائبا قبل اخذه فقد تاب قبل القدرة عليه

سئل عطاء عن الرجل يجيئ بالسرقة تائبا قال ليس عليه قطع وقرأ " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " وكل من لم يؤخذ فهو ممتنع لا سيما إذا لم يؤخذ ولم تقم عليه حجة وذلك لأن الرجل وان كان مقيما فيمكنه الاستخفاء والهرب كما يمكن المصحر فليس كل من فعل جرما كان مقدورا عليه بل يكون طلب المصحر اسهل من طلب المقيم إذا كان لا يواريه في الصحراء خمر ولا غيابه بخلاف المقيم في المصر وقد يكون المقيم له من يمنعه من إقامة الحد عليه فكل من تاب قبل ان يؤخذ ويرفع إلى السلطان فقد تاب قبل القدرة عليه

وأيضا فإذا تاب قبل ان يعلم به ويثبت الحد عليه فإن جاء بنفسه فقد تاب قبل القدرة عليه لأن قيام البينة وهو في أيدينا قدرة عليه فإذا تاب قبل هذين فقد تاب قبل القدرة قطعا

الثالث ان المحارب باللسان كالمحارب باليد قد يكون ممتنعا وقد يكون المحارب باليد مستضعفا بين قوم كثيرين وكما ان الذي يخاطر بنفسه بقتال قوم كثيرين قليل فكذلك الذي يظهر الشتم ونحوه من الضرر بين قوم كثيرين قليل وكما ان الغالب ان القاطع بسيفه إنما يخرج على من يستضعفه فكذلك الساب ونحوه إنما يفعل ذلك في الغالب مستخفيا مع من لا يتمكن من اخذه ورفعه إلى السلطان والشهادة عليه

ومما يقررالدلالة الاستدلال بالآية من وجهين اخرين

أحدهما انها قد نزلت في قوم ممن كفر وحارب بعد سلمه باتفاق الناس فيما علمناه وان كانت نزلت أيضا فيمن حارب وهو مقيم على إسلامه فالذمي إذا حارب اما بأن يقطع الطريق على المسلمين أو يستكره مسلمة على نفسها ونحو ذلك يصير به محاربا وعلى هذا إذا تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه القتل الواجب عليه وان كان هذا قد اختلف فيه فان العمدة على الحجة فالساب للرسول أولى ولا يجوز ان يخص بمن قاتل لأخذ المال فإن الصحابة جعلوه محاربا بدون ذلك وكذلك سبب النزول الذي ذكرناه ليس فيه انهم قتلوا أحدا لاخذ مال ولو كانوا قتلوا أحدا لم يسقط القود عن قاتله إذا تاب قبل القدرة وكان قد قتله وله عهد كما لو قتله وهو مسلم

وأيضا فقطع الطرق اما أن يكون نقضا للعهد أو يقام عليه ما يقام على المسلم مع بقاء العهد فان كان الأول فلا فرق بين قطع الطريق وغيره من الأمور التي تضر المسلمين وحينئذ فمن نقض العهد بها لم يسقط حده وهو القتل إذا تاب بعد القدرة وان كان الثاني لم ينتقض عهد الذمي بقطع الطريق وقد تقدم الدليل على فساده ثم ان الكلام هنا إنما هو تفريع عليه فلا يصح المنع بعد التسليم

الثاني ان الله سبحانه فرق بين التوبة قبل القدرة وبعدها لأن الحدود إذا ارتفعت إلى السلطان وجبت ولم يمكن العفو عنها ولا الشفاعة فيها بخلاف ما قبل الرفع ولان التوبة قبل القدرة عليه توبة اختيار والتوبة بعد القدرة توبة اكراه واضطرار بمنزلة توبة فرعون حين ادركه الغرق وتوبة الامم المكذبة لما جاءها البأس وتوبة من حضره الموت فقال اني تبت الان فلم يعلم صحتها حتى يسقط الحد الواجب

ولان قبول التوبة بعد القدرة لو أسقطت الحد لتعطلت الحدود وانبثق سد الفساد فان كل مفسد يتمكن إذا أخذ ان يتوب بخلاف التوبة قبل القدرة فانها تقطع دابر الشر من غير فساد فهذه معان مناسبة قد شهدها الشارع بالاعتبار في غير هذا الاصل فتكون اوصافا مؤثرة أو ملائمة فيعلل الحكم بها وهي بعينها موجودة في الساب فيجب ان لا يسقط القتل عنه بالتوبة بعد الاخذ لأن إسلامه توبة منه وكذلك توبة كل كافر قال سبحانه وتعالى " فإن تابوا وأقاموا الصلاة " في موضعين والحد قد وجب بالرفع وهذه توبة اكراه واضطرار وفي قبولها تعطيل للحد ولا ينتقض هذا علينا بتوبة الحربي الاصلي فإنه لم يدخل في هذه الآية ولأنه إذا تاب بعد الاسر لم يخل سبيله بل يسترق ويستعبد وهو إحدى العقوبتين اللتين كان يعاقب بإحداهما قبل الإسلام والساب لم يكن عليه الا عقوبة واحدة فلم يسقط كقاطع الطريق والمرتد المجرد لم يسع في الأرض فسادا فلم يدخل في الآية ولا يرد نقضا من جهة المعنى لأنا إنما نعرضه للسيف ليعود إلى الإسلام وانما نقتله لمقامه على تبديل الدين فإذا أظهر الاعادة إليه حصل المقصود الذي يمكننا تحصيله وزال المحذور الذي يمكننا ازالته وانما تعطيل هذا الحد ان يترك على ردته غير مرفوع إلى الإمام ولم يقدح كونه مكرها بحق في غرضنا لأنا إنما طلبنا منه ان يعود إلى الإسلام طوعا أو كرها كما لو قاتلناه على الصلاة أو الزكاة فبذلها طوعا أو كرها حصل مقصودنا والساب ونحوه من المؤذين إنما نقتلهم لما فعلوه من الأذى والضرر لا لمجرد كفرهم فإنا قد اعطيناهم العهد على كفرهم فإذا أسلم بعد الاخذ زال الكفر الذي لم يعاقب عليه بمجرده

وأما الأذى والضررفهو افساد في الأرض قد مضى منه كالافساد بقطع الطريق لم يزل الا بتوبة اضطرار لم تطلب منه ولم يقتل ليفعلها بل قوتل أولا لليبذل واحدا من الإسلام أو اعطاء الجزية طوعا أو كرها فبذل الجزية كرها على انه لا يضر المسلمين فضرهم فاستحق ان يقتل فإذا تاب بعد القدرة عليه وأسلم كانت توبة محارب مفسد مقدور عليه

الطريق الثانية قوله سبحانه " وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا ائمة الكفر انهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون " الآيات

وقد قرأ ابن عامر والحسن وعطاء والضحاك والاصمعي وغيرهم عن أبي عمر لا ايمان لهم بكسر الهمزة وهي قراءة مشهورة

وهذه الآية تدل على انه لا يعصم دم الطاعن ايمان ولايمين ثانيه

أما على قراءة الأكثرين فان قوله " لا ايمان لهم " أي لاوفاء بالايمان ومعلوم انه إنما أراد لا وفاء في المستقبل بيمين أخرى إذ عدم اليمين في الماضي قد تحقق بقوله " وان نكثوا ايمانهم " فافاد هذا ان الناكث الطاعن امام في الكفر لايعقد له عهد ثان أبدا

وأما على قراءة ابن عامر فقد علم ان الإمام في الكفرليس له ايمان ولم يخرج هذا مخرج التعليل لقتالهم لأن قوله تعالى " فقاتلوا ائمة الكفر " ابلغ في أنتفاء الايمان عنهم من قوله تعالى " لا ايمان لهم " وأدل على علة الحكم ولكن يشبه والله أعلم أن يكون المقصود ان الناكث الطاعن امام في الكفر لا يوثق بما يظهره من الايمان كما لم يوثق بما كان عقده من الايمان لأن قوله تعالى " لا ايمان " نكرة منفية بلا التي تنفي الجنس فتقتضي نفي الايمان عنهم مطلقا فثبت ان الناكث الطاعن في الدين امام في الكفر لاايمان له وكل امام في الكفر لا ايمان له من هؤلاء فانه يجب قتله وان أظهر الايمان

يؤيد ذلك ان كل كافر فانه لا ايمان له في حال الكفر فكيف بأئمة الكفر فتخصيص هؤلاء بسلب الايمان عنهم لا بد أن يكون له موجب ولا موجب له الا نفيه مطلقا عنهم

والمعنى ان هؤلاء لا يرتجى ايمانهم فلا يستبقون وانهم لو أظهروا ايمانا لم يكن صحيحا وهذا كما قال النبي اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم لأن الشيخ قد عسا في الكفر وكما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته لامراء الاجناد شرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو ابن العاص وستلقون اقواما محوقه رؤوسهم فاضربوا معاقد الشيطان منها بالسيوف فلأن اقتل رجلا منهم أحب الي من أن اقتل سبعين من غيرهم وذلك بأن الله تعالى قال " قاتلوا ائمة الكفر انهم لاايمان لهم لعلهم ينتهون " والله اصدق القائلين فإنه لا يكاد يعلم أحدا من الناقضين للعهود الطاعنين في الدين ائمة الكفر حسن إسلامه بخلاف من لم ينقض العهد أو نقضه ولم يطعن في الدين أو طعن ولم ينقض عهدا فإن هؤلاء قد يكون لهم ايمان

يبين ذلك انه قال " لعلهم ينتهون " أي عن النقض والطعن كما سنقرره وانما يحصل الانتهاء إذا قوتلت الفئة الممتنعة حتى تغلب أو أخذ الواحد الذي ليس بممتنع فقتل لأنه متى استحمي بعد القدرة طمع أمثاله في الحياة فلا ينتهون

وممايوضح ذلك ان هذه الآية قد قيل انها نزلت في اليهود الذين كانوا قد غدروا برسول الله ونكثوا ما كانوا اعطوا من العهود والايمان على أن لا يعينوا عليه اعداء من المشركين وهموا بمعاونة الكفار والمنافقين على اخراج النبي من المدينة فأخبر انهم بدأوا بالغدر ونكث العهد فأمر بقتالهم

ذكر ذلك القاضي أبو يعلى فعلى هذا يكون سبب نزول الآية مثل مسألتنا سواء

وقد قيل انها نزلت في مشركي قريش ذكره جماعة وقالت طائفة من العلماء براءة إنما انزلت بعدتبوك وبعد فتح مكة ولم يكن حينئذ بقي بمكة مشرك يقاتل فيكون المراد من أظهر الإسلام من الطلقاء ولم يبق قتله من الكفر إذا أظهروا النفاق

ويؤيد هذا قراءة مجاهد والضحاك " نكثوا إيمانهم " بكسر الهمزة فتكون دالة على انه من نكث عهده الذي عاهد عليه من الإسلام وطعن في الدين فإنه يقاتل وإنه لا ايمان له قال من نصر هذا لأنه قال " فإن تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فإخوانكم في الدين " ثم قال " وان نكثوا ايمانهم " فعلم ان هذا نكث بعد هذه التوبة لأنه قد تقدم الاخبار عن نكثهم الأول بقوله تعالى " لا يرقبون في مؤمن الا ولا ذمة " وقوله تعالى " كيف وان يظهروا عليكم " الآية وقد تقدم ان الايمان من العهود فعلى هذا تعم الآية من نكث عهد الايمان ومن نكث عهد الأمان انه إذا طعن في الدين قوتل وانه لا ايمان له حينئذ فتكون دالة على أن الطاعن في الدين بسب الرسول ونحوه من المسلمين وأهل الذمة لا ايمان له ولا يمين له فلا يحقن دمه بشيء بعد ذلك

فإن قيل قد قيل قوله تعالى " لا أيمان لهم " أي لا أمان لهم مصدر امنت الرجل اؤمنه ايمانا ضد اخفته كما قال تعالى " وآمنهم من خوف "

قيل إن كان هذا القول صحيحا فهو حجة أيضا لأنه لم يقصد لا أمان لهم في الحال فقط للعلم بانهم قد نقضوا العهد وانما يقصد لاأمان لهم بحال في الزمان الحاضر والمستقبل وحينئذ فلا يجوز ان يؤمن هذا بحال بل يقتل بكل حال

فإن قيل إنما أمر في الآية بالمقاتلة لا بالقتل وقد قال بعدها " ويتوب الله على من يشاء " فعلم ان التوبة منه مقبولة قيل لما تقدم ذكر طائفة ممتنعة أمر بالمقاتلة وأخبر سبحانه انه يعذبهم بأيدي المؤمنين وينصر المؤمنين عليهم ثم بعد ذلك يتوب الله على من يشاء لات ناقضي العهد إذا كانوا ممتنعين فمن تاب منهم قبل القدرة عليه سقطت عنه الحدود ولذلك قال " على من يشاء " وانما يكون هذا في عدد تتعلق المشيئة بتوبة بعضهم

يوضح ذلك انه قال " ويتوب الله " بالضم وهذا كلام مستأنف ليس داخلا في حيز جواب الأمر وذلك يدل على أن التوبة ليست مقصودة من قتالهم ولا هي حاصلة بقتالهم وانما المقصود بقتالهم أنتهاؤهم عن النكث والطعن والمضمون بقتالهم تعذيبهم وخزيهم والنصر عليهم وفي ذلك ما يدل على أن الحد لا يسقط عن الطاعن الناكث بإظهار التوبة لأنه لم يقتل ويقاتل لاجلها

يؤيد هذا انه قال " كيف يكون للمشركين عهد عند الله " إلى قوله " فإن تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فاخوانكم في الدين " ثم قال " وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا ائمة الكفر " فذكر التوبة الموجبة للاخوة قبل ان يذكر نقض العهد والطعن في الدين وجعل للمعاهد ثلاثة أحوال

أحوال المعاهد

أحدها ان يستقيم لنا فنستقيم له كما استقام فيكون مخلى سبيله لكن ليس اخا في الدين

الحال الثانية ان يتوب من الكفر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة فيصير اخا في الدين ولهذا لم يقل هنا فخلوا سبيلهم كما قال في الآية قبلها لأن الكلام هناك في توبة المحارب وتوبته توجب تخلية سبيله وهنا الكلام في توبة المعاهد وقد كان سبيله مخلى وانما توبته توجب اخوته في الدين قال سبحانه " ونفصل الآيات لقوم يعلمون "

وذلك ان المحارب إذا تاب وجب تخليه سبيله إذ حاجته إنما هي إلى ذلك وجاز أن يكون قد تاب خوف السيف فيكون مسلما لا مؤمنا فاخوته الايمانية تتوقف على ظهور دلائل الايمان كما قال تعالى " قالت الاعراب امنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " والمعاهد إذا تاب فلا ملجأ له إلى التوبة ظاهرا فإنا لم نكرهه على التوبة ولا يجوز اكراهه فتوبته دليل على انه تاب طائعا فيكون مسلما مؤمنا والمؤمنون اخوة فيكون اخا

الحال الثالثة ان ينكث يمينه بعد عهده ويطعن في ديننا فأمر بقتاله وبين انه ليس له ايمان ولا ايمان والمقصود من قتاله ان ينتهي عن النقض والطعن لا عن الكفر فقط لأنه قد كان معاهدا مع الكفر ولم يكن قتاله جائزا فعلم ان الانتهاء من مثل هذا عن الكفر ليس هو المقصود بقتاله وانما المقصود بقتاله أنتهاؤه عن مايضر به المسلمين من نقض العهد والطعن في الدين وذلك لايحصل الا بقتل الواحد الممكن وقتال الطائفة الممتنعة قتالا يعذبون به ويخزون وينصر المؤمنون عليهم إذ تخصيص التوبة بحال دليل على أنتفائها في الحال الأخرى

وذكره سبحانه التوبة بعد ذلك جملة مستقلة بعد ان أمر بما يوجب تعذيبهم وخزيهم وشفاء الصدور منهم دليل على أن توبة مثل هؤلاء لا بد معها من الانتقام منهم بما فعلوا بخلاف توبة الباقي على عهده فلو كان توبة المأخوذ بعد الأخذ تسقط القتل لكانت توبة خالية عن الانتقام وللزم ان مثل هؤلاء لا يعذبون ولا يخزون ولا تشفى الصدور منهم وهو خلاف ما أمر به في الآية وصار هؤلاء الذين نقضوا العهد وطعنوا في الدين كمن ارتد وسفك الدماء فان كان واحدا فلابد من قتله وان عاد إلى الإسلام وان كانوا ممتنعين قوتلوا فمن تاب بعد ذلك منهم لم يقتل والله سبحانه أعلم

الطريقة الثالثة قوله سبحانه " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال اني تبت الان " وقوله تعالى " فلما رأوا بأسنا قالوا امنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم ايمانهم لما رأوا بأسنا " وقوله تعالى " حتى إذا ادركه الغرق قال امنت انه لا إله الا الذي امنت به بنوا إسرائيل وانا من المسلمين الان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " وقوله تعالى " فلولا كانت قرية امنت فنفعها ايمانها الاقوم يونس " وقد تقدم تقرير الدلالة من هذه الآيات في قتل المنافق وذكرنا الفرق بين توبة الحربي والمرتد المجرد وتوبة المنافق والمفسد من المعاهدين ونحوهما وفرقنا بين التوبة التي تدرا العذاب والتوبة التي تنفع في المآب

الطريقة الرابعة قوله سبحانه " ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة " الآيات وقد قررنا فيما مضى ان هذه الآية تدل على قتل المؤذي من المسلمين مطلقا وهي تدل على قتل من أظهر الأذى من أهل الذمة لأن اللعنة المذكورة موجبة للتقتيل كما في تمام الكلام وقد تقدم تقرير هذا

وذكرنا ان قوله تعالى " أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا " نزلت في ابن الأشرف لما طعن في دين الإسلام وقد كان عاهد النبي فانتقض عهده بذلك وأخبر الله انه ليس له نصير ليبين ان لاذمة له إذ الذمي له نصير والنفاق قسمان نفاق المسلم استبطان الكفر ونفاق الذمي استبطان المحاربة وتكلم المسلم بالكفر كتكلم الذمي بالمحاربة فمن عاهدنا على أن لايؤذي الله ورسوله ثم نافق بأذى الله ورسوله فهو من منافقي المعاهدين فمن لم ينته من هؤلاء المنافقين اغرى الله نبيه بهم فلا يجاورونه الا قليلا ملعونين اينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا ففي الآية دلالتان

إحداهما ان هذا ملعون والملعون هو الذي يؤخذ أين وجد ويقتل فعلم ان قتله حتم لأنه لم يستثن حالا من الأحوال كما استثنى في سائر الصور ولانه قال قتلوا وهذا وعد من الله لنبيه يتضمن نصره والله لا يخلف الميعاد فعلم انه لا بد من تقتيلهم إذا أخذوا ولو سقط عنهم القتل بإظهار الإسلام ولم يتحقق الوعد مطلقا

الثانية انه يجعل أنتهاءهم النافع قبل الأخذ والتقتيل كما جعل توبة المحاربين النافعة لهم قبل القدرة عليهم فعلم انهم ان أنتهوا عن إظهار النفاق من الأذى ونحوه النفاق في العهد والنفاق في الدين والا اغراه الله بهم حتى لا يجاورونه في البلد ملعونين يؤخذون ويقتلون وهذا الطاعن الساب لم ينته حتى أخذ فيجب تقتيله

وفيها دلالة ثالثة وهو ان الذي يؤذي المؤمنين من مسلم أو معاهد إذا أخذ اقيم عليه حد ذلك الأذى ولم تدرأه عنه التوبة الان فالذي يؤذي الله ورسوله بطريق الأولى لأن الآية تدل على أن حاله اقبح في الدنيا والآخرة

الطريقة الخامسة ان ساب النبي يقتل حدا من الحدود لا لمجرد الكفر وكل قتل وجب حدا لا لمجرد الكفر فإنه لا يسقط بالإسلام

وهذا الدليل مبني على مقدمتين

إحداهما انه يقتل لخصوص سب رسول الله المستلزم للردة ونقض العهد وان كان ذلك مضمنا للقتل لعموم ما تضمنه من مجرد الردة ومجرد نقض العهد في بعض المواضع والدليل على ذلك انه قد تقدم ان النبي اهدر دم المرأة الذمية التي كانت تسبه عند الأعمى الذي كان يأوي إليها ولا يجوز أن يكون قتلها لمجرد نقض العهد لأن المراة الذمية إذا نتقض عهدها فانها تسترق ولا يجوز قتلها ولا يجوز قتل المراة للكفر الاصلي الا ان تقاتل وهذه المراة لم تكن تقاتل ولم تكن معينة على قتال كما تقدم ثم انها إذا كانت تقاتل ثم اسرت صارت رقيقة ولم تقتل عند كثير من الفقهاء منهم الشافعي رضي الله عنه لاسيما ان كانت رقيقة فان قتلها يمتنع لكونها امرأة ولكونها رقيقة لمسلم فثبت ان قتلها كان لخصوص السب للنبي وانه جناية من الجنايات الموجبة للقتل كما لو زنت المراة الذمية أو قطعت الطريق على المسلمين أو قتلت مسلما أو كما لو بدلت دين الحق عند أكثر الفقهاء الذين يقتلون المرتدة بل هذا ابلغ لأنه ليس في قتل المرتدة من السنة الماثورة الخاصة في كتب السنن المشهورة مثل الحديث الذي في قتل السابة الذمية

يوضح ذلك ان بني قريظة نقضوا العهد ونزلوا على حكم سعد ابن معاذ فحكم فيهم بان تقتل مقاتليهم وتسبى الذرية من النساء والصبيان فقال النبي لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة ارقعة ثم قتل النبي الرجال واسترق النساء والذرية ولم يقتل من النساء الا امرأة واحدة كانت قد القت رحى من فوق الحصن على رجل من المسلمين ففرق بين الذرية التي لم يثبت في حقهم الامجرد انتقاض العهد وبين الذرية الذين نقضوا العهد بما يضر المسلمين وهذه المراة الذمية لم ينتقض عهدها بانها لحقت بدار الحرب وامتنعت عن المسلمين وانما نقضت العهد بإن ضرت المسلمين واذت الله ورسوله وسعت في الأرض فسادا بالصد عن سبيل الله والطعن في دين الله كما فعلت المراة الملقية للرحى فعلم انها لم تقتل لمجرد انتقاض العهد وهي لم تكن مسلمة حتى يقال انها قتلت للردة ولا هي أيضا بمنزلة امرأة قاتلت ثم اسرت حتى يقال تصير رقيقة بنفس السبي لاتقتل أو يقال يجوز قتلها كما يجوز قتل الرجل إذا أسلمت عصم الإسلام الدم وبقيت رقيقة لوجهين

أحدهما ان هذا السب الذي كانت تقوله لم تكن تسمعه للمشركين ولا لعموم المسلمين حتى يقال هو بمنزلة اعانة الكفار على القتال من كل وجه

الثاني انها لم تكن ممتنعة حين السب بل هي حين السب ممكنة مقدور عليها وحالها قبله وبعده سواء

فالسب وان كان حرابا لكنه لم يصدر من ممتنعة اسرت بعد ذلك بل من امرأة ملتزمة للحكم بيننا وبينها العهد على الذمة ومعلوم ان السب من الأمور المضرة للمسلمين وانه من ابلغ الفساد في الأرض لما فيه من ذل الايمان وعز الكفر وإذا ثبت انها لم تقتل للكفر ولا لنقض العهد ولا لحراب أصلي متقدم على القدرة عليها ثبت ان قتلها حد من الحدود والقتل الواجب حدا لا لمجرد الكفر لا يسقط بالإسلام كحد الزاني والقاطع والقاتل وغيرهم من المفسدين

ومما يقرر الأمر ان السب اما أن يكون حرابا أو جناية مفسدة ليست حرابا فان كان حرابا فهو حراب من ذمي أو مسلم وسعي في الأرض فسادا والذمي إذا حارب وسعى في الأرض فسادا وجب قتله وان أسلم بعد القدرة عليه حيث يكون حرابا موجبا للقتل وحراب هذه المراة موجب للقتل كما جاءت به السنة وان كانت جناية مفسدة ليست حرابا وهي موجبة للقتل قتلت أيضا بعد الاخذ بطريق الأولى كسائر الجنايات الموجبة للقتل وهذا كلام مقرر ومداره على حرف واحد وهو ان السب وان كان من اعمال اللسان فقد دلت السنة بأنه بمنزلة الفساد والمحاربة بعمل الجوارح واشد ولذلك قتلت هذه المراة

وتمام ذلك ان قياس مذهب من يقول إن الساب إذا قتل إنما يقتل لأنه نقض العهد ان لا يجوز قتل هذه بل لو كانت قد قتلت باليد واللسان ثم اخذت لم تقتل عنده فإذا دلت السنة على فساد هذا القول علم صحة القول الآخر إذ لا ثالث بينهما ولا ريب عند أحد ان من قتل لحدث أخذ به أوجب نقض عهده ولم يقتل لمجرد ان انتقض عهده فقط فإن قتله لا يسقط بالإسلام لأن فساد ذلك الحدث لا يزول بالإسلام

إلا ترى ان الجنايات الناقضة للعهد مثل قطع الطريق وقتل المسلم والتجسس للكفار والزنى بمسلمة واستكراهها على الفجور ونحو ذلك إذا صدر من ذمي فمن قتله لنقض العهد قال متى أسلم لم اخذه الا بما يوجب القتل إذا فعله المسلم باقيا على إسلامه مثل أن يكون قد قتل في قطع الطريق فأقتله أو زنى فأحده أو قتل مسلما فاقيده لأنه بالإسلام صار بمنزلة المسلمين فلا يقتل كفرا ومن قال اقتله لمحاربة الله ورسوله وسعيه في الأرض فسادا قال اقتله وان أسلم وتاب بعد اخذه كما اقتل المسلم إذا حارب ثم تاب بعد القدرة لأن الإسلام الطارئ لا يسقط الحدود الواجبة قبله لآدمي بحال وان منع ابتداء وجوبها كما لو قتل ذمي ذميا أو قذفه ثم أسلم فان حده لا يسقط ولو قتله أو قذفه ابتداء لم يجب عليه قود ولا حد ولا يسقط ما كان منها لله إذا تاب بعد القدرة كما لو قتل في قطع الطريق فانه لا يسقط عنه بالإسلام وفاقا فيما اعلم وكذلك لو زنى ثم أسلم فان حده القتل الذي كان يجب عليه قبل الإسلام عند أحمد وعند الشافعي حده حد المسلم فحد السب ان كان حقا لآدمي لم يسقط بالإسلام وان كان حقا لله فليس حدا على الكفر الطارئ والمحاربة الاصلية كما دلت عليه السنة ولا على مجرد الكفر الاصلي بالاتفاق فيكون حدا لله على محاربة موجبة كقتل المراة وكل قتل وجب حدا على محاربة ذمية لم يسقط بالإسلام بعد القدرة بالاتفاق فان الذمية إذا لم تقتل في المحاربة لم يقتلها من يقول قتل الذمي المحارب إنما هو لنقض العهد ومن قتلها كما دلت علية السنة فلا فرق في هذا الباب بين ان تسلم بعد القدرة أو لا تسلم

واعلم ان من قال إن هذه الذمية تقتل فإذا أسلمت سقط عنها القتل لم يجد لهذا في الأصول نظيرا ان ذمية تقتل وهي في أيدينا ويسقط عنها القتل بالإسلام بعد الاخذ ولا أصل يدل على هذه المسالة والحكم إذا لم يثبت باصل ولا نظير كان تحكما ومن قال انها تقتل بكل حال فله نظير يقيس به وهو المحاربة باليد الزانية ونحوهما

الطريقة السادسة الاستدلال من قتل بنت مروان وهو كالاستدلال من هذه القصة لأنا قد قدمنا انها كانت من المهادنين والموادعين وانما قتلت للسب خاصة والتقرير كما تقدم

الطريقة السابعة ان النبي قال من لكعب بن الأشرف فانه قد اذى الله ورسوله وقد كان معاهدا قبل ذلك ثم هجا رسول الله وقتله الصحابة غيلة بأمر رسول الله مع كونه قد امنهم على دمه وماله لاعتقاده بقاء العهد ولانهم جاؤوه مجيئ من قد امنه ولو كان كعب بمنزلة كافر محارب فقط لم يجز قتله إذا امنهم كما تقدم لأن الحربي إذا قتل له أو علمت معه ما يعتقد انه أمان صار له أمان وكذلك كل من يجوز أمانه فعلم ان هجاءه للنبي واذه لله تعالى ورسوله لاينعقد معه أمان ولا عهد وذلك دليل على أن قتله حد من الحدود كقتل قاطع الطريق إذ ذلك يقتل وان اومن كما يقتل الزاني والمرتد وان اومن وكل حد وجب على الذمي فإنه لا يسقط بالإسلام وفاقا

الطريقة الثامنة انه قد دل هذا الحديث على أن اذى الله ورسوله علة للانتداب إلى قتل كل أحد فيكون ذلك علة أخرى غير مجرد الكفر والردة فان ذكر الوصف بعد الحكم بحرف الفاء دليل على انه علة والأذى لله ورسوله يوجب القتل ويوجب نقض العهد ويوجب الردة

يوضح ذلك ان اذى الله ورسوله لو كان إنما أوجب قتله لكونه كافرا غير ذي عهد لوجب تعليل الحكم بالوصف الاعم فإن الاعم إذا كان مستقلا بالحكم كان الاخص عديم التاثير فلماعلل قتله بالوصف الاخص علم انه مؤثر في الأمر بقتله لا سيما في كلام من اوتي جوامع الكلم وإذا كان المؤثر في قتله اذى الله ورسوله وجب قتله وان تاب كما ذكرناه فيمن سب النبي من المسلمين فان كلاهما أوجب قتله انه اذى الله ورسوله وهو مقر للمسلمين بان لا يفعل ذلك فلو كان عقوبة هذا المؤذي تسقط بالتوبة سقطت عنهما ولانه قال سبحانه " ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة واعد لهم عذابا مهينا " وقال في خصوص هذا المؤذي " أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا " وقد اسلفنا ان هذه اللعنة توجب القتل إذا أخذ ولانه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله ورسوله ثم قال " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا " ولا خلاف علمناه ان الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات لا تسقط عقوبتهم بالتوبة فالذين يؤذون الله ورسوله أحق وأولى لأن القران قد بين ان هؤلاءاسوا حالا في الدنيا والآخرة فلو أسقطنا عنه العقوبة بالتوبة لكانوا أحسن حالا

وليس للمنازع هنا الا كلمة واحدة وهو ان يقول هذا قد تغلظت عقوبته بالقتل لأنه نوع من المرتدين وناقض العهد والكافر تقبل توبته من الكفر وتسقط عنه العقوبة بخلاف المؤذي بالفسق

فيقال له هذا لو كان الموجب لقتله إنما هو الكفر وقد دلت السنة على أن الموجب لقتله إنما هو اذى الله ورسوله وهذا اخص من عموم الكفر وكما ان الزنى والسرقة والشرب وقطع الطريق اخص من عموم المعصية والشارع رتب الأمر بالقتل على هذا الوصف الاخص الذي نسبته إلى سائر أنواع الكفر نسبة اذى المؤمنين إلى سائر أنواع المعاصي فالحاق هذا النوع بسائر الأنواع جمع بين ما فرق الله بينه ورسوله وهو من القياس الفاسد كقياس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا وانما الواجب ان يوفر على كل نوع حظه من الحكم بحسب ما علقه به الشارع من الاسماء والصفات المؤثرة الذي دل كلامه الحكيم على اعتبارها وتغلظ عقوبته ابتداء لا يوجب تخفيفها أنتهاء بل يوجب تغلظها مطلقا إذا كان الجرم عظيما وسائر الكفار لم تغلظ عقوبتهم ابتداء ولا أنتهاء مثل هذا فانه يجوز إقرارهم بجزية واسترقاقهم في الجملة ويجوز الكف عنهم مع القدرة لمصلحة ترتقب وهذا بخلاف ذلك

وأيضا فان الموجب لقتله إذا كان هو أذى الله ورسوله كان محاربا لله ورسوله وساعيا فى الأرض فسادا وقد اومأ النبي إلى ذلك في حديث ابن الأشرف كما تقدم وهذا الوصف قد رتب عليه من العقوبة ما لم يرتب على غيره من أنواع الكفر وتحتمت عقوبة صاحبه الا ان يتوب قبل القدرة

الطريقة التاسعة انا قد قدمنا عن النبي انه اهدر عام الفتح دماء نسوة لأجل انهن كن يؤذينه بالسنتهن منهن القينتان لابن خطل اللتان كانتا تغنيان بهجائه ومولاة لبني عبد المطلب كانت تؤذيه وبينا بيانا واضحا انهن لم يقتلن لأجل حراب ولا قتال وانما قتلن لمجرد السب وبينا ان سبهن لم يجر مجرى قتالهن بل كان اغلظ لأن النبي امن عام الفتح المقاتلة كلهم الا من له جرم خاص يوجب قتله ولان سبهن كان متقدما على الفتح ولا يجوز قتل المراة في بعض الغزوات لأجل قتال منها متقدم قد كفت عنه وامسكت في هذه الغزوة وبينا بيانا واضحا ان قتل هؤلاء النسوة ادل شيء على قتل المراة السابة من مسلمة ومعاهدة وهودليل قوي على جواز قتل السابة وان تابت من وجوه

أحدها ان هذه المراة الكافرة لم تقتل لا اجل انها مرتدة ولا لأجل انها مقاتلة كما تقدم فلم يبق ما يوجب قتلها الا انها مفسدة في الأرض محاربة لله ورسوله ووهذه يجوز قتلها بعد التوبة إذا كان قتلها جائزا قبلها بالكتاب والسنة والإجماع

الثاني سب أولئك النسوة اما أن يكون حرابا أو جناية موجبة للقتل غير الحراب إذ قتلهن لمجرد الكفر غير جائز كما تقدم فان كان حرابا فالذمي إذا حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا يجب قتله بكل حال كما دل عليه القران وان كان جناية أخرى مبيحة للدم فهو أولى واحرى وقد قدمنا فيما مضى ما يبين ان هؤلاء النسوة لم يقتلن لحراب كان موجودا منهن في غزوة الفتح وانما قتلن جزاء على الجرم الماضي ونكالا عن مثله وهذا يبين ان قتلهن بمنزلة قتل أصحاب الحدود من المسلمين والمعاهدين

الثالث ان اثنتين منهن قتلتا والثالثة اخفيت حتى استؤمن لها النبي بعد ذلك فأمنها لأنه كان له ان يعفوا عمن سبه كما تقدم وله ان يقتله ولم يعصم دم أحد ممن اهدر دمه عام الفتح الا أمانه فعلم ان مجرد الإسلام لم يعصم دم هذه المراة وانما عصم دمها عفوه

وبالجملة فقصة قتله لاولئك النسوة من أقوى ما يدل على جوازقتل السابة بكل حال فانه المراة الحربية لا يبيح قتلها الا قتالها وإذا قاتلت ثم تركت القتال في غزوة أخرى واستسلمت وانقادت لم يجز قتلها في هذه الثانية ومع هذا فالنبي أمر بقتلهن

وللحديث وجهان

أحدهما ان النبي قد كان عاهد أهل مكة والظاهر ان عهده أنتظم الكف عن الأذى باللسان فان في كثير من الحديث ما يدل على ذلك وحينئذ فهؤلاء اللواتي هجونه نقضن العهد نقضا خاصا بهجائهن فكان للنبي قتلهن بذلك وان تبن وهذه ترجمة المسالة

الثاني انه كان له ان يقتل من هجاه إذا لم يتم متى قدر عليه وان كان حربيا لكن سقط هذا بموته كما يسقط بموته العفو عن المسلم والذمي الساب ويكون قد كان أمر الساب هو مخير فيه مطلقا لكونه اعلم بالمصلحة فإذا مات تحتم قتل من التزم ان لا يسب وكان الحربي الساب كغيره من الحربيين إذا تاب

وهذا الوجه ضعيف فإنه اثبات حكم باحتمال والأول جار على القياس ومن تأمل قصة الذين اهدرت دمائهم عام الفتح علم انهم كلهم كانوا محاربين لله ورسوله سأعين في الأرض فسادا

الطريقة العاشرة انه أمر في حال واحدة بقتل جماعة ممن كان يؤذيه بالسب والهجاء مع عفوه عمن كان اشد منهم في الكفروالمحاربة بالنفس والمال فقتل عقبة بن أبي معيط صبرا بالصفراء وكذلك النضر بن الحارث لما كان يؤذيانه وبفتريان عليه ويطعنان فيه مع استبقائه عامة الأسرى

وقد تقدم انه قال يامعشر قريش مالي اقتل من بينكم صبرا فقال النبي بكفرك وافترائك على رسول الله ومعلوم ان مجرد الكفر يبيح القتل فعلم أن الافتراء على رسول الله سبب آخر اخص من عموم الكفر موجب للقتل فحيث ما وجد وجد معه وجوب القتل واهدر عام الفتح دم الحويرث بن نقيد ودم أبي سفيان بن الحارث ودم ابن الزبعرى واهدر بعد ذلك دم كعب ابن زهير وغيرهم لأنهم كانوا يؤذون رسول الله كما اهدر دم من ارتد وحارب ودم من ارتد وافترى على رسول الله ودم من ارتد وحارب واذى الله ورسوله مع أمانه لجميع الذين حاربوه ونقضوا عهده فعلم ان اذاه سبب منفرد باباحة القتل وراء الكفر والحراب بالأنفس والأموال كقطع الطريق وقتل النفس

وقد تقدم ما كان يأمر به ويقر عليه إذا بلغه وما كان يحرض عليه المسلمين من قتل الساب دون غيره من الكافرين حتى انه لا يحقن دم الساب الاعفوه بعد ذلك فعلم انه كان يلحق الساب بذوي الأفعال الموجبة للقتل من قطع طريق ونحوه وهذا ظاهر لمن تامله فيما مضى من الأحاديث وما لم نذكره ومثل هذا يوجب قتل فاعله من مسلم ومعاهد وان تاب بعد القدرة وإذا ضم هذا الوجه إلى الذي قبله وعلم ان الأذى وحده سبب يوجب القتل لا لكونه من جنس القتال لأن النبي قد امن الذين قاتلوه بالأنفس والأموال من الرجال

فأمان المراة التي اتت بما يشبه القتال أولى لو كان جرمها من جنس القتال ولان المراة إذا قاتلت في غزوة من الغزوات ثم غزا المسلمون غزوة وعلموا انها لم تقاتل فيها بيد ولا لسان لم يجز قتلها عند أحد من المسلمين علمناه وهؤلاء النسوة كان اذاهن متقدما على فتح مكة ولم يكن لهن في غزو الفتح معونة بيد ولا لسان بل كن مستسلمات منقادات لو علمن أن إظهار الإسلام يعصم دماءهن لبادرن إلى إظهاره فهل يعتقد أحد ان مثل هذه المراة تقتل لكونها محاربة خصوصا عند الشافعي فان منصوصه ان قتل المراة والصبي إذا قاتلا بمنزلة قتل الصائل من المسلمين يقصد به دفعهما وان افضى إلى قتلهما فإذا انكفا بدون القتل لاسر أو ترك للقتال ونحو ذلك لم يجز قتلهما كما لا يجوز قتل الصائل فإذا كان يأمر بقتل من كان يؤذيه ويهجوه من النساء وقد تركن ذلك واستسلمن وربما كن يوددن ان يظهرن الإسلام ان كان عاصما وقد امن المقاتلين كلهم علم ان السب سبب مستقل موجب لحل دم كل أحد وان تركه ذلة وعجز

يؤيد ذلك ان النبي امن أهل مكة الا من قاتل الا هؤلاء النفر فانه أمر بقتلهم قاتلوا أو لم يقاتلوا فعلم ان هؤلاء النسوة قتلن لأجل السب لا لأجل انهن يقاتلن

الطريقة الحادية عشرة ان عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد وافترى على النبي انه يلقنه الوحي ويكتب له ما يريد فاهدر النبي دمه ونذر بعض المسلمين ليقتلنه ثم حبسه عثمان اياما حتى اطمان أهل مكة ثم جاء به تائبا ليبايع النبي ويؤمنه فصمت النبي طويلا رجاء ان يقوم إليه الناذر أو غيره فيقتله ويوفي بنذره

ففي هذا دلالة على أن المفتري على رسول الله الطاعن عليه قد كان له ان يقتله وان دمه مباح وان جاء تائبا من كفره وفريته لأن قتله لو كان حراما لم يقل النبي ما قال ولا قال للرجل هلا وفيت بنذرك بقتله

ولا خلاف بين المسلمين علمناه ان الكافر إذا جاء تائبا مريدا للإسلام مظهرا لذلك لم يجز قتله لذلك ولا فرق في ذلك بين الاصلي والمرتد الا ما ذكرناه من الخلاف الشاذ في المرتد مع ان هذا الحديث يبطل ذلك الخلاف بل لو جاء الكافر طالبا لأن يعرض عليه الإسلام ويقرأ عليه القران لوجب أمانه لذلك

كما قال تعالى " وإن أحد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه "

وقال تعالى في المشركين " فان تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم "

وعبد الله بن سعد إنما جاء تائبا ملتزما لإقامة الصلاة وايتاء الزكاة بل جاء بعد ان أسلم كما تقدم ذكر ذلك ثم ان النبي بين انه كان مريدا لقتله وقال للقوم هلا قام بعضكم إليه ليقتله وهلا وفيت بنذرك في قتله فعلم انه قد كان جائزا له ان يقتل من يفتري عليه ويؤذيه من الكفار وان جاء مظهر للإسلام والتوبة بعد القدرة عليه وفي ذلك دلالة ظاهرة على أن الافتراء عليه واذاه يجوز له قتل فاعله وان أظهر الإسلام والتوبة

ومما يشبه هذا اعراضه عن أبي سفيان بن الحارث وابن أبي امية وقد جاءا مهاجرين يريدان الإسلام أو قد أسلما وعلل ذلك بانهما كانا يؤذيانه ويقعان في عرضه مع انه لا خلاف علمناه ان الحربي إذا جاء يريد الإسلام وجبت المسارعة إلى قبوله منه وكان الاستيناء به حراما وقد عده بعض الناس كفرا

وقد كانت سيرته في المسارعة إلى قبول الإسلام من كل من أظهره وتاليف الناس عليه بالأموال وغيرها اشهر من أن يوصف فلما ابطأ عن هذين وأراد ان لايلتفت إليهما البتة علم انه كان له ان يعاقب من كان يؤذيه ويسبه وان أسلم وهاجر وان لا يقبل منه من الإسلام والتوبة ما يقبله من الكافر الذي لم يكن يؤذيه وفي هذا دلالة على أن السب وحده موجب للعقوبة

يوضح ذلك ما ذكره أهل المغازي ان علي بن أبي طالب قال لأبي سفيان بن الحارث ائت رسول الله من قبل وجهه فقل له ما قال اخوة يوسف ليوسف " تالله لقد اثرك الله علينا وان كنا لخاطئين " فانه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولا منه ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله " لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين "

ففي هذا دلالة على أن ما ناله من عرضه كان له ان يعاقب عليه وان يعفو كما كان ليوسف ان يعاقب اخوته على ما فعلوا به من الالقاء في الجب وبيعه للسيارة ولكن لكرمه عفا ولو كان الإسلام يسقط حقه بالكلية كما يسقط حقوق الله لم يتوجه شئ من هذا

وقد تقدم تقرير هذا الوجه في أول الكتاب وبينا انه نص في جواز قتل المرتد الساب بعد إسلامه فكذلك قتل الساب المعاهد لأن الماخذ واحد

ومما يوضحه ان المسلمين قد كان استقر عندهم ان الكافر الحربي إذا أظهر الإسلام حرم عليهم قتله لا سيما عند السابقين الأولين مثل عثمان ابن عفان ونحوه وقد علموا قوله تعالى " ولاتقولوا لمن القى اليكم السلام لست مؤمنا " وقصة اسامة بن زيد وحديث المقداد فلما كان أولئك الذين اهدر النبي دماءهم منهم من قتل ومنهم من اخفي حتى اطمان أهل مكة وطلب من النبي ان يبايعه دل على أن عثمان رضي الله عنه وغيره من المسلمين علموا ان إظهار عبد الله ابن سعد بن أبي سرح ونحوه الإسلام لا يحقن دماءهم دون ان يؤمنهم النبي والا فقد كان يمكنهم ان يامروهم بإظهار الإسلام والخروج من أول يوم

والظاهر والله أعلم انهم قد كانوا أسلموا وانما تاخرت بيعتهم للنبي على الإسلام ومع ذلك فلم يعصم دماءهم فثبت انهم علموا ان جرم مثل هؤلاء لا يعصمه مجرد الإسلام حتى يؤمنهم النبي وذلك دليل على انه قد كان للنبي قتلهم لأجل سبه مع إظهار التوبة

وقد روي عن عكرمة ان ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة وكذلك ذكر أخرون ان ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي بمر الظهران

وهذا الذي ذكروه نص في المسألة وهو شبيه بالحق فان النبي لما نزل بمر الظهران شعرت به قريش حينئذ وابن أبي سرح قد علم ذنبه فيكون قد أسلم حينئذ ولما بلغه ان النبي قد اهدر دمه تغيب حتى استؤمن له والحديث لمن تامله دليل على أن النبي كان له ان يقتله وان يؤمنه وان الإسلام وحده لم يعصم دمه حتى عفا عنه رسول الله

فمن ذلك ان عثمان جاء ليشفع له إلى النبي فصمت عنه رسول الله طويلا واعرض عنه مرة بعد مرة وعثمان ياتيه من كل وجهة وهو معرض عنه رجاء ان يقوم بعضهم فيقتله وعثمان في ذلك يكب على النبي يقبل راسه ويطلب منه ان يبايعه ويذكر أن لامه عليه حقوقا حتى استحيا النبي من عثمان فقضى حاجته ببيعته مع انه كان يود ان لايفعل فعلم ان قتله كان حقا له له ان يعفو عنه ويقبل فيه شفاعة شافع وله ان لا يفعل ولو كان ممن يعصم الإسلام دمه لم يحتج إلى شفاعة ولم يجز رد الشفاعة

ومنها ان عثمان لما قال للنبي انه يفر منك قال ألم ابايعه واومنه قال بلى ولكنه يتذكر عظيم جرمه فقال الإسلام يجب ما قبله وفي هذا بيان لأن خوفه من النبي ان يقتله إنما زال بأمانه وبيعته لا لمجرد الإسلام وان اثمه زال بالإسلام فعلم ان الإسلام يمحو اثم السب واما سقوط القتل فلا يحصل بمجرد الإسلام لأن النبي ازال خوفه من القتل بالأمان وازال خوفه من الذنب بالإسلام

ومما يدل على أن الأنبياء لهم ان يعاقبوا من اذاهم بالهلاك وان أظهر التوبة والندم ما رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ان قارون كان يؤذي موسى عليه السلام وكان ابن عمه فبلغ من اذاه اياه ان قال لامرأة بغي إذا اجتمع الناس عندي غدا فتعالي وقولي ان موسى راودني عن نفسي فلما كان الغد واجتمع الناس جاءت فسارت قارون ثم قالت للناس ان قارون قال لي كذا وكذا وان موسى لم يقل لي شيئا من هذا فبلغ ذلك موسى عليه الصلاة والسلام وهو قائم يصلي في المحراب فخر ساجدا فقال أي رب ان قارون قد اذاني وفعل وفعل وبلغ من اذاه اياي ان قال ما قال فاوحى الله إلى موسى ان ياموسى اني قد أمرت الأرض ان تطيعك وكان لقارون غرفة قد ضرب عليها صفائح الذهب فاتاه موسى ومعه جلساؤه فقال يا قارون قد بلغ من أمرك ان قلت كذا وكذا يا ارض خذيهم فاخذتهم الأرض إلى كعبهم فهتفوا يا موسى يا موسى ادع لنا ربك ان ينجينا مما نحن فيه فنؤمن بك ونتبعك ونطيعك فقال خذيهم فاخذتهم إلى انصاف سوقهم فهتفوا وقالوا يا موسى ادع لنا ربك ان ينجينا مما نحن فيه فنؤمن بك ونتبعك ونطيعك فقال يا ارض خذيهم فاخذتهم إلى ركبهم فلم يزل يقول يا ارض خذيهم حتى تطابقت عليهم وهم يهتفون فاوحى الله إليه يا موسى ما افظك اما انهم لو كانوا اياي دعوا لخلصتهم

ورواه عبد الرزاق قال حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا علي بن زيد ابن جدعان فذكره ابسط من هذا وفيه ان المراة قالت ان قارون بعث إلي فقال هل لك إلى ان امولك واعطيك واخلطك بنسائي على أن تاتيني والملا من بني إسرائيل عندي تقولين يا قارون الا تنهى موسى عن اذاي واني لم اجد اليوم توبة أفضل من أن اكذب عدو الله وابرئ رسول الله قال فنكس قارون راسه وعرف انه قد هلك وفشا الحديث في الناس حتى بلغ موسى وكان موسى شديد الغضب فلما بلغه ذلك توضا ثم صلى فسجد وبكى وقال يا رب عدوك قارون كان لي مؤذيا فذكر أشياء ثم لم يتناه حتى أراد فضيحتي يارب فسلطني عليه فاوحى الله إليه ان مر الأرض بما شئت تطعك قال فجاء موسى عليه السلام يمشي إلى قارون فلما راه قارون عرف الغضب في وجهه فقال ياموسى ارحمني فقال موسى يا ارض خذيهم فاضطربت داره وخسف به وبأصحابه إلى ركبهم وساخت داره على قدر ذلك وجعل يقول يا موسى ارحمني ويقول موسى يا ارض خذيهم وذكر القصة

فهذه القصة مع ان النبي قال لابن مسعود رضي الله عنه لما بلغه قول القائل ان هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله دعنا منك لقد اوذي موسى بأكثر من هذا فصبر

فهذا مع ما ذكرناه من أحوال النبي دليل على أن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لهم ان يعاقبوا من اذاهم وان تاب ولهم ان يعفوا عنه كما ذلك لغيرهم من البشر لكن لهم ان يعاقبوا من يؤذيهم بالقتل والهلاك وليس لغيرهم ان يعاقبه بمثل ذلك

وذلك دليل على أن عقوبة مؤذيهم حد من الحدود لا لمجرد الكفر فان عقوبة الكافر تسقط بالتوبة بلا ريب وقارون قد كان تاب في وقت تنفع فيه التوبة ولهذا في الحديث اما انهم لو كانوا اياي دعوا لخلصتهم وفي لفظ لرحمتهم وانما كان يرحمهم سبحانه والله أعلم بان يستطيب نفس موسى من اذاهم له كما يستوهب المظالم لمن يرحمه من عباده ممن هي له ويعوضه منها

الطريقة الثانية عشرة ما تقدم من حديث أنس بن زنيم الديلي الذي ذكر عنه انه هجا النبي ثم جاءه وانشده قصيدة تتضمن إسلامه وبراءته مما قيل عنه وكان معاهدا فتوقف النبي فيه وجعل يسال العفو عنه حتى عفا عنه فلو لم تكن العقوبة بعد الإسلام على السب من المعاهد جائزة لما توقف النبي في حقن دمه ولا احتاج إلى العفو عنه ولولا ان للرسول عليه حقا يملك استيفاءه بعد الإسلام لما عفا عنه كما لم يكن يعفو عمن أسلم ولا تبعه عليه وحديثه لمن تامله دليل واضح على جواز قتل من هجا النبي من المعاهدين ثم أسلم كما ان حديث ابن أبي سرح دليل واضح على جواز قتل من سبه مرتدا ثم أسلم وذلك انه لما بلغه انه هجاه وقد كان مهادنا موادعا وكان العهد الذي بينهم يتضمن الكف عن إظهار اذاه وكان على ما قيل عنه قد هجاه قبل ان يقتل بنو بكر خزاعة وقبل ان ينقضوا العهد فلذلك نذر النبي دمه ثم أنشد قصيدة تتضمن انه مسلم يقول فيها تعلم رسول الله تعلم رسول الله ونبي رسول الله وينكر فيها أن يكون هجاه ويدعو على نفسه بذهاب اليد ان كان هجاه وينسب الذين شهدوا عليه إلى الكذب وبلغت رسول الله قصيدته واعتذاره قبل ان يجئ إليه وشفع له كبير قبيلته نوفل بن معاوية وكان نوفل هذا هو الذي نقض العهد وقال يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو ومن منا لم يعادك ويؤذك ونحن في جاهلية لا ندري ما ناخذ وما ندع حتى هدانا الله بك وانقذنا بك عن الهلك وقد كذب عليه الركب وكثروا عندك فقال دع الركب عنك فانا لم نجد بتهامة أحدا من ذي رحم ولا بعيد الرحم كان ابر من خزاعة فاسكت نوفل بن معاوية فلما سكت قال رسول الله قد عفوت عنه قال نوفل فداك أبي وامي

فلو كان الإسلام المتقدم قد عصم دمه لم يحتج إلى العفو كما لم يحتج إليه من أسلم ولا حد عليه ولكان قال الإسلام يجب ما قبله كما قاله لغيره من الحربيين كما يقوله من يقول إن هذا لا يقتل بعد إسلامه فيقول الإسلام يجب ما قبله وصاحب الشريعة بين ان ما أسقط قتله عفوه وذلك ان قوله عفوت عنه اما أن يكون افاده سقوط ما كان نذره من دمه أو لم يفده ذلك فان لم يفده فلا معنى لقوله عفوت عنه وان كان قد افاده سقوط ذلك الإهدار فقبل ذلك لو قتله بعض المسلمين بعد ان أسلم وقبل ان عفا عنه النبي لكان جائزا لأنه متبع لامر رسول الله بقتله أمرا مطلقا إلى حين عفا عنه كما ان أمره بقتل ابن أبي سرح كان باقيا حكمه إلى ان عفا عنه وكذلك عتبهم إذا لم يقتلوه قبل عفوه وهذا بين في هذه الأحاديث بيانا واضحا ولو كان عند المسلمين ان من هجاه من معاهد ثم أسلم عصم دمه لكان نوفل وغيره من المسلمين علموا ذلك وقالوا له كما قالوا لكعب بن زهير ونحوه ممن هجاه وهو حربي انه لايقتل من جاءه مسلما الا ترى انهم لم يظهروه لرسول الله حتى عفا عنه كما لم يظهروا ابن أبي سرح حتى عفا عنه بخلاف كعب بن زهير وابن الزبعرى فانهما جاءا بأنفسهما لثقتهما بانه لا يمكن قتل الحربي إذا جاء مسلما وامكان ان يقتل الذمي الساب والمرتد الساب وان جاءا مسلمين وان كانا قد أسلما ثم انه قال في قصيدته

فاني لا عرضا خرقت ولا دما ** هرقت ففكر عالم الحق واقصد

فجمع بين خرق العرض وسفك الدم فعلم انه مما يؤخذ به وان أسلم ولولا ان قتله كان ممكنا بعد إسلامه لم يحتج إلى هذا الإنكار والاعتذار

ويؤيد ذلك ان النبي لم ينذر دم واحد بعينه من بني بكر الناقضي العهد الا هذا مع انهم فعلوا تلك الافاعيل فعلم ان خرق عرضه كان أعظم من نقض العهد بالمقاتلة والمحاربة باليد وقد تقدم الحديث بدلالته وانما نبهنا عليه هنا احالة على ما مضى

الطريقة الثالثة عشرة انه قد تقدم انه كان له ان يقتل من اغلظ له واذاه وكان له أن يعفو عنه فلو كان المؤذي له إنما يقتل للردة لم يجز العفو عنه قبل التوبة وإذا كان هذا حقا له فلا فرق فيه بين المسلم والذمي فانه قد اهدر دم من اذاه من أهل الذمة وقد تقدم ان ذلك لم يكن لمجرد نقض العهد فعلم انه كان لاذاه وإذا كان له ان يقتل من اذاه وسبه من مسلم ومعاهد وله ان يعفو عنه علم انه بمنزلة القصاص وحد القذف وتعزير السب لغير الأنبياء من البشر وإذا كان كذلك لم يسقط عن مسلم ولا معاهد بالتوبة كما لا تسقط هذه الحدود بالتوبة وهذه طريقة قوية وذلك انه إذا كان قد اباح الله له ان يقتل من سبه واباح له ان يعفو عنه كان المغلب في هذا الحد حقه بمنزلة سب غيره من البشر الا ان حد سابه القتل وحد ساب غيره الجلد وإذا كان المغلب حقه فكان الأمر في حياته مفوضا إلى اختياره لينال بالعفو علي الدرجات تارة ويقيم بالعقوبة من الحدود ما ينال به أيضا علي الدرجات فانه نبي الرحمة ونبي الملحمة وهو الضحوك القتال والذمي قد عاهده على أن لا يخرق عرضه وهو لو أصاب لواحد من المسلمين أو المعاهدين حقا من دم أو مال أو عرض ثم أسلم لم يسقط عنه فأولى ان لا يسقط عنه هذا

واذ قد قدمنا ان قتله لم يكن لمجرد نقض العهد وانما كان لخصوص السب وإذا كان يجوز له ان يقتل هذا الساب بعد مجيئه مسلما وله ان يعفو عنه فبعد موته تعذر العفو وتمحضت العقوبة حقا لله سبحانه فوجب استيفاؤها على ما لا يخفي إذا القول بجواز عفو أحد عن هذا بعد رسول الله يفضي إلى أن يكون الإمام مخيرا بين قتل هذا واستبقائه وهو قول لا يعلم به قائلا ثم إنه خلاف قواعد الشريعة وأصولها وقد تقدم فيما مضى الفرق ين حال حياته وحال مماته

الطريقة الرابعة عشرة انه قد تقدم الحديث المرفوع ان كان ثابتا من سب نبيا قتل ومن سب أصحابه جلد فامر بالقتل مطلقا كما أمر بالجلد مطلقا فعلم ان السب للنبي موجب بنفسه للقتل كما ان سب غيره موجب للجلد وان ذلك عقوبة شرعية على السب وكما لا يسقط هذا الجلد بالتوبة بعد القدرة فكذلك لا يسقط هذا القتل

الطريقة الخامسة عشرة أقوال أصحابة رسول الله وأفعالهم

فمن ذلك ان أبا بكر رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي امية في المراة التي غنت بهجاء النبي لولا ما سبقتني فيها لامرتك بقتلها لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر فأخبره أبو بكر انه لولا الفوت لامره بقتلها من غير استتابة ولا استثناء حال توبة مع أن غالب من يقدم ليقتل على مثل هذا يبادر إلى التوبة أو الإسلام إذا علم انه يدرا عنه القتل ولم يستفصله الصديق عن السابة هل هي مسلمة أو ذمية بل ذكر أن القتل حد من سب الأنبياء وان حدهم ليس كحد غيرهم مع انه فصل في المراة التي غنت بهجاء المسلمين بين ان تكون مسلمة أو ذمية

وهذا ظاهر في ان عقوبة الساب حد للنبي واجبة عليه له ان يعفو عنها في بعض الأحوال وان يستوفيها في بعض الأحوال كما ان عقوبة ساب غيره حد له واجبة على الساب

وقوله من تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد ليس فيه دلالة على قبول توبته لأن الردة جنس تحتها أنواع منها ما تقبل فيه التوبة ومنها ما لاتقبل كما تقدم التنبيه على هذا ولعله ان تكون لنا إليه عودة وانما غرضه ان يبين الاصل الذي يبيح دم هذا وكذلك قوله فهو محارب غادر فان المحارب الغادر جنس يباح دمه ثم منهم من يقتل وان أسلم كما لو حارب بقطع الطريق أو باستكراه مسلمة على الزنى ونحو ذلك

قال تعالى " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ان يقتلوا أو يصلبوا " الآية ثم انه لم يرفع العقوبة الا إذا تابوا قبل القدرة عليهم وقد قدمنا ان هذا محارب مفسد فيدخل في هذه الآية

وعن مجاهد قال أتى عمر برجل يسب النبي فقتله ثم قال عمر من سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فاقتلوه

هذا مع ان سيرته في المرتد انه يستتاب ثلاثا ويطعم كل يوم رغيفا لعله يتوب فإذا أمر بقتل هذا من غير استتابة علم ان جرمه اغلظ عنده من جرم المرتد المجرد فيكون جرم سابه من أهل العهد اغلظ من جرم من اقتصر على نقض العهد لاسيما وقد أمر بقتله مطلقا من غير ثنيا

وكذلك المراة التي سبت النبي فقتلها خالد بن الوليد ولم يستتبها دليل على انها ليست كالمرتدة المجردة

وكذلك حديث محمد بن مسلمة لما حلف ليقتلن ابن يامين لما ذكر أن قتل ابن الأشرف كان غدرا وطلبه لقتله بعد ذلك بمدة طويلة ولم ينكر المسلمون ذلك عليه مع انه لو كان قتله لمجرد الردة لكان قد عاد إلى الإسلام بما أتى به بعد ذلك من الشهادتين والصلوات ولم يقتل حتى يستتاب

وكذلك قول ابن عباس في الذمي يرمي أمهات المؤمنين انه لا توبة له نص في هذا المعنى وهذه القضايا قد اشتهرت ولم يبلغنا ان أحدا انكر شيئا من ذلك كما انكر عمر رضي الله عنه قتل المرتد الذي لم يستتب وكما انكر ابن عباس رضي الله عنه تحريق الزنادقة وأخبر ان حدهم القتل فعلم انه كان مستفيضا بينهم ان حد الساب ان يقتل الا ما روي عن ابن عباس من سب نبيا من الأنبياء فقد كذب برسول الله وهي ردة يستتاب فإن تاب والا قتل وهذا في سب يتضمن جحد نبوة نبي من الأنبياء فإنه يتضمن تكذيب رسول الله ولا ريب ان من قال عن بعض الأنبياء انه ليس بنبي وسبه بناء على انه ليس بنبي فهذه ردة محضة ويتعين حمل حديث ابن عباس على هذا أو نحوه ان كان محفوظا عنه لأنه أخبر ان قاذف أمهات المؤمنين لاتوبة له فكيف تكون حرمتهن لأجل سب النبي أعظم من حرمه نبي معروف مذكور في القران

الطريقة السادسة عشرة ان الله سبحانه وتعالى أوجب لنبينا على القلب واللسان والجوارح حقوقا زائدة على مجرد التصديق بنبوته كما أوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب واللسان والجوارح أمورا زائدة على مجرد التصديق به سبحانه وحرم سبحانه لحرمة رسوله مما يباح ان يفعل مع غيره أمورا زائدة على مجرد التكذيب بنبوته

فمن ذلك انه أمر بالصلاة عليه والتسليم بعد ان أخبر ان الله وملائكته يصلون عليه والصلاة عليه تتضمن ثناء الله عليه ودعاء الخير له وقربته منه ورحمته له والسلام عليه يتضمن سلامته من كل افة فقد جمعت الصلاة عليه والتسليم جميع الخيرات ثم انه يصلي سبحانه عشرا على من يصلي عليه مرة حضا للناس على الصلاة عليه ليسعدوا بذلك وليرحمهم الله بها

ومن ذلك انه أخبر انه أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن حقه انه يجب ان يؤثره العطشان بالماء والجائع بالطعام وانه يجب ان يوقى بالأنفس والأموال كما قال سبحانه وتعالى " ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب ان يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه "

فعلم ان رغبة الانسان بنفسه ان يصيبه ما يصيب النبي من المشقة معه حرام

وقال تعالى مخاطبا للمؤمنين فيما أصابهم من مشقات الحصر والجهاد " لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا "

ومن حقه أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق كما دل على ذلك قوله سبحانه " قل ان كان اباؤكم وابناؤكم واخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم " إلى قوله " أحب اليكم من الله ورسوله " الآية مع الأحاديث الصحيحة المشهورة كما في الصحيح من قول عمر رضي الله عنه يا رسول الله لأنت أحب الي من كل شئ الامن نفسي فقال لا ياعمر حتى اكون أحب اليك من نفسك قال فانت والله يا رسول الله أحب الي من نفسي قال الان ياعمر وقال لايؤمن احدكم حتى اكون أحب إليه من ولد ووالده والناس اجمعين متفق عليه

ومن ذلك ان الله أمر بتعزيره وتوقيره فقال " وتعزروه وتوقروه " والتعزير اسم جامع لنصره وتاييده ومنعه من كل ما يؤذيه والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمانينة من الاجلال والاكرام وان يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار

ومن ذلك انه خصه في المخاطبة بما يليق به فقال " لاتجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا " فنهى ان يقولوا يا محمد أو يا أحمد أو يا أبا القاسم ولكن يقولون يا رسول الله يا نبي الله وكيف لا يخاطبونه بذلك والله سبحانه وتعالى أكرمه في مخاطبته اياه بما لم يكرم به أحدا من الأنبياء فلم يدعه باسمه في القران قط ببل يقول " يا ايها النبي قل لأزواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها " " يا ايها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين " " يا ايها النبي انا أحللنا لك أزواجك " " يا ايها النبي اتق الله " " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا " " يا ايها النبي إذا طلقتم النساء " " يا ايها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " " يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك " " يا ايها المزمل قم الليل " " يا ايها المدثر قم فانذر " " يا ايها النبي حسبك الله " مع انه سبحانه قد قال " وقلنا يا ادم اسكن أنت وزوجك " الآية " يا ادم انبئهم باسمائهم " " يا نوح انه ليس من أهلك " " يا ابراهيم اعرض عن هذا " " يا موسى اني اصطفيتك على الناس " " يا داود انا جعلناك خليفة في الأرض " " يا يحيى خذ الكتاب بقوة " " يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس " " يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك "

ومن ذلك انه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى ياذن وحرم رفع الصوت فوق صوته وان يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل وأخبر ان ذلك سبب حبوط العمل فهذا يدل على انه قد يقتضي الكفر لأن العمل لا يحبط الا به وأخبر ان الذين يغضون اصواتهم عنده هم الذين خلصت قلوبهم للتقوى وان الله يغفر لهم ويرحمهم وأخبر ان الذين ينادونه وهو في منزله لا يعقلون لكونهم رفعوا اصواتهم عليه ولكونهم لم يصبروا حتى يخرج ولكن ازعجوه إلى الخروج

ومن ذلك انه حرم على الامة ان يؤذوه بما هو مباح ان يعامل به بعضهم بعضا تمييزا له مثل نكاح أزواجه من بعده فقال تعالى " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما "

وأوجب على الامة لاجله احترام أزواجه وجعلهن أمهات في التحريم والاحترام فقال سبحانه " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم "

وأما ما أوجبه من طاعته والانقياد لامره والتاسي بفعله فهذا باب واسع لكن ذاك قد يقال هو من لوازم الرسالة وانما الغرض هنا ان ننبه على بعض ما أوجبه الله من الحقوق الواجبة والمحرمة على الأمة مما يزيد على لوازم الرسالة بحيث يجوز ان يبعث الله رسولا ولا يوجب له هذه الحقوق

ومن كرامته المتعلقة بالقول انه فرق بين اذاه واذى المؤمنين فقال تعالى " إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا "

وقد تقدم في هذه الآية ما يدل على أن حد من سبه القتل كما ان حد من سب غيره الجلد

ومن ذلك ان الله رفع له ذكره فلا يذكر الله سبحانه الا ذكر معه ولا تصح للأمة خطبة ولا تشهد حتى يشهدوا انه عبده ورسوله وأوجب ذكره في كل خطبة وفي الشهادتين اللتين هما اساس الإسلام وفي الاذان الذي هو شعار الإسلام وفي الصلاة التي هي عماد الدين إلى غير ذلك من المواضع

هذا إلى خصائص له آخر يطول تعدادها

وإذا كان كذلك فمعلوم ان سابه ومنتقصه قد ناقض الايمان به وناقض تعزيره وتوقيره وناقض رفع ذكره وناقض الصلاة عليه والتسليم وناقض تشريفه في الدعاء والخطاب بل قابل أفضل الخلق بما لا يقابل به الا شر الخلق

يوضح ذلك ان مجرد اعراضه عن الايمان به يبيح الدم مع عدم العهد واعراضه عن هذه الحقوق الواجبة يبيح العقوبة فهذا بمجرد سكوته عن تشريفه وتكريمه فإذا أتى بضد ذلك من الذم والسب والانتقاص والاستخفاف فلابد ان يوجب ذلك زيادة على الذم والعقاب فان مقادير العقوبات على مقادير الجرائم الاترى ان الرجل لو قتل رجلا اعتباطا لكن عقوبته القود وهو التسليم إلى ولي المقتول فان انضم إلى ذلك قتله لاخذ المال مجاهرة صارت العقوبة تحتم القتل فان انضم إلى ذلك أخذ المال عوقب مع ذلك بالصلب وعوقب عند بعض العلماء أيضا بقطع اليد والرجل حتما مع ان أخذ المال سرقة لا يوجب الا قطع اليد فقط وكذلك لو قذف عبدا أو ذميا أو فاجرا لم يجب عليه الا التعزير فلو قذف حرا مسلما عفيفا لوجب عليه الحد التام فلو قيل انه لايجب عليه مع ذلك الا ما يجب على من ترك الايمان به أو ترك العهد الذي بيننا وبينه لسوى بين الساكت عن ذمه وسبه والمبالغ في ذلك وهذا غير جائز كما انه غير جائز التسوية بين الساكت عن مدحه والصلاة عليه والمبالغ في ذلك ولزم من ذلك ان لا يكون لخصوص سبه وذمه واذاه عقوبة مع انه من أعظم الجرائم وهذا باطل قطعا

ومعلوم ان لا عقوبة فوق القتل لم تبق الزيادة على ذلك الا تعين قتله وتحتمه تاب أو لم يتب كحد قاطع الطريق إذ لا نعلم أحدا أوجب ان يجلد لخصوص السبب ثم يقتل للكفر إذا كانت العقوبة لخصوص السب كانت حدا من الحدود وهذه مناسبة ظاهرة قد دل على صحتها دلالات النصوص السالفة من كون السب موجبا للقتل والعلة إذا ثبت بالنص أو بالايماء لم تحتج إلى أصل يقاس عليه الفرع وبهذا يظهر انا لم نجعل خصوص السب موجبا للقتل الا بما دل عليه من الكتاب والسنة والأثر لا لمجرد الاستحسان والاستصلاح كما زعمه من لم يحظ بماخذ الأحكام على أن الاصل الذي يقاس به هذا الفرع ثابت وهو

الطريقة السابعة عشرة وذلك انا وجدنا الأصول التي دل عليها الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة حكمت في المرتد وناقض العهد حكمين فمن لم يصدر منه الا مجرد الردة أو مجرد نقض العهد ثم عاد إلى الإسلام عصم دمه كما دل عليه كتاب الله وسنة رسول الله وقد تقدم ذكر بعض ما يدل على ذلك في المرتد وهو في ناقض العهد أيضا موجود بقوله في بعض من نقض العهد " ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء " وبان النبي قبل إسلام من أسلم من بني بكر وكانوا قد نقضوا العهد وعدوا على خزاعة فقتلوهم وقبل إسلام قريش الذين اعانوهم على قتال المسلمين حتى انتقض عهدهم بذلك ودلت سنته على أن مجرد إسلامهم كان عاصما لدمائهم وكذلك في حصره لقريظة والنضير مذكر انهم لو أسلموا لكف عنهم وقد جاء نفر منهم مسلمين فعصموا دماءهم وأموالهم منهم ثعلبة بن سعية واسد بن سعية واسد ابن عبيد أسلموا في الليلة التي نزل فيها بنو قريضة على حكم رسول الله وخبرهم مشهور ومن تغلظت ردته أو نقضه بما يضر المسلمين إذا عاد إلى الإسلام لم تسقط عنه العقوبة مطلقا بل يقتل إذا كان جنس ما فعله موجبا للقتل أو يعاقب بما دونه ان لم يكن كذلك كما دل عليه قوله تعالى " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " الآية وكما دلت عليه سنته في قصة ابن أبي سرح وابن زنيم وفي قصة ابن خطل وقصة مقيص بن صبابة وقصة العرنيين وغيرهم وكما دلت عليه الأصول المقررة فان الرجل إذا اقترن بردته قطع طريق أو قتل مسلم أو زنى أو غير ذلك ثم رجع إلى الإسلام اخذت منه الحدود وكذلك لو اقترن بنقض عهده الاضرار بالمسلمين من قطع طريق أو قتل مسلم أو زنى بمسلمة فان الحدود تستوفى منه بعد الإسلام اما الحد الذي يجب على المسلم لو فعل ذلك أو الحد الذي كان واجبا قبل الإسلام وهذا الرجل الساب قد وجد منه قدر زائد على مجرد نقض العهد كما قدمنا من الاضرار الذي صار به اغلظ جرما من مجرد نقض العهد أو فعل ما هو أعظم من أكثر الأمور المضرة كما تقدم فصار بمنزلة من قرن بنقض عهده اذى المسلمين في دم أو مال أو عرض واشد وإذا كان كذلك فإسلامه لا يزيل عنه عقوبة هذا الاضرار كما دلت عليه الأصول في مثله وعقوبة هذا الاضرار قد ثبت انه القتل بالنص والإسلام الطارئ لا يمنع ابتداء هذه العقوبة فان المسلم لو ابتدا بمثل هذا قتل قتلا لا يسقط بالتوبة كما تقدم

وإذا لم يمنع الإسلام ابتداءها فان لا يمنع بقاءها ودوامها أولى واحرى لأن الدوام والبقاء أقوى من الابتداء والحدوث في الحسيات والعقليات والحكميات

إلا ترى ان العدة والاحرام والردة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع دوامه والإسلام يمنع ابتداء الرق ولا يمنع دوامه ويمنع ابتداء وجوب القود وحد القذف على المسلم إذا قتل أو قذف ذميا ولا يمنع دوامه عليه إذا أسلم بعد القتل والقذف

ولو فرض ان إسلام يمنع ابتداء قتل هذا فلا يجب ان يسقط القتل بإسلامه لأن الدوام أقوى من الابتداء وجاز أن يكون في بمنزلة القود وحد القذف فان الإسلام يمنع ابتداءه دون دوامه لاسيما والسب فيه حق لآدمي ميت وفيه جناية متعلقة بعموم المسلمين فهو مثل القتل في المحاربة ليس حقا لمعين وإذا كان كذلك وجب استيفاؤه كغيره من المحاربين المفسدين

يحقق ذلك ان الذمي إذا قطع الطريق وقتل مسلما فهو يعتقد في دينه جواز قتل المسلم واخذ ماله وانما حرمه عليه العهد الذي بيننا وبينه كما انه يعتقد جواز السب في دينه وانما حرمه عليه العهد وقطع الطريق قد يفعل استحلالا وقد يفعل استخفافا بالحرمة لغرض كما ان سب الرسول قد يفعل استحلالا وقد يفعل استخفافا بالحرمة لغرض فهو مثله من كل وجه الا ان مفسدة ذلك في الدنيا ومفسدة هذا في الدين ومفسدة الدين أعظم من مفسدة الدنيا عند المؤمنين بالله العالمين به وبامره فإذا أسلم قاطع الطريق فقد تجدد منه إظهارا اعتقاد تحريم دم المسلم وماله مع جواز ان لايفي بموجب هذا الاعتقاد وكذلك إذا أسلم الساب فقد تجدد إظهار اعتقاد تحريم عرض الرسول مع جواز ان لايفي بموجب هذا الاعتقاد فإذا كان هناك يجب قتله بعد إسلامه فكذلك يجب قتله هنا بعد إسلامه ويجب ان يقال إذا كان ذلك لا يسقط حده بالتوبة بعد القدرة فكذلك هذا لا يسقط حده بالتوبة بعد القدرة

ومن انعم النظر لم يسترب في ان هذا محارب مفسد كما ان قاطع الطريق محارب مفسد

ولا يرد على هذا سب الله تعالى لأن أحدا من البشر لا يسبه اعتقادا الا بما يراه تعظيما واجلالا كزعم أهل التثليث ان له صاحبة وولدا فانهم يعتقدون ان هذا من تعظيمه والتقرب إليه ومن سبه لا على هذا الوجه فالقول فيه كالقول فيمن سب الرسول على أحد القولين وهو المختار كما سنقرره ومن فرق قال انه تعالى لا تلحقه غضاضة ولا انتقاص بذلك ولا يكاد أحد يفعل ذلك أصلا الا أن يكون وقت غضب ونحو ذلك بخلاف سب الرسول فانه يسبه انتقاصا له واستخفافا به سبا يصدر عن اعتقاد وقصد اهانة وهو من جنس تلحقه الغضاضة ويقصد بذلك وقد يسب تشفيا وغيظا وربما حل منه في النفوس حبائل ونفر عنه بذلك خلائق ولاتزول نفرتهم عنه بإظهار التوبة كما لا تزول مفسدة الزنى وقطع الطريق ونحو ذلك بإظهار التوبة وكما لا يزول العار الذي يلحق بالمقذوف بإظهار القاذف التوبة فكانت عقوبة الكفر يندرج فيها ما يتبعه من سب الله سبحانه بخلاف سب الرسول

فإن قيل قد تكون زيادة العقوبة على عقوبة مجرد الناقض للعهد تحتم قتله ما دام كافرا بخلاف غيره من الكافرين فان عقد الأمان والهدنة والذمة واسترقاقهم والمن عليهم والمفاداة بهم جائز في الجملة فإذا أتى مع حل دمه لنقض العهد أو لعدمه بالسب تعين قتله كما قررتموه وهكذا الجواب عن المواضع التي قتل النبي فيها من سبه أو أمر بقتله أو أمر أصحابه بذلك فانها تدل على أن الساب يقتل وان لم يقتل من هو مثله من الكافرين

وكذلك قال النبي ليهود في قصة ابن الأشرف انه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رايه ما اغتيل ولكنه نال منا وهجانا بالشعر ولم يفعل هذا أحدا منكم الا كان السيف

وإذا كان كذلك فيكون القتل وجب لامرين للكفر ولتغلظه بالسب كما يجب قتل المرتد للكفر ولتغلظه بترك الدين الحق والخروج منه فمتى زال الكفر زال الموجب للدم فلم يستقل بقاء اثر السب باحلال الدم وتبع الكفر في الزوال كما تبعه في الحصول فانه فرع للكفر ونوع منه فإذا زال الاصل زالت جميع فروعه وأنواعه

وهذا السؤال قد يمكن تقريره في سب من يدعي الإسلام بناء على أن السب فرع للردة ونوع منها وقد لايمكن لأنه لم يتجدد من هذا بعد السب ما لم يكن موجودا حال السب بخلاف الكافر

قلنا وهذا أيضا دليل على أن قتل الساب حد من الحدود فانه قد تقدم انه يجب قتله ان كان معاهدا ولا يجوز استبقاؤه بعد السب بأمان ولا استرقاق ولو كان إنما يقتل لكونه كافرا محاربا لجاز أمانه واسترقاقه والمفاداة به فلما كان جزاؤه القتل عينا علم ان قتله حد من الحدود ليس بمنزلة قتل سائر الكفار

ومن تامل الأدلة الشرعية نصوصها ومقاييسها مما ذكرناه ومما لم نذكره ثم ظن بعد هذا ان قتل الساب لمجرد كونه كافرا غير معاهد كقتل الأسير فليس على بصيرة من أمره ولا ثقة من رايه

وليس هذا من المسالك المحتملة بل من مسالك القطع فان من تامل دلالات الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الامة وما توجبه الأصول الشرعية علم قطعا ان للسب تاثيرا في سفح الدم زائدا على تاثير مجرد الكفر الخالي عن عهد

نعم قد يقال هو مقتول بمجموع الأمرين بناء على أن كفر الساب نوع مغلظ لايحتمل الاستبقاء ككفر المرتد فيكون مقتولا لكفره وسبه ويكون القتل حدا بمعنى انه يجب إقامته ثم يزول موجبه بالتوبة كقتل المرتد فهذا له مساغ فيما تقدم ما يضعف هذا الوجه ومع هذا فانه لايقدح في كون قتل الساب حدا من الحدود وجب لما فيه خصوص ظهور سب الرسول من المفسدة

وانما يبقى ان يقال هذا الحد هل يسقط بالإسلام أم لا

فنقول جميع ما ذكرناه من الدلالات وان دلت على وجوب قتله بعد إظهار التوبة فهي دالة على أن قتله حد من الحدود وليس لمجرد الكفر وهي دالة على هذا بطريق القطع لما ذكرناه من تفريق الكتاب والسنة والإجماع بين من اقتصر على الكفر الأصلي أو الطارىء أو نقض العهد وبين من سب الرسول من هؤلاء وإذا لم يكن القتل لمجرد الكفر لم يبق الا أن يكون حدا وإذا ثبت انه يقتل لخصوص السب لكونه حدا من الحدود لا لعموم كونه كافرا غير ذي عهد أو لعموم كونه مرتدا فيجب ان لا يسقط بالتوبة والإسلام لأن الإسلام والتوبة لا يسقط شيئا من الحدود الواجبة قبل ذلك إذا كانت التوبة بعد الثبوت والرفع إلى الإمام بالاتفاق

وقد دل القران ان حد قاطع الطريق والزاني والسارق والقاذف لا يسقط بالتوبة بعد التمكن من إقامة الحد

ودلت السنة على مثل ذلك في الزاني وغيره ولم يختلف المسلمون فيما علمناه ان المسلم إذا زنى أو سرق أو قطع الطريق أو شرب الخمر فرفع إلى السلطان وثبت عليه الحد ببينة ثم تاب من ذلك انه تجب إقامة الحد عليه الا ان يظن أحد في ذلك خلافا شاذا لا يعتد به فهذه حدود الله تعالى وكذلك لو وجب عليه قصاص أو حد قذف أو عقوبة سب لمسلم أو معاهد ثم تاب من ذلك لم تسقط عنه العقوبة وكذلك أيضا لم يختلفوا فيما علمناه ان الذمي لو وجب عليه حد قطع الطريق أو حد السرقة أو قصاص أو حد قذف أو تعزير ثم أسلم وتاب من ذلك لم تسقط عنه عقوبة ذلك وكذلك أيضا لو زنى فانه إذا وجب عليه حد الزنى ثم أسلم لم يسقط عنه بل يقام عليه حد الزنى عند من يقول بوجوبه قبل الإسلام ويقتل حتما عند الإمام أحمد ان كان زنى انتقض به عهده

هذا مع ان الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها فيغفر للتائب ذنبه مع إقامة الحد عليه تطهيرا له وتنكيلا للناس عن مثل تلك الجريمة فتحصل بإقامة الحد المصلحة العامة وهي زجر الملتزمين للإسلام أو الصغار عن فعل مثل ذلك الفساد فانه لو لم يقم الحد عند إظهار التوبة لم يتات إقامة حد في الغالب فانه لا يشاء المفسد في الأرض إذا أخذ ان يظهر التوبة الا أظهرها ويوشك كل من هم بعظيمة من العظائم من الأقوال والأفعال ان يرتكبها ثم إذا احيط به قال اني تائب

ومعلوم أن ذلك لو درأ الحد الواجب لتعطلت الحدود وظهر الفساد في البر والبحر ولم يكن في شرع العقوبات والحدود كبير مصلحة وهذا ظاهر لا خفاء به

ثم الجاني ان تاب توبة نصوحا فذلك نافعه فيما بينه وبين الله يغفر له ما اسلف ويكون الحد تطهيرا له وتكفيرا لسيئته وهو من تمام التوبة كما قال ماعز بن مالك للنبي طهرني وقد جاء تائبا وقال تعالى لما ذكر كفارة قتل الخطا " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما " وقال تعالى في كفارة الظهار " ذلكم توعظون به "

فيشتمل الحد مع التوبة على مصلحتين عظيمتين

مصلحة زجر النفوس عن مثل تلك الجريمة وهي اهم المصلحتين فان الدنيا في الحقيقة ليست دار كمال الجزاء وانما كمال الجزاء في الآخرة وانما الغالب في العقوبات الشرعية الزجر والنكال وان كان فيها مقاصد آخر كما ان غالب مقصود العدة براءة الرحم وان كان فيها مقاصد آخر ولهذا كانت هذه المصلحة مقصودة في كل عقوبة مشروعة

والمصلحة الثانية تطهير الجاني وتكفير خطيئته ان كان له عند الله خير أو عقوبته والانتقام منه ان لم يكن كذلك وقد يكون زيادة في ثوابه ورفعه في درجاته

ونظير ذلك المصائب المقدرة في النفس والاهل والمال فانها تارة تكون كفارة وطهورا وتارة تكون زيادة في الثواب وعلوا في الدرجات وتارة تكون عقابا وانتقاما

لكن إذا اساء الانسان سرا فان الله يقبل توبته سرا ويغفر له من غير احواج له إلى ان يظهر ذنبه حتى يقام حده عليه اما إذا اعلن الفساد بحيث يراه الناس ويسمعونه حتى شهدوا به عند السلطان أو اعترف هو به عند السلطان فانه لا يطهره مع التوبة بعد القدرة الا إقامته عليه الا ان في التوبة إذا كان الحد لله وثبت بإقراره خلافا سنذكره إن شاء الله تعالى ولهذا قال تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب وقال لما شفع إليه في السارقة تطهر خيرا لها وقال من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره وقال من ابتلى من هذه القاذورات بشيء فاليستتر بستر الله فانه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله

إذا تبين ذلك فنقول هذا الذي أظهر سب رسول الله من مسلم أو معاهد قد أتى بهذه المفسدة التي تضمنت مع الكفر ونقض العهد اذى الله ورسوله وانتهاك تلك الحرمة التي هي أفضل حرمة المخلوقين والوقيعة في عرض لا يساوي غيره من الاعراض والطعن في صفات الله وأفعاله وفي دين الله وكتابه وجميع انبيائه والمؤمنين من عباده فان الطعن في واحد من الأنبياء طعن في جميع الأنبياء كما قال سبحانه وتعالى " أولئك هم الكافرون حقا " وطعن في كل من امن بنبينا من الأنبياء والمؤمنين المتقدمين والمتاخرين وقد تقدم تقرير هذا

ثم هذه العظيمة صدرت ممن التزم بعقد ايمانه أو أمانه انه لا يفعل ذلك ولا ياتيه كما صدر الزنى والسرقة وقطع الطريق عمن التزم بعقد ايمانه أو أمانه لا يفعل ذلك فإذا وجبت عقوبته على تلك الجريمة لخصوصها كما تقدم امتنع ان يسقط بما يظهره من التوبة كما تقدم أيضا

ثم هنا مسلكان

أحدهما وهو مسلك طائفة من أصحابنا وغيرهم ان يقتل حدا لله كما يقتل لقطع الطريق وللردة وللكفر لأن السب للرسول قد تعلق به حق الله وحق كل مؤمن فان اذاه ليس مقصورا على رسول الله فقط كمن سب واحدا من عرض الناس بل هو اذى لكل مؤمن كان ويكون بل هو عندهم من ابلغ أنواع الأذى ويود كل منهم ان يفتدي هذا العرض بنفسه وأهله وماله وعرضه كما تقدم ذكره عن الصحابة من انهم كانوا يبذلون دماءهم في صون عرضه وكان النبي يمدح من فعل ذلك سواء قتل أو غلب ويسميه ناصر الله ورسوله ولو لم يكن السب أعظم من قتل بعض المسلمين لما جاز بذل الدم في درئه كما لا يجوز بذل الدم في صون عرض واحد من الناس وقد قال حسان ابن ثابت يخاطب أبا سفيان بن الحارث

هجوت محمدا فاجبت عنه ** وعند الله في ذاك الجزاء

فان ابى ووالده وعرضي ** لعرض محمد منكم وقاء

وذلك انه انتهاك للحرمة التي نالوا بها سعادة الدنيا والآخرة وبها ينالها كل واحد سواهم وبها يقام دين الله ويرضى الله عن عباده ويحصل ما يحبه وينتفي ما يبغضه كما ان قاطع الطريق وان قتل واحدا فان مفسدة قطع الطريق تعم جميع الناس فلم يفوض الأمر فيه إلى ولي المقتول

نعم كان الأمر في حياة رسول الله مفوضا إليه فيمن سبه ان أحب عفا عنه وان أحب عاقبه وان كان في سبه حق الله ولجميع المؤمنين لأن الله سبحانه يجعل حقه في العقوبة تبعا لحق العبد كما ذكرناه في القصاص وحقوق الآدميين تابعة لحق الرسول فانه أولى بهم من أنفسهم ولان في ذلك تمكينه من أخذ العفو والأمر بالعرف والاعراض عن الجاهلين الذي أمره الله تعالى به في كتابه وتمكينه من العفو والاصلاح الذي يستحق به أن يكون أجره على الله وتمكينه من أن يدفع بالتي هي أحسن السيئة كما أمر الله وتمكينه من استعطاف النفوس وتاليف القلوب على الايمان واجتماع الخلق عليه وتمكينه من ترك التنفير عن الايمان وما يحصل بذلك من المصلحة يغمر ما يحصل باستبقاء ساب من المفسدة كما دل عليه قوله تعالى " ولو كنت فظا غليظ القلب لأنفضوا من حولك فاعفوا عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر "

وقد بين النبي نفس هذه الحكمة حيث قال اكره ان يتحدث الناس ان محمدا يقتل أصحابه وقال فيما عامل به ابن أبي من الكرامة رجوت ان يؤمن بذلك الف من قومه فحقق الله رجاءه ولو عاقب كل من اذاه بالقتل لخامر القلوب عقدا أو وسوسة ان ذلك لما في النفس من حب الشرف وانه من باب غضب الملوك وقتلهم على ذلك ولو لم يبح له عقوبته لأنتهك العرض واستبيحت الحرمة وانحل رباط الدين وضعفت العقيدة في حرمة النبوة فجعل الله له الأمرين فلما انقلب إلى رضوان الله وكرامته لم يبق واحدا مخصوص من الخلق إليه استيفاء هذه العقوبة والعفو عنها والحق فيها ثابت لله سبحانه ولرسول الله ولعباده المؤمنين وعلم كل ذي عقل ان المسلمين إنما يقتلونه لحفظ الدين وحفظ حمى الرسول ووقاية عرضه فقط كما يقتلون قاطع الطريق في لأمن الطرقات من المفسدين وكما يقطعون السارق لحفظ الأموال وكما يقتلون المرتد صونا للداخلين في الدين عن الخروج عنه ولم يبق هنا توهم مقصود جزوي كما قد كان يتوهم في زمانه ان قتل الساب كذلك وتقرير ذلك بالساب له من المسلمين فانه قد كان له ان يعفوا عنه مع انه لايحل للأمة الا اراقة دمه فحاصله انه في حياته قد غلب في هذه الجناية حقه ليتمكن من الاستيفاء والعفو وبعد موته فهي جناية على الدين مطلقا ليس لها من يمكنه العفو عنها فوجب استيفاؤها وهذا مسلك جيد لمن تدبر غوره

ثم هنا تقريران

أحدهما أن يكون الساب من جنس المحارب المفسد وقد تقدم في ذلك زيادة بيان ومما يؤيده انه قال سبحانه وتعالى " من قتل نفس بغير نفس أو فسادا في الأرض فكانما قتل الناس جميعا " فعلم ان كل ما أوجب القتل حقا لله كان فسادا في الأرض والا لم يبح

وهذا السب قد اباح الدم فهو فساد في الأرض وهو أيضا محاربة لله ورسوله على ما لا يخفى لأن المحاربة هنا والله أعلم إنما عني بها المحاربة بعد المسالمة لأن المحاربة الاصليه لم يدخل حكمها في هذه الآية وسبب نزولها إنما كان فعل مرتد وناقض عهد فعلم انهما جميعا دخلا فيها وهذا قد حارب بعد المسالمة وأفسد في الأرض فيتعين إقامة الحد عليه

الثاني أن يكون السب جناية من الجنايات الموجبه للقتل كالزنى وان لم يكن حرابا كحراب قاطع الطريق فان من الفساد ما يوجب القتل وان لم يكن حرابا وهذا فساد قد أوجب القتل فلا يسقط بالتوبة كغيره من أنواع الفساد إذ لايستثنى من ذلك الا القتل للكفر الاصلي أو الطاريء وقد قدمنا ان هذا القتل ليس هو كقتل سائر الكفار

فإن قيل فإذا كان السب حد لله فيجب ان يسقط بالإسلام كمايسقط حد المرتد بالإسلام وكما يسقط قتل الكافر بالإسلام وذلك ان مجرد تسميته حدا لايمنع سقوطه بالتوبة أو بالإسلام فان قتل المرتد حد فان الفقهاء يقولون باب حد المرتد ثم انه يسقط بالإسلام ثم ان هذا أمر لفظي لاتناط به الأحكام وانما تناط بالمعاني وكل عقوبة لمجرم فهي حد من حيث تزجره وتمنعه عن تلك الجريمة وان لم تسم حدا لكن لاريب انه إنما يقتل للكفر والسب والسب لايمكن تجريده عن الكفر والمحاربة حتى يفرض ساب قد وجب قتله وهو مؤمن أو معاهد باق على عهده كما يفرض مثل ذلك في الزاني والسارق والقاذف فان أولئك وجبت عقوباتهم لتلك الجرائم وهي قبل الإسلام وبعده سواء وهذا إنما وجبت عقوبته بجرم هو من فروع الكفر وأنواعه فإذا زال الاصل تبعته فروعه فيكون الموجب للقتل انه كافرمحارب وانه مؤذ لله ولرسوله كما قال لعقبة بن أبي معيط لما قال مالي اقتل من بينكم صبرا فقال له النبي بكفرك وافترائك على رسول الله والعلة إذا كانت ذات وصفين زال الحكم بزوال أحدهما

ونحن قد نسلم انه يتحتم قتله إذا كان ذميا كما يتحتم قتل المرتد لتغلظ كفره باذى الله ورسوله كتغلظ كفر المرتد بترك الدين لكن الإسلام يسقط كل حد تعلق بالكفر كما يسقط حد المرتد فلم الحقتم هذا الحد بقاطع الطريق والزاني والسارق ولم تلحقوه بحد المرتد فهذا نكتة هذا الموضع

فنقول لا يسقط شيئ من الحدود بالإسلام ولا فرق بين المرتد وغيره في المعنى بل كل عقوبة وجبت لسبب ماض أو حاضر فانها تجب لوجود سببها وتعدم لعدمه فالكافر الاصلي والمرتد لم يقتل لأجل ما مضى من كفره فقط وانما يقتل للكفر الذي هو الان حاصل فإذا علمنا انه كان كافرا ولم نعلم انتقاله استصحبنا تلك الحال فيقتل للكفر الذي الان موجود إذ الاصل بقاؤه على ما كان عليه فإذا تاب زال الكفر فزال المبيح للدم لأن الدم لايباح بالكفر الا حال وجود الكفر إذ المقصود بقتله ان تكون كلمة الله هي العليا وان يكون الدين كله لله فإذا انقاد لكلمة الله ودان بدين الله حصل مقصود القتال ومطلوب الجهاد وكذلك المرتد إنما يقتل لأنه تارك للدين مبدل له فإذا هو عاد لم يبقى مبدلا ولا تاركا وبذلك يحصل حفظ الدين فانه لا يترك مبدلا له

أما الزاني والسارق وقاطع الطريق فانه سواء كان مسلما أو معاهدا لم يقتل لدوامه على الزنى والسب وقطع الطريق فان هذا غير ممكن ولم يقتل لمجرد اعتقاده حل ذلك أو أرادته له فان الذمي لايباح دمه بهذا الاعتقاد ولا يباح دم مسلم ولا ذمي بمجرد إرادة فعلم ان ذلك واجب جزاء على ما ماضي وزجرا عما يستقبل منه ومن غيره فمن أظهر سب الرسول من أهل الذمة أو سبه من المسلمين ثم ترك السب وانتهى عنه فليس هو مستديما للسب كما يستديم الكافر المرتد وغيره على كفره بل أفسد فى الأرض كما أفسد غيره من الزناة وقطاع الطريق ونحن نخاف ان يتكرر مثل هذا الفسادمنه ومن غيره نخاف مثل ذلك في الزاني وقاطع الطريق لأن الداعي له إلى ما فعله من السب ممكن منه ومن غيره من الناس فوجب ان يعاقب جزاء بما كسب ونكالا من الله له ولغيره وهذا فرق ظاهر بين قتل المرتد والكافر الاصلي وبين قتل الساب والقاطع والزاني

وبيانه لأن السب من جنس الجريمة الماضية لامن جنس الجريمةالدائمة لكن مبناه على أن السب يوجب الحد لخصوصه لا لكونه كافرا وقد تقدم بيان ذلك

يوضح ذلك ان قتل المرتد والكافر الاصلي الا ان يتوب يزيل مفسدة الكفر لأن الهام بالردة متى علم انه لا يترك حتى يقتل أو يتوب لم ياتها لأنه ليس له غرض في ان يرتد ثم يعود إلى الإسلام وانما غرضه في بقائه على الكفر واستدامته

فاما الساب من المسلمين والمعاهدين فان غرضه من السب يحصل بإظهاره وينكأ المسلمين بأذاه كما يحصل غرض القاطع من القتل والزاني من الزنى وتسقط حرمة الدين والرسول بذلك كما تسقط حرمة النفوس والأموال في قطع الطريق والسرقة ويؤذي عموم المسلمين اذى يخشى ضرره كما يؤذيهم مثل ذلك من فعل القاطع والسارق ونحوهما ثم انه إذا أخذ فقد يظهر الإسلام والتوبة مع استبطانه العود إلى مثل ذلك عند القدرة كما يظهر القاطع والسارق والزاني العود إلى مثل هذه الجرائم عند امكان الفرصة بل ربما تمكن من هذا السب بعد إظهار الإسلام عند شياطينه مالم يمكنه قبل ذلك وتنوع في أنواع التنقص والطعن غيظا على ما فعل به من القهر والضغط حتى أظهر الإسلام بخلاف من لم يظهر شيئا من ذلك حتى أسلم فانه لا مفسدة ظهرت لنا منه وبخلاف المحارب الاصلي إذا قتل أو فعل الافاعيل فانه لم يكن قد التزم لنا ان لا يفعل شيئا من ذلك

وهذا قد كان التزم لنا بعقد الذمة ان لا يؤذينا بشيء من ذلك ثم لم يف بعهده فلا يؤمن منه ان يلتزم بعقد الايمان ان لايؤذينا بذلك ولا يفي بعقده وذلك لأنه واجب عليه في دينه ان يفي بالعهد فلا يظهر الطعن علينا في ديننا وعالم ان ذلك من اكبر الأمور التي عاهدناه على أن لايؤذينا بها وهو خائف من سيف الإسلام ان خالف كما انه واجب عليه في دين الإسلام ان لايتعرض للرسول بسوء وهو خائف من سيف الإسلام ان هو خالف فلم يتجدد له بإظهار الإسلام جنس العاصم الزاجر بخلاف الحربي في ذلك أيضا ان قتل المرتد غلب فيه حقه فشرع قتله لئلا يستمر على الردة وليعود إلى الإسلام وان كان في ضمن ذلك زجر لغيره من الناس عن الردة الا ترى انه لا يشرع الستر عليه ولا يستحب التعريض للشهود بترك الشهادة عليه وتجب إقامة الشهادة عليه عند الحاكم ولا يستحب العفو عنه قبل الرفع إلى الحاكم وان كان قدارتد سرا لأنه متى رفع إلى الحاكم استتابه فنجاه من النار وان لم يتب قتله فقصر عليه مدة الكفر فكان رفعه مصلحة له محضه بخلاف من استسر بقاذورة من القاذورات فانه لا ينبغي التعرض له لأنه إذا رفع يقتل حتما وقد يتوب إذا لم يرفع فلم يكن الرفع مصلحة محضه وانما المصلحة للناس فإذا لم تظهر الفاحشة لم تضرهم

ومن سب الرسول فانما نقتله لاذاه لله ولرسوله وللمؤمنين ولطعنه في دينهم فكان بمنزلة من أظهر قطع الطريق ولزنى ونحوه المغلب فيه جانب الردع والزجر وان تضمن مصلحة الجاني وكان قتله لأنه أظهر الفساد في الأرض وكذلك لو سب الذمي سرا لم نتعرض له وكذلك لم ينبغ الستر عليه لأن من أظهر الفساد لا يستر عليه بحال

وقوله السب مستلزم للكفر والحراب بخلاف تلك الجرائم قلنا ليس لنا سب خال عن كفر حتى تجرد العقوبة له بل العقوبة على مجموع الأمرين وهذه الملازمة لا توهن أمر السب فان كونه مستلزما للكفر يوجب تغلظ عقوبته فإذا انفصل الكفر عنه فيما بعد لم يلزم ان لا يكون موجبا للعقوبة إذا كان هو في نفسه يتضمن من المفسدة مايستوجب العقوبة والزجر كما دل عليه الكتاب والسنة والأثر والقياس

ثم نقول اقصى ما يقال انه حد على كفر مغلظ فيه ضرر على المسلمين صدر عن مسلم أو معاهد فمن أين لهم ان مثل هذا تقبل منه التوبة بعد القدرة فإنا قد قدمنا ان التوبة إنما شرعت في حق من تجردت ردته أو تجرد نقضه للعهد فاما من تغلظت ردته أو نقضه بكونه مضرا بالمسلمين فلا بد من عقوبته بعد التوبة

وقولهم ان السب من فروع الكفر وأنواعه فان عنوا أن الكفر يوجب ذلك فليس بصحيح وان عنوا ان الكفر يبيح ذلك فنقول لكن عقد الذمة حرم عليه في دينه إظهار ذلك كما حرم قتل المسلمين وسرقة أموالهم وقطع طريقهم وافتراش نسائهم وكما حرم قتالهم وان كان دينه يبيح له ذلك كله فإذا هو اذى المسلمين بما يقتضيه الكفر المجرد عن عهد فانه يعاقب على ذلك وان زال الكفر الموجب لذلك فيقتل ويقطع ويعاقب كذلك هنا يعاقب على ما اذى به الله ورسوله والمؤمنين مما يخالف عهده وان كان دينه يبيحه

وقولهم ان الزاني والسارق وقاطع الطريق قبل الإسلام وبعده سواء قلنا هو مثل الساب لأنه قبل الإسلام يعتقد استحلال دماء المسلمين وأموالهم واعراضهم لولا العهد الذي بينهم وبينه وبعد الإسلام إنما يعتقد تحريمها لأجل الدين وكذلك انتهاكه لعرض رسول الله يعتقد حله لولا العهد الذي بيننا وبينه وبعد الدين إنما يمنعه منه الدين ولا فرق بين ما يضر المسلمين في دينهم أو دنياهم

وأما قولهم إنما وجب قتله لأجل الأمرين فيسقط بزوال أحدهما فنقول بل اجتمع فيه سببان كل منهما يوجب نوعا من القتل يخالف النوع الآخر وان كان أحدهما يستلزم الآخر فالكفر يوجب القتل للكفر الاصلي أو الكفر الارتداد وله أحكام معروفة والسب يوجب القتل لخصوصه حتى يندرج فيه قتل الكفر وقتل الردة وهذا القتل هو المغلب في حق مثل هذا حتى كان رسول الله له القتل والعفو وله القتل مع امتناع القتل بالكفر والردة وله القتل بعد سقوط القتل بالكفر والردة كما قدمناه من الدلائل على ذلل اثرا ونظرا وبينا ان في خصوص السب ما يقتضي القتل لو فرض تجرده عن الكفر والردة فإذا انفصل عنه في اثناءالحال فسقط موجب الكفروالردة لم يسقط موجب السب وقد قدمنا في المسألة الثانية دلائل على ذلك

ثم نقول هب انه وجب لأجل الأمرين فالقتل الواجب لكفر متغلظ بالاضرار إذا زال لا تسقط عقوبة فاعله فوجب ان لا تسقط عقوبة فاعل هذا والعقوبة التي استحقها هي القتل

وأيضا فان الإسلام الطاريء لا يمنع ما وجب من العقوبة وان كان الإسلام يمنع وجوبها ابتداء كالقتل قودا وكحد القذف فانه إنما يجب بشرط كون الفاعل ذميا ولا يسقط بإسلامه بعد ذلك إذا كان المقتول والمقذوف ذميا

وأيضا فان الإسلام لا يمنع قتل الساب ابتداءفان لايمنع قتله دواما بطريق الأولى فقوله اجتمع سببان فزال أحدهما ممنوع بل الموجب لقتل هذا لميزل

المسلك الثاني ان يقتل حدا للنبي كما يقتل قودا وكما يجلد القاذف والساب لغيره من المؤمنين وقد تقدمت الدلالة على أن عقوبة شاتم النبي القتل كما ان عقوبة شاتم غيره الجلد وهذا مسلك كثير من أصحابنا وغيرهم

ومن المعلوم الذي لاريب فيه ان الرجل لو سب واحدا من المؤمنين أو سب واحدا من اعيان الامة وهو ميت أو غائب لوجب على من حضره من المسلمين ان ينتصروا له وذا بلغ الأمر إلى السلطان فانه يعاقب هذا الجريء بما يزعه عن اذى المؤمنين ثم ان كان حيا وعلم فله ان يعفو عن سابه واما ان تعذر علمه لموته أو غيبته لم يجز للمسلمين الإمساك عن عقوبة هذا وإذا رفع إلى السلطان عاقبه وان أظهر التوبة لأن هذا من المعاصي والذنوب المتعلقة بحق ادمي لا يمكن قيامه بطلب هذا الحد وكل ماكان كذلك لم تحتج العقوبة عليه إلى طلب أحد ولا تسقط بالتوبة إذا رفع إلى السلطان ولهذا قلنا ان من سب أصحاب رسول الله فانه يجب ان يعزر ويؤدب أو يقتل وان لم يطالب بحقهم معين لأن نصر المسلم واجب على كل مسلم بيده ولسانه فكيف على ولي الأمر

وعلى هذا التقدير فنقول إن سب النبي كان موجبا للقتل في حياته كما تقدم تقريره وكان إذا علم بذلك تولىهذا الحق فان أحب استوفى وان أحب عفا فإذا تعذر اعلامه لغيبته أو موته وجب على المسلمين القيام بطلب حقه ولم يجز العفو عنه لاحد من الخلق كما لا يجوز العفو عن من سب غيره من الاموات والغائب

وقد قدمنا الدلائل على القتل بخصوص سبه وان المغلب فيه حقه حتى كان له ان يقتل من سبه أو يعفو عنه كما للرجل ان يعاقب سابه وان يعفو عنه

فإن قيل هذا ينبني على مقدمتين

إحداهما ان قذف الميت موجب للحد وقد ذهب أبو بكر بن جعفر صاحب الخلال إلى انه لاحد لقذف ميت لأن الحي وارثه لم يقذف وانما قذف الميت وحد القذف لا يستوفى الا بعد المطالبة وقد تعذرت منه والحد لا يورث الا بمطالبة الميت وهي منتفية والأكثرون يثبتون الحد لقذف الميت لكن من الفقهاء من يقول إنما يثبت إذا ضمن القدح في نسب الحي وهو قول الحنفية وبعض أصحابنا وقيل عن الحنفية لا يأخذ به الا الوالد أو الولد ومن الفقهاء من يقول يثبت مطلقا ثم هل يرثه جميع الورثة أو من سوى الزوجين لبقاء سبب الارث أو العصبة فقط لمشاركتهم له في عمود نسبه فيه ثلاثة أقوال في مذهب الشافعي وأحمد

الثانية ان حد قذف الميت لا يستوفي الا بطلب الورثة وذلك انهم لايختلفون انه لا يستوفي الا بمطالبة الورثة أو بعضهم ومتى عفوا سقط عند الأكثرين

فعلى هذا ينبغي ان يسقط الحد لقذف النبي لأنه لا يورث ويكون كقذف من لا وارث له وهذا ليس فيه حد قذف عند أكثر الفقهاء أو يقال لا يستوفي حتى يطالب بعض الهاشميين أو بعض القرشيين

فنقول الجواب من ثلاثة اوجه

أحدها انا لم نجعل سب النبي وقذفه من باب حد القذف الذي لا يستوفى حتى يطلبه المستحق فان ذاك إنما هو إذا علم به وانما هو من باب السب والشتم الذي يعلم انه حرام باطل وقد تعذر علم المسبوب به كما لو رمى رجل بعض اعيان الامة بالكفر أو الكذب أو شهادة الزور أو سبه سبا صريحا فانا لا نعلم مخالفا في ان هذا الرجل يعاقب على ذلك كما يعاقب على ما ينتهكه من المحارم أنتصارا لذلك الرجل الكريم في الامة وزجرا عن معصية الله كمن يسب الصحابة أو العلماء أو الصالحين

الوجه الثاني ان سبه سب لجميع امته وطعن في دينهم وهو سب تلحقهم به غضاضة وعار بخلاف سب الجماعة الكثيرة بالزنى فانه يعلم كذب فاعله وهذا يوقع في بعض النفوس ريبا وإذا كان قد اذى جميع المؤمنين اذى يوجب القتل وهو حق تجب عليهم المطالبة به من حيث وجب عليهم إقامة الدين فيكون شبيها بقذف الميت الذي فيه قدح في نسب الحي إذا طالب به وذاك يتعين إقامته

وبهذا يظهر الفرق بينه وبين غيره من الاموات على قول أبي بكر فان ذلك الميت لا يتعدى ضرر قذفه في الاصل إلى غيره فإذا تعذرت مطالبته أمكن ان يقال لا يستوفي حد قذفه وهنا ضرر السب في الحقيقة إنما يعود إلى الامة بفساد دينها وذل عصمتها واهانة مستمسكها والا فالرسول صلوات الله عليه وسلامه في نفسه لا يتضرر بذلك

وبه يظهر الفرق بينه وبين غيره في ان حد قذف الغير إنما يثبت لورثته أو لبعضهم وذلك لأن العار هناك إنما يلحق الميت أو ورثته وهنا العار يلحق جميع الامة لا فرق في ذلك بين الهاشميين وغيرهم بل أي الامة كان اشد حبا لله ورسوله واشد اتباعا له وتعزيرا وتوقيرا كان حظه من هذا الأذى والضرر أعظم وهذا ظاهر لا خفاء به وإذا كان هذا ثابتا لجميع الامة فانه مما يجب عليهم القيام به ولا يجوز لهم العفو عنه بوجه من الوجوه لأنه وجب لحق دينهم لا لحق دنياهم بخلاف حد قذف قريبهم فانه وجب لحظ نفوسهم ودنياهم فلهم ان يتركوه وهذا يتعلق بدينهم فالعفو عنه عفو عن حدود الله وعن انتهاك حرماته فظهر الجواب عن المقدمتين المذكورتين

الوجه الثالث ان النبي لايورث فلا يصح ان يقال إن حق عرضه يختص به أهل بيته دون غيرهم كما ان ماله لا يختص به أهل بيته دون غيرهم بل أولى لأن تعلق حق الامة بعرضه أعظم من تعلق حقهم بماله وحينئذ فتجب المطالبة باستيفاء حقه على كل مسلم لأن ذلك من تعزيره ونصره وذلك فرض على كل مسلم

ونظير ذلك ان يقتل مسلم أو معاهد نبيا من الأنبياء فان قتل ذلك الرجل متعين على الامة ولا يجوز ان يجعل حق دمه إلى من يكون وارثا له لو كان يورث ان أحب قتل وان أحب عفا على الدية أو مجانا ولا يجوز تقاعد الامة عن قتل قاتله فان ذلك أعظم من جميع أنواع الفساد ولا يجوز ان يسقط حق دمه بتوبة القاتل أو إسلامه فان المسلم أو المعاهد لو ارتد أو نقض العهد وقتل مسلما لوجب عليه القود ولا يكون ما ضمه إلى القتل من الردة ونقض العهد مخففا لعقوبته وما اظن أحدا يخالف في هذا مع ان مجرد قتل النبي ردة ونقض للعهد باتفاق العلماء وعرضه كدمه فان عقوبته القتل كما ان عقوبة دمه القتل بل الوقيعة في عرضه اشد ضررا في الدين من قتله وسبب ذلك ان دمه وعرضه ممنوع من المسلم بإسلامه ومن المعاهد بعهده فإذا أنتهكا حرمته وجبت عليهما العقوبة لذلك

الطريقة الثامنة عشرة وهي طريقة القاضي أبي يعلى أن سب النبي يتعلق به حقان حق لله وحق لآدمي

فاما حق الله فظاهر وهو القدح في رسالته وكتابه ودينه

وأما حق الآدمي فظاهر أيضا فانه ادخل المعرة على النبي بهذا السب وانا له بذلك غضاضة وعار

والعقوبة إذا تعلق بها حق الله وحق الآدمي لم تسقط بالتوبة كالحد في المحاربة فانه يتحتم قتله ثم لو تاب قبل القدرة عليه سقط حق الله من انحتام القتل والصلب ولم يسقط حق الآدمي من القود كذلك هنا

فإن قيل المغلب هنا حق الله ولهذا لو عفا النبي عن ذلك لم يسقط بعفوه

قلنا قد قال القاضي أبو يعلى في هذا نظر على انه إنما لم يسقط بعفوه لتعلق حق الله به فهو كالعدة إذا أسقط الزوج حقه منها لم تسقط لتعلق حق الله بها ولم يدل هذا على انه لا حق للآدمي فيها كذلك هنا فقد تردد القاضي أبو يعلى في جواز عفو النبي في هذا الموضع وقطع في موضع آخر انه كان له ان يسقط حق سبه لأنه حق له وذكر في قول الانصاري للنبي ان كان ابن عمتك وقد عرض للنبي بما يستحق به العقوبة ولم يعاقبه لأنه حمل قول النبي للزبير اسق بانه قضى له على الانصاري للقرابة وفي الرجل الذي اغلظ لأبي بكر ولم يعزره فقال القاضي التعزير هنا وجب لحق ادمي وهو افتراؤه على النبي وعلى أبي بكر وله ان يعفو عنه وكذلك ذكر ابن عقيل عنه ان الحق كان للنبي وله تركه وقال ابن عقيل قد عرض هذا للنبي بما يقتضي العقوبة والتهجم على النبي يوجب التعزير لحق الشرع دون ان يختصه في نفسه قال وقد عزره النبي بحبس الماء عن زرعه وهو نوع ضرر وكسر لعرضه وتاخير لحقه وعندنا ان العقوبات بالمال باقية غير منسوخة وليس يختص التعزير بالضرب في حق كل أحد

وقول ابن عقيل هذا يضمن ثلاثة أشياء

أحدها ان هذا القول إنما كان يوجب التعزير لا القتل

والثاني ان ذلك واجب لحق الشرع ليس له ان يعفو عنه

الثالث انه عزره بحبس الماء

والثلاثة ضعيفة جدا والصواب المقطوع به انه كان له العفو كما دلت عليه الأحاديث السابقة لما ذكرناه من المعنى فيه وحينئذ فيكون ذلك مؤيدا لهذه الطريقة

وقد دل على ذلك ما ذكرناه من أن النبي عاقب من سبه واذاه في الموضع الذي سقطت فيه حقوق الله نعم صار سب النبي سبا لميت وذلك لا يسقط بالتوبة البتة

وعلى هذه الطريقة فالفرق بين سب الله وسب رسوله ظاهر فان هناك الحق لله خاصة كالزنى والسرقة وشرب الخمر وهنا الحق لهما فلا يسقط حق الآدمي بالتوبة كالقتل في المحاربة

الطريقة التاسعة عشرة انا قد ذكرنا ان النبي أراد من المسلمين قتل ابن أبي سرح بعد ان جاء مسلما تائبا ونذر دم أنس بن زنيم إلى ان عفا عنه بعد الشفاعة واعرض عن أبي سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي امية وقد جاءا مسلمين مهاجرين واراق دماء من سبه من النساء من غير قتال وهن منقادات مستسلمات وقد كان هؤلاء حربيين لم يلتزموا ترك سبه ولا عاقدونا على ذلك فالذي عقد الايمان أو الأمان على ترك سبه إذا جاء يريد الإسلام ويرغب فيه اما ان يجب قبول الإسلام منه والكف عنه أو لا يجب فإن قيل يجب فهو خلاف سنة رسول الله وإن قيل لا يجب فهو دليل على انه إذا جاء ليتوب ويسلم جاز قتله وكل من جاز قتله وقد جاء مسلما تائبا مع علمنا بانه قد جاء كذلك جاز قتله وان أظهر الإسلام والتوبة لا نعلم بينهما فرقا عند أحد من الفقهاء في جواز القتل فان إظهار إرادة الإسلام هي أول الدخول فيه كما ان التكلم بالشهادتين هو أول الالتزام له ولا يعصم الإسلام الا دم من يجب قبوله منه فإذا أظهر انه يريده فقد بذل ما يجب قبوله فيجب قبوله كما لو اذاه

وهنا نكتة حسنة وهي ان ابن أبي أمية وابا سفيان لم يزالا كافرين وليس في القصة بيان انه أراد قتلهما بعد مجيئهما وانما فيها الاعراض عنهما وذلك عقوبة من النبي

وأما حديث ابن أبي سرح فهو نص في اباحة دمه بعد مجيئه لطلب البيعة وذلك لأن ابن أبي سرح كان مسلما فارتد وافترى على النبي انه كان يتمم له القران ويلقنه ما يكتبه من الوحي فهو ممن ارتد بسب النبي ومن ارتد بسبه قفد كان له ان يقتله من غير استتابه وكان له ان يعفو عنه وبعد موته تعين قتله

وحديث ابن زنيم فإنه أسلم قبل ان يقدم على النبي مع بقاء دمه منذورا مباحا إلى ان عفا عنه النبي بعد ان روجع في ذلك

وكذلك النسوة اللاتي أمر بقتلهن إنما وجهه والله أعلم انهن كن قد سببنه بعد المعاهدة فانتقض عهدهن بسبه فقتلت اثنتان والثالثة لم يعصم دمها حتى استؤمن لها بعد ايام ولو كان دمها معصوما بالإسلام لم يحتج إلى الأمان وهذه الطريقة مبناها على أن من جاز قتله بعد ان أظهر انه جاء ليسلم جاز قتله بعد ان أسلم وان من لم يعصم دمه الا عفو وأمان لم يكن الإسلام هو ا لعاصم لدمه وان كان قد تقدم ذكر هذا لكن ذكزناه لخصوص هذا المأحذ

الطريقة الموفية عشرين ان الأحاديث عن النبي وأصحابه مطلقة بقتل سابه لم يؤمر فيها باستتابة ولم يستثن منها من تاب وأسلم كما هي مطلقة عنهم في قتل الزاني المحصن ولو كان يستثني منها حال دون حال لوجب بيان ذلك فأن سب النبي قد وقع منه وهو الذي علق القتل عليه ولم يبلغنا حديث ولا اثر يعارض ذلك وهذا بخلاف قوله من بدل دينه فاقتلوه فان المبدل للدين هو المستمر على التبديل دون من عاد وكذلك قوله التارك لدينه المفارق للجماعة فان من عاد إلى دينه لم يجز ان يقال هو تارك لدينه ولا مفارق لللجماعة وهذا المسلم أو المعاهد إذا سب الرسول ثم تاب لم يكن ان يقال ليس بساب للرسول أو لم يسب الرسول فان هذا الوصف واقع عليه تاب أو لم يتب كما يقع على الزاني والسارق والقاذف وغيرهم

الطريقة الحادية والعشرون انا قد قررنا ان المسلم إذا سب الرسول يقتل وان تاب بما ذكرناه من النص والنظر والذمي كذلك فان أكثر ما يفرق به اما كون المسلم يتبين بذلك انه منافق أو انه مرتد قد وجب عليه حد من الحدود فيستوفى منه ونحو ذلك وهذا المعنى موجود في الذمي فان إظهاره للإسلام بمنزلة إظهاره للذمة فإذا لم يكن كان صادقا في عهده وأمانه لم نعلم انه صادق في إسلامه وايمانه وهو معاهد قد وجب عليه حد من الحدود فيستوفي منه كسائر الحدود

وقول من يقول قتل المسلم أولى يعارضه قول من يقول قتل الذمي أولى وذلك ان الذمي دمه اخف حرمة والقتل إذا وجب عليه في حال الذمة لسبب لم يسقط عنه بالإسلام

يبين ذلك انه لا يبيح دمه الا إظهار السب وصريحه بخلاف المسلم فان دمه محقون وقد يجوز انه غلظ بالسب فإذا حقق الإسلام والتوبة من السب ثبت العاصم مع ضعف المبيح والذمي المبيح محقق والعاصم لا يرفع ما وجب فيكون أقوى من هذا الوجه

إلا ترى ان المسلم لو كان منافقا لم يقتصر على السب فقط بل لا بد ان تظهر منه كلمات مكفرة غير ذلك بخلاف الذمي فانه لا يطلب على كفره دليل وانما يطلب على محاربته وافساده والسب من أظهر الأدلة على ذلك كما تقدم

الطريقة الثانية والعشرون انه سب لمخلوق لم يعلم عفوه فلا يسقط بالإسلام كسب سائر المؤمنين وأولى فان الذمي لو سب مسلما أو معاهدا ثم أسلم لعوقب على ذلك بما كان يعاقب به قبل ان يسلم فكذلك إذا سب الرسول وأولى وكذلك يقال في المسلم إذا سبه

تحقيق ذلك ان القاذف والشاتم إذا قذف انسانا فرفعه إلى السلطان فتاب كان له ان يستوفي منه الحد وهذا الحد إنما وجب لما الحق به من العار والغضاضه فان الزنى أمر يستخفى منه فقذف المرء به يوجب تصديق كثير من الناس به وهو من الكبائر التي لا يساويها غيرها في العار والمنقصة إذا تحقق ولا يشبهه غيره في لحوق العار إذا لم يتحقق فانه إذا قذفه بقتل كان الحق لأولياء المقتول ولا يكاد يخلو غالبا من طهور كذب الرامي به أو براءة المرمي به من الحق بإبراء أهل الحق أو بالصلح أو بغير ذلك على وجه لا يبقي عليه عار وكذلك الرمي بالكفر فان ما يظهره من الإسلام يكذب هذا الرامي به فلا يضر الا صاحبه ورمي الرسول بالعظائم يوجب الحاق العار به والغضاضه لأنه باي شئ رماه من السب كان متضمنا للطعن في النبوه وهي وصف خفي فقد يؤثر كلامه اثرا في بعض النفوس فتوبته بعد اخذه قد يقال انها صدرت عن خوف وتقية فلا يرتفع العار والغضاضة الذي الحقه به كما لا يرتفع العار الذي يلحق بالمقذوف بإظهار القاذف التوبة ولذلك كانت توبته توجب زوال الفسق عنه وفاقا وتوجب قبول شهادته عند أكثر الفقهاء ولا يسقط الحد الذي للمقذوف فكذلك شاتم الرسول فإن قيل ما أظهره الله لنبيه من الآيات والبراهين المحققة لصدقه في نبوته تزيل عار هذا السب وتبين انه مفتر كذاب بخلاف المقذوف بالزنى

قيل فيجب على هذا ان لو قذفه أحد بالزنى في حياته ان لا يجب عليه حد قذف وهذا ساقط وكان يجب على هذا ان لا يعبأ بمن يسبه ويهجوه بل يكون من يخرج عن الدين والعهد بهذا وبغيره على حد واحد وهو خلاف الكتاب والسنه وما كان عليه السابقون ويجب إذا قذف رجل سفيه معروف بالسفه والفرية من هو مشهور عند الخاصة والعامه بالعفة مشهود له بذلك ان لا يحد وهذا كله فاسد وذلك لأن مثل هذا السب والقذف لا يخاف من تأثيره في قلوب أولي الالباب وانما يخاف تأثيره في عقول ضعيفة وقلوب مريضة ثم سمع العالم يكذبه له من غير نكير يصغر الحرمه عنده وربما طرق له شبهة وشك فان القلوب سريعة التقلب وكما ان حد القذف شرع صونا للعرض من التلطخ بهذه القاذورات وسترا للفاحشة وكتما لها فشرع ما يصون عرض الرسول من التلطيخ بما قد ثبت انه بريئ منه أولى وستر الكلمات التي اوذي بها ونيل منه فيها أولى لما في ذكرها من تسهيل الاجتراء عليه الا ان حد هذا السب والقذف والقتل لعظم موقعه وقبح تاثيره فانه لو لم يؤثر الا تحقيرا لحرمة أو فساد قلب واحد أو القاء شبهة في قلب كان بعض ذلك يوجب القتل بخلاف عرض الواحد من الناس فانه لا يخاف منه مثل هذا وسيجيئ الجواب عما يتوهم فرقا بين سب النبي وسب غيره في سقوط حده بالتوبة دون حد غيره

الطريقة الثالثة والعشرون ان قتل الذمي إذا سب اما أن يكون جائزا غير واجب اويكون واجبا والأول باطل بما قدمناه من الدلائل في المسألة الثانية وبينا انه قتل واجب وإذا كان واجبا على الذمي بل كل عقوبة وجبت على الذمي لقدر زائد على الكفر فانها لا تسقط بالإسلام أصلا جامعا وقياسا جليا فانه يجب قتله بالزنى والقتل في قطع الطريق وبقتل المسلم أو الذمي ولا يسقط الإسلام قتلا واجبا وبهذا يظهر الفرق بين قتله وقتل الحربي الاصلي أو الناقض المحض فان القتل هناك ليس واجبا عينا وبه يظهر الفرق بين هذا وبين سقوط الجزية عنه بالإسلام عند أكثر الفقهاء غير الشافعي فان الجزية عند بعضهم عقوبة للمقام على الكفر وعند بعضهم حقن الدم وقد يقال اجرة سكنى الدار ممن لا يملك السكنى فليست عقوبة وجبت لقدر زائد على الكفر

الطريقة الرابعة والعشرون انه قتل لسبب ماضي فلم يسقط بالتوبة والإسلام كالقتل للزنى وقطع الطريق وعكسه القتل لسبب حاضر وهو القتل لكفر قديم باق أو محدث جديد باق اعني الكفر الاصلي والطارئ وذلك ان النبي عليه وسلم قال من لكعب بن الأشرف فانه قد اذى الله ورسوله فأمر بقتله للاذى ماض ولم يقل فانه يؤذي الله ورسوله وكذلك ما تقدم من الآثار فيها دلالة على أن السب أوجب القتل والسب كلام لا يدوم ويبقى بل هو كالأفعال المنصرمة من القتل والزنى وما كان هكذا فالحكم فيه عقوبة فاعله مطلقا بخلاف القتل للردة أو للكفر الاصلي فانه إنما يقتل لأنه حاضر موجود حين القتل لأن الكفر اعتقاد والاعتقاد يبقى في القلب وانما يظهر انه اعتقاد بما يظهر من قول ونحوه فإذا ظهر فالاصل بقائه فيكون هذا الاعتقاد حاصلا في القلب وقت القتل وهذا وجه محقق ومبناه على أن قتل الساب ليس لمجرد الردة ونقض العهد فقط كغيره ممن جرد الردة وجرد نقض العهد بل لقدر زائد على ذلك وهو ما جاء به من الأذى والاضرار وهذا أصلا قد تمهد على وجهه لا يستريب فيه لبيب

الطريقة الخامسة والعشرون ان قتل الساب قتل تعلق بالنبي فلم يسقط بإسلام الساب كما لو قتل نبيا وذلك ان المسلم أو المعاهد إذا قتل نبيا ثم أسلم بعد ذلك لم يسقط عنه القتل فانه لو قتل بعض الامة لم يسقط عنه القتل بالإسلامه فكيف يسقط عنه إذا قتل النبي ولا يجوز ان يتخير فيه خليفته بعد الإسلام بين القتل والعفو على الدية أو أكثر منها كما يتخير في قتل قاتل من لا وارث له لأن قتل النبي أعظم أنواع المحاربة والسعي في الأرض فسادا فإن هذا حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا بلا ريب وإذا كان من قاتل على خلاف أمره محاربا له ساعيا في الأرض فسادا فمن قاتله أو قتله فهو أعظم محاربة واشد سعيا في الأرض فسادا وهو من اكبر أنواع الكفر ونقض العهد وان زعم انه لم يقتله مستحلا كما ذكره إسحاق بن راهويه من أن هذا إجماع من المسلمين وهو ظاهر وإذا وجب قتله عينا وان أسلم وجب قتل سابه أيضا وان أسلم لأن كلاهما اذى له يوجب القتل لا لمجرد كونه ردة أو نقض عهد لا تمثيلا له بقتل غيره أو سبه فان سب غيره لا يوجب القتل وقتل غيره إنما فيه القود الذي يتخير فيه الوارث أو السلطان بين القتل أو أخذ الدية وللوارث ان يعفوا عنه مطلقا بل لكون هذا محاربه لله ورسوله وسعيا في الأرض فسادا ولا يعلم شئ أكثر منه فان أعظم الذنوب الكفر وبعده قتل النفس وهذا اقبح الكفر وقتل أعظم النفوس قدرا ومن قال إن حد سبه يسقط بالإسلام لزمه ان يقول إن قاتله إذا أسلم يصير بمنزلة قاتل من لا وارث له من المسلمين لأن القتل بالردة ونقض العهد سقط ولم يبق الا مجرد القود كما قال بعضهم ان قاذفه إذا أسلم جلد ثمانين أو ان يقول يسقط عنه القود بالكلية كما أسقط حد قذفه وسبه بالكلية وقال انغمر حدا السب في موجب الكفر لا سيما على رأية ان كان السب من كافر ذمي يستحل قتله وعداوته ثم أسلم بعد ذلك وأقبح بهذا من قول ما انكره وابشعه وانه لا يقشعر منه الجلد ان تطل دماء الأنبياء في موضع تثأر دماء غيرهم وقد جعل الله عامة ما أصاب بني اسرائل من الذلة والمسكنة والغضب حتى سفك منهم من الدماء ما شاء الله ونهبت الأموال وزال الملك عنهم وسبيت الذرية وصاروا تحت أيدي غيرهم إلى يوم القيامة إنما هو بأنهم كانوا يكفرون بايات الله ويقتلون البيين بغير الحق وكل من قتل نبيا فهذا حاله وانما هذا كقوله " وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم " عطف خاص على عام وإذا كان هذا باطلا فنظيره باطل مثله فان اذى النبي اما ان يندرج في عموم الكفر والنقض أو يسوى بينه وبين اذى غيره فيما سوى ذلك أو يوجب القتل لخصوصه فإذا بطل القسمان الأولان تعين الثالث ومتى أوجب القتل لخصوصه فلا ريب انه يوجبه مطلقا

واعلم ان منشأ الشبهة في هذه المسألة القياس الفاسد وهو التسوية في الجنس بين المتباينين تباينا لا يكاد يجمعهما جامع وهو التسوية بين النبي وغيره في الدم أو في العرض إذا فرض عود المنتهك إلى الإسلام وهو مما يعلم بطلانه ضرورة ويقشعر الجلد من التفوه به فان من قتله للردة أو للنقض فقط ولم يجعل لخصوص كونه اذى له اثرا وانما المؤثر عنده عموم وصف الكفر اما ان يهدر خصوص الأذى أو يسوى فيه بينه وبين غيره زعما منه ان جعله كفرا ونقضا هو غاية التعظيم وهذا كلام من لم ير للرسول حقا يزيد على مجرد تصديقه في الرسالة وسوى بينه وبين سائر المؤمنين فيما سوى هذا الحق وهذا كلام خبيث يصدر عن قلة فقه ثم يجر إلى شعبة نفاق ثم يخاف ان يخرج إلى النفاق الاكبر وانه لخليق به ومن قال هذا القول من الفقهاء لا يرتضي ان يلتزم مثل هذا المحذور ولا يفوه به فان الرسول أعظم في صدورهم من أن يقولوا فيه مثل هذا لكن هذا لازم قولهم لازوما لا محيد عنه وكفى بقول فسادا أن يكون هذا حقيقته بعد تحريره والا فمن تصور ان له حقوقا كثيره عظيمة مضافة إلى الايمان به وهي زيادة في الايمان به كيف يجوز ان يهدر اذاه إذا فرض عريا عن الكفر أو يسوى بينه وبين غيره ارايت لو ان رجلا سب اباه واذاه كانت عقوبته المشروعة مثل عقوبة من سب غير ابيه أم يكون اشد لما قابل الحقوق بالعقوق وقد قال سبحانه وتعالى " فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " الآية وفي مراسيل أبي دواد عن ابن المسيب ان النبي قال من ضرب اباه فاقتلوه وبالجملة فلا يخفى على لبيب ان حقوق الوالدين لما كانت أعظم كان النكال على اذاهما باللسان وغيره اشد مع انه ليس كفرا فإذا كان قد أوجب له من الحقوق ما يزيد على التصديق وحرم من أنواع اذاه ما لا يستلزم التكذيب فلابد لتلك الخصائص من عقوبات على الفعل والترك ومما هو كالإجماع من المحققين امتناع ان يسوى بينه وبين غيره في العقوبة على خصوص اذاه وهو ظاهر لم يبق الا أن يكون القتل جزاء ما قوبل به من حقوقه بالعقوق جزاء وفاقا وانه لقليل له ولعذاب الآخرة اشد وقد لعن الله مؤذيه في الدنيا والآخرة واعد له عذابا مهينا

الطريقة السادسة والعشرون انا قد قدمنا من السنة وأقوال الصحابة ما دل على قتل من اذاه بالتزوج بنسائه والتعرض بهذا الباب لحرمته في حياته أو بعد موته وان قتله لم يكن حد الزنى من وطء ذوات المحارم وغيرهن بل لما في ذلك من اذاه فإما ان يجعل هذا الفعل كفرا أو لا يجعل فإن لم يجعل كفرا فقد ثبت قتل من اذاه مع تجرده عن الكفر وهو المقصود فالأذى بالسب ونحوه اغلظ وان جعل كفرا فلو فرض انه تاب منه لم يجز ان يقال يسقط القتل عنه لأنه يستلزم أن يكون من الأفعال ما يوجب القتل ويسقط بالتوبة بعد القدرة وثبوته عند الإمام وهذا لاعهد لنا به في الشريعة ولا يجوز اثبات مالا نضير له الا بنص وهو لعمري سمج فان إظهار التوبة باللسان من فعل تشتهيه النفوس سهل على ذي الغرض إذا أخذ فيسقط مثل هذا الحد بهذا وإذا لم يسقط القتل الذي أوجبه هذا الأذى عنه فكذلك القتل الذي أوجبه اذى اللسان وأولى لأن القران قد غلظ هذا على ذاك والتقدير ان كلاهما كفر فإذا لم يسقط قتل من أتى بالأدنى فأن لا يسقط قتل من أتى بالاعلى أولى

الطريقة السابعة والعشرون انه سبحانه وتعالى قال " ان شانئك هو الابتر " فأخبر سبحانه ان شانئه هو الابتر والبتر القطع يقال بتر يبتر بترا وسيف بتار إذا كان قاطعا ماضيا ومنه في الاشتقاق الاكبر تبره تتبيرا إذا أهلكه والتبار الهلاك والخسران وبين سبحانه انه هو الابتر بصيغة الحصر والتوكيد لأنهم قالوا ان محمدا ينقطع ذكره لأنه لا ولد له فبين الله ان الذي يشنأه هو الابتر لا هو والشنان منه ما هو باطن في القلب لم يظهر ومنه ما يظهر على اللسان وهو أعظم الشنان واشده وكل جرم استحق فاعله عقوبة من الله إذا أظهر ذلك الجرم عندنا وجب ان نعاقبه ونقيم عليه حد الله فيجب ان نبتر من أظهر شنانه وابدى عداوته وإذا كان ذلك واجبا وجب قتله وان أظهر التوبة بعد القدرة والا لما انبتر له شانيء بايدينا في غالب الأمر لأنه لا يشاء شانئ ان يظهر شنانه ثم يظهر المتاب بعد رؤية السيف الا فعل فان ذلك سهل على من يخاف السيف

تحقيق ذلك انه سبحانه رتب الانبتار على شنانه والاسم المشتق المناسب إذا علق به حكم كان ذلك دليلا على أن المشتق منه علة لذلك الحكم فيجب أن يكون شنانه هو الموجب لأنبتاره وذلك اخص مما تضمنه الشنان من الكفر المحض أو نقض العهد والانبتار يقتضي وجوب قتله بل يقتضي انقطاع العين والأثر فلو جاز استحياؤه بعد إظهار الشنان لكان في ذلك ابقاء لعينه واثره وإذا اقتضى الشنان قطع عينه واثره كان كسائر الاسباب الموجبة لقتل الشخص وليس شئ يوجب قتل الذمي الا هو موجب لقتله بعد الإسلام إذ الكفر المحض مجوز للقتل لا موجب له على الاطلاق وهذا لأن إله سبحانه لما رفع ذكر محمد فلا يذكر الا ذكر معه ورفع ذكر من اتبعه إلى يوم القيامة حتى انه يبقى ذكر من بلغ عنه ولو حديثا وان كان غير فقيه قطع اثر من شناه من المنافقين واخوانهم من أهل الكتاب وغيرهم فلا يبقى له ذكر حميد وان بقيت اعيانهم وقتا ما إذا لم يظهروا الشنان فإذا أظهروه محقت اعيانهم واثارهم تقديرا وتشريعا فلو استبقى من أظهر شنانه بوجه ما لم يكن مبتورا إذ البتر يقتضي قطعه ومحقه من جميع الجوانب والجهات فلو كان له وجه إلى البقاء لم يكن مبتورا

يوضح ذلك ان العقوبات التي شرعها الله نكالا مثل قطع السارق ونحوه لا تسقط بإظهار التوبة إذ النكال لا يحصل بذلك فما شرع لقطع صاحبه وبتره ومحقه كيف يسقط بعد الاخذ فان هذا الفظ يشعر بان المقصود اصطلام صاحبه واستئصاله واجتياحه وقطع شأفته وما كان بهذه المثابة كان عما يسقط عقوبته ابعد من كل أحد وهذا بين لمن تامله والله أعلم

والجواب عن حججهم اما قولهم هو مرتد فيستتاب كسائر المرتدين فالجواب ان هذا مرتد بمعنى انه تكلم بكلمة صار بها كافرا حلال الدم مع جواز أن يكون مصدقا للرسول معترفا بنوبته لكن موجب التصديق توقيره في الكلام فإذا انتقصه في كلامه ارتفع حكم التصديق وصار بمنزلة اعتراف ابليس لله بالربيوية فانه موجب للخضوع له فلما استكبر عن أمره بطل حكم ذلك الاعتراف فالايمان بالله وبرسوله قول وعمل اعني بالعمل ما ينبعث عن القول والاعتقاد من التعظيم والاجلال فإذا عمل ضد ذلك من الاستكبار والاستخفاف صار كافرا وكذلك كان قتل النبي كفرا باتفاق العلماء فالمرتد كل من أتى بعد الإسلام من القول أو العمل بما يناقض الإسلام بحيث لا يجتمع معه وإذا كان كذلك فليس كل من وقع عليه اسم المرتد يحقن دمه بالإسلام فان ذلك لم يثبت بلفظ علم عن النبي ولا عن أصحابه وانما جاء عنه وعن أصحابه في ناس مخصوصين انهم استتابوهم أو أمروا باستتابتهم ثم انهم أمروا بقتل الساب وقتلوه من غير استتابة

وقد ثبت عن النبي انه قتل العرنيين من غير استتابة وانه اهدر دم ابن خطل ومقيس بن صبابه وابن أبي سرح من غير استتابة فقتل منهم اثنان وأراد من أصحابه ان يقتلوا الثالث بعد ان جاء تائبا

فهذه سنة رسول الله وخلفائه الراشدين وسائر الصحابة تبين لك ان من المرتدين من يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته ومنهم من يستتاب وتقبل توبته فمن لم يوجد منه الا مجرد تبديل الدين وتركه وهو مظهر لذلك فإذا تاب قبلت توبته كالحارث بن سويد وأصحابه والذين ارتدوا في عهد الصديق رضي الله عنه ومن كان مع ردته قد أصاب ما يبيح الدم من قتل مسلم وقطع الطريق وسب الرسول والافتراء عليه ونحو ذلك وهو في دار الإسلام غير ممتنع بفئة فانه إذا أسلم يؤخذ بذلك الموجب للدم فيقتل للسب وقطع الطريق مع قبول إسلامه

هذه طريقة من يقتله لخصوص السب وكونه حدا من الحدود أو حقا للرسول فانه يقول الردة نوعان ردة مجردة وردة مغلظة والتوبة إنما هي مشروعة في الردة المجردة فقط دون الردة المغلظة وقد تقدم تقرير ذلك في الأدلة

ثم الكلمة الوجيزة في الجواب ان يقال جعل الردة جنسا واحدا تقبل توبة أصحابه ممنوع فلابد له من دليل ولا نص في المسالة والقياس متعذر لوجود الفرق

ومن يقتله لدلالة السب على الزندقة فانه يقول هذا لم يتب إذا لا دليل يدل على صحة التوبة كما تقدم

وبهذا حصل الجواب عن احتجاجه بقول الصدق وتقدم الجواب عن قول ابن عباس واما استتابة الأعمى أم ولده فانه لم يكن سلطانا ولم تكن إقامة الحدود واجبة عليه وانما النظر في جواز إقامته للحد ومثل هذا لا ريب انه يجوز له ان ينهي الساب ويستتيبه فانه ليس عليه ان يقيم الحد ولا يمكنه ان يشهد به عند السلطان وحده فانه لاينفع ونظيره في ذلك من كان يسمع من المسلمين كلمات من المنافقين توجب الكفر فتارة ينقلها إلى النبي وتارة ينهي صاحبها ويخوفه ويستتيبه وهو بمثابة من ينهى من يعلم منه الزنى أو السرقة أو قطع الطريق عن فعله لعله يتوب قبل ان يرفع إلى السلطان ولو رفع قبل التوبة لم يسقط حده بالتوبة بعد ذلك

وأما الحجة الثانية فالجواب عنها من وجوه

أحدها انه مقتول بالكفر بعد الإسلام وقولهم كل من كفر بعد إسلامه فان توبته تقبل

قلنا هذا ممنوع والآية إنما دلت على قبول توبة من كفر بعد ايمانه إذا لم يزدد كفرا اما من كفر وزاد على الكفر فلم تدل الآية على قبول توبته بل قوله " ان الذين كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادو كفرا " قد يتمسك بها في خلاف ذلك على انه إنما استثنى من تاب واصلح وهذا لا يكون فيمن تاب بعد اخذه وانما استفدنا سقوط القتل عن التائب لمجرد توبته من السنة وهي إنما دلت على من جرد الردة مثل الحارث بن سويد ودلت على أن من غلظها كابن أبي سرح يجوز قتله بعد التوبة والإسلام

الوجه الثاني انه مقتول لكونه كفر بعد إسلامه ولخصوص السب كما تقدم تقريره فاندرج في عموم الحديث مع كون السب مغلظا لجرمه ومؤكدا لقتله

الثالث انه عام قد خص منه تارك الصلاة وغيرها من الفرائض عند من يقتله ولا يكفره وخص منه قتل الباغي وقتل الصائل بالسنة والإجماع فلو قيل إن السب موجب للقتل بالأدلة التي ذكرناها وهي اخص من هذا الحديث لكان كلاما صحيحا

وأما من يحتج بهذا الحديث في الذمي إذا سب ثم أسلم فيقال له هذا وجب قتله قبل الإسلام والنبي إنما يريد اباحة الدم بعد حقنه بالإسلام ولم يتعرض لمن وجب قتله ثم أسلم أي شئ حكمه ولا يجوز ان يحمل الحديث عليه فانه إذا حمل على حل الدم بالاسباب الموجوده قبل الإسلام وبعده لزم من ذلك أن يكون الحربي إذا قتل أو زنى ثم شهد شهادتي الحق ان يقتل بذلك القتل والزنى لشمول الحديث على هذا التقدير له وهو باطل قطعا ولا يجوز ان يحمل على أن كل من أسلم لا يحل دمه الا بإحدى الثلاث ان صدر عنه بعد ذلك لأنه يلزمه ان لايقتل الذمي لقتل أو زنى صدر منه قبل الإسلام فعلم ان المراد ان المسلم الذي تكلم بالشهادتين يعصم دمه لا يبيحه بعد هذا الا إحدى الثلاث ثم لو اندرج هذا في العموم لكان مخصوصا بما ذكرناه من أن قتله حد من الحدود وذلك ان كل من أسلم فان الإسلام يعصم دمه فلا يباح بعد ذلك الا بإحدى الثلاث وقد يتخلف الحكم عن هذا المقتضى لمانع من ثبوت حد قصاص أو زنى أو نقض عهد فيه ضرر وغير ذلك ومثل هذا كثيرا في العمومات

وأما الآية على الوجهين الأولين فنقول إنما تدل على أن من كفر بعد ايمانه ثم تاب واصلح فان الله غفور رحيم له ونحن نقول بموجب ذلك اما من ضم إلى الكفر انتهاك عرض الرسول والافتراء عليه أو قتله أو قتل واحد من المسلمين أو أنتهك عرضه فلا تدل الآية على سقوط العقوبة عن هذا على ذلك والدليل على ذلك قوله سبحانه " الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا " فان التوبة عائدة إلى الذنب المذكور والذنب المذكور هو الكفر بعد الايمان وهذا أتى بزيادة على الكفر توجب عقوبة بخصوصها كما تقدم والآية لم تتعرض من للتوبة من غير الكفر ومن قال هو زنديق قال انا لااعلم ان هذا تاب ثم ان الآية إنما استثنى فيها من تاب واصلح وهذا الذي يرفع إلى الإمام لم يصلح وانا لا ادخر العقوبة الواجبة عليه إلى ان يظهر صلاحه نعم الآية قد تعم من فعل ذلك ثم تاب واصلح قبل ان يرفع إلى الإمام وهنا قد يقول كثير من الفقهاء بسقوط العقوبة على أن الآية التي بعدها قد تشعر بان المرتد قسمان قسم تقبل توبته وهو من كفر فقط وقسم لا تقبل توبته وهو من كفر ثم ازداد كفرا قال سبحانه وتعالى " ان الذين كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبته " وهذه الآية وان كان قد تاولها اقوام على من ازداد كفرا إلى ان عاين الموت فقد يستدل بعمومها على هذه المسالة فيقال من كفر بعد ايمانه وازداد كفرا بسب الرسول ونحوه لم تقبل توبته خصوصا من استمر به ازدياد الكفر إلى ان ثبت عليه الحد وأراد السلطان قتله فهذا قد يقال انه ازداد كفرا إلى ان رأى اسباب الموت وقد يقال فيه " فلما راوا بأسنا قالوا امنا بالله وحده " إلى قوله " فلم يك ينفعهم ايمانهم لما راوا باسنا " واما قوله سبحانه وتعالى " قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " فانه يغفر لهم ما قد سلف من الاثام اما من الحدود الواجبة على مسلم مرتد أو معاهد فانه يجب استيفاؤها بلا تردد على أن سياق الكلام يدل انها في الحربي

ثم نقول الانتهاء إنما هو الترك قبل القدرة كما في قوله تعالى " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض " إلى قوله " اينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا " فمن لم يتب حتى أخذ فلم ينته ويقال أيضا إنما تدل الآية على انه يغفر لهم وهذا مسلم وليس كل من غفر له سقطت العقوبة عنه في الدنيا فان الزاني أو السارق لو تاب توبة نصوحا غفر الله له ولابد من إقامة الحدود عليه وقوله الإسلام يجب ما قبله كقوقله التوبة تجب ما قبلها ومعلوم ان التوبة بعد القدرة لا تسقط الحد كما دل عليه القران وذلك ان الحديث خرج جوابا لعمرو بن العاص لما قال للنبي ابايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي فقال يا عمر اما علمت ان الإسلام يهدم ما كان قبله وان التوبة تهدم ما كان قبلها وان الهجرة تهدم ما كان قبلها وان الحج يهدم ما كان قبله فعلم انه عنى بذلك انه يهدم اثام الذنوب التي سأل عمرو مغفرتها ولم يجر للحدود ذكر وهي لا تسقط بهذه الأشياء بالاتفاق وقد بين في حديث ابن أبي سرح ان ذنبه سقط بالإسلام وان القتل إنما سقط عنه يعفو النبي كما تقدم ولو فرض انه عام فلا خلاف ان الحدود لا تسقط عن الذمي بإسلامه وهذا منها كما تقدم

وأما قوله سبحانه وتعالى " ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة " فالجواب عنها من وجوه

أحدها انه ليس في الآية دليل على أن هذه الآية نزلت فيمن سب النبي وشتمه وانما فيها انها نزلت بالمنافقين وليس كل منافق يسبه ويشتمه فان الذي يشتمه من أعظم المنافقين واقبحهم نفاقا وقد ينافق الرجل بان لايعتقد النبوة وهو لا يشتمه كحال كثيرا من الكفار ولو ان كل منافق بمنزلة من شتمه لكان كل مرتد شاتما ولا ستحالت هذه المسالة وليس الأمر كذلك فان الشتم قدر زائد على النفاق والكفر على ما لا يخفى وقد كان ممن هو كافر من يحبه ويوده ويصطنع إليه المعروف خلق كثير وكان ممن يكف عنه اذاه من الكفار خلق أكثر من أولئك وكان ممن يحاربه ولا يشتمه خلق أخرون بل الآية تدل على انها نزلت في منافقين غير الذين يؤذونه فانه سبحانه وتعالى قال " ومنهم الذين يؤذون النبي " إلى قوله " يحذر المنافقون ان تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا ان الله مخرج ما تحذرون ولئن سالتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل ا بالله واياته ورسوله كنتم تستهزئون لاتعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بانهم كانوا مجرمين " فليس في هذا ذكر سب وانما فيه ذكر استهزاء ومن الاستهزاء بالدين ما لا يتضمن سبا ولا شتما للرسول

وفي هذا الوجه نظر كما تقدم في سبب نزولها الا ان يقال تلك الكلمات ليست من السب المختلف فيه وهذا ليس بجيد

الوجه الثاني انهم قد ذكروا ان المعفو عنه هو الذي استمع اذاهم ولم يتكلم وهو مخشي بن حمير هو الذي تيب عليه واما الذين تكلموا بالأذى فلم يعف عن أحد منهم

يحقق هذا ان العفو المطلق إنما هو ترك المؤاخذة بالذنب وان لم يتب صاحبه كقوله تعالى " ان الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم " والكفر لا يعفى عنه فعلم ان الطائفة المعفو عنها كانت عاصية لا كافرة اما بسماع الكفر دون إنكاره والجلوس مع الذين يخوضون في ايات الله أو بكلام هو ذنب وليس هو كفرا أو غير ذلك وعلى هذا فتكون الآية دالة على انه لا بد من تعذيب أولئك المستهزئين وهو دليل على انه لا توبة لهم لأن من أخبر الله بانه يعذب وهو معين امتنع ان يتوب توبة تمنع العذاب فيصلح ان يجعل هذا دليلا في المسالة

الوجه الثالث انه سبحانه وتعالى أخبر انه لا بد ان يعذب طائفة من هؤلاء ان عفا عن طائفة وهذا يدل على أن العذاب واقع بهم لا محالة وليس فيه ما يدل على وقوع العفو لأن العفو معلق بحرف الشرط فهو محتمل واما العذاب فهو واقع بتقدير وقوع العفو وهو بتقدير عدمه اوقع فعلم انه لا بد من التعذيب اما عاما أو خاصا لهم ولو كانت توبتهم كلهم مرجوة صحيحة لم يكن كذلك لأنهم إذا تابوا لم يعذبوا وإذا ثبت انهم لا بد ان يعذبهم الله لم يجز القول بجواز قبول التوبة منهم وانه يحرم تعذيبهم إذا أظهروها وسواء أراد بالتعذيب التعذيب بعذاب من عنده أو بايدي المؤمنين لأنه سبحانه وتعالى أمر نبيه فيما بعد بجهاد الكفار والمنافقين فكان من أظهره عذب بايدي المؤمنين ومن كتمه عذبه الله بعذاب من عنده وفي الجملة فليس في الآية دليل على أن العفو واقع وهذا كاف هنا

الوجه الرابع انه ان كان في هذه الآية دليل على قبول توبتهم فهو حق وتكون هذه التوبة إذا تابوا قبل ان يثبت النفاق عند السلطان كما بين ذلك قوله تعالى " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض " الايتين فانها دليل على أن من لم ينته حتى أخذ فانه يقتل وعلى هذا فلعله والله أعلم عنى " وان نعف عن طائفة منكم " وهم الذين اسروا النفاق حتى تابوا منه " نعذب طائفة " وهم الذين أظهروه حتى أخذوا فتكون دالة على وجوب تعذيب من أظهره

الوجه الخامس ان هذه الآية تضمنت ان العفو عن المنافق إذا أظهر النفاق وتاب أو لم يتب فذلك منسوخ بقوله تعالى " جاهد الكفار والمنافقين " كما اسلفناه وبيناه

ويؤيده انه قال " ان نعف " ولم يقل يتب وسبب النزول يؤيد ان النفاق ثبت عليهم ولم يعاقبهم النبي وذلك كان في غزوة تبوك قبل ان تنزل براءة وفي عقبها نزلت سورة براءة فامر فيها بنبذ العهود إلى المشركين وجهاد الكفار والمنافقين ونهى فيها عن الصلاة عليهم فلم يظهر أحد بعدها نفاقا

وأما قوله " جاهد الكفار والمنافقين " الآيتين فالجواب عما احتج به منها من وجوه

أحدها انه سبحانه وتعالى إنما ذكر انهم قالوا كلمة الكفر وهموا بما لم ينالوا وليس في هذا ذكر للسب والكفر اعم من السب ولا يلزم من ثبوت الاعم ثبوت الاخص لكن فيما ذكر من سبب نزولها ما يدل على انها نزلت فيمن سب فيبطل هذا

الوجه الثاني انه سبحانه وتعالى إنما عرض التوبة على الذين يحلفون بالله ما قالوا وهذا حال من انكر أن يكون تكلم بكفر وحلف على إنكاره فاعلم الله نبيه انه كاذب في يمينه وهذا كان شان كثير ممن يبلغ النبي عنه الكلمة من النفاق ولا تقوم عليه به بينة ومثل هذا لا يقام عليه حد إذ لم يثبت عليه في الظاهر شيء والنبي إنما يحكم في الحدود ونحوها بالظاهر والذي ذكروه في سبب نزولها من الوقائع كلها إنما فيه ان النبي أخبره بما قالوا مخبر واحد اما حذيفه أو عامر بن قيس أو زيد بن ارقم أو غير هؤلاء أو انه اوحي إليه بحالهم وفي بعض التفأسير ان المحكي عنه هذه الكلمة الجلاس بن سويد اعترف بانه قالها وتاب من ذلك من غير بينه قامت عليه فقبل رسول الله ذلك منه وهذا كله دلالة واضحة على أن التوبة من مثل هذا مقبولة وهي توبة من لم يثبت عليه نفاق وهذا لا خلاف فيه إذا تاب فيما بينه وبين الله سرا كما نافق سرا انه تقبل توبته ولو جاء مظهرا لنفاقه المتقدم ولتوبته منه من غير ان تقوم عليه بينه بالنفاق قبلت توبته أيضا على القول المختار كما تقبل توبة من جاء مظهرا للتوبة من زنى أو سرقة لم يثبت عليه على الصحيح وأولى من ذلك واما من ثبت نفاقه بالبينه فليس فالآية ولا فيما ذكر من سبب نزولها ما يدل على قبول توبته بل ليس في نفس الآية ما يدل على ظهور التوبة بل يجوز ان يحمل على توبته فيما بينه وبين الله فان ذلك نافعه وفاقا وان اقيم عليه الحد كما قال سبحانه " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله " وقال تعالى " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " وقال تعالى " ياعبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا " وقال تعالى " ألم يعلموا ان الله هويقبل التوبة عن عباده " وقال تعالى " غافر الذنب وقابل التوب " إلى غير ذلك من الآيات مع ان هذا لا يوجب ان يسقط الحد الواجب بالبينة عمن أتى فاحشة موجبة للحد أو ظلم نفسه بشرب أو سرقة فلو قال من لم يسقط الحد عن المنافق سواء ثبت نفاقه ببينه أو إقرار ليس في الآية ما يدل على سقوط الحد عنه لكان لقوله مساغ

الوجه الثالث انه قال سبحانه وتعالى " جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " إلى قوله " يحلفون بالله ما قالوا " الآية وهذا تقرير لجهادهم وبيان لحكمته وإظهار لحالهم المقتضي لجهادهم فان ذكر الوصف المناسب بعد الحكم يدل على انه علة له وقوله " يحلفون بالله ما قالوا " وصف لهم وهو منا سب لجهادهم فان كونهم يكذبون في ايمانهم ويظهرون الايمان ويبطنون الكفر موجب للاغلاظ عليهم بحيث لا يقبل منهم ولا يصدقون فيما يظهرونه من الايمان بل ينتهرون ويرد ذلك عليهم

وهذا كله دليل على انه لا يقبل ما يظهره من التوبة بعد اخذه إذ لا فرق بين كذبه فيما يخبر به عن الماضي انه لم يكفر وفيما يخبره من الحاضر انه ليس بكافر فإذا بين سبحانه وتعالى من حالهم ما يوجب ان لا يصدقوا وجب ان لا يصدق في اخباره انه ليس بكافر بعد ثبوت كفره بل يجري عليه حكم قوله تعالى " والله يشهد ان المنافقين لكاذبون لكن بشرط ان يظهر كذبه فيها فاما بدون ذلك فانا لم نامر ان ننقب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم وعلى هذا فقوله تعالى " فان يتوبوا يك خيرا لهم " أي قبل ظهور النفاق وقيام البينه به عند الحاكم حتى يكون للجهاد موضع وللتوبة موضع والا فقبول التوبة الظاهرة في كل وقت يمنع الجهاد لهم بالكلية

الوجه الرابع انه سبحانه وتعالى قال بعد ذلك " وان يتولوا يعذبهم الله عذابا اليما في الدنيا والآخرة " وفسر ذلك في قوله تعالى " ونحن نتربص بكم ان يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بايدينا " وهذا يدل على أن هذه التوبة قبل ان نتمكن من تعذيبهم بايدينا لأن من تولى عن التوبة حتى أظهر النفاق وشهد عليه به واخذ فقد تولى عن التوبة التي عرضها الله عليه فيجب ان يعذبه الله عذابا اليما في الدنيا والقتل عذاب اليم فيصلح ان يعذب به لأن المتولى ابعد أحواله أن يكون ترك التوبة إلى ان يتركه الناس لأنه لو كان المراد به تركها إلى الموت لم يعذب في الدنيا لأن عذا ب الدنيا قد فات فلا بد أن يكون التولي ترك التوبة وبينه وبين الموت مهل يعذبه الله فيه كما ذكره سبحانه فمن تاب بعد ان أخذ ليعذب فهو ممن لم يتب قبل ذلك بل تولى فيستحق ان يعذبه الله عذابا اليما في الدنيا والآخرة ومن تامل هذه الآية والتي قبلها وجدهما دالتين على أن التوبة بعد اخذه لا ترفع عذاب الله عنه

وأما كون هذه التوبة مقبولة فيما بينه وبين الله وان تضمنت التوبة من عرض الرسول فنقول أولا وان كان حق هذا الجواب ان يؤخر إلى المقدمة الثانية هذا القدر لا يمنع إقامة الحد عليه إذا رفع الينا ثم أظهر التوبة بعد ذلك كما ان الزاني والشارب وقاطع الطريق إذا تاب فيما بينه وبين الله قبل ان يرفع الينا قبل الله توبته وإذا اطلعنا عليه ثم تاب فلا بد من إقامة الحد عليه ويكون ذلك من تمام توبته وجميع الجرائم من هذا الباب

وقد يقال إن المنتهك لاعراض الناس إذا استغفر لهم ودعا لهم قبل ان يعلموا بذلك رجي ان يغفر الله له على ما في ذلك من الخلاف المشهور ولو ثبت ذلك عليه عند السلطان ثم أظهر التوبة لم تسقط عقوبته وذلك ان الله سبحانه لا بد ان يجعل للمذنب طريقا إلى التوبة فإذا كان عليه تبعات للخلق فعليه ان يخرج منها جهده ويعوضهم عنها بما يمكنه ورحمة الله من وراء ذلك ثم ذلك لا يمنع ان نقيم عليه الحد إذا ظهرنا عليه ونحن إنما نتكلم في التوبة المسقطة للحد والعقوبة لا في التوبة الماحية للذنب

ثم نقول ثانيا ان كان ما اتاه من السب قد صدر عن اعتقاد يوجبه فهو بمنزلة ما يصدر من سائر المرتدين وناقضي العهد من سفك دماء المسلمين واخذ أموالهم وانتهاك اعراضهم فانهم يعتقدون في المسلمين اعتقادا يوجب اباحة ذلك ثم إذا تابوا توبة نصوحا من ذلك الاعتقاد غفر لهم موجبه المتعلق بحق الله وحق العباد كما يغفر للكافر الحربي موجب اعتقاده إذا تاب منه مع ان المرتد أو الناقض متى فعل شيئا من ذلك قبل الامتناع اقيم عليه حده وان عاد إلى الإسلام سواء كان لله أو لآدمي فيحد على الزنى والشرب وقطع الطريق وان كان في زمن الردة ونقض العهد يعتقد حل ذلك الفرج لكونه وطئه بملك اليمين إذا قهر مسلمة على نفسها ويعتقد حل دماء المسلمين وأموالهم كما يؤخذ منه القود وحد القذف وان كان يعتقد حلهما ويضمن ما اتلفه من الأموال وان اعتقد حلها

والحربي الاصل لا يؤخذ بشيء من ذلك بعد الإسلام وكان الفرق ان ذاك كان ملتزما بايمانه وأمانه ان لايفعل شيئا من ذلك فإذا فعله لم يعذر بفعله بخلاف الحربي الاصل ولان في إقامة هذه الحدود عليه زجرا له عن فعل هذه الموبقات كما فيها زجر للمسلم المقيم على إسلامه بخلاف الحربي الاصل فان ذلك لا يزجره بل هو منفر له عن الإسلام ولان الحربي الاصل ممتنع وهذان ممكنان

وكذلك قد نص الإمام أحمد على أن الحربي إذا زنى بعد الاسر اقيم عليه الحد لأنه صار في أيدينا كما ان الصحيح عنه وعن أكثر أهل العلم ان المرتد إذا امتنع لم تقم عليه الحدود لأنه صار بمنزلة الحربي إذ الممتنع يفعل هذه الأشياء باعتقاد وقوة من غير زاجر له ففي إقامة الحدود عليهم بعد التوبة تنفير واغلاق لباب التوبة عليهم وهو بمنزلة تضمين أهل الحرب سواء وليس هذا موضع استقصاء هذا وانما نبهنا عليه وإذا كان هذا هنا هكذا فالمرتد والناقض إذا اذيا الله ورسوله ثم تابا من ذلك بعد القدرة توبة نصوحا كانا بمنزلتهما إذا حاربا باليد في قطع الطريق أو زنيا وتابا بعد اخذهما وثبوت الحد عليهما ولا فرق بينهما وذلك لأن الناقض للعهد قد كان عهده يحرم عليه هذه الأمور في دينه وان كان دينه المجرد عن عهد يبيحها له

وكذلك المرتد قد كان يعتقد ان هذه الأمور محرمة فاعتقاده اباحتها إذا لم يتصل به قوة ومنعه ليس عذرا له في ان يفعلها لما كان ملتزما له من الدين الحق ولما هو به من الضعف ولما في سقوط الحد عنه من الفساد وان كان السب صادرا عن غير اعتقاد بل سبه مع اعتقاد نبوته أو سبه بأكثر مما يوجبه اعتقاده أو بغير ما يوجبه اعتقاده فهذا من أعظم الناس كفرا بمنزلة ابليس وهو من نوع العناد أو السفه وهو بمنزلة من شتم بعض المسلمين أو قتلهم وهو يعتقد ان دمائهم واعراضهم حرام

وقد اختلف الناس في سقوط حد المشتوم بتوبة الشاتم قبل العلم به سواء كان نبيا اوغيره فمن اعتقد ان التوبة لا تسقط حق الآدمي له ان يمنع هنا ان توبة الشاتم في الباطن صحيحة على الاطلاق وله ان يقول إن النبي ان يطالب هذا بشتمه مع علمه بأنه حرام كسائر المؤمنين لهم ان يطالبوا شاتمهم وسابهم بل ذلك أولى وهذا القول قوي في القياس وكثير من الظواهر تدل عليه

ومن قال هذا من باب السب والغيبة ونحوهما مما يتعلق باعراض الناس وقد فات الاستحلال فليأت للمشتوم من الدعاء والاستغفار بما يزن حق عرضه ليكون ما ياخذه المظلوم من حسنات هذا بقدر ما دعا له واستغفر فيسلم له سائر عمله فكذلك من صدرت منه كلمة سب أو شتم فليكثر من الصلاة والتسليم ويقابلها بضدها فمن قال إن ذلك يوجب قبول التوبة ظاهرا وباطنا ادخله في قوله تعالى " ان الحسنات يذهبن السيئات " واتبع السيئة الحسنة تمحها ومن قال لا بد من القصاص قال قد اعد له من الحسنات ما يقوم بالقصاص وليس لنا غرض في تقرير واحد من القولين هنا وانما الغرض ان الحد لا يسقط بالتوبة لأنه ان كان عن اعتقاد فالتوبة منه صحيحة مسقطة لحق الرسول في الآخرة وهي لاتسقط الحد عنه في الدنيا كما تقدم وان كانت من غير اعتقاد ففي سقوط حق الرسول بالتوبة خلاف

فإن قيل لا يسقط فلا كلام وإن قيل يسقط الحق ولم يسقط الحد كتوبة الأول وأولى فحاصله ان الكلام في مقامين

أحدهما ان هذه التوبة إذا كانت صحيجة نصوحا فيما بينه وبين الله هل يسقط معها حق المخلوق وفيه تفصيل وخلاف فإن قيل لم يسقط فلا كلام وإن قيل يسقط فسقوط حقه بالتوبة كسقوط حق الله بالتوبة فتكون كالتوبة من سائر أنواع الفساد وتلك التوبة إذا كانت بعد القدرة لم تسقط شيئا من الحدود وان محت الإثم في الباطن

وحقيقة هذا الكلام ان قتل الساب ليس لمجرد الردة ومجرد عدم العهد حتى تقبل توبته كغيره بل لردة مغلظة ونقض مغلظ بالضرر ومثله لا يسقط موجبه بالتوبة لأنه من محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا أو هو من جنس الزنى والسرقة أو هو من جنس القتل والقذف فهذه حقيقة الجواب وبه يتبين الخلل فيما ذكر من الحجة

ثم نبينه مفصلا فنقول اما قولهم ان ما جاء به من الايمان به ماح لما أتى به من هتك عرضه فنقول إن كان السب مجرد موجب اعتقاد فالتوبة من الاعتقاد توبة من موجبه واما من زاد على موجب الاعتقاد أو أتى بضده وهم أكثر السابين فقد لا يسلم ان ما ياتي به من التوبة ماح الا بعد عفوه بل يقال له المطالبة وان سلم ذلك فهو كالقسم الأول وهذا القدر لا يسقط الحدود كما تقدم غير مرة

وأما قولهم حقوق الأنبياء من حيث النبوة تابعة لحق الله في الوجود فتبعته في السقوط فنقول هذا مسلما ان كان السب موجب اعتقاد والا ففيه الخلاف واما حقوق الله فلا فرق في باب التوبة بين ما موجبه اعتقاد أو غير اعتقاد فان التائب من اعتقاد الكفر وموجباته والتائب من الزنى سواء ومن لم يسو بينهما قال ليست أعظم من حق الله إذا لم يسقط في الباطن بسقوطه ولكن الأمر إلى مستحقها ان شاء جزى وان شاء عفا ولم يعلم بعد ما يختاره الله سبحانه قد اعلمنا انه يغفر لكل من تاب

وأيضا فان مستحقها من جنس تلحقهم المضرة والمعرة بهذا ويتألمون به فجعل الأمر إليهم والله سبحانه وتعالى إنما حقه راجع إلى مصلحة المكلف خاصة فانه لا ينتفع بالطاعة ولا يستضر بالمعصية فإذا عاود المكلف الخير فقد حصل ما أراده ربه منه فلما كان الأنبياء عليهم السلام فيهم نعت البشر ولهم نعت النبوة صار حقهم له نعت حق الله ونعت حق سائر العباد وانما يكون حقهم مندرجا في حق الله إذا صدر عن اعتقاد فانهم لما وجب الايمان بنبوتهم صار كالايمان بوحدانية الله فإذا لم يعتقد معتقد نبوتهم كان كافرا كما إذا لم يقر بوحدانية الله وصار الكفر بذلك كفرا برسالات الله ودينه وغير ذلك فإذا كان السب موجب هذا الاعتقاد فقط مثل نفي الرسالة أو النبوة ونحو ذلك وتاب منه توبة نصوحا قبلت توبته كتوبة المثلث وإذا زاد على ذلك مثل قدح في نسب أو وصف لمساوي الأخلاق أو فاحشة أو غير ذلك مما يعلم هو انه باطل أو لا يعتقد صحته أو كان مخالفا للاعتقاد مثل ان يحسد أو يتكبر أو يغضب لفوات غرض أو حصول مكروه مع اعتقاد النبوة فيسب فهنا إذا تاب لم يتجدد له اعتقاد ازال موجب السب إنما غير نيته وقصده وهو قد اذاه بهذا السب اذى يتالم به البشر ولم يكن معذورا بعدم اعتقاد النبوة فهو كحق الله من حيث جنى على النبوة التي هي السبب الذي بين الله وبين خلقه فوجب قتله وهو كحق البشر من حيث انه اذى ادميا يعتقد انه لا يحل اذاه فلذلك كان له ان يطالبه بحق اذاه وان ياخذ من حسناته بقدر اذاه وليست له حسنة تزن ذلك الا ما يضاد السب من الصلاة والتسليم ونحوهما وبهذا يظهر ان التوبة من سب صدر عن غير اعتقاد من الحقوق التي تجب للبشر على البشر ثم هو حق متعلق بالنبوة لا محاله فهذا قول هذا القائل وان كنا لم نرجح واحدا من القولين

ثم إذا كانت حقوقهم تابعة لحق الله فمن الذي قال إن حقوق الله تسقط على المرتد وناقض العهد بالتوبة فانا قد بينا ان هؤلاء تقام عليهم حدود الله بعد التوبة وانما تسقط بالتوبة عقوبة الردة المجردة والنقض المجرد وهذا ليس كذلك

وأما قوله ان الرسول يدعوا الناس إلى الايمان به ويخبرهم ان الايمان يمحو الكفر فيكون قد عفا لمن كفر عن حقه فنقول هذا جيد إذا كان السب موجب الاعتقاد فقط لأنه هو الذي اقتضاه ودعاه إلى الايمان به فانه من ازال اعتقاد الكفر به باعتقاد الايمان به زال موجبه اما من زاد على ذلك وسبه بعد ان امن به أو عاهده فلم يلتزم ان يعفو عنه وقد كان له ان يعفو وله أن الا يعفو والتقدير المذكور في السؤال إنما يدل على سب أوجبه الاعتقاد ثم زال باعتقاد الايمان لأنه هو الذي كان يدعو إليه الكفر وقد زال بالايمان واما ما سوى ذلك فلا فرق بينه وبين سب سائر الناس من هذه الجهة وذلك أن الساب ان كان حربيا فلا فرق بين سبه للرسول أو لواحد من الناس من هذه الجهة وان كان مسلما أو ذميا فإذا سب الرسول سبا لا يوجبه اعتقاده فهو كما لو سب غيره من الناس فان تجدد الإسلام منه كتجدد التوبة منه يزعه عن هذا الفعل وينهاه عنه وان لم يرفع موجبه فان موجب هذا السب لم يكن الكفر به إذ كلامنا في سب لا يوجبه الكفر به مثل فريه عليه يعلم انها فرية ونحو ذلك لكن إذا أسلم الساب فقد عظم في قلبه عظمة تمنعه ان يفتري عليه كما انه إذا تاب من سب المسلم عظم الذنب في قلبه عظمة تمنعه من مواقعته وجاز ان لا يكون هذا الإسلام وازعا لكون موجب السب كان شيئا غير الكفر وقد يضعف هذا الإسلام عن دفعه كما تضعف هذه التوبة عن موجب الأذى وفرق بين ارتفاع الأمر بارتفاع سببه أو بوجود ضده فان ما أوجبه الاعتقاد إذا زال الاعتقاد زال سببه فلم يخش عوده الا بعود السبب وما لم يوجبه الاعتقاد من الفرية ونحوها على النبي وغيره يرفعها الإسلام والتوبة رفع الضد للضد إذ اعتقاد قبح هذا الأمر وسوء عاقبته والعزم الجازم على فعل ضده وتركه ينافي وقوعه لكن لو ضعف هذا الدافع عن مقاومة السبب المقتضي عمل عمله فهذا يبين انه لافرق في الحقيقة بين ان يتوب من سب لم يوجبه مجرد الكفر بالايمان به الموجب لعدم ذلك السب وبين ان يتوب من سب مسلم بالتوبة الموجبه لعدم ذلك السب

واعتبر هذا برجل له غرض في أمر فزجر عنه وقيل له هذا قد حرمه النبي فلا سبيل إليه فحمله فرط الشهوة وقوة الغضب لفوات المطلوب على أن لعن وقبح فيما بينه وبين الله مع انه لايشك في النبوة ثم انه جدد إسلامه وتاب وصلى على النبي ولم يزل باكيا من كلمته ورجل أراد ان ياخذ مال مسلم بغير حق فمنعه منه فلعن وقبح سرا ثم انه تاب من هذا واستغفر لذلك الرجل ولم يزل خائفا من كلمته اليست توبة هذا من كلمته كتوبة هذا من كلمته وان كانت توبة هذا يجب ان تكون أعظم لعظم كلمته لكن نسبة هذه إلى هذه كنسبة هذه إلى هذه بخلاف من إنما يلعن ويقبح من يعتقده كذابا ثم يتبين له انه كان ضالا في ذلك الاعتقاد وكان في مهواة التلف فتاب ورجع من ذلك الاعتقاد توبة مثله فانه يندرج فيه جميع ما أوجبه

ومما يقرر هذا ان النبي كان إذا بلغه سب مرتد أو معاهد سئل ان يعفو عنه بعد الإسلام ودلت سيرته على جواز قتله بعد إسلامه وتوبته ولو كان مجرد التوبة يغفر لهم بها ما في ضمنها مغفرة تسقط الحد لم يجز ذلك فعلم انه كان يملك العقوبة على من سبه بعد التوبة كما يملكها غيره من المؤمنين

فهذا الكلام في توبة الساب فيما بينه وبين الله هل تسقط حق الرسول أم لا وبكل حال سواء أسقطت أم لم تسقط لا يقتضي ذلك ان إظهارها مسقط للحد الا ان يقال هو مقتول لمحض الردة أو محض نقض العهد فان توبة المرتد مقبولة وإسلام من جرد نقض العهد مقبول مسقط للقتل

وقد قدمنا فيما مضى بالأدلة القاطعة ان هذا مقتول لردة مغلظة ونقض مغلظ بمنزلة من حارب وسعى في الأرض فسادا

ثم من قال يقتل حقا لآدمي قال العقوبة إذا تعلق بها حقان حق لله وحق لآدمي ثم تاب سقط حق الله وبقي حق الآدمي من القود وهذا التائب إذا تاب سقط حق الله وبقي حق الآدمي

ومن قال يقتل حدا لله قال هو بمنزلة المحارب وقد يسوى بين من سب الله وبين من سب الرسول على ما سيأتي إن شاء الله تعالى

وقولهم في المقدمة الثانية إذا أظهر التوبة وجب ان نقبلها منه قلنا هذا مبني على أن هذه التوبة مقبولة مطلقا وقد تقدم الكلام فيه

ثم الجواب هنا من وجهين

أحدهما القول بموجب ذلك فانا نقبل منه هذه التوبة ونحكم بصحة إسلامه كما نقبل توبة القاذف ونحكم بعدالته ونقبل توبة السارق وغيرهم لكن الكلام في سقوط القتل عنه ومن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شئ من الحدود الواجبة لقدر زائد على الردة أو النقض ومن تاب قبلها لم تسقط عنه حقوق العباد إذا قبلنا توبته فمن تمام توبته ان يطهر بإقامة الحد عليه كسائر هؤلاء وذلك انا نحن لأننازع في صحة توبته ومغفرة الله له مطلقا فان ذلك إلى الله وانما الكلام هل هذه التوبة مسقطة للحد عنه وليس في الحديث ما يدل على ذلك فانا قد نقبل إسلامه وتوبته ونقيم عليه الحد تطهيرا له وهذا جواب من يقتله حدا محضا مع الحكم بصحة إسلامه

الثاني ان هذا الحديث في قبول الظاهر إذا لم يثبت خلافه بطريق شرعي وهنا قد ثبت خلافه وهذا الجواب من يقتله لزندقته وقد يجيب به من يقتل الذمي أيضا بناء على انه زنديق في حال العهد فلا يوثق بإسلامه

وأما إسلام الحربي والمرتد ونحوهما عند معاينة القتل فانما جاز لأنا إنما نقاتلهم لأن يسلموا ولا طريق إلى الإسلام الاما يقولونه بالسنتهم فوجب قبول ذلك منهم وان كانوا في الباطن كاذبين والا لوجب قتل كل كافر أسلم أو لم يسلم فلا تكون المقاتلة حتى يسلموا بل يكون القتال دائما وهذا باطل ثم انه قد يسلم الان كارها ثم ان الله يحبب إليه الايمان ويزينه في قلبه كذلك أكثر من يسلم لرغبته في المال ونحوه أو لرهبته من السيف ونحوه ولا دليل يدل على فساد الا كونه مكرها عليه بحق وهذا لا يلتفت إليه

أما هنا فانما نقتله لما مضى من جرمه من السب كما نقتل الذمي لقتله النفس أو لزناه بمسلمة وكما نقتل المرتد لقتله مسلما ولقطعه الطريق كما تقدم تقريره فليس مقصودنا بإرادة قتله ان يسلم ولا نحن مقاتليه على أن يسلم بل نحن نقتله جزاء له على ما اذانا ونكالا لا مثاله على مثل هذه الجريمة فإذا أسلم فان صححنا إسلامه لم يمنع ذلك وجوب قتله كالمحارب المرتد أو الناقض إذا أسلم بعد القدرة وقد قتل فانه يقتل وفاقا فيما علمناه وان حكم بصحة إسلامه وان لم يصحح إسلامه فالفرق بينه وبين الحربي والمرتد من وجهين

أحدهما ان الحربي والمرتد لم يتقدم منه ما دل على أن باطنه بخلاف ظاهره بل إظهاره للردة لما ارتد دليل على أن ما يظهره من الإسلام صحيح وهذا مازال مظهر للإسلام وقد أظهر ما دل على فساد عقده فلم يوثق بما يظهره من الإسلام بعد ذلك وكذلك ناقض العهد قد عاهدنا على أن لا يسب وقد سب فثبتت جنايته وغدره فإذا أظهر الإسلام بعد ان أخذ ليقتل كان أولى ان يخون ويغدر فانه كان ممنوعا من إظهار السب فقط وهو لم يف بذلك فكيف إذا اصبح ممنوعا من إظهاره وأسراره ولم يكن له عذر فيما فعله من السب بل كان محرما عليه في دينه فإذا لم يف به صار من المنافقين في العهد

الثاني ان الحربي أو المرتد نحن نطلب منه ان يسلم فإذا اعطانا ما اردناه بحسب قدرته وجب قبوله منه والحكم بصحته والساب لايطلب منه الا القتل عينا فإذا أسلم ظهر إنما أسلم ليدرا عن نفسه القتل الواجب عليه كما إذا تاب المحارب بعد القدرة عليه أو أسلم أو تاب سائر الجناة بعد اخذهم فلا يكون الظاهر صحة هذا الإسلام فلا يسقط ما وجب من الحد قبله

وحقيقة الأمر ان الحربي والمرتد يقتل لكفر حاضر ويقاتل ليسلم ولا يمكن ان يظهر وهو مقاتل أو ماخوذ الإسلام الا مكرها فوجب قبوله منه إذ لايمكن بذله الا هكذا وهذا الساب والناقض لم يقتل لمقامه على الكفر أو كونه بمنزلة سائر الكفار غير المعاهدين لما ذكرناه من الأدلة الدالة على أن السب مؤثر في قتله ويكون قد بذل التوبة التي لم تطلب منه في حال الاخذ للعقوبة فلا تقبل منه

وعلى هذين الماخذين ينبني الحكم بصحة إسلام هذا الساب في هذه الحال مع القول بوجوب قتله

أحدهما لا يحكم بصحة إسلامه وهو مقتضى قول ابن القاسم وغيره من المالكية

والثاني يحكم بصحة إسلامه وعليه يدل كلام الإمام أحمد وأصحابه في الذمي مع وجوب إقامة الحد عليه واما المسلم إذا سب ثم قتل بعد ان أسلم فمن قال يقتل عقوبة على السب لكونه حق ادمي أو حدا محضا لله فقط حكم بصحة هذا الإسلام وقبله وهذا قول كثير من أصحابنا وغيرهم وهو قول من قال يقتل من أصحاب الشافعي

وكذلك من قال يقتل ساب الله ومن قال يقتل لزندقته اجرى عليه إذا قتل بعد إظهار الإسلام أحكام الزنادقة وهو قول كثير من المالكية وعليه يدل كلام بعض أصحابنا وعلى ذلك ينبني الجواب عما احتج به من قبول النبي ظاهر الإسلام من المنافقين فان الحجة اما ان تكون في قبول ظاهر الإسلام منهم في الجملة فهذا لا حجة فيه من أربعة اوجه قد تقدم ذكرها

أحدها ان الإسلام إنما قبل منهم حيث لم يثبت عنهم خلافه وكانوا ينكرون انهم تكلموا بخلافه فاما ان البينة تقوم عند رسول الله على كفر رجل بعينه فيكف عنه فهذا لم يقع قط الا أن يكون في بادئ الأمر

الثاني انه كان في أول الأمر مأمورا ان يدع اذاهم ويصبر عليهم لمصلحة التاليف وخشية التنفير إلى ان نسخ ذلك بقوله تعالى " جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم "

الثالث انا نقول بموجبه فنقبل من هذا الإسلام ونقيم عليه حد السب كما لو أتى حدا غيره وهذا جواب من يصحح إسلامه ويقتله حدا لفساد السب

الرابع ان النبي لم يستتب أحدا منهم ويعرضه على السيف ليتوب ممن مقالة صدرت منه مع ان هذا مجمع على وجوبه فان الرجل منهم إذا شهد عليه بالكفر والزندقة فاما ان يقتل عينا أو يستتاب فان لم يتب والا قتل

وأما الاكتفاء منه بمجرد الجحود فما اعلم به قائلا بل أقل ما قيل فيه انه يكتفى منهم بالنطق بالشهادتين والتبري من تلك المقاله فإذا لم تكن السيرة في المنافقين كانت هكذا علم ان ترك هذا الحكم لفوات شرطه وهو اما ثبوت النفاق أو العجز عن اقمة الحد أو مصلحة التاليف في حال الضعف حتى قوي الدين فنسخ ذلك

وان كان الاحتجاج بقبول ظاهر الإسلام ممن سب فعنه جواب خمس وهو انه كان له ان يعفو عمن شتمه في حياته وليس هذا العفو لاحد من الناس بعده

وأما تسمية الصحابه الساب غادرا محاربا فهو بيان لحل دمه وليس كل من نقض العهد وحارب سقط القتل عنه بإسلامه بدليل ما لو قتل مسلما أو قطع الطريق عليه أو زنى بمسلمة بل تسميته محاربا مع كون السب فسادا يوجب دخوله في حكم الآية كما تقدم

وأما الذين هجو رسول الله وسبوه ثم عفا عنهم فالجواب عن ذلك كله قد تقدم في المسألة الأولى لما ذكرنا قصصهم وبينا ان السب غلب فيه حق الرسول إذا علم فله ان يعفو وان ينتقم وفي قصص هؤلاء ما يدل على أن العقوبة إنما سقطت عنهم مع عفوه وصفحه لمن تامل أحوالهم معه والتفريق بينهم وبين لم يهجه ولم يسبه

وأيضا فهؤلاء كانوا محاربين والحربي لايؤخذ بما أصابه من المسلمين من دم أو مال أو عرض والمسلم والمعاهد يؤخذ بذلك

وقولهم الذمي يعتقد حل السب كما يعتقده الحربي وان لم يعتقد حل الدم والمال غلط فان عقد الذمة منعهم من الطعن في ديننا واو جب عليهم الكف عن ان يسبوا نبينا كما منعهم دماءنا وأموالنا وابلغ فهو ان لم يعتقد تحريمه للدين فهو يعتقد تحريمه للعهد كاعتقادنا نحن في دمائهم وأموالهم واعراضهم ونحن لم نعاهد على غان نكف عن سب دينهم الباطل وإظهار معايبهم بل نعاهدهم على أن نظهر في دارنا ما شئنا وان يلتزموا جريان أحكامنا عليهم والا فأين الصغار

وأما قولهم الذمي إذا سب اما ان يقتل لكفره وحرابه كما يقتل الحربي الساب أو يقتل حدا من الحدود قلنا هذا تقسيم منتشر بل يقتل لكفره وحرابه بعد الذمة وليس من حارب بعد الذمة بمنزلة الحربي الاصلي فان الذمي إذا قتل مسلما اجتمع عليه انه نقض العهد وانه وجب عليه القود فلو عفا ولي الدم قتل لنقض العهد بهذا الفساد وكذلك سائر الأمور المضرة بالمسلمين يقتل بها الذمي إذا فعلها وليس حكمه فيها كحكم الحربي الاصلي إجماعا وإذا قتل لحرابه وفساده بعد العهد فهو حد من الحدود فلا تنافي بين الوصفين حتى يجعل أحدهما قسيما للآخر وقد بينا في بالأدلة الواضحة ان قتله ليس لمجرد كونه كافرا غير ذي عهد بل حدا وعقوبة على سب نبينا الذي أوجبت عليه الذمة تركه والإمساك عنه مع ان السب مستلزم لنقض العهد العاصم لدمه وأنه يصير بالسب محاربا غادرا وليس هو كحد الزنى ونحوه مما لا مضرة علينا فيه وانما اشبه الحدود به حد المحاربة

وأما قولهم ليس في السب أكثر من انتهاك العرض وهذا قدر لا يوجب الا الجلد إلى آخر الكلام عنه ثلاثة اجوبة

أحدها ان هذا كلام في رأس المسالة فانه إذا لم يوجب الا الجلد والأمور الموجبة للجلد لا تنقض العهد لم ينتقض العهد به كسب بعض المسلمين وقد قدمنا الدلالات التي لا تحل مخالفتها على وجوب قتل الذمي إذا فعل ذلك وانه لاعهد له يعصم دمه مع ذلك وبينا ان انتهاك عرض عموم المسلمين يوجب الجلد واما انتهاك عرض الرسول فانه يوجب القتل وقد صولح على الإمساك عن العرضين فمتى أنتهك عرض الرسول فقد أتى بما يوجب القتل مع التزامه ان لايفعله فوجب ان يقتل كما لو قطع الطريق أو زنى والتسوية بين عرض الرسول وعرض غيره في مقدار العقوبة من أفسد القياس

والكلام في الفرق بينهما يعد تكلفا فانه عرض قد أوجب الله على جميع الخلق ان يقابلوه من الصلاة والسلام والثناء والمدحة والمحبة والتعظيم والتعزير والتوقير والتواضع في الكلام والطاعة للامر ورعاية الحرمة في أهل البيت والأصحاب بما لاخفاء به على أحد من علماء المؤمنين عرض به قام دين الله وكتابه وعباده المؤمنون به وجبت الجنة لقوم والنار لاخرين به كانت هذه الامة خير امة أخرجت للناس عرض قرن الله ذكره بذكره وجمع بينه وبينه في كتابة واحدة وجعل بيعته بيعة له وطاعته طاعة له واذاه اذى له إلى خصائص لا تحصى ولا يقدر قدرها افيليق لو لم يكن سبه كفرا ان تجعل عقوبة منتهك هذا العرض كعقوبة منتهك عرض غيره

ولو فرضنا ان لله نبينا بعثه إلى امة ولم يوجب على امة أخرى ان يؤمنوا به عموما ولا خصوصا فسبه رجل ولعنه عالما بنبوته إلى أولئك افيجوز ان يقال إن عقوبته وعقوبة من سب واحدا من المؤمنين سواء هذا أفسد من قياس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا

قولهم الذمي يعتقد حل ذلك قلنا لا نسلم فان العهد الذي بيننا وبينه حرم عليه في دينه السب كما حرم عليه دماءنا وأموالنا واعراضنا فهو إذا أظهر السب يدري انه قد فعل عظيمة من العظائم التي لم نصالحه عليها ثم ان كان يعلم ان عقوبة ذلك عندنا القتل والا فلا يجب لأن مرتكب الحدود يكفيه العلم بالتحريم كمن زنى أو سرق أو شرب أو قذف أو قطع الطريق فانه إذا علم تحريم ذلك عقوب العقوبة المشروعة وان كان يظن أن لاعقوبة على ذلك أو ان عقوبته دون ما هو مشروع

وأيضا فان دينهم لا يبيح لهم السب واللعنة للنبي وان كان دينن باطلا أكثر ما يعتقدون انه ليس بنبي أو ليس عليهم اتباعه اما ان يعتقدوا ان لعنته وسبه جائزة فكثير منهم أو أكثرهم لا يعتقدون ذلك على أن السب نوعان أحدهما ما كفروا به واعتقدوه والثاني ما لم يكفروا به فهذا الثاني لا ريب انهم لا يعتقدون حله

وأما قولهم صولح على ترك ذلك فإذا فعله انتقض العهد فانه إذا فعله انتقض عهده وعوقب على نفس تلك الجريمة وإلا كان يستوي حال من ترك العهد ولحق بدار الحرب من غير اذى لنا وحال من قتل وسرق وقطع الطريق وشتم الرسول مع نقض العهد وهذا لا يجوز

وأما قولهم كون القتل حدا حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي فصحيح وقد تقدمت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والأثر والنظر الدالة على أن نفس السب من حيث خصوصيته موجب للقتل ولم يثبت ذلك استحسانا صرفا واستصلاحا محضا بل اثبتناه بالنصوص واثار الصحابة وما دل عليه ايماء الشارع وتنبيهه وبما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الامة من الخصوصية بهذا السب والحرمة لهذا العرض التي يوجب ان لا يصونه الا القتل لا سيما إذا قوي الداعي على انتهاكه وخفة حرمته بخفة عقابه وصغر في القلوب مقدار من هو أعظم العالمين قدرا إذا ساوى في قدر العرض زيدا وعمروا وتمضمض بذكره اعداء الدين من كافر غادر ومنافق ماكر فهل يستريب من قلب الشريعة ظهرا لبطن ان محاسنها توجب حفظ هذه الحرمة التي هي أعظم حرمات المخلوقين وحرمتها متعلقة بحرمة رب العالمين بسفك دم واحد من الناس مع قطع النظر عن الكفر والارتداد فانهما مفسدتان اتحادهما في معنى التعداد ولسنا الان للكلام في المصالح المرسلة فانا لم نحتج إليها في هذه المسالة لما فيها من الأدلة الخاصة الشرعية وانما ننبه على عظم المصلحة في ذلك بيانا لحكمة الشرع لأن القلوب إلى ما فهمت حكمته اسرع انقيادا والنفوس إذا ما تطلع على مصلحته اعطش اكبادا ثم لو لم يكن في المسالة نص ولا اثر لكان اجتهاد الراي يقضي بان يجعل القتل عقوبة هذا الجرم لخوصه لا لعموم كونه كفرا أو ردة حتى لو فرض تجرده عن ذلك لكان موجبا للقتل اخذا له من قاعدة العقوبات في الشرع فانه يجعل اعلى العقوبات في مقابلة ارفع الجنايات واوسطها في مقابلة اوسطها وادناها في مقابلة ادناها فهذه الجناية إذا انفردت تمتنع ان تجعل في مقابلة الأذى فتقابل بالجلد أو الحبس تسوية بينها وبين الجناية على عرض زيد وعمرو فانه لا يخفى على من له أدنى بصر باسباب الشرع ان هذا من أفسد أنواع الاجتهاد ومثله في الفساد خلوها من عقوبة تخصها واما جعله في الاوسط كما اعتقده المهاجر بن أبي امية حتى قطع يد الجارية السابة وقلع ثنيتها فباطل أيضا كما انكره عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأن الجناية جناية على أشرف الحرمات ولانه لا مناسبة بينها وبين اوسط العقوبات من قطع عضو من الاعضاء فتعين ان تقابل باعلى العقوبات وهو القتل

ولو نزلت بنا نازلة السب وليس معنا فيها اثر يتبع ثم استراب مستريب في ان الواجب الحقها باعلى الجنايات لما عد من بصراء الفقهاء ومثل هذه المصلحة ليست مرسلة بحيث ان لا يشهد لها الشرع بالاعتبار فإذا فرض انه ليس لها أصل خاص يلحق به ولا بد من الحكم فيها فيجب ان يحكم فيها بما هو اشبه بالأصول الكلية وإذا لم يعمل بالمصلحة لزم العمل بالمفسدة والله لايحب الفساد

ولا شك ان العلماء في الجملة من أصحابنا وغيرهم قد يختلفون في هذا الضرب من المصالح إذا لم يكن فيها اثر ولا قياس خاص والإمام أحمد قد يتوقف في بعض افرادها مثل قتل الجاسوس المسلم ونحوه ان جعلت من افرادها وربما عمل بها وربما تركها إذا لم يكن معه فيها اثر أو قياس خاص ومن تامل تصاريف الفقهاء علم انهم يضطرون إلى رعايتها إذا لم يخالف أصلا من الأصول ولم يخالف في اعتبارها الا طوائف من أهل الكلام والجدل من أصحابنا وغيرهم ولو انهم خاضوا مخاض الفقهاء لعلموا انه لا بد من اعتبارها وذوق الفقه ممن لجج فيه شيء والكلام على حواشه من غير معرفة اعيان المسائل شيء آخر وأهل الكلام والجدل إنما يتكلمون في القسم الثاني فيلزمون غيرهم ما لا يقدرون على التزامه ويتكلمون في الفقه كلام من لا يعرف الا أمورا كلية وعمومات احاطية وللتفاصيل خصوص نظر ودلائل يدركها من عرف اعيان المسائل

واثبتناه أيضا بالقياس الخاص وهو القياس على كل من ارتد ونقض العهد على وجه يضر المسلمين مضرة فيها العقوبة بالقتل وبينا ان هذا اخص من مجرد الردة ومجرد نقض العهد وان الأصول فرقت بينهما

واثبتناه أيضا بالنافي لحقن دمه وبينا ان هذا حل دمه بما فعله والأدلة العاصمة لم أسلم من مرتد وناقض لا تتناوله لفظا ولا معنى

وقولهم القياس في الاسباب لا يصح خلاف ما عليه الفقهاء وهو قول باطل قطعا لكن ليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك

وقولهم معرفة نوع الحكمة وقدرها متعذر قلنا لا نسلم هذا على الاطلاق بل قد يمكن وقد يتعذر بل ربما علم قطعاان الفرع مشتمل على الحكمة الموجودة في الا صل وزيادة

وقولهم هو يخرج السبب عن أن يكون سببا ليس كذلك فان سبب السبب لايمنعه أن يكون سببا والإضافة إلى السبب لا تقدح في الإضافة إلى سبب السبب والعلم بها ضروري

وأما قولهم ليس في الجنايات الموجبة للقتل حدا ما يجوز الحاق السب بها قلنا بل هو ملحق بالردة المقترنة بما يغلظها والنقض المقترن بما يغلظه وان الفساد الحاصل في السب ابلغ من الفساد الحاصل بتلك الأمور المغلظة كما تقدم بيانه بشواهده من الأصول الشرعية على أن هذا الحكم مستغن عن أصل يقاس به بل هو أصل في نفسه كما تقدم ثم ان هذا الكلام يقابل بما هو انور منه بيانا وابهر منه برهانا وذلك ان القول بوجوب الكف عن هذا الساب بعد الاتفاق على حل دمه قول لا دليل عليه الا قياس له على بعض المرتدين وناقضي العهد مع ظهور الفرق بينهما ومن قاس الشيء على ما يخالفه ويفارقه كان قياسه فاسدا فان جعل هذا سببا عاصما قياس السبب على سبب مع تباينهما في نوع الحكمة وقدرها ثم انه اخلاء للسب الذي هو أعظم الجناية على الاعراض من العقوبات ولا عهد لنا بهذا في الشرع فهو اثبات حكم خارج عن القياس وجعل لكونه موجبا للقتل موجبا لكونه اهون من اعراض الناس في باب السقوط وهذا تعليق على العلة ضد مقتضاها وخروج عن موجب الأصول فان العقوبات لا يكون تغلظها في الوجوب سببا لتخفيفها في السقوط قط لكن ان كان جنسها مما يسقط سقطت خفيفة كانت أو غليظة كحقوق الله في في بعض المواضع ولم تسقط خفيفة كانت أو غليظة كحقوق العباد

ثم ان القول باستتابة الساب قول يخالف كتاب الله ويخالف صريح سنة رسول الله وسنة خلفائه وأصحابه والقول بان لا حق للرسول على الساب إذا أسلم الذمي أو المسلم ولا عقوبة له عليه قول يخالف المعروف من سيرة رسول الله ويخالف أصول الشريعة ويثبت حكما ليس له أصل ولا نظير الا ان يلحق بما ليس مثلا له

الجواب الثاني انا لم ندع ان مجرد السب موجب للقتل وانما بينا ان كل سب فهو محاربة ونقض للعهد بما يضر المسلمين فيقتل بمجموع الأمرين السب ونقض العهد ولا يجوز ان يقال خصوص السب عديم التاثير فان فساد هذا معلوم قطعا بما ذكرناه من الأدلة القاطعة على تاثيره وإذا كان كذلك فلم نثبته سببا خارجا عن الاسباب المعهودة وانما هو مغلظ للسبب المعروف وهو الكفر كما ان قتل النفس موجب لحل دمه ثم ان كان قد قتله في المحاربة تغلظ بتحتم القتل والا بقي الأمر فيه إلى الأولياء ومعلوم ان المقتول من قطاع الطريق لا يقال فيه قتل قودا ولا قصاصا حتى ترتب عليه أحكام من يجب عليه القود وانما يضاف القتل إلى خصوص جنايته وهو القتل في المحاربة كذلك هنا الموجب هو خصوص المحاربة

وقولهم الأدلة مترددة بين كون القتل لمجرد المحاربة أو لخصوص السب قلنا هي نصوص في ان السب مؤثر تاثيرا زائدا على مطلق تاثير الكفر الخالي عن عهد فلا يجوز اهمال خصوصه بعد اعتبار الشرع له وان يقال إنما المؤثر مجرد ما في ضمنه وطيه من زوال العهد ولذلك وجب قتل صاحبه عينا من غير تخيير كما قررنا دلالته فيما مضى وإذا كان كذلك فليس مع المخالف ما يدل على أن القتل المباح يسقط بالإسلام وان كان هذا من فروع الكفر كما ان الذمي إذا استحل دماء المسلمين وأموالهم واعراضهم فانتهكها لاعتقاده انهم كفار وان ذلك حلال له منهم ثم أسلم فانه يعاقب على ذلك اما بالقتل ان كان فيها مايوجب القتل أو بغيره وكذلك لو استحل ذلك ذمي من ذمي مثل ان يقتل نصراني يهوديا أو ياخذ ماله لاعتقاده ان ذلك حلال له أو يقذفه أو يسبه فانه يعاقب على ذلك عقوبة مثله وان أسلم وكذلك لو قطع الطريق على قافلة فيهم مسلمون ومعاهدون فقتل بعض أولئك المسلمين أو المعاهدين قتل لأجل ذلك حتما وانتقض عهده وان أسلم بعد ذلك وان كان هذا من فروع الكفر فهذا رجل انتقض عهده بامر يعتقد حله قبل العهد ولو فعله مسلم لم يقتل عند كثير من الفقهاء إذا كان المقتول ذميا وكل واحد من الكفر ومن القتل مؤثر في قتله وان كان عهده إنما زال بهذا القتل فهذا نظير السب ثم لو أسلم هذا لم يسقط عنه القتل بل يقتل اما حدا أو قصاصا سواء كان ذلك القتل مما يقتل به المسلم بان يكون المقتول مسلما أو لا يقتل به بان يكون المقتول ذميا وعلى التقديرين يقتل هذا الرجل بعد إسلامه كقطعه الطريق مثلا وقتله ذلك المعاهد من غير أهل دينه وان كان إنما فعل هذا مستحلا له لكفره وهو قد تاب من ذلك الكفر فتكون التوبة منه توبة من فروعه وذلك لأن هذا الفرع ليس من لوازم الكفر بل هو محرم عليه في دينه لأجل الذمة كما ان تلك الدماء والأموال محرمة عليه لأجل الذمة

ومنشا الغلط في هذه المسالة اعتقاد ان الذمي يستبيح هذا السب فان هذا غلط إذ لا فرق بالنسبة إليه بين إظهار الطعن في دين المسلمين وبين سفك دمائهم واخذ أموالهم إذ الجميع إنما حرمه عليه العهد لا الدين المجرد فكيف لم يندرج اخذه لعرض بعض الامة أو لعرض واحد من غير أهل دينه من أهل الذمة في ضمن التوبة من كفره مع انه فرعه واندرج اخذه لعرض نبينا في ضمن التوبة من كفره

الجواب الثالث هب انه إنما يقتل للكفر والحراب فقوله الإسلام يسقط القتل الثابت للكفر والحراب بالاتفاق غلط وذلك ان إنما اتفقنا على أنه يسقط القتل الثابت للكفر والحراب الاصلي فان ذلك إذا أسلم لم يؤخذ بما أصاب في الجاهلية من دم أو مال أو عرض للمسلمين اما الحراب الطاريء فمن الذي وافق على أن القتل الثابت بجميع أنواعه يسقط بالإسلام نعم نوافق على ما إذا نقض العهد بما لا ضرر على المسلمين فيه ثم أسلم اما إذا أسلم ثم حارب وأفسد بقطع طريق أو زنى بمسلمة أو قتل مسلم أو طعن في الدين فهذا يقتل بكل حال كما دل عليه الكتاب والسنة وهو يقتل في مواضع بالإجماع كما إذا قتل في المحاربة وحيث لم يكن مجمعا عليه فهو كمحل النزاع والقران يدل على انه يقتل لأنه إنما استثنى من تاب قبل القدرة في الجملة فهذه المقدمة ممنوعة والتمييز بين أنواع الحراب يكشف اللبس

وأما ما ذكروه من أن الكافر أو المسلم إذا سب فيما بينه وبين الله وقذف الأنبياء ثم تاب قبل الله توبته ولم يطالبه النبي بموجب قذفه في الدنيا ولا في الآخرة وان الإسلام يجب قذف اليهود لمريم وابنها وقولهم في الأنبياء والرسل فهو كما قالوا ولا ينبغي ان يستراب في مثل هذا وقد صرح به بعض أصحابنا وغيرهم وقالوا إنما الخلاف في سقوط القتل عنه اما توبته وإسلامه فيما بينه وبين الله فمقبولة فان الله يقبل التوبة عن عباده من الذنوب كلها وعموم الحكم في توبة المسلم والذمي فاما توبة المسلم فقد تقدم القول فيها واما توبة الذي من ذلك فان كان ذلك السب ليس ناقضا للعهد بأن يقوله سرا فتوبته منه كتوبة الحربي من جميع ما يقوله ويفعله وتوبة الذمي من جميع ما يقر عليه من الكفر فان هذا لم يكن ممنوعا منه بعقد الذمة وليس كلامنا فيه وبه يخرج الجواب عما ذكروه فان السب الذي قامت الأدلة على مغفرته بالإسلام ليس هو السب الذي ينتقض به عهد الذمي إذا فعله وانما فرق في الذمي بين الجهر بالسب والأسرار به بخلاف المسلم لأن ما يسره من السب لا يمنعه منه ايمان ولا أمان الا ترى انه لو قذف واحدا من المسلمين سرا مستحلا لذلك ثم أسلم كما لو قذفه وهو حربي ثم أسلم ومعلوم ان الكافر الذي لاعهد معه يمنعه من شئ متى أسلم سقط عنه جميع الذنوب تبعا للكفر نعم لو أتى من السب بما يعتقده حراما في دينه ثم أسلم ففي سقوط حق المسبوب هنا نظر ونظيره ان يسب الأنبياء بما يعتقده محرما في دينه واما ان كان السب ناقضا للعهد فإظهاره له مستحلا له في الاصل وغير مستحل كقتله المسلم مستحلا أو غير مستحل فالتوبة هنا تسقط حق الله في الباطن واما إسقاطها لحق الآدمي ففيه نظر والذي يقتضيه القياس انه كتوبة المسلم ان كان قد بلغ المشتوم فلابد من استحلاله وان لم يبلغه ففيه خلاف مشهور وذلك لأنه حق ادمي يعتقده محرما عليه وقد أنتهكه فهو كما لو قتل المعاهد مسلما سرا ثم أسلم وتاب أو أخذ له مالا سرا ثم أسلم فان إسلامه لم يسقط عنه حق الآدمي الذي كان يعتقده محرما عليه بالعهد لا ظاهرا ولا باطنا وهذا معنى قول من قال من أصحابنا ان توبته فيما بينه وبين الله مقبولة فان الله يقبل التوبة من الذنوب كلها فان الله يقبل التوبة من حقوقه مطلقا واما حقوق العباد فإن التوبة لا تبطل حقوقهم بل اما ان يستوفيها صاحبها ممن ظلمه أو يعوضه الله عنها من فضله العظيم

وجماع هذا الأمر ان التوبة من كل شئ كان يستحله في كفره تسقط حقوق الله وحقوق العباد ظاهرا وباطنا لكن السب الذي نتكلم فيه هو السب الذي يظهره الذمي وليس هذا مما كان يستحله كما لم يكن يستحل دماءنا وأموالنا وان كان ذلك مما يستحله لولا العهد

وقد تقدم ذكر هذا وبينا ان العهد يحرم عليه في دينه كثيرا مما كان يعتقده حلالا لولا العهد ونظير هذا توبة المرتد من السب الذي يعتقد صحته واما ما لم يكن يستحله وهو إظهار السب ففيه حقان حق الله وحق للآدمي فتوبته تسقط فيما بينه وبين الله حقه لكن لا يلزم ان تسقط حق الآدمي في الباطن فهذا الكلام على قبول التوبة فيما بينه وبين الله

وحينئذ فالجواب من وجوه

أحدها ان الموضع الذي ثبت فيه قبول توبته فيما بينه وبين الله من حق الله وحق عباده ليس هو الموضع الذي ينتقض فيه عهده ويقتل وان تاب فان ادعى انه يسقط حق العباد في جميع الصور فهذا محل منع لما فيه من الخلاف فلابد من إقامة الدلالة على ذلك والأدلة المذكورة لم تتناول السب الظاهر الذي ينتقض به العهد

الوجه الثاني ان صحة التوبة فيما بينه وبين الله لا تسقط حقوق العباد من العقوبة المشروعة في الدنيا فان من تاب من قتل أو قذف أو قطع طريق أو غير ذلك فيما بينه وبين الله فان ذلك لا يسقط حقوق العباد من والقود وحد القذف وضمان المال وهذا السب فيه حق لآدمي فان كانت التوبة يغفر له بها ذنبه المتعلق بحق الله وحق عباده فان ذلك لا يوجب سقوط حقوق العباد من العقوبة

الوجه الثالث ان من يقول بقبول التوبة من ذلك في الباطن بكل حال يقول إن توبة العبد فيما بينه وبين الله ممكنه من جميع الذنوب حتى انه لو سب سرا احادا من الناس موتى ثم تاب واستغفر لهم بدل سبهم لرجي ان يغفر الله له ولايكلف الله نفسا الا وسعها فكذلك ساب الأنبياء والرسل لو لم تقبل توبته وتغفر زلته لأنسد باب التوبة وقطع طريق المغفرة والرحمة وقد قال تعالى لما نهى عن الغيبة " ايحب احدكم ان يكال لحم اخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله ان الله تواب رحيم " فعلم ان المغتاب له سبيل إلى التوبة بكل حال وان كان الذي اغتيب ميتا أو غائبا بل على اصح الروايتين ليس عليه ان يستحله في الدنيا إذا لم يكن علم فان فساد ذلك أكثر من صلاحه وفي الأثر كفارة الغيبة ان تستغفر لمن اغتبته وقد قال تعالى " ان الحسنات يذهبن السيئات " اما إذا كان الرسول حيا وقد بلغه السب فقد يقول هنا ان التوبة لاتصح حتى يستحل الرسول ويعفو الرسول عنه كما فعل أنس بن زنيم وأبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي امية وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وابن الزبعرى وإحدى القينتين وكعب بن زهير وغيرهم كما دلت عليه السيرة لمن تدبرها وقد قال كعب بن زهير

أنبئت أن رسول الله أوعدني ** والعفو عند رسول الله مأمول

وانما يطلب العفو في شئ يجوز فيه العفو والانتقام وانما يقال اوعده إذا كان حكم الايعاد باقيا بعد الإسلام والا فلو كان الايعاد معلقا ببقائه على الكفر لم يبق ابعاد

إذا تقرر هذا فصحة التوبة فيما بينه وبين الله وسقوط حق الرسول بما أبدله من الايمان به الموجب لحقوقه لا يمنع ان يقيم عليه حد الرسول إذا ثبت عند السلطان وان أظهر التوبة بعد ذلك كالتوبة من جميع الكبائر الموجبة للعقوبات المشروعة سواء كانت حقا لله أو حقا لآدمي فان توبة العبد فيما بينه وبين الله بحسب الامكان صحيحة مع انه إذا ظهر عليه اقيم عليه الحد وقد اسلفنا ان سب الرسول فيه حق لله وحق لآدمي وانه من كلا الوجهين يجب استيفاؤه إذا رفع إلى السلطان وان أظهر الجاني التوبة بعد الشهادة عليه

وأما ما ذكره من كون سب الرسول ليس بأعظم من سب الله وان ما فيه من الشرف فلأجله ففي الجواب عنه طريقان

أحدهما انه لا فرق بين التائبين فان ساب الله أيضا يقتل ولا تسقط التوبة القتل عنه اما لكونه دليلا على الزندقة في الايمان والأمان أو لكونه ليس مجرد ردة ونقض وانما هو من باب الاستخفاف بالله والاستهانة ومثل هذا لا يسقط القتل عنه إذا تاب بعد الشهادة عليه كما لا يسقط القتل عنه إذا أنتهك محارمه فان انتهاك حرمته أعظم من انتهاك محارمه وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر ذلك ومن قاله من أصحابنا وغيرهم ومن أجاب بهذا لم يورد عليه صحة إسلام النصراني ونحوه وقبول توبتهم لأنه لاخلاف في قبول التوبة فيما بينه وبين الله وفي قبول التوبة مطلقا إذا لم يظهروا السب وانما الخلاف فيما إذا أظهر النصراني ما هو سب وطعن ودعاؤهم إلى التوبة لا يمنع إقامة الحدود عليهم إذا كانوا معاهدين كقوله سبحانه وتعالى " ان الذي فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا " وكانت فتنتهم انهم القوهم في النار حتى كفروا ولو فعل هذا معاهد بمسلم فانه يقتل وان أسلم بالاتفاق وان كانت توبته فيما بينه وبين الله مقبولة

وأيضا فان مقالات الكفار التي يعتقدونها ليست من السب المذكور فانهم يعتقدون هذا تعظيما لله ودينا له وانما الكلام في السب الذي هو السب عند الساب وغيره من الناس وفرق بين من يتكلم في حقه بكلام يعتقده تعظيما له وبين من يتكلم بكلام يعلم انه استهزاء به واستخفاف به ولهذا فرق في القتل والزنى والسرقة والشرب والقذف ونحوهن بين المستحل لذلك المعذور وبين من يعلم التحريم

وكذلك قول النبي لا تسبوا الدهر فان الله هو الدهر وقوله فيما يروي عن ربه عز وجل يؤذيني ابن ادم يسب الدهر وانا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار فإن من سب الدهر من الخلق لم يقصد سب الله سبحانه وانما يقصد ان يسب من فعل به ذلك الفعل مضيفا له إلى الدهر فيقع السب على الله لأنه هو الفاعل في الحقيقة وسواء قلنا انه الدهر اسم من اسماء الله تعالى كما قال نعيم بن حماد أو قلنا إنه ليس باسم وانما قوله انا الدهر أي انا الذي افعل ما ينسبونه إلى الدهر ويوقعون السب عليه كما قاله أبو عبيدة والأكثرون ولهذا لا يكفر من سب الدهر ولا يقتل لكن يؤدب ويعزر لسوء منطقه والسب المذكور في قوله تعالى " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم " قد قيل إن المسلمين كانوا إذا سبوا الهة الكفار سب الكفار من يأمرهم بذلك والههم الذين يعبدونه معرضين عن كونه ربهم والههم فيقع سبهم على الله لأنه الهنا ومعبودنا فيكونوا سابين لموصوف وهو الله سبحانه ولهذا قال سبحانه " عدوا بغير علم " وهو شبيه بسب الدهر من بعض الوجوه وقيل كانوا يصرحون بسب الله عدوا وغلوا وفي الكفر قال قتادة كان المسلمون يسبون اصنام الكفار فيسب الكفار الله بغير علم فانزل الله " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم " وقال أيضا كان المسلمون يسبون اوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله تعالى ان يستسبوا لربهم قوما جهلة لا علم لهم بالله وذلك انه في اللجاجة ان يسب الجاهل من يعظمه مراغمة لعدوه إذا كان يعظمه أيضا كما قال بعض الحمقى

سبوا عليا كما سبوا عتيقكم ** كفرا بكفر وإيمانا بإيمانا

وكما يقول بعض الجهال مقابلة الفاسد بالفاسد وكما قد تحمل بعض جهال المسلمين الحمية على أن يسب عيسى إذا جاهره المحاربون بسب رسول الله وهذا من الموجبات للقتل

الطريقة الثانية طريقة من فرق بين سب الله وسب رسوله وذلك من وجوه

أحدها ان سب الله حق محض لله وذلك يسقط بالتوبة كالزنى والسرقة وشرب الخمر وسب النبي فيه حقان لله وللعبد فلا يسقط حق الآدمي بالتوبة كالقتل في المحاربة هذا فرق القاضي أبي يعلى في خلافه

الثاني ان النبي تلحقه المعرة بالسب لأنه مخلوق وهو من جنس الآدميين الذين تلحقهم المعرة والغضاضة بالسب والشتم وكذلك يثابون على سبهم ويعطيهم الله من حسنات الشاتم أو من عنده عوضا على ما أصابهم من المصيبة بالشتم فمن سبه فقد انتقص حرمته والخالق سبحانه لا تلحقه معرة ولا غضاضة بذلك فانه منزه عن لحوق المنافع والمضار كما قال سبحانه فيما يرويه عنه رسول الله يا عبادي انكم لم تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فنتفعوني وإذا كان سب النبي قد يؤثر انتقاصه في النفوس وتلحقه بذلك معرة وضيم وربما كان سببا للتنفير عنه وقلة هيبته وسقوط حرمته شرعت العقوبة على خصوص الفساد الحاصل بسبه فلا تسقط بالتوبه كالعقوبة على جميع الجرائم وأما ساب الله سبحانه فإنه يضر نفسه بمنزلة الكافر والمرتد فمتى تاب زال ضرر نفسه فلا يقتل

وهذا الفرق ذكره طوائف من المالكية والشافعية والحنابلة منهم القاضي عبد الوهاب بن نصر والقاضي أبو يعلي في المجرد وأبو علي بن البناء وابن عقيل وغيرهم وهو يتوجه مع قولنا ان سب النبي حد لله كالزنى والسرقة

يؤيد ذلك ان القذف بالكفر أعظم من القذف بالزنى ثم لم يشرع عليه حد مقدر كما شرع على الرمي بالزنى وذلك لأن المقذوف بالكفر لا يلحقه العار الذي يلحقه بالرمي بالزنى لأنه بما يظهر من الايمان يعلم كذب القاذف وبما يظهره من التوبة تزول عنه تلك المعرة بخلاف الزنى فانه يستسر به ولا يمكنه إظهار البراءة منه ولا تزول معرته في عرف الناس عند إظهار التوبة فكذلك ساب الرسول يلحق بالدين وأهله من المعرة ما لا يلحقهم إذا سب الله لكون المنافي لسب الله ظاهرا معلوما لكل أحد علما يشترك فيه كل الناس

الوجه الثالث ان النبي إنما يسب على وجه الاستخفاف به والاستهانة وللنفوس الكافرة والمنافقة إلى ذلك داع من جهة الحسد على ما اتاه الله من فضله ومن جهة المخالفة في دينه ومن جهة الانقهار تحت حكم دينه وشرعه ومن جهة المراغمة لامته وكل مفسدة يكون إليها داع فلابد من شرع العقوبة عليها حدا وكل ما شرعت العقوبة عليه لم يسقط بالتوبة كسائر الجرائم واما سب الله سبحانه فانه لا يقع في الغالب استخفافا واستهانة وانما يقع تدينا واعتقادا وليس للنفوس في الغالب داع إلى ايقاع السب الا عن اعتقاد يرونه تعظيما وتمجيدا وإذا كان كذلك لم يحتج خصوص السب إلى شرع زاجر بل هو نوع من الكفر فيقتل الانسان عليه لردته وكفره الا ان يتوب

وهذا الوجه من نمط الذي قبله والفرق بينهما ان ذلك بيان لأن مفسدة السب لا تزول بإظهار التوبة بخلاف مفسدة سب الله تعالى والثاني بيان لأن سب الرسول إليه داع طبعي فيشرع الزجر عليه لخصوصه كشرب الخمر وسب الله تعالى ليس إليه داع طبعي فلا يحتاج خصوصه إلى حد زاجر كشرب البول واكل الميتة والدم

والوجه الرابع ان سب النبي حد وجب لسب ادمي ميت لم يعلم انه عفا عنه وذلك لا يسقط بالتوبة بخلاف سب الله تعالى فانه قد علم انه قد عفا عمن سبه إذا تاب وذلك ان سب الرسول متردد في سقوطه حده بالتوبة بين سب الله وسب سائر الآدميين فيجب الحاقه باشبه الاصلين به ومعلوم ان سب الآدمي إنما لم تسقط عقوبته بالتوبة لأن حقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة لأنهم ينتفعون باستيفاء حقوقهم ولا ينتفعون بتوبة التائب فإذا تاب من للآدمي عليه حق قصاص أو قذف فان له ان ياخذه منه لينتفع به اشتفاء ودرك ثار وصيانة عرض وحق الله قد علم سقوط بالتوبة لأنه سبحانه إنما أوجب الحقوق لينتفع بها العباد فإذا رجعوا إلى ما ينفعهم حصل مقصود الايجاب وحينئذ فلا ريب ان حرمة الرسول الحقت بحرمة الله من جهة التغليظ لأن الطعن فيه طعن في دين الله وكتابه وكتابه وهو من الخلق الذين لا تسقط حقوقهم بالتوبة لأنهم ينتفعون باستيفاء الحقوق ممن هي عليه وقد ذكرنا ما دل على ذلك من أن رسول الله كان له ان يعاقب من اذاه وان جاءه تائبا وهو كما انه بلغ الرسالة لينتفع بها العباد فإذا تابوا ورجعوا إلى ما أمرهم به فقد حصل مقصوده فهو أيضا يتألم بأذاهم له فله ان يعاقب من اذاه تحصيلا لمصلحة نفسه كما له ان يأكل ويشرب فان تمكين البشر من استيفاء حقه ممن بغى عليه من جملة مصالح الانسان ولولا ذلك لماتت النفوس غما ثم إليه الخيرة في العفو والانتقام فقد تترجح عنده مصلحة الانتقام فيكون فاعلا لامر مباح وحظ جائز كما له ان يتزوج النساء وقد يترجح العفو والأنبياء عليهم السلام منهم من كان قد يترجح عنده احيانا الانتقام ويشدد الله قلوبهم فيه حتى تكون اشد من الصخر كنوح وموسى ومنهم من كان يترجح عنده العفو فيلين الله قلوبهم فيه حتى تكون الين من اللبن كابراهيم وعيسى فإذا تعذر عفوه عن حقه تعين استيفاؤه والا لزم إهدار حقه بالكلية

قولهم إذا سقط المتبوع بالإسلام فالتابع أولى

قلنا هو تابع من حيث تغلظت عقوبته لا من حيث ان له حقا في الاستيفاء لا ينجبر بالتوبة

قولهم ساب الواحد من الناس لا يختلف حاله بين ما قبل الإسلام وبعده بخلاف ساب الرسول

عنه جوابان

أحدهما المنع فان سب الذمي للمسلم جائز عنده لأنه يعتقد كفره وضلاله وانما يحرمه عنده العهد الذي بيننا وبينه فلا فرق بينهما وان فرض الكلام في سب خارج عن الدين مثل الرمي بالزنى والافتراء عليه ونحو ذلك فلا فرق في ذلك بين سب الرسول وسب الواحد من الامة ولا ريب ان الكافر إذا أسلم صار اخا للمسلمين يؤذيه ما يؤذيهم وصار معتقدا لحرمة اعراضهم وزال المبيح لانتهاك اعراضهم ومع ذلك لا يسقط حق المشتوم بإسلامه وقد تقدم هذا الوجه غير مرة

الثاني ان شاتم الواحد من الناس لو تاب وأظهر براءة المشتوم واثنى عليه ودعا له بعد رفعه إلى السلطان كان له ان يستوفي حده مع ذلك فلا فرق بينه وبين شاتم الرسول إذا أظهر اعتقاد رسالته وعلو منزلته وسبب ذلك أن إظهار مثل هذه التوبة لا يزيل ما لحق المشتوم من الغضاضة والمعرة بل قد يحمل ذلك على خوف العقوبة وتبقى اثار السب الأول جارحه فان لم يكن المشتوم من أخذ حقه بكل حال لم يندمل جرحه

قولهم القتل حق الرسالة واما البشرية فانما لها حقوق البشرية والتوبة تقطع حق الرسالة

قلنا لا نسلم ذلك بل هو من حيث هو بشر مفضل في بشريته على الآدميين تفضيلا يوجب قتل سابه ولو كان القتل إنما وجب لكونه قدحا في النبوة لكان مثل غيره من أنواع الكفر ولم يكن خصوص السب موجبا للقتل وقد قدمنا من الأدلة ما يدل على أن خصوص السب موجب للقتل وانه ليس بمنزلة سائر أنواع الكفر ومن سوى بين الساب للرسول وبين المعرض عن تصديقه فقط في العقوبة فقد خالف الكتاب والسنة الظاهره والإجماع الماضي وخالف المعقول وسوى بين الشيئين المتباينين وكون الالقاذف له لم يجب عليه مع القتل جلد ثمانين أو ضح دليل على أن القتل عقوبة لخصوص السب والا كان قد اجتمع حقان حق لله وهو تكذيب رسوله فيوجب القتل وحق لرسوله وهو سبه فيوجب الجلد على هذا الراي فكان ينبغي قبل التوبة على هذا ان يجتمع عليه الحدان كما لو ارتد وقذف مسلما أو نقض العهد وقذف مسلما وبعدالتوبة يستوفى منه حد القذف فكان إنما للنبي ان يعاقب من سبه وجاء تائبا بالجلد فقط كما انه ليس للامام ان يعاقب قاطع الطريق إذ جاء تائبا الا بالقود ونحوه مما هو خالص حق الآدمي ولو سلمنا ان القتل حق الرسالة فقط فهو ردة مغلظة بما فيه ضرر أو نقض مغلظ بما فيه ضرر كما لو اقترن بالنقض حراب وفسادا بالفعل من قطع طريق وزنى بمسلمة وغير ذلك فان القتل هنا حق لله ومع هذا لم يسقط بالتوبة والإسلام وهذا متحقق سواء قلنا ان ساب الله يقتل بعد التوبة أو لايقتل كما تقدم تقريره

قولهم إذا أسلم سقط القتل المتعلق بالرسالة

قلنا هذا ممنوع اما إذا سوينا بينه وبين سب الله فظاهر وان فرقنا فان هذا شبه من باب فعل المحارب لله ورسوله الساعي في الأرض فسادا والحاجة داعية إلى ردع أمثاله كما تقدم وان سلمنا سقوط الحق المتعلق بالكفر بالرسالة لكن لم يسقط الحق المتعلق بشتم الرسول وسبه فان هذه جناية زائدة على نفس الرسول مع التزام تركها فان الذمي ملتزم لنا ان لا يظهر السب وليس ملتزما لنا ان لا يكفر به فكيف يجعل ما التزم تركه من جنس ما قد قررناه عليه وجماع الأمر ان هذه الجناية على الرسالة نقض يتضمن حرابا وفسادا أو ردة تضمنت فسادا وحرابا وسقوط القتل عن مثل هذا ممنوع كما تقدم

قولهم حق البشرية انغمر في حق الرسالة وحق الآدمي انغمر في حق الله

قلنا هذه دعوة محضة ولو كان كذلك لما جاز للنبي العفو عمن سبه ولا جاز عقوبته بعد مجيئه تائبا ولا احتيج خصوص السب ان يفرد بذكر العقوبة لعلم كل أحد ان سب الرسول اغلظ من الكفر به فلما جاءت الأحاديث والآثار في خصوص سب الرسول بالقتل علم ان ذلك لخاصة في السب وان اندرج في عموم الكفر

وأيضا فحق العبد لا ينغمر في حق الله قط نعم العكس موجود كما تندرج عقوبة القاتل والقاذف على عصيانه لله في القود وحد القذف اما ان يندرج حق العبد في حق الله فباطل فان من جنى جناية واحدة تعلق بها حقان لله ولآدمي ثم سقط حق الله لم يسقط حق الآدمي سواء كان من جنس أو جنسين كما لو جنى جنايات متفرقة كمن قتل في قطع الطريق فإنه إذا سقط عنه تحتم القتل لم يسقط عنه القود ولو سرق سرقة ثم سقط عنه القطع لم يسقط عنه الغرم بإجماع المسلمين حتى عند من قال إن القطع والغرم لا يجتمعان نعم إذا جنى جناية واحدة فيها حقان لله ولآدمي فان كان موجب الحقين من جنس واحد تداخلا وان كانا من جنسين ففي التداخل خلاف معروف مثال الأول قتل المحارب فانه يوجب القتل حقا لله وللآدمي والقتل لا يتعدد فمتى قتل لم يبق للآدمي حق في تركته من الدية وان كان له ان ياخذ الدية إذا قتل عدة مقتولين فيقتل ببعضهم عند الشافعي وأحمد وغيرهما اما ان قلنا ان موجب العمد القود عينا فظاهر وان قلنا ان موجبه أحد شيئين فانما ذاك حيث يمكن العفو وهنا لا يمكن العفو فصار موجبه القود عينا وولي استيفائه الإمام لأن ولايته اعم ومثال الثاني أخذ المال سرقة واتلافه فانه موجب للقطع حدا لله وموجب للغرم حقا للآدمي ولهذا قال الكوفيون ان حد الآدمي يدخل في القطع فلا يجب وقال الأكثرون بل يغرم للآدمي ماله وان قطعت يده واما إذا جنى جنايات متفرقة لكل جناية حد فان كانت لله وهي من جنس واحد تداخلت بالاتفاق وان كانت من اجناس وفيها القتل تداخلت عند الجمهور ولم تتداخل عند الشافعي وان كانت للآدميين لم تتداخل عند اجمهور وعند مالك تتداخل في القتل الا حد القذف فهنا هذا الشاتم الساب لا ريب انه تعلق بشتمه حق الله وحق لآدمي ونحن نقول إن موجب كل منهما القتل ومن ينازعنا اما ان يقول اندرج حق الآدمي في حق الله أو موجبه الجلد فإذا قتل فلا كلام الا عند من يقول إن موجبه الجلد فانه يجب ان يخرج على الخلاف واما إذا سقط حق الله في بالتوبة فكيف يسقط حق العبد فانا لا نحفظ لهذا نظيرا بل النظائر تخالفه كما ذكرناه والسنة تدل على خلافه واثبات حكم بلا أصل ولا نظير غير جائز بل مخالفته للأصول دليل على بطلانه

وأيضا فهب ان هذا حد محض لله لكن لم يقال انه يسقط بالتوبة وقد قدمنا ان الردة ونقض العهد نوعان مجرد ومغلظ فما تغلظ منه بما يضر المسلمين يجب قتل صاحبه بكل حال وان تاب وبينا ان السب من هذا النوع

وأيضا فأقصى ما يقال إن يلحق هذا السب بسب الله وفيه من الخلاف ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى

وأما ما ذكر من الفرق بين سب المسلم وسب الكافر فهو وان كان له توجه كما للتسوية بينهما في السقوط توجه أيضا فانه معارض بما يدل على أن الكافر أولى بالقتل لكل حال من المسلم وذلك ان الكافر قد ثبت المبيح لدمه وهو الكفر وانما عصمه العهد وإظهاره السب لا ريب انه محاربة لله ورسوله وافساد في الأرض ونكاية في المسلمين فقد تحقق الفساد من جهته وإظهاره التوبة بعد القدرة عليه لا يوثق بها كتوبة غيره من المحاربين لله ورسوله السأعين في الأرض فسادا بخلاف من علم منه الإسلام وصدرت منه الكلمة من السب مع امكان انها لم تصدر عن اعتقاد بل خرجت سفها أو غلطا فإذا عاد إلى الإسلام مع انه لم يزل يتدين به لم يعلم منه خلافه كان أولى بقبول توبته لأن ذنبه اصغر وتوبته اقرب إلى الصحة

ثم انه يجاب عنه بان إظهار المسلم تجديد الإسلام بمنزلة إظهار الذمي الإسلام لأن الذمي كان يزعه عن إظهار سبه ما أظهره من عقد الأمان كما يزع المسلم ما أظهره من عقد الايمان فإذا كان المسلم الآن إنما يظهر عقد ايمان قد ظهر ما يدل على فساده فكذلك الذمي إنما يظهر عقد أمان قد ظهر ما يدل على فساده فانه من يتهم في أمانه يتهم في ايمانه ويكون منافقا في الايمان كما كان منافقا في الأمان بل ربما كان حال هذا الذي تاب بعد معاينة السيف اشد على المسلمين من حاله قبل التوبة فانه كان في ذلة الكفر والان فانه يشرك المسلمين في ظاهر العز مع ما ظهر من نفاقه وخبثه الذي لم يظهر ما يدل على زواله على أن في تعليل سبه بالزندقة نظرا فان السب أمر ظاهر أظهره ولم يظهر منه ما يدل على استبطانه اياه قبل ذلك ومن الجائز أن يكون قد حدث له ما أوجب الردة

نعم ان كان ممن تكررذلك منه أو له دلالات على سوء العقيدة فهنا الزندقة ظاهرة لكن يقال نحن نقتله لامرين لكونه زنديقا ولكونه سابا كما نقتل الذمي لكونه كافرا غير ذي عهد ولكونه سابا فان الفرق بين المسلم والذمي في الزندقة لا يمنع اجتماعهما في علة أخرى تقضي كون السب موجبا للقتل وان احدث الساب اعتقادا صحيحا بعد ذلك بل قد يقال إن السب إذا كان موجبا للقتل قتل صاحبه وان كان صحيح الاعتقاد في الباطن حال سبه كسبه لله تعالى وكالقذف في ايجابه للجلد وكسب جميع البشر

وأما الفرق الثاني الذي مبناه على أن السب يوجب قتل المسلم حدا لأن مفسدته لا تزول بسقوطه بتجديد الإسلام بخلاف سب الكافر فمضمونه انا نرخص لاهل الذمة في إظهار السب إذا أظهروا بعده الإسلام وناذن لهم ان يشتموا ويسبوا ثم بعد ذلك يسلمون وما هذا الا بمثابة ان يقال على الذمي بانه إذا زنى بمسلمة أو قطع الطريق أخذ فقتل الا ان يسلم يزعه عن هذه المفاسد الا أن يكون من يريد الإسلام وإذا أسلم فالإسلام يجب ما كان قبله ومعلوم ان هذا أن معنى الذمي يحتمل منه ما يقوله ويفعله من أنواع المحاربة والفساد إذا قصد ان يسلم بعده وأسلم ومعلوم ان هذا خير جائز فان الكلمة الواحدة من سب رسول الله لا تحتمل بإسلام الوف من الكفار ولا ن يظهر دين الله ظهورا يمنع أحدا ان ينطق فيه بطعن أحب إلى الله ورسوله من أن يدخل فيه اقوام وهو منتهك مستهان وكثير ممن يسب الأنبياء من أهل الذمة قد يكون زنديقا لا يبالي إلى أي دين أنتسب فلا يبالي ان ينال غرضه من السب ثم يظهر الإسلام كالمنافق سواء ثم هذا يوجب الطمع منهم في عرضه فانه ما دام العدو يرجو ان يستبقى ولو بوجه لم يزعه ذلك عن إظهار مقصوده في وقت ما ثم ان ثبت ذلك عليه ورفع إلى السلطان وامر بقتله أظهر الإسلام والافقد حصل غرضه وكل فساد قصد ازالته بالكلية لم يجعل لفاعله سبيل إلى استبقائه بعد الاخذ كالزنى والسرقة وقطع الطريق فان كان مقصود الشارع من تطهير الدار من ظهور كلمة الكفر والطعن في الدين ابلغ من مقصوده من تطهيرها من وجود هذه القبائح ابتغى أن يكون تحتم عقوبة من فعل ذلك ابلغ من تحتم عقوبة هؤلاء

وفقه هذا الجواب ان تعلم ان ظهور الطعن في الدين من سب الرسول ونحوه فسادا عريض وراء مجرد الكفر فلا يكون حصول الإسلام ما حيا لذلك الفساد

وأما الفرق الثالث قولهم ان الكافر لم يلتزم تحريم السب فباطل فانه لا فرق بين إظهاره لسب النبي وبين إظهاره لسب أحدا من المسلمين وبين سفك دمائهم واخذ أموالهم فانه لولا العهد لم يكن فرق عنده بيننا وبين سائر من يخالفه في دينه من المحاربي له ومعلوم انه يستحل ذلك كله منهم ثم انه بالعهد صار بذلك محرما عليه في دينه منا لأجل العهد فإذا فعل شيئا من ذلك اقيم عليه حده وان أسلم سواء انتقض عهده بما يفعله أو لم ينتقض فتارة يجب عليه الحد مع بقاء العهد كما لو سرق أو قذف مسلما وتارة ينتقض عهده ولا حد عليه فيصير بمنزلة المحاربين وتارة يجب عليه الحد وينتقض عهده كما إذا سب الرسول وزنى بمسلمة أو قطع الطريق على المسلمين فهنا يقتل وان أسلم وعقوبة هذا النوع من الجنايات القتل حتما كعقوبة القاتل في المحاربة من المسلمين جزاء له على ما فعل من الفساد الذي التزم بعقد الايمان ان لا يفعله مع كون مثل ذلك الفساد موجبا للقتل ونكالا لا مثاله عن فعل مثل هذا إذا علموا انه لا يترك صاحبه حتى يقتل

فهذا هو الجواب عما ذكر من الحجج للمخالف مع ان فيما تقدم من كلامنا ما يغني عن الجواب لمن تبينت له المآخذ والله سبحانه وتعالى اعلم

فصل[عدل]

في مواضيع التوبة

وذلك مبني على التوبة من سائر الجرائم فنقول

لا خلاف علمناه ان قاطع الطريق إذا تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ما كان حدا لله من تحتم القتل والصلب والنفي وقطع الرجل وكذلك قطع اليد عند عامة العلماء الا في وجه لأصحاب الشافعي وقد نص الله على ذلك بقوله " الا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم فاعلموا ان الله غفور رحيم " ومعنى القدرة عليهم امكان الحد عليهم لثبوته بالبينة أو الإقرار وكونهم في قبضة المسلمين فإذا تابوا قبل ان يؤخذوا سقط ذلك عنهم

وأما من لم يوجد منه الامجرد الردة وقد أظهرها فذلك أيضا تقبل توبته عند العامة الا ما يروى عن الحسن ومن قيل انه وافقه

وأما القاتل والقاذف فلا اعلم مخالفا ان توبتهم لا تسقط عنهم حق الآدمي بمعنى انه إذا طالب بالقود وحد القذف فله ذلك وان كانوا قد تابوا قبل ذلك

وأما الزاني والسارق والشارب فقد أطلق بعض أصحابنا انه إذا تاب قبل ان يقام عليه الحد فهل يسقط عنه الحد على روايتين

اصحهما ان يسقط عنه الحد بمجرد التوبة ولا يعتبر مع ذلك أصلاح العمل

والثانية لا يسقط ويكون من توبته تطهيره بالحد

وقيد بعضهم إذا تاب قبل ثبوت حده عند الإمام وليس بين الكلامين خلاف في المعنى فانه لا خلاف انه لا يسقط في الموضع الذي لا يسقط حد المحارب بتوبته وان اختلفت عباراتهم هل ذلك لعدم الحكم بصحة التوبة أو لافضاء سقوط الحد إلى المفسدة فقال القاضي أبو يعلى وغيره وهو ممن أطلق الروايتين التوبة غير محكوم بصحتها بعد قدرة الإمام عليه لجواز أن يكون إظهارها تقية من الإمام والخوف من عقوبته قال ولهذا نقول في توبة الزاني والسارق والشارب لا يحكم بصحتها بعد علم الإمام بحدهم وثبوته عنده وانما يحكم بصحتها قبل ذلك قال وقد ذكره أبو بكر في الشافعي فقال إذا تاب يعني الزاني بعد ان قدر عليه فمن توبته ان يطهر بالرجم أو الجلد وإذا تاب قبل ان يقدر عليه قبلت توبته فمأخذ القاضي ان نفس التوبة المحكوم بصحتها مسقطة للحد في كل موضع فلم يحتج إلى التقييد هو ومن سلك طريقته من أصحابه مثل الشريف أبي جعفر وابي الخطاب وماخذ أبي بكر وغيره الفرق بين ماقبل القدرة وبعدها في الجميع مع صحة التوبة بعد القدرة ويكون الحد من تمام التوبة فلهذا قيدوا ولا فرق في الحكم بين القولين والتقييد بذلك موجود في كلام الإمام أحمد نقل عنه أبو الحارث في سارق جاء تائبا ومعه السرقة فردها قبل ان يقدر عليه قال لم يقطع قال قال الشعبي ليس على تائب قطع وكذلك نقل حنبل ومهنا في السارق إذا جاء إلى الإمام تائبا يدرا عنه القطع

ونقل عنه الميموني في الرجل إذا اعترف بالزنى أربع مرات ثم تاب قبل ان يقام عليه الحد انه تقبل توبته ولا يقام عليه الحد وذكر قصة ماعز إذ وجد مس الحجر فهرب قال النبي فهلا تركتموه قال الميموني وناظرته في مجلس آخر قال إذا رجع عما اقر به لم يرجم قلت فان تاب قال من توبته ان يطهر بالرجم قال ودار بيني وبينه الكلام غير مرة انه إذا رجع لم يقم عليه وان تاب فمن توبته ان يطهر بالجلد

قال القاضي والمذهب الصحيح انه يسقط بالتوبة كما نقل أبو الحارث وحنبل ومهنا

فتلخص من هذا انه إذا أظهر التوبة بعد ان ثبت عليه الحد عند الإمام بالبينة لم يسقط عنه الحد واما إذا تاب قبل ان يقدر عليه بان يتوب قبل اخذه أو بعد إقراره الذي له ان يرجع عنه ففيه روايتان وقد صرح بذلك غير واحد من ائمة المذهب منهم الشيخ أبو عبد الله بن حامد قال فاما الزنى فانه لا خلاف انه فيما بينه وبين الله تصح توبته منه

فاما إذا تاب الزاني وقد رفع إلى الإمام فقول واحد لا يسقط الحد فاما ان تاب بحضرة الإمام فانه ينظر فان كان بإقرار منه ففيه روايتان وان كان ذلك ببينه فقول واحد لا يسقط لأنه إذا قامت البينة عليه بالزنى فقد وجب القضاء بالبينة والإقرار بخلاف البينة لأنه إذا رجع عن إقراره قبل منه

وقال في السرقة لا خلاف ان الحق الذي لله يسقط بالتوبة سواء تاب قبل القطع أو بعده وانما الخلاف فيمن تاب قبل إقامة الحد فان كان ذلك قبل ان يرفع إلى الإمام سقط الحد سواء رفع إلى الإمام أو لم يرفع واما إذا تاب بعد ان رفع إلى الإمام فلا يسقط الحد عنه لأنه حق يتعلق بالإمام فلا يجوز تركه

قال وكذلك المحارب إذا تاب من حق الله وقد قدمنا انا إذا قلنا يسقط الحد عن غير قطاع الطريق بالتوبة فانه يكفي مجرد التوبة وهذا هوالمشهور من المذهب كما يكفي ذلك في قطاع الطريق

وفيه وجه ثان انه لا بد من أصلاح العمل مع التوبة وعلى هذا فقد قيل يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح نيته وليست مقدرة بمدة معلومة لأن التوقيت يفتقر إلى توقيف ويتحرج ان يعتبر مضي سنة كما نص عليه الإمام أحمد في توبة الداعي إلى البدعة انه يعتبر فيه مضي سنة اتباعا لما أمر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قضية صبيغ بن عسل فانه تاب عنده ثم نفاه إلى البصرة وامر المسلمين بهجره فلما حال الحول ولم يظهر منه الا خير أمر المسلمين بكلامه وهذه قضية مشهورة بين الصحابة هذه طريقة أكثر أصحابنا

وظاهر طريقة أبي بكر انه يفرق بين التوبة قبل ان يقر بان يجيء تائبا وبين ان يقر ثم يتوب لأن أحمد رضي الله عنه إنما أسقط الحد عمن جاء تائبا فاما إذا اقر ثم تاب فقد رجع أحمد عن القول بسقوط الحد

وللشافعي أيضا في سقوط سائر الحدود غير حد المحارب بالتوبة قولان اصحهما انه يسقط لكن حد المحارب يسقط بإظهار التوبة قبل القدرة وحد غيره لا يسقط بالتوبة حتى يقترن بها الاصلاح في زمن يوثق بتوبته وقيل مدة ذلك سنة

وهكذا ذكر العراقيون من أصحابه وذكر بعض الخراسانيين ان في توبة المحارب وغيره بعد الظفر قولين إذا اقترن بها الاصلاح واستشكلوا ذلك فيما إذا انشأ التوبة حيث أخذ لإقامة الحد فانه لا يؤخر حتى يصلح العمل

ومذهب أبي حنيفة ومالك انه لا يسقط بالتوبة وذكر بعضهم ان ذلك إجماع وانما هو إجماع في التوبة بعد ثبوت الحد

فصل[عدل]

إذا تلخص ذلك فمن سب الرسول ورفع إلى السلطان وثبت ذلك عليه بالبينة ثم أظهر التوبة لم يسقط عنه الحد عند من يقول انه يقتل حدا سواء تاب قبل اداء البينة أو بعد اداء البينة لأن هذه توبة بعد اخذه والقدرة عليه فهو كما لو تاب قاطع الطريق والزاني والسارق في هذه الحال وكذلك لو تاب بعد ان أريد رفعه إلى السلطان والبينة بذلك ممكنة وهذا لا ريب فيه والذمي في ذلك كالملي إذا قيل انه يقتل حدا كما قررناه

وأما ان اقر بالسب ثم تاب أو جاء تائبا منه فذهب المالكية انه يقتل أيضا لأنه حد من الحدود والحدود لا تسقط عندهم بالتوبة قبل القدرة ولا بعدها ولهم في الزنديق إذا جاء تائبا قولان لكن قال القاضي عياض مسألة الساب أقوى لا يتصور فيها الخلاف لأنه حق يتعلق بالنبي ولأمته بسببه لا تسقطه التوبة كسائر حقوق الآدميين وكذلك يقول من يرى انه يقتله حدا كما يقرر الجمهور ويرى ان التوبة لا تسقط الحد بحال كأحد قولي الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد واما على المشهور في المذهبين من أن التوبة قبل القدرة تسقط الحد فقد ذكرنا إنما ذاك في حدود الله سبحانه وتعالى فأما حدود الآدميين من القود وحد القذف فلا تسقط بالتوبة فعلى هذا لا يسقط القتل عنه وان تاب قبل القدرة كما لا يسقط القتل قودا عن قاطع الطريق إذا تاب قبل القدرة لأنه حق ادمي ميت فأشبه القود وحد القذف وهذا قول القاضي أبي يعلى وغيره وهو مبني على أن قتله حق لآدمي وانه لم يعف عنه ولا يسقط الا بالعفو وهو قول من يفرق بين من سب الله ومن سب رسوله واما من سوى بين من سب الله ومن سب رسوله وقال إن الحدود تسقط بالتوبة قبل القدرة فانه يسقط القتل هنا لأنه حد من الحدود لله تعالى تاب صاحبه قبل القدرة عليه وهذا موجب قول من قال إن توبته تنفعه فيما بينه وبين الله ويسقط عنه حق الرسول في الآخرة وقد صرح بذلك غير واحد من أصحابنا وغيرهم لأن التوبة المسقطة لحق الله وحق العبد وجدت قبل اخذه لإقامة الحد عليه وذلك ان هذا الحد ليس له عاف عنه فإن لم تكن التوبة مسقطة له لزم أن يكون من الحدود ما لاتسقطه توبة قبل القدرة ولا عفو وليس لهذا نظير نعم لو كان الرسول حيا لتوجه ان يقال لا يسقط الحد الا بعفوه بكل حال

وأما ان أخذ وثبت السب بإقراره ثم تاب أو جاء فاقر بالسب غير مظهر للتوبة ثم تاب فذلك مبني على جواز رجوعه عن هذا الإقرار فإذا لم يقبل رجوعه اقيم عليه الحد بلا تردد وان قبل رجوعه وأسقط الحد عمن جاء تائبا ففي سقوطه عن هذا الوجهان المتقدمان وان اقيم الحد على من جاء تائبا فعلى هذا أولى والقول في الذمي إذا جاء مسلما معترفا أو أسلم بعد إقراره كذلك

فهذا ما يتعلق بالتوبة من السب ذكرنا ما حضرنا ذكره كما يسره الله سبحانه وتعالى

وقد حان ان نذكر المسألة الرابعة فنقول

المسألة الرابعة

في بيان السب المذكور والفرق بينه وبين مجرد الكفر

وقبل ذلك لا بد من تقديم مقدمة وقد كان يليق ان تذكر في أول المسألة الأولى وذكرها هنا مناسب أيضا لينكشف سر المسالة

وذلك ان نقول إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا وسواء كان الساب يعتقد ان ذلك محرم أو كان مستحلا له أو كان ذاهلا عن اعتقاده هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بان الايمان قول وعمل

وقد قال الإمام أبو يعقوب إسحاق بن ابراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه وهو أحد الائمة يعدل بالشافعي وأحمد قد اجمع المسلمون ان من سب الله أو سب رسوله أو دفع شيئا مما انزل الله أو قتل نبيا من أنبياء الله انه كافر بذلك وان كان مقرا بكل ما انزل الله

وكذلك قال محمد بن سحنون وهو أحد الائمة من أصحاب مالك وزمنه قريب من هذه الطبقة اجمع العلماء ان شاتم النبي المنتقص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله وحكمه عند الامة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر

وقد نص على مثل هذا غير واحد من الائمة قال أحمد في رواية عبد الله في رجل قال لرجل يا ابن كذا وكذا اعني أنت ومن خلقك هذا مرتد عن الإسلام يضرب عنقه وقال في رواية عبد الله وابي طالب من شتم النبي قتل وذلك انه إذا شتم فقد ارتد عن الإسلام ولا يشتم مسلم النبي فبين ان هذا مرتد وان المسلم لا يتصور ان يشتم وهو مسلم

وكذلك نقل عن الشافعي انه سئل عمن هزل بشئ من ايات الله تعالى انه قال هو كافر واستدل بقول الله تعالى " قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم "

وكذلك قال أصحابنا وغيرهم من سب الله كفر سواء كان مازحا أو جادا لهذه الآية وهذا هو الصواب المقطوع به

وقال القاضي أبو يعلى في المعتمد من سب الله أو سب رسوله فانه يكفر سواء استحل سبه أو لم يستحله فان قال لم استحل ذلك لم يقبل منه في ظاهر الحكم رواية واحدة وكان مرتدا لأن الظاهر خلاف ما أخبر لأنه لا غرض له في سب الله وسب رسوله الا لأنه غير معتقد لعبادته غير مصدق بما جاء به النبي ويفارق الشارب والقاتل والسارق إذا قال انا غير مستحل لذلك انه يصدق في الحكم لأن له غرضا في فعل هذه الأشياء مع اعتقاد تحريمها وهو ما يتعجل من اللذة قال وإذا حكمنا بكفره فإنما نحكم به في ظاهر الحكم فاما في الباطن فان كان صادقا فيما قال فهو مسلم كما قلنا في الزنديق لا تقبل توبته في ظاهر الحكم

وذكر القاضي عن الفقهاء ان ساب النبي ان كان مستحلا كفر وان لم يكن مستحلا فسق ولم يكفر كساب الصحابة وهذا نظير ما يحكى ان بعض الفقهاء من أهل العراق افتى هارون أمير المؤمنين فيمن سب النبي ان يجلده حتى انكر ذلك مالك ورد هذه الفتيا وهو نظير ما حكاه أبو محمد ابن حزم ان بعض الناس لم يكفر المستخف به

وقد ذكر القاضي عياض بعد ان رد هذه الحكاية عن بعض فقهاء العراق والخلاف الذي ذكره ابن حزم بما نقله من الإجماع عن غير واحد وحمل الحكاية على أن أولئك لم يكونوا ممن شهر بالعلم أو لم يكونوا ممن يوثق بفتواه لميل الهوى به أو ان الفتيا كانت في كلمة اختلف في كونها سبا أو كانت فيمن تاب ذكر أن الساب إذا اقر بالسب ولم يتب منه قتل كفرا لأن قوله اما صريح كفر كالتكذيب ونحوه أو هو من كلمات الاستهزاء أو الذم فاعترافه بها وترك توبته منها دليل على استحلاله لذلك وهو كفر أيضا قال فهذا كافر بلا خلاف

وقال في موضع آخر ان من قتله بلا استتابة فهو لم يره ردة وانما يوجب القتل فيه حدا وانما يقول ذلك مع إنكاره ما شهد عليه به أو إظهاره الاقلاع عنه والتوبة ونقتله حدا كالزنديق إذا تاب قال ونحن ان اثبتنا له حكم الكافر في القتل فلا نقطع عليه بذلك لإقراره بالتوحيد والنبوة وإنكاره ما شهد به عليه أو زعمه ان ذلك كان منه ذهولا ومعصية وانه مقلع عن ذلك نادما عليه قال واما من علم ان سبه معتقدا لاستحلاله فلا شك في كفره بذلك وكذلك ان كان سبه في نفسه كفرا كتكذيبه أو تكفيره ونحوه فهذا مالا اشكال فيه وكذلك من لم يظهر التوبة واعتراف بما شهد به وصمم عليه فهو كافر بقوله واستحلاله هتك حرمة الله اوحرمة نبيه وهذا أيضا تشبث منه بان السب يكفر به لأجل استحلاله له إذا لم يكن في نفسه تكذيبا صريحا

وهذا موضع لا بد من تحريره ويجب ان يعلم ان القول بان كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلة منكرة وهفوة عظيمة ويرحم الله القاضي أبا يعلي قد ذكر في غير موضع من كتبه ما يناقض ماقاله هنا وانما اوقع من وقع في هذه المهواة ما تلقوه من كلام طائفة من متاخري المتكلمين وهم الجهمية الاناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في ان الايمان هو مجرد التصديق الذي في القلب وان لم يقترن به قول اللسان ولم يقتض عملا في القلب ولا في الجوارح وصرح القاضي أبو يعلى بذلك هنا قال عقيب ان ذكر ما حكيناه عنه وعلى هذا لو قال الكافر ان معتقد بقلبي معرفة الله وتوحيده لكني لا اتي بالشهادتين كما لا اتي غيرها من العبادات كسلا لم يحكم بإسلامه في الظاهر ويحكم به باطنا قال وقول الإمام أحمد من قال إن المعرفة تنفع في القلب من غير ان يتلفظ بها فهو جهمي محمول على أحد وجهين أحدهما انه جهمي في ظاهر الحكم والثاني على انه يمتنع من الشهادتين عنادا لأنه احتج أحمد في ذلك بان ابليس عرف ربة بقلبه ولم يكن مؤمنا ومعلوم ان ابليس اعتقد انه لا يلزم امتثال أمره تعالى بالسجود لادم وقد ذكر القاضي في غير موضع انه لا يكون مؤمنا حتى يصدق بلسانه مع القدرة وبقلبه وان الايمان قول وعمل كما هو مذهب الائمة كلهم مالك وسفيان والاوزاعي والليث والشافعي وأحمد وإسحاق ومن قبلهم وبعدهم من اعيان الامة

وليس الغرض هنا استيفاء الكلام في هذا الاصل وانما الغرض التنيبه على ما يختص هذه المسألة وذلك من وجوه

أحدها ان الحكاية المذكورة عن الفقهاء انه ان كان مستحلا كفر والا فلا ليس لها أصل وانما نقلها القاضي من كتاب بعض المتكلمين الذين حكوها عن الفقهاء وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جاريا في أصولهم أو بما قد سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يعد قوله قولا وقد حكينا نصوص ائمة الفقهاء وحكاية إجماعهم ممن هو اعلم الناس بمذاهبهم فلا يظن ظان ان في المسألة خلافا يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد وانما ذلك غلط لا يستطيع أحد ان يحكي عن واحد من الفقهاء ائمة الفتوى هذا التفصيل البتة

الوجه الثاني ان الكفر إذا كان هو الاستحلال فإنما معناه اعتقاد ان السب حلال فإنه لما اعتقد ان ما حرمه الله تعالى حلال كفر ولا ريب ان من اعتقد في المحرمات المعلوم تحريمها انها حلال كفر لكن لا فرق في ذلك بين سب النبي وبين قذف المؤمنين والكذب عليهم والغيبة لهم إلى غير ذلك من الأقوال التي علم ان الله حرمها فانه من فعل شيئا من ذلك مستحلا كفر مع انه لا يجوز ان يقال من قذف مسلما أو اغتابه كفر ويعنى بذلك إذا استحله

الوجه الثالث ان اعتقاد حل السب كفر سواء اقترن به وجود السب أو لم يقترن فاذن لا اثر للسب في التكفير وجودا وعدما وانما المؤثر هو الاعتقاد وهو خلاف ما اجمع عليه العلماء

الوجه الرابع انه إذا كان المكفر هو اعتقاد الحل فليس في السب ما يدل على أن الساب مستحل فيجب ان لايكفر لا سيما إذا قال انا اعتقد ان هذا حرام وانما قلته غيظا وسفها أو عبثا أولعبا كما قال المنافقون " إنما كنا نخوض ونلعب " كما إذا قال إنما قذفت هذا أو كذبت عليه لعبا وعبثا فإن قيل لا يكونون كفارا فهو خلاف نص القران وإن قيل يكونون كفارا فهو تكفير بغير موجب إذا لم يجعل نفس السب مكفرا وقول القائل انا لا اصدقه في هذا لا يستقيم فان التكفير لا يكون بامر محتمل فإذا كان قد قال انا اعتقد ان ذلك ذنب ومعصية وانا افعله فكيف يكفر ان لم يكن ذلك كفرا ولهذا قال سبحانه وتعالى " لاتعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم " ولم يقل قد كذبتم في قولكم إنما كنا نخوض ونلعب فلم يكذبهم في هذا العذر كما كذبهم في سائر ما أظهروه من العذر الذي يوجب براءتهم من الكفر كما لو كانوا صادقين بل بين انهم كفروا بعد ايمانهم بهذا الخوض واللعب

وإذا تبين ان مذهب سلف الامة ومن اتبعهم من الخلف ان هذه المقالة في نفسها كفر استحلها صاحبها أو لم يستحلها فالدليل على ذلك جميع ما قدمناه في المسألة الأولى من الدليل على كفر الساب مثل قوله تعالى " ومنهم الذين يؤذون النبي " وقوله تعالى " ان الذين يؤذون الله ورسوله " وقوله تعالى " لاتعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم " وما ذكرناه من الأحاديث والآثار فانها أدلة بينة في ان نفس اذى الله ورسوله كفر مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجودا وعدما فلا حاجة إلى ان نعيد الكلام هنا بل في الحقيقة كل ما دل على أن الساب كافر وانه حلال الدم لكفره فقد دل على هذه المسألة إذا لو كان الكفر المبيح هو اعتقاد ان السب حلال لم يجز تكفيره وقتله حتى يظهر هذا الاعتقاد ظهورا تثبت بمثله الاعتقادات المبيحة للدماء

ومنشأ هذه الشهبة التي أوجبت هذا الوهم من المتكلمين أو من حذا حذوهم من الفقهاء انهم رأوا ان الايمان هو تصديق الرسول فيما أخبر به وراوا ان اعتقاد صدقة لا ينافي السب والشتم بالذات كما ان اعتقاد ايجاب طاعته لا ينافي معصيته فان الانسان قد يهين من يعتقد وجوب اكرامه كما يترك ما يعتقد وجوب فعله ويفعل ما يعتقد وجوب تركه ثم رأوا ان الامة قد كفرت الساب فقالوا إنما كفر لأن سبه دليل على انه لم يعتقد انه حرام واعتقاد حله تكذيب للرسول فكفر بهذا التكذيب لا بتلك الاهانة وانما الاهانة دليل على التكذيب فإذا فرض انه في نفس الأمر ليس بمكذب كان في نفس الأمر مؤمنا وان كان حكم الظاهر إنما يجري عليه بما أظهره فهذا ماخذ المرجئة ومعتضديهم وهو الذين يقولون الايمان هو الاعتقاد والقول وغلاتهم وهم الكرامية الذين يقولون هو مجرد القول وان عري عن الاعتقاد واما الجهمية الذين يقولون هو مجرد المعرفة والتصديق بالقلب فقط وان لم يتكلم بلسانه فلهم مأخذ آخر وهو نه قد يقول بلسانه ما ليس في قلبه فإذا كان في قلبه التعظيم والتوقير للرسول لم يقدح إظهار خلاف ذلك بلسانه في الباطن كما لا ينفع المنافق إظهار خلاف ما في قلبه في الباطن

وجواب الشبهة الأولى من وجوه

أحدها ان الايمان وان كان أصله تصديق القلب فذلك التصديق لا بد ان يوجب حالا في القلب وعملا له وهو تعظيم الرسول واجلاله ومحبته وذلك أمر لازم كالتألم والتنعم عند الاحسساس بالمؤلم والمنعم وكالنفرة والشهوة عند الشعور بالملائم والمنافي فإذا لم تحصل هذه الحال والعمل في القلب لم ينفع ذلك التصديق ولم يغن شيئا وانما يمنع حصوله إذا عارضه معارض من حسد الرسول أو التكبر عليه أو الاهمال له واعراض القلب عنه ونحو ذلك كما ان ادراك الملائم والمنافي يوجب اللذة والألم الا ان يعارضه معارض ومتى حصل المعارض كان وجود ذلك التصديق كعدمه كما يكون وجود ذلك كعدمه بل يكون ذلك المعارض موجبا لعدم المعلول الذي هو حال في القلب وبتوسط عدمه يزول التصديق الذي هو العلة فينقلع الايمان بالكلية من القلب وهذا هو الموجب لكفر من حسد الأنبياء أو تكبر عليهم أو كره فراق الالف والعادة مع علمه بانهم صادقون وكفرهم اغلظ من كفر الجهال

الثاني ان الايمان وان كان يتضمن التصديق فليس هو مجرد التصديق وانا هو الإقرار والطمأنية وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط فاما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر وكلام الله خبر وامر فالخبر يستوجب تصديق المخبر والأمر يستوجب الانقياد له والاستسلام وهو عمل في القلب جماعه الخضوع والانقياد للامر وان لم يفعل المأمور به فإذا قوبل الخبر بالتصديق والأمر بالانقياد فقد حصل أصل الايمان في القلب وهو الطمأنية والإقرار فان اشتقاقه من الامن الذي هو القرار والطمأنية وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والأنقياد وإذا كان كذلك فالسب اهانة واستخفاف والانقياد للأمر اكرام واعزاز ومحال ان يهين القلب من قد انقاد له وخضع واستسلم أو يستخف به فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة امتنع أن يكون فيه انقياد أو استسلام فلا يكون فيه ايمان وهذا هو بعينه كفر ابليس فانه سمع أمر الله له فلم يكذب رسولا ولكن لم ينقد للامر ولم يخضع له واستكبر عن الطاعة فصار كافرا وهذا موضع زاغ فيه خلق من الخلف تخيل لهم ان الايمان ليس في الاصل الا التصديق ثم يرون مثل ابليس وفرعون ممن لم يصدر عنه تكذيب أو صدر عنه تكذيب باللسان لا بالقلب وكفره من اغلظ الكفر فيتحيرون ولم انهم هدوا لما هدي إليه السلف الصالح لعلموا ان الايمان قول وعمل اعني في الاصل قولا في القلب وعملا في القلب فان الايمان بحسب كلام الله ورسالته وكلام الله ورسالته يتضمن اخباره واوامره فيصدق القلب اخباره تصديقا يوجب حالا في القلب بحسب المصدق به والتصديق هو من نوع العلم والقول وينقاد لامره ويستسلم وهذا الانقياد والاستسلام هو نوع من الإرادة والعمل ولا يكون مؤمنا الا بمجموع الأمرين فمتى ترك الانقياد كان مستكبرا فصار من الكافرين وإذا كان مصدقا فالكفر اعم من التكذيب يكون تكذيبا وجهلا ويكون استكبارا وظلما ولهذا لم يوصف ابليس الا بالكفر والاستكبار دون التكذيب ولهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود ونحوهم من جنس كفر ابليس وكان كفر من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالا وهو الجهل الا ترى ان نفرا من اليهود جاؤوا إلى النبي وسالوه عن أشياء فأخبرهم فقالوا نشهد انك نبي ولم يتعبوه وكذلك هرقل وغيره فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق الا ترى ان من صدق الرسول بان ما جاء به هو رسالة الله وقد تضمنت خبرا وامرا فانه يحتاج إلى مقام ثان وهو تصديقه خبر الله وانقياد لامر الله فإذا قال أشهد أن لا إله إلا الله فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لامره فإذا قال وأشهد أن محمدا رسول الله تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار فلما كان التصديق لا بد منه في كلا الشهادتين وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول ظن من ظن انه أصل لجميع الايمان وغفل عن ان الاصل الآخر لا بد منه وهو الانقياد والا فقد يصدق الرسول ظاهرا وباطنا ثم يمتنع من الانقياد للامر إذ غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه وتعالى كإبليس وهذا مما يبين لك ان الاستهزاء بالله ورسوله ينافي الانقياد له والطاعة منافاة ذاتية وينافي التصديق بطريق الاستلزام لأنه ينافي موجب التصديق ومقتضاه ويمنعه عن حصول ثمرته ومقصوده لكن الايمان بالرسول إنما يعود أصله إلى التصديق فقط لأنه مبلغ لخبر الله وامره لكن يستلزم الانقياد له لأنه قد بلغ عن الله انه أمر بطاعته فصار الانقياد له من تصديقه في خبره فمن لم ينقد لامره فهو اما مكذب له أو ممتنع عن الانقياد لربه وكلاهما كفرا صريح ومن استخف به واستهزأ بقلبه امتنع أن يكون منقادا لامره فان الانقياد اجلال واكرام والاستخفاف اهانة واذلال وهذان ضدان فمتى حصل في القلب أحدهما أنتفى الآخر فعلم ان الاستخفاف والاستهانة ينافي الايمان منافاة الضد للضد

الوجه الثالث ان العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد ان الله حرمه عليه واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه فهذا ليس بكافر فاما ان اعتقد ان الله لم يحرمه أو انه حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم وابى ان يذعن لله وينقاد فهو اما جاحدا أو معاند ولهذا قالوا من عصى مستكبرا كإبليس كفر بالاتفاق ومن عصى مشتهيا لم يكفر عند أهل السنة والجماعة وانما يكفره الخوارج فان العاصي المستكبر وان كان مصدقا بأن الله ربه فان معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق

وبيان هذا ان من فعل المحارم مستحلا لها فهو كافر بالاتفاق فانه ما امن بالقران من استحل محارمه وكذلك لو استحلها بغير فعل والاستحلال اعتقاد انها حلال له وذلك يكون تارة باعتقاد ان الله أحلها وتارة باعتقاد ان الله لم يحرمها وتارة بعدم اعتقاد ان الله حرمها وهذا يكون لخلل في الايمان بالربوبية أو لخلل في الايمان بالرسالة ويكون جحدا محضا غير مبني على مقدمة وتارة يعلم ان الله حرمها ويعلم ان الرسول إنما حرم ما حرمه الله ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم ويعاند المحرم فهذا اشد كفرا ممن قبله وقد يكون هذا مع علمه بان من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه ثم ان هذا الامتناع والاباء اما لخلل في اعتقاد حكمة الأمر وقدرته فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمردا أو اتباعا لغرض النفس وحقيقته كفر هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه ويقول انا لااقر بذلك ولا التزمه وابغض هذا الحق وانفر عنه فهذا نوع غير النوع الأول وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام والقران مملوء من تكفير مثل هذا النوع بل عقوبته اشد وفي مثله قيل اشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه وهو ابليس ومن سلك سبيله وبهذا يظهر الفرق بين العاصي فانه يعتقد وجوب ذلك الفعل عليه ويحب ان لا يفعله لكن الشهوة والنفرة منعته من الموافقة فقد أتى من الايمان بالتصديق والخضوع والانقياد وذلك قول وعمل لكن لم يكمل العمل

وأما اهانة الرجل من يعتقد وجوب كرامته كالوالدين ونحوهما فلانه لم يهن ما كان الانقياد له والاكرام شرطا في ايمانه وانما اهان من اكرامه شرط في بره وطاعته وتقواه وجانب الله والرسول إنما كفر فيه لأنه لا يكون مؤمنا حتى يصدق تصديقا يقتضي الخضوع والانقياد فحيث لم يقتضه لم يكن ذلك التصديق ايمانا بل كان وجوده شرا من عدمه فان من خلق له حياة وادراك ولم يرزق الا العذاب كان فقد تلك الحياة والادراك أحب إليه من حياة ليس فيها الا الالم وإذا كان التصديق ثمرته صلاح حاله وحصول النعيم له واللذة في الدنيا والآخرة فلم يحصل معه الا فساد حاله والبؤس والالم في الدنيا والآخرة كان ان لا يوجد أحب إليه من أن يوجد

وهنا كلام طويل في تفصيل هذه الأمور ومن حكم الكعاب والسنة على نفسه قولا وفعلا ونور الله قلبه تبين له ضلال كثير من الناس ممن يتكلم برأيه في سعادة النفوس بعد الموت وشقاوتها جريا على منهاج الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله ونبذا لكتاب الله وراء ظهورهم واتباعا لما تتلوه الشياطين

وأما الشبهة الثانية فجوابها من ثلاثة اوجه

أحدها ان موجب هذا ان من تكلم بالتكذيب والجحد وسائر أنواع الكفر من غير اكراه على ذلك فانه يجوز أن يكون مع ذلك في نفس الأمر مؤمنا ومن جوز هذا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه

الثاني ان الذي عليه الجماعة ان من لم يتكلم بالايمان بلسانه من غير عذر لم ينفعه ما في قلبه من المعرفة وان القول من القادر عليه شرط في صحة الايمان حتى اختلفوا في تكفير من قال إن المعرفة تنفع من غير عمل الجوارح وليس هذا موضع تقرير هذا

وما ذكره القاضي رحمه الله من التأويل لكلام الإمام أحمد فقد ذكر هو وغيره خلاف ذلك في غير موضع وكذلك ما دل عليه كلام القاضي عياض فان مالكا وسائر الفقهاء من التابعين ومن بعدهم الا من نسب إلى بدعة قالوا الايمان قول وعمل وبسط هذا له مكان غير هذا

الثالث ان من قال إن الايمان مجرد معرفة القلب من غير احتياج إلى المنطق باللسان يقول لا يفتقر الايمام في نفس الأمر إلى القول الذي يوافقه باللسان لكن لا يقول إن القول الذي ينافي الايمان لايبطله فان القول قولان قول يوافق تلك المعرفة وقول يخالفها فهب ان القول الموافق لا يشترط لكن القول المخالف ينافيها فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامدا لها عالما بانها كلمة كفر فانه يكفر بذلك ظاهرا وباطنا ولا يجوز ان يقال انه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا ومن قال ذلك ذلك فقد مرق من الإسلام قال الله سبحانه " من كفر بالله من بعد ايمانه الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم "

ومعلوم انه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط لأن ذلك لا يكره الرجل عليه وهو قد استثنى من اكره ولم يرد من قال واعتقد لأنه استثنى المكره وهو لا يكره على العقد والقول وانما يكره على القول فقط فعلم انه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم وانه كافر بذلك الا من اكره وهو مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا من المكرهين فانه كافر أيضا فصار كل من تكلم بالكفر كافرا الا من اكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالايمان وقال تعالى في حق المستهزئين " لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم " فبين انهم كفار بالقول مع انهم لم يعتقدوا صحته وهذا باب واسع والفقه فيه ما تقدم من أن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم وإرادة فعل فيه استهانة واستخفاف كما انه يوجب المحبة والتعظيم واقتضاؤه وجود هذا وعدم هذا أمر جرت به سنة الله في مخلوقاته كاقتضاء ادراك الموافق للذة وادراك المخالف للألم فإذا عدم المعلول كان مستلزما لعدم العلة وإذا وجد الضد كان مستلزما لعدم الضد الآخر فالكلام والفعل المتضمن للاستخفاف والاستهانة مستلزم لعدم التصديق النافع ولعدم الانقياد والاستسلام فلذلك كان كفرا

واعلم ان الايمان وإن قيل هو التصديق فالقلب يصدق بالحق والقول يصدق ما في القلب والعمل يصدق القول والتكذيب بالقول مستلزم للتكذيب بالقلب ورافع للتصديق الذي كان في القلب إذ اعمال الجوارح تؤثر في القلب كما ان اعمال القلب تؤثر في الجوارح فأيهما قام به كفر تعدى حكمه إلى الآخر والكلام في هذا واسع وانما نبهنا على هذه المقدمة

فصل[عدل]

ثم نعود إلى مقصود المسالة فنقول

قد ثبت ان كل سب وشتم يبيح الدم فهو كفر وان لم يكن كل كفر سبا ونحن نذكر عبارات العلماء في هذه المسألة

قال الإمام أحمد كل من شتم النبي أو تنقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل وارى ان يقتل ولا يستتاب

وقال في موضع آخر كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تبارك وتعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا وهذا مذهب أهل المدينة

وقال أصحابنا التعرض بسب الله وسب رسول الله ردة وهو موجب للقتل كالتصريح ولا يختلف أصحابنا ان قذف أم رسول الله من جملة سبه الموجب للقتل واغلظ لأن ذلك يفضي إلى القدح في نسبه وفي عبارة بعضهم اطلاق القول بان من سب أم النبي يقتل مسلما كان أو كافرا وينبغي أن يكون مرادهم بالسب هنا القذف كما صرح به الجمهور لما فيه من سب النبي

وقال القاضي عياض جميع من سب النبي أو عابه أو الحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به أو شبهه بشئ على طريق السب له والازراء عليه أو البغض منه والعيب له فهو ساب له والحكم فيه حكم الساب يقتل ولا نستثن فصلا من فصول هذا الباب عن هذا المقصد ولا نمتر فيه تصريحا كان أو تلويحا وكذلك من لعنه أو تمنى مضرة له أو دعا عليه أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم أو عيبه في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزور أو عيره بشئ مما يجري من البلاء والمحنة عليه أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه قال هذا كله إجماع من العلماء وائمة الفتوى من لدن أصحابه وهلم جرا

وقال ابن القاسم عن مالك من سب النبي قتل ولم يستتب قال ابن القاسم أو شتمه أو عابه أو تنقصه فانه يقتل كالزنديق وقد فرض الله توقيره وبره

وكذلك قال مالك في رواية المدنيين عنه من سب رسول الله أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل مسلما كان أو كافرا ولا يستتاب

وروى ابن وهب عن مالك من قال إن رداء النبي ويروى زره وسخ وأراد به عيبه قتل

وذكر بعض المالكية إجماع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل أو بشيء من المكروه انه يقتل بلا استتابة

وذكر القاضي عياض أجوبة جماعة من فقهاء المالكية المشاهير بالقتل بلا استتابة في قضايا متعددة افتى في كل قضية بعضهم

منها رجل سمع قوما يتذاكرون صفة النبي إذ مر بهم رجل قبيح الوجه واللحية فقال تريدون تعرفون صفته هي صفة هذا المار في خلقه ولحيته

ومنها رجل قال النبي كان اسود

ومنها رجل قيل له لا وحق رسول الله فقال فعل الله برسول الله كذا قيل له ما تقول يا عدو الله فقال أشد من كلامه الأول ثم قال إنما اردت برسول الله العقرب قالوا لأن ادعاءه للتأويل في لفظ صراح لا يقبل لأنه امتهان وهو غير معزر لرسول الله ولا موقر له فوجبت اباحة دمه

ومنها عشار قال اد واشك إلى النبي وقال إن سألت أو جهلت فقد سأل النبي وجهل

ومنها متفقه كان يستخف بالنبي ويسميه في اثناء مناظرته اليتيم وختن حيدره ويزعم ان زهده لم يكن قصدا ولو قدر على الطيبات لأكلها واشباه هذا

قال عياض فهذا الباب كله مما عده العلماء سبا وتنقصا يجب قتل قائله لم يختلف في ذلك متقدمهم ومتاخرهم وان اختلفوا في حكم قتله

وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه فيمن تنقصه أو برئ منه أو كذبه انه مرتد وكذلك قال أصحاب الشافعي كل من تعرض لرسول الله بما فيه استهانة فهو كالسب الصريح فان الاستهانة بالنبي كفر وهل يتحتم فيه قتله أو يسقط بالتوبة على الوجهين وقد نص الشافعي على هذا المعنى

فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقص به كفر مبيح للدم وهم في استتابته على ما تقدم من الخلاف ولا فرق في ذلك بين ان يقصد عيبه والازراء به أو لا يقصد عيبه لكن المقصود شيء آخر حصل السب تبعا له أو لا يقصد شيئا من ذلك بل يهزل ويمزح أو يفعل غير ذلك

فهذا كله يشترك في هذا الحكم إذا كان القول نفسه سبا فان الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها في النار ابعد مما بين المشرق والمغرب ومن قال ما هو سب وتنقص له فقد اذى الله ورسوله وهو ماخوذ بما يؤذي به الناس من القول الذي هو في نفسه اذى وان لم يقصد اذاهم ألم تسمع إلى الذين قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب فقال الله تعالى " أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم "

وهذا مثل من يغضب فيذكر له حديث عن النبي أو حكم من حكمه أو يدعى لما سنه فيلعن ويقبح ونحو ذلك وقد قال تعالى " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " فأقسم سبحانه بنفسه انهم لايؤمنون حتى يحكموه ثم لايجدون في نفوسهم حرجا من حكمه فمن شاجر غيره في أمره وحرج لذكر رسول الله حتى افحش في منطقة فهو كافر بنص التنزيل ولا يعذر بان مقصوده رد الخصم فان الرجل لايؤمن حتى يكون الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما وحتى يكون الرسول أحب إليه من ولده ووالده والناس اجمعين

ومن هذا الباب قول القائل ان هذه لقسمة مااريد بها وجه الله وقول الآخر اعدل فانك لم تعدل وقول ذلك الانصاري ان كان ابن عمتك فان هذا كفر محض حيث زعم ان النبي إنما حكم للزبير لأنه ابن عمته ولذلك انزل الله تعالى هذه الآية واقسم انهم لايؤمنون حتى لا يجدوا في أنفسهم حرجا من حكمه وانما عفا عنه النبي كما عفا عن الذي قال إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله وعن الذي قال اعدل فانك لم تعدل وقد ذكرنا عن عمر رضي الله عنه انه قتل رجلا لم يرض بحكم النبي فنزل القرن بموافقته فكيف بمن طعن في حكمه وقد ذكر طائفة من الفقهاء منهم ابن عقيل وبعض أصحاب الشافعي ان هذا كان عقوبته التعزير ثم منهم من قال لم يعزره النبي لأن التعزير غير واجب ومنهم من قال عفا عنه لأن الحق له ومنهم من قال عاقبه بان أمر الزبير ان يسقي ثم يحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر وهذه كلها أقوال ردية لا يستريب من تأمل في ان هذا كان يستحق القتل بعد نص القران ان من هو بمثل حاله ليس بمؤمن

فإن قيل ففي رواية صحيحة انه كان من أهل بدر وفي الصحيحين عن علي عن النبي انه قال وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ولو كان هذا القول كفرا للزم ان يغفر الكفر والكفر لايغفر ولا يقال عن بدري انه كفر

فقيل هذه الزيادة ذكرها أبو اليمان عن شعيب ولم يذكرها أكثر الرواة فيمكن انهم وهم كما وقع في حديث كعب وهلال بن امية انهما من أهل بدر ولا يختلف أهل المغازي والسير انهما لم يشهدا بدرا وكذلك لم يذكره ابن إسحاق في روايته عن الزهري لكن الظاهر صحتها

فنقول ليس في الحديث ان هذه القصة كانت بعد بدر فلعلها كانت قبل بدر وسمي الرجل بدريا لأن عبد الله بن الزبير حدث بالقصة بعد ان صار الرجل بدريا فعن عبد الله بن الزبير عن ابيه ان رجلا من الانصار خاصم الزبير عند رسول الله في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الانصاري سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند رسول الله فقال رسول الله للزبير اسق يازبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الانصاري ثم قال يا رسول الله ان كان ابن عمتك فتلون وجه النبي ثم قال للزبير اسق يا زبير ثم أحبس الماء حتى يرجع اللى الجدر فقال الزبير والله لأني احسب هذه الآية نزلت في ذلك " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " متفق عليه وفي رواية للبخاري من حديث عروة قال فاستوعى رسول الله حينئذ للزبير حقه وكان رسول الله قبل ذلك قد أشار على الزبير براي أراد فيه سعة له وللانصاري فلما احفظ الانصاري رسول الله استوعى رسول الله للزبير حقه في صريح الحكم وهذا يقوي ان القصة متقدمة قبل بدر لأن النبي قضى في سيل مهزور ان الأعلى يسقى ثم يحبس حتى يبلغ الماء إلى الكعبين فلو كانت قصة الزبير بعد هذا القضاء لكان قد علم وجه الحكم فيه وهذا القضاء الظاهر انه متقدم من حين قدم النبي لأن الحاجة إلى الحكم فيه من حين قدم ولعل قصة الزبير أوجبت هذا القضاء

وأيضا فان هؤلاء الآيات قد ذكر غير واحد ان أولها نزل لما أراد بعض المنافقين ان يحاكم يهوديا إلى ابن الأشرف وهذا إنما كان قبل بدر لأن ابن الأشرف ذهب عقب بدر إلى مكة فلما رجع قتل فلم يستقر بعد بدر بالمدينة استقرار يتحاكم إليه وان كانت القصة بعد بدر فان القائل لهذه الكلمة يكون قد تاب واستغفر وقد عفا له النبي عن حقه فغفر له والمضمون لأهل بدر إنما هو المغفرة اما بان يستغفروا ان كان الذنب مما لا يغفر الا بالاستغفار أو لم يكن كذلك واما بدون ان يستغفروا الا ترى ان قدامة بن مظعون وكان بدريا تأول في خلافة عمر ما تأول في استحلال الخمر من قوله تعالى " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا "

حتى اجمع رأي عمر وأهل الشورى ان يستتاب هو أصحابه فان اقروا بالتحريم جلدوا وان لم يقروا به كفروا ثم انه تاب وكاد يبلس لعظم ذنبه في نفسه حتى أرسل إليه عمر رضي الله عنه بأول سورة غافر فعلم ان المضمون للبدريين ان خاتمتهم حسنة وانهم يغفر لهم وان جاز ان يصدر عنهم قبل ذلك ما عسى ان يصدر فان التوبة تجب ما قبلها

وإذا ثبت ان كل سب تصريحا أو تعريضا موجب للقتل فالذي يجب ان يعتني به الفرق بين السب الذي لا تقبل منه التوبة والكفرالذي تقبل منه التوبة فنقول

هذا الحكم قد نيط في الكتاب والسنة باسم اذى الله ورسوله وفي بعض الأحاديث ذكر الشتم والسب وكذلك جاء في الفاظ الصحابة والفقهاء ذكر السب والشتم والاسم إذا لم يكن له حد في اللغة كاسم الأرض والسماء والبر والبحر والشمس والقمر ولا في الشرع كاسم الصلاة والزكاة والحج والايمان والكفر فانه يرجع في حده إلى العرف كالقبض والحرز والبيع والرهن والكرى ونحوها فيجب ان يرجع في حد الأذى والشتم والسب إلى العرف فما عده أهل العرف سبا أو انتقاصا أو عيبا أو طعنا ونحو ذلك فهو من السب وما لم يكن كذلك وهو كفر به فيكون كفرا ليس بسب حكم صاحبه حكم المرتد ان كان مظهرا له والا فهو زندقة والمعتبر أن يكون سبا واذى للنبي وان لم يكن سبا واذى لغيره فعلى هذا كل ما لو قيل لغير النبي أو جب تعزيرا أو حدا بوجه من الوجوه فانه من باب سب النبي كالقذف واللعن وغيرهما من الصورة التي تقدم التنبيه عليها واما ما يختص بالقدح في النبوة فان لم يتضمن الا مجرد عدم التصديق بنبوته فهو كفر محض ان كان فيه استخفاف واستهانة مع عدم التصديق فهو من السب

وهنا مسائل اجتهادية يتردد الفقهاء هل هي من السب اومن الردة المحضة ثم ما ثبت انه ليس بسب فان استسر به صاحبه فهو زنديق حكمه حكم الزندقة والا فهو مرتد محض واستقصاء الأنواع والفرق بينها ليس هذا موضعه

فصل[عدل]

فاما الذمي فيجب التفريق بين مجرد كفره به وبين سبه فان كفره به لا ينقض االعهد ولايبيح دم المعاهد بالاتفاق لأنا صالحناهم على هذا واما سبه له فانه ينقض العهد ويوجب القتل كما تقدم

قال القاضي أبو يعلى عقد الأمان يوجب إقرارهم على تكذيب النبي لا على شتمهم وسبهم له

وقد تقدم ان هذا الفرق أيضا معتبر في المسلم حيث قتلناه بخصوص السب وكونه موجبا للقتل حدا من الحدود بحيث لا يسقط بالتوبة وان صحت واما حيث قتلناه لدلالته على الزندقة أو لمجرد كونه مرتدا فلا فرق حينئذ بين مجرد الكفر وبين ما تضمنه من أنواع السب نقول

الآثار عن الصحابة والتابعين والفقهاء مثل مالك وأحمد وسائر الفقهاء القائلين بذلك كلها مطلقة في من شتم النبي من مسلم أو معاهد فانه يقتل ولم يفصلوا بين شتم وشتم ولا بين ان يكرر الشتم أو لا يكرره أو يظهره أو لا يظهره واعني بقولي لا يظهره ان لا يتكلم به في ملأ من المسلمين والا فالحد لا يقام عليه حتى يشهد مسلمان انهما سمعاه يشتمه أو حتى يقر بالشتم وكونه يشتمه بحيث يسمعه المسلمون إظهارا له اللهم الا ان يفرض انه شتمه في بيته خاليا فسمعه جيرانه المسلمون أو من استرق السمع منهم

قال مالك وأحمد كل من شتم النبي أو تنقصه مسلما كان أو كافرا فانه يقتل ولا يستتاب فنصا على أن الكافر يجب قتله بتنقصه له كما يقتل بشتمه وكما يقتل المسلم بذلك وكذلك أطلق سائر أصحابنا ان سب النبي من الذمي يوجب القتل

وذكر القاضي وابن عقيل وغيرهما ان ما أبطل الايمان فانه يبطل الأمان إذا أظهروه فان الإسلام اكد من عقد الذمة فإذا كان من الكلام ما يبطل حق الإسلام فان يبطل حقن الذمة أولى مع الفرق بينهما من وجه آخر فان المسلم إذا سب الرسول دل على سوء اعتقاده في رسول الله فلذلك كفر والذمي قد علم ان اعتقاده ذلك واقررناه على اعتقاده وانما أخذ عليه كتمه وان لا يظهره فبقي تفاوت ما بين الإظهار والاضمار

قال ابن عقيل فكما أخذ على المسلم ان لا يعتقد ذلك أخذ على الذمي ان لايظهره فإظهار هذا كاضمار ذاك واضماره لا ضرر على الإسلام ولا ازراء فيه وفي إظهاره ضرر وإزراء على الإسلام ولهذا ما بطن من الجرائم لا نتبعها في حق المسلم ولو أظهروها اقمنا عليهم حد الله

وطرد القاضي وابن عقيل هذا القياس في كل ما ينقض الايمان من الكلام مثل التثنية والتثليث كقول النصارى ان الله ثالث ثلاثة ونحو ذلك ان الذمي متى أظهر ما تعلمه من دينه من الشرك نقض العهد كما انه ان أظهر ما نعلمه بقوله في نبينا نقض العهد

قال القاضي وقد نص أحمد على ذلك فقال في رواية حنبل كل من ذكر شيئا يعرض به الرب فعليه القتل مسلما كان أو كافرا هذا مذهب أهل المدينة

وقال جعفر بن محمد سمعت أبا عبد الله يسأل عن يهودي مر بمؤذن وهو يؤذن فقال له كذبت فقال يقتل لأنه شتم فقد نص على قتل من كذب المؤذن وهو يقول الله اكبر أو أشهد أن لا إله إلا الله أو أشهد أن محمدا رسول الله وقد ذكرها الخلال والقاضي في سب الله بناء على انه كذبه فيما يتعلق بذكر الرب سبحانه والاشبه انه عام في تكذيبه فيما يتعلق بذكر الرب وذكر الرسول بل هو في هذا أولى لأن اليهودي لا يكذب من قال لا إله إلا الله ولا من قال الله اكبر وانما يكذب من قال إن محمدا رسول الله وهذا قول جمهور المالكيين قالوا انه يقتل لكل سب سواء كانوا يستحلونه أو لا يستحلونه لأنهم وان استحلوه فانا لم نعطهم العهد على إظهاره وكما لا يحصن الإسلام من سبه وكذلك لا تحصن منه الذمة وهو قول أبي مصعب وطائفة من المدنيين

قال أبو مصعب في نصراني قال والذي اصطفى عيسى على محمد اختلف علي فيه فضربته حتى قتلته أو عاش يوما وامرت من جر برجله وطرح على مزبلة فاكتله الكلاب

قال أبو مصعب في نصراني قال عيسى خلق محمد قال يقتل وافتى سلف الاندلسيين بقتل نصرانية استهلت بنفي الربوبية وبنوة عيسى لله

وقال ابن القاسم فيمن سبه فقال ليس بنبي أو لم يرسل أو لم ينزل عليه قران وانما هو شئ تقوله ونحو هذا فيقتل وان قال إن محمد لم يرسل الينا وانما أرسل اليكم وانما نبينا موسى أو عيسى ونحو هذا لا شئ عليهم لأن الله اقرهم على مثله

قال ابن القاسم وإذا قال النصراني ديننا خير من دينكم اانما دينكم دين الحمير ونحو ذلك من هذا القبيح أو سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله فقال كذلك يعظكم الله ففي هذا الادب الموجع والسجن الطويل وهذا قول محمد بن سحنون وذكره عن ابيه ولهم قول آخر فيما إذا سبه بالوجه الذي به كفروا انه لا يقتل

قال سحنون عن ابن القاسم من شتم الأنبياء من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي به كفروا ضربت عنقه الا ان يسلم

وقال سحنون في اليهودي يقول للمؤذن إذا تشهد كذبت يعاقب العقوبة الموجعة مع السجن الطويل

وقد تقدم نص الإمام أحمد في مثل هذه الصورة على القتل لأنه شتم

وكذلك اختلف أصحاب الشافعي في السب الذي ينتقض به عهد الذمي ويقتل به إذا قلنا بذلك على الوجهين

أحدهما ينتقض بمطلق السب لنبينا والقدح في ديننا إذا أظهروه وإن كانوا يعتقدون ذلك دينا وهذا قول أكثرهم

والثاني انهم إذا أظهروه وان كانوا يعتقدون فيه دينا من انه ليس برسول والقران ليس بكلام الله فهو كإظهارهم قولهم في المسيح ومعتقدهم في التثليث قالوا وهذا لا ينقض العهد بلا تردد بل يعزرون على إظهاره واما ان ذكروه بما لايعتقدونه دينا كالطعن في نسبه فهو الذي قيل فيه ينقض العهد وهذا اختيار الصيدلاني وابي المعالي وغيرهما

وحجة من فرق بين ما يعتقدونه فيه دينا وما لا يعتقدونه كما اختاره بعض المالكية وبعض الشافعية انهم قد اقروا على دينهم الذي يعتقدونه لكن منعوا من إظهاره فإذا أظهروه كان كما لو أظهروا سائر المناكير التي هي من دينهم كالخمر والخنزير والصليب ورفع الصوت بكتابهم ونحو ذلك وهذا إنما يستحقون عليه العقوبة والنكال بما دون القتل

يؤيد ذلك ان إظهار معتقدهم في الرسول ليس بأعظم من إظهار معتقدهم في الله وقد يسلم هؤلاء ان إظهار معتقدهم لا يوجب القتل واستبعدوا ان ينتقض عهدهم بإظهار معتقدهم إذا لم يكن مذكورا في الشرط وهذا بخلاف ما إذا سبوه بما لا يعتقدونه دينا فانا لن نقرهم على ذلك ظاهرا ولا باطنا وليس هو من دينهم فصار بمنزلة الزنى والسرقة وقطع الطريق وهذا القول مقارب لقول الكوفيين وقد ظن من سلكه انه خلص بذلك من سؤالهم وليس الأمر كما اعتقد فان الأدلة التي ذكرناها من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كلها تدل على السب بما يعتقده فيه دينا وما لايعتقده فيه دينا وان مطلق السب موجب للقتل ومن تامل كل دليل بانفراده لم يخف عليه انها جميعا تدل علىا السب المعتقد دينا كما تدل على السب الذي لا يعتقده دينا ومنها ما هو نص في السب الذي يعتقد دينا بل أكثرها كذلك فان الذين كانوا يهجونه من الكفار الذين اهدر دماءهم لم يكونوا يهجونه الا بما يعتقدونه دينا مثل نسبته إلى الكذب والسحر وذم دينه ومن اتبعه وتنفير الناس عنه إلى غير ذلك من الأمور فاما الطعن في نسبه أو خلقه أو أمانته أو وفائه أو صدقه في غير دعوى الرسالة فلم يكن أحدا يتعرض لذلك في غالب الأمر ولا يتمكن من ذلك ولا يصدقه أحد في ذلك لا مسلم ولا كافر لظهور كذبه وقد تقدم ذلك فلا حاجة إلى اعادته

ثم نقول هنا هذا الفرق متهافت من وجوه

إحداها ان الذمي لو أظهر لعنة الرسول أو تقبيحه أو الدعاء عليه بالسخط وجهنم والعذاب أو نحو ذلك فإن قيل ليس من السب الذي ينتقض به العهد كان هذا قولا مردودا سمجا فانه من لعن شخصا وقبحه لم يبق من سبه غاية وفي الصحيحين عن النبي انه قال لعن المؤمن كقتله ومعلوم ان هذا اشد من الطعن في خلقه وأمانته أو وفائه وإن قيل هو سب فقد علم ان من الكفار من يعتقد ذلك دينا ويرى انه من قرباته كتقريب المسلم بلعن مسيلمة والاسود العنسي

الوجه الثاني انه على القول بالفرق المذكور إذا سبه بما لايعتقده دينا مثل الطعن في نسبه أو خلقه أو خلقه ونحو ذلك فمن أين ينتقض عهده ويحل دمه ومعلوم انه قد اقر على ما هو أعظم من ذلك من الطعن في دينه الذي هو أعظم من الطعن في نسبه ومن الكفر بربه الذي هو أعظم الذنوب ومن سب الله بقوله ان له صاحبة وولدا وانه ثالث ثلاثة فانه لا ضرر يلحق الامة ونبيها بإظهار ما لا يعتقد صحته من السب الا ويلحقهم بإظهار ما كفر به أعظم من ذلك

فاذا اقر على أعظم السببين ضررا فإقراره على ادناهما ضررا أولى نعم بينهما من الفرق انه إذا طعن في نسبه أو خلقه فانه يقر لنا بانه كاذب أو أهل دينه يعتقدون انه كاذب اثم بخلاف السب الذي يعتقده دينا فانه وأهل دينه متفقون على انه ليس بكاذب فيه ولا اثم فيعود الأمر إلى انه قال كلمة اثم بها عندهم وعندنا لكن في حق من لا حرمة له عنده بل مثاله عنده ان يقذف الرجل مسيلمة أو العنسي أو ينسبه إلى انه كان اسود أو انه كان دعيا أو كان يسرق أو كان قومه يستخفون به ونحو ذلك من الوقيعة في عرضه بغير حق ومعلوم ان هذا لا يوجب القتل بل ولا يوجب الجلد أيضا فان العرض يتبع الدم فمن لم يعصم دمه لم يصن عرضه فلو لم يجب قتل الذمي إذا سب الرسول لكونه قد قدح في ديننا لم يجب قتله بشئ من السب أيضا فان خطب ذلك يسير

يبين ذلك ان المسلم إنما قتل إذا سبه بالقذف ونحوه لأن القدح في نسبه قدح في نبوته فإذا كنا بإظهار القدح في النبوة لا نقتل الذمي فان لأنقتله بإظهار القدح فيما يقدح في النبوة أولى إذ الوسائل اضعف من المقاصد

وهذا البحث إذا حقق اضطر المنازع إلى أحد أمرين اما موافقة من قال من أهل الراي ان العهد لا ينتقض بشئ من السب واما موافقة الدهماء في ان العهد ينتقض بكل سب واما الفرق بين سب وسب في انتقاض العهد واستحلال الدم فمتهافت

ثم انه إذا فرق لم يمكنه ايجاب القتل ولا نقض العهد بذلك أصلا ومن ادعى وجوب القتل بذلك وحده لم يمكنه ان يقيم عليه دليلا

الثالث انا إذا لم نقتلهم بإظهار ما يعتقدونه دينا لم يمكنا ان نقتلهم بإظهار شئ من السب فانه ما من أحد منهم يظهر شيئا من ذلك الا ويمكنه ان يقول اني معتقد لذلك متدين به وان كان طعنا في النسب كما يتدينون بالقدح في عيسى وامه عليهما السلام ويقولون على مريم بهتانا عظيما ثم انهم فيما بينهم قد يختلفون في أشياء من أنواع السب هل هي صحيحة عندهم أو باطلة وهم قوم بهت ظالون فلا يشاؤون ان يأتوا ببهتان ونوع من الضلال الذي لا اوجع للقلوب منه ثم يقلون هو معتقدنا الا فعلوه فحينئذ لا يقتلون حتى يثبت انهم لا يعتقدونه دينا وهذا القدر هو محل اجتهاد واختلاف وبعضه لا يعلم الا من جهتهم وقول بعضهم في بعض غير مقبول ونحن وان كنا نعرف أكثر عقائدهم فيما تخفي صدورهم اكبر وتجدد الكفر والبدع منهم غير مستنكر فهذا الفرق مغضاة إلى حتم القتل بسب الرسول وهو لعمري قول أهل الراي ومستندهم ما أبداه هؤلاء وقد قدمنا الجواب عن ذلك وبينا انا إنما اقررناهم على اخفاء دينهم لا على إظهار باطل قولهم والمجاهرة بالطعن في ديننا وان كان يستحلون ذلك فان المعاهدة على تركه صيرته حراما في دينهم كالمعاهدة على الكف عن دمائنا

وأموالنا وبينا ان المجاهرة بكلمة الكفر في دار الإسلام كالمجاهرة بضرب السيف بل اشد على أن الكفر اعم من السب فقد يكون الرجل كافرا ولا يسب وهذا هو سر المسالة فلابد من بسطه فنقول

التكلم في تمثيل سب رسول الله وذكر صفته ذلك مما يثقل على القلب واللسان ونحن نتعاظم ان نتفوه بذلك ذاكرين أو اثرين لكن الاحتياج إلى الكلام في حكم ذلك نحن نفرض الكلام في أنواع السب مطلقا من غير تعيين والفقيه ياخذ حظه من ذلك فنقول السب نوعان دعاء وخبر اما الدعاء فمثل ان يقول القائل لغيره لعنه الله أو قبحه الله أو اخزاه الله أو لا رحمه الله أو لا رضي الله عنه أو قطع الله دابره فهذا وأمثاله سبب للأنبياء ولغيرهم وكذلك لو قال عن نبي لا صلى الله عليه أو لا سلم أو لا رفع الله ذكره أو محا الله اسمه ونحو ذلك من الدعاء عليه بما فيه ضرر عليه في الدنيا أو في الدين أو في الآخرة

فهذا كله إذا صدر من مسلم أو معاهد فهو سب فاما المسلم فيقتل به بكل حال واما الذمي فيقتل بذلك إذا أظهره

فاما ان أظهر الدعاء للنبي وابطن الدعاء عليه ابطانا يعرف من لحن القول بحيث يفهمه بعض الناس دون البعض مثل قوله السام عليكم إذا أخرجه مخرج التحية وأظهر انه يقول السلام ففيه قولان

أحدهما انه من السب الذي يقتل به وانما كان عفو النبي عن اليهود الذين حيوه بذلك حال ضعف الإسلام تاليفا عليه لما كان مأمورا بالعفو عنهم والصبر على اذاهم وهذا قول طائفة من المالكية والشافعية والحنبلية مثل القاضي عبد الوهاب والقاضي أبي يعلي وابي إسحاق الشيرازي وابي الوفاء بن عقيل وغيرهم وممن ذهب إلى ان هذا سب من قال لم يعلم ان هؤلاء كانوا أهل عهد وهذا قول ساقط لأنا قد بينا فيما تقدم ان اليهود الذين بالمدينة كانوا معاهدين وقال أخرون كان الحق له وله ان يعفو عنهم فاما بعده فلا عفو

والقول الثاني انه ليس من السب الذي ينتقض العهد لأنهم لم يظهروا السب ولم يجهروا به وانما أظهروا التحية والسلام لفظا وحالا وحذفوا اللام حذفا خفيا يفطن له بعض السامعين وقد لا يفطن له الأكثرون ولهذا قال النبي ان اليهود إذا سلموا فانما يقول أحدهم السام عليكم فقولوا وعليكم فجعل هذا شرعا باقيا في حياته وبعد موته حتى صارت السنة ان يقال للذمي إذا سلم وعليكم أو عليكم وكذلك لما سلم عليهم اليهودي قال اتدرون ماقال إنما قال السام عليكم ولو كان هذا من السب الذي هو سب لوجب ان يشرع عقوبة اليهودي إذا سمع منه ذلك ولو بالجلد فلما لم يشرع ذلك علم انه لا يجوز مؤاخذتهم بذلك وقد أخبر الله عنهم بقوله تعالى " وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير " فجعل عذاب الآخرة حسبهم فدل على انه لم يشرع على ذلك عذابا في الدنيا وهذا لأنهم لو قرروا على ذلك لقالوا إنما قلنا السلام وانما السمع يخطئ وانتم تتقولون علينا فكانوا في هذا مثل المنافقين الذين يظرون الإسلام ويعرفون في لحن القول ويعرفون بسيماهم فانه لا يمكن عقوبتهم باللحن والسيما فان موجبات العقوبات لا بد ان تكون ظاهرة الظهور الذي يشترك فيه الناس وهذا القدر وان كان كفرا من المسلم فانما يكون نقضا للعهد إذا أظهره الذمي واتيانه به على هذا الوجه غاية ما يكون من الكتمان والاخفاء ونحن لا نعاقبهم على مايسرونه ويخفونه من السب وغيره وهذا قول جماعات من العلماء من المتقدمين ومن أصحابنا والمالكيين وغيرهم وممن اختار هذا القول من زعم ان هذا دعاء بالسام وهو الموت على اصح القولين أو دعاء بالسامة وملال واما الذين قالوا ان الموت محتوم على الخليقة قالوا وهذا تعريض بالأذى لا بالسب وهذا القول ضعيف فان الدعاء على الرسول والمؤمنين بالموت وترك الدين من ابلغ السب كما ان الدعاء بالحياة والعافية والصحة واثبات على الدين من ابلغ الكرامة

النوع الثاني الخبر فكل ما عهده الناس شتما أو سبا أو تنقصا فانه يجب به القتل كما تقدم فان الكفر ليس مستلزما للسب وقد يكون الرجل كافرا ليس بساب والناس يعلمون علما عاما ان الرجل قد يبغضىالرجل ويعتقد فيه العقيدة القبيحة ولا يسبه وقد يضم إلى ذلك مسبه وان كانت المسبة مطابقة للمعتقد فليس كل ما يحتمل عقدا يحتمل قولا وما لا يحتمل ان يقال سرا يحتمل ان يقال جهرا والكلمة الواحدة تكون في حال سبا وفي حال ليست بسب فعلم ان هذا يختلف باختلاف الأقوال والأحوال وإذا لم يكن للسب حد معروف في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس فما كان في العرف سبا للنبي فهو الذي يجب ان ينزل عليه كلام الصحابة والعلماء وما لا فلا ونحن نذكر من ذلك اقساما فنقول

لا شك ان إظهار التنقص والاستهزاء به عند المسلمين سب كالتسمية باسم الحمار أو الكلب أو وصفه بالمسكنة والخزي والمهانة أو الاخبار بانه في العذاب وان عليه اثام الخلائق ونحو ذلك وكذلك إظهار التكذيب على وجه الطعن في المكذب مثل وصفه بانه ساحر خادع محتال وانه يضر من اتبعه وان ما جاء به كله زور وباطل ونحو ذلك فان نظم ذلك شعرا كان ابلغ في الشتم فان الشعر يحفظ ويروى وهو الهجاء وربما يؤثر في نفوس كثيرة مع العلم ببطلانه أكثر من تاثير البراهين فان غني به بين ملأ من الناس فهو الذي قد تفاقم أمره واما ان أخبر عن معتقده بغير طعن فيه مثل ان يقول انا لست متبعه أو لست مصدقه أو لا أحبه أو لا ارضى دينه ونحو ذلك فانما أخبر عن اعتقاد أو إرادة لم يتضمن انتقاصا لأن عدم التصديق والمحبة قد يصدر عن الجهل والعناد والحسد والكبر وتقليد الاسلاف وإلف الدين أكثر مما يصدر عن العلم بصفات النبي خلاف ما إذا قال من كان ومن هو وأي كذا وكذا هو ونحو ذلك وإذا قال لم يكن رسولا ولا نبيا ولم ينزل عليه شيء ونحو ذلك فهو تكذيب صريح وكل تكذيب فقد تضمن نسبته إلى الكذب ووصفه بانه كذاب لكن بين قوله ليس بنبي وقوله هو كذاب فرق من حيث ان هذا إنما تضمن التكذيب بواسطة علمنا انه كان يقول اني رسول الله وليس من نفى عن غيره بعض صفاته نفيا مجردا كمن نفاها عنه ناسبا له إلى الكذب في دعواها والمعنى الواحد قد يؤدى بعبارات بعضها يعد سبا وبعضها لايعد سبا وقد ذكرنا ان الإمام أحمد نص على أن من قال للمؤذن كذبت فهو شاتم وذلك لأن ابتداؤه بذلك للمؤذن معلنا بذلك بحيث يسمعه المسلمون طاعنا في دينهم مكذبا للأمة في تصديقها بالوحدانية والرسالة لاريب انه شتم

فإن قيل ففي الحديث الصحيح الذي يرويه الرسول عن الله تبارك وتعالى انه قال شتمني ابن ادم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن ادم وما ينبغي له ذلك فاما شتمه اياي فقوله اني اتخذت ولدا واما تكذيبه اياي فقوله لن يعيدني كما بداني فقد قرن بين التكذيب والشتم

فيقال قوله لن يعيدني كما بداني يفارق قول اليهودي للمؤذن كذبت من وجهين

أحدهما انه لم يصرح بنسبته إلى الكذب ونحن لم نقل ان كل تكذيب شتم إذ لو قيل ذلك لكان كل كافر شاتما وانما قيل إن الاعلان بمقابلة داعي الحق بقوله كذبت سب للأمة وشتم لها في اعتقاد النبوة وهوسب للنبوة كما ان الذين هجو من اتبع النبي على اتباعهم اياه كانوا سابين للنبي مثل شعر بنت مروان وشعر كعب بن زهير وغيرهما واما قول الكافر لن يعيدني كما بدأني فانه نفي لمضمون خبر الله بمنزلة سائر أنواع الكفر

الثاني ان الكافر المكذب بالبعث لايقول إن الله أخبر انه سيعيدني ولا يقول إن هذا الكلام تكذيب لله وان كان تكذيبا بخلاف القائل للرسول أو لمن صدق الرسول كذبت فانه مقر بان هذا طعن على المكذب وعيب له وانتقاص به وهذا ظاهر وكل كلام تقدم ذكره في المسالة الأولى من نظم ونحوه عده النبي سبا حتى رتب على قائله حكم الساب فانه سب أيضا وكذلك ماكان في معناه وقد تقدم ذكر ذلك والكلام على اعيان الكلمات لا ينحصر وانما جماع ذلك ان ما يعرف الناس انه سب فهو سب وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والاصطلاحات والعادات وكيفية الكلام ونحو ذلك وما اشتبه فيه الأمر الحق بنظيره وشبهه والله سبحانه أعلم

فصل[عدل]

وكل ماكان من الذمي سبا ينقض عهده ويوجب قتله فان التوبة توبته منه لا تقبل على ما تقدم هذا هو الذي عليه عامة أهل العلم من أصحابنا وغيرهم

وقد تقدم عن الشيخ أبي محمد المقدسي رضي الله عنه انه قال إن الذمي إذا سب النبي ثم أسلم سقط عنه القتل وانه إذا قذفه ثم أسلم ففي سقوط القتل عنه روايتان وينبغي ان يبنى كلامه على انه ان سبه بما يعتقده فيه دينا سقط عنه القتل بإسلامه كاللعن والتقبيح ونحوه وان سبه بما لايعتقده فيه كالقذف لم يسقط عنه لأن ما يعتقده فيه كفر محض سقط حده بالإسلام باطنا فيجب ان يسقط ظاهرا أيضا لأن سقوط الاصل الذي هو الاعتقاد يستتبع سقوط فروعه واما ما لا يعتقده فهو فرية يعلم هو انها فرية فهي بمنزلة سائر حقوق الآدميين وان حمل الكلام على ظاهره في انه يستثنى القذف فقط من بين سائر أنواع السب فيمكن ان يوجه بان قذف غيره لما تغلظ بان جعل على صاحبه الحد المؤقت وهو ثمانون بخلاف غيره من أنواع السب فان عقوبته التعزير المفوض إلى اجتهاد ذي السلطان كذلك يفرق في حقه بين القذف وغيره فيجعل على قاذفه الحد مطلقا وهو القتل وان أسلم ويدرأ عن الساب الحد إذا تاب لكن هذا الفرق ليس بمرضي فان قذفه إنما أوجب القتل ونقض العهد لما قدح في نسبه وكان ذلك قدحا في نبوته وهذا معنى يستوي فيه السب بالقذف وبغيره من أنواع الاكاذيب بل قد توصف من الأفعال أو الأقوال المنكرة بما يلحق بالموصوف شيئا وغضاضة أعظم من هذا وانما فرق في حق غيره بين القذف وغيره لأنه لا يمكن تكذيب القاذف به كما يمكن تكذيب غيره فصار العار به اشد

وهنا كلمات السب القادحة في النبوة سواء في العلم ببطلانها ظهورا وخفاء فان العلم بكذب القاذف كالعلم بكذب الناسب له إلى منكر من القول وزور لا فرق بينهما

وبالجملة فالمنصوص عن الإمام أحمد وعامة أصحابه وسائر أهل العلم انه لافرق في هذا الباب بين السب بالقذف وغيره بل من قال انه ينتقض عهده ويتحتم قتله لم يفرق بين القذف وغيره ومن قال يسقط عنه القتل بإسلامه لم يفرق بين القذف وغيره ومن فرق من الفقهاء بين ما يعتقده وما لا يعتقده فانما فرق في انتقاض العهد لا في سقوط القتل عنه بالإسلام لكن هو يصلح أن يكون معاضدا لقول الشيخ أبي محمد لأنه فرق بين النوعين في الجملة واما الإمام أحمد وسائر العلماء المتقدمين فانما خلافهم في السب مطلقا وليس في شئ من كلام الإمام أحمد رضي الله عنه تعرض للقذف بخصوصه وانما ذكره أصحابه في القذف لأنهم تكلموا في أحكام القذف مطلقا فذكروا هذا النوع من القذف انه موجب للقتل وانه لا يسقط القتل بالتوبة لنص الإمام على أن السب الذي هو اعم من القذف موجب للقتل لا يستتاب صاحبه ثم منهم من ذكر المسالة بلفظ السب كما هي في لفظ أحمد وغيره ومنهم من ذكرها بلفظ القذف لأن الباب باب القذف فكان ذكرها بالاسم الخاص أظهر تاثيرا في الفرق بين هذا القذف وغيره ثم علل الجميع وادلتهم تعم أنواع السب بل هي في غير القذف انص منها في القذف وانما تدل على القذف بطريق العموم أو بطريق القياس والدليل يوافق ما ذكره الجمهور من التسوية كما تقدم ذكره نفيا واثباتا ولا حاجة إلى الاطناب هنا فان من سلم ان جميع أنواع السب من القذف وغيره ينقض العهد ويوجب القتل ثم فرق بين بعضهما وبعض في السقوط بالإسلام فقد ابعد جدا لأن السب لو كان بمنزلة الكفر عنده لم ينقض العهد ويوجب قتل الذمي وإذا لم يكن بمنزلة الكفر فإسلامه اما ان يسقط الكفر فقط أو يسقط الكفر وغيره من الجناية على عرض الرسول فأما إسقاطه لبعض الجنايات دون بعض مع استوائهما في مقدار العقوبة فلا يتبين له وجه محقق

والاحتجاج بان الإسلام يسقط عقوبة من سب الله فإسقاطه عقوبة من سب النبي أولى ان صح فانما يدل على أن الإسلام يسقط عقوبة الساب مطلقا قذفا كان السب أو غير قذف ونحن في هذا المقام لا نتكلم الا في التسوية بين أنواع السب لا في صحة هذه الحجة وفسادها إذا قد تقدم التنبيه على ضعفها وذلك لأن سب النبي ان جعل بمنزلة سب الله مطلقا وقيل بالسقوط في الاصل فيجب ان يقال بالسقوط في الفرع وان جعل بمنزلة سب الخلق أو جعل موجبا للقتل حدا لله أو سوي بين السبين في عدم السقوط ونحو ذلك من الماخذ التي تقدم ذكرها فلا فرق في هذا الباب بين القذف وغيره في السقوط بالإسلام فان الذمي لو قذف مسلما أو ذميا أو شتمه بغير القذف ثم أسلم لم يسقط عنه التعزير المستحق بالسب كما لا يسقط الحد المستحق بالقذف فعلم انهما سواء في الثبوت والسقوط وانما يختلفان في مقدار العقوبة بالنسبة إلى غير النبي اما بالنسبة إلى النبي فعقوبتهما سواء فلا فرق بينهما بالنسبة إليه البته

واذ قد ذكرنا حكم الساب للرسول فنردفه بما هو من جنسه مما قد تقدم في الأدلة المذكورة باصل حكمه فان ذلك من تمام الكلام في هذه المسالة على ما لا يخفى ونفصله فصولا

فصل[عدل]

في من سب الله تعالى

فان كان مسلما وجب قتله بالإجماع لأنه بذلك كافر مرتد وأسوأ من الكافر فان الكافر يعظم الرب ويعتقد ان ما هو عليه من الدين الباطل ليس باستهزاء بالله ولا مسبة له

ثم اختلف أصحابنا وغيرهم في قبول توبته بمعنى انه هل يستتاب كالمرتد ويسقط عنه القتل إذا أظهر التوبة من ذلك بعد رفعة إلى السلطان وثبوت الحد عليه على قولين

أحدهما انه بمنزلة ساب الرسول فيه الروايتان كالروايتين في ساب الرسول هذه طريقة أبي الخطاب وأكثر من احتذى حذوه من المتاخرين وهو الذي يدل عليه كلام الإمام أحمد حيث قال كل من ذكر شئ يعرض بذكر الرب تبارك وتعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا وهذا مذهب أهل المدينة فاطلق وجوب القتل عليه ولم يذكر استتابته وذكر انه قول أهل المدينة ومن وجب عليه القتل لم يسقط بالتوبة وقول أهل المدينة المشهور انه لا يسقط القتل بتوبته ولو لم يرد هذا لم يخصه باهل المدينة فان الناس مجمعون على أن من سب الله تعالى من المسلمين يقتل وانما اختلفوا في توبته فلما أخذ بقول أهل المدينة في المسلم كما أخذ بقولهم في الذمي علم انه قصد محل الخلاف بين المدينين والكوفيين في المسالتين وعلى هذه الطريقة فظاهر المذهب انه لا يسقط القتل بإظهار التوبة بعد القدرة عليه كما ذكرناه في ساب الرسول

وأما الرواية الثانية فان عبد الله قال سئل أبي عن رجل قال يا ابن كذا وكذا أنت ومن خلقك قال أبي هذا مرتد عن الإسلام قلت لأبي تضرب عنقه قال نعم نضرب عنقه فجعله من المرتدين

والرواية الأولى قول الليث بن سعد وقول مالك روى ابن القاسم عنه قال من سب الله تعالى من المسلمين قتل ولم يستتب الا أن يكون افترى على الله بارتداده إلى دين دان به وأظهره فيستتاب وان لم يظهره لم يستتب وهذا قول ابن القاسم ومطرف وعبد الملك وجماهير المالكية

والثاني انه يستتاب وتقبل توبته بمنزلة المرتد المحض وهذا قول القاضي أبي يعلى والشريف أبي جعفر وابي علي بن البناء وابن عقيل مع قولهم ان من سب الرسول لا يستتاب وهذا قول طائفة من المدنيين منهم محمد بن مسلمة والمخزومي وابن أبي حازم قالوا لا يقتل المسلم بالسب حتى يستتاب وكذلك اليهودي والنصراني فان تابوا قبل منهم وان لم يتوبوا قتلوا ولا بد من الاستتابة وذلك كله كالردة وهو الذي ذكره العراقيون من المالكية

وكذلك ذكر أصحاب الشافعي رضي الله عنه قالوا سب الله ردة فإذا تاب قبلت توبته وفرقوا بينه وبين سب الرسول على أحد الوجهين وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة

وأما من استتاب الساب لله ولرسوله فماخذه ان ذلك من أنواع الردة ومن فرق بين سب الله والرسول قال سب الله تعالى كفر محض وهو حق لله وتوبة من لم يصدر منه الا مجرد الكفر الاصلي أو الطارئ مقبولة مسقطة للقتل بالإجماع ويدل على ذلك ان النصارى يسبون الله بقولهم هو ثالث ثلاثة وبقولهم ان له ولدا كما أخبر النبي عن الله عز وجل انه قال شتمني ابن ادم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن ادم وما ينبغي له ذلك فاما شتمه اياي فقوله ان ولدا وانا الاحد الصمد وقال سبحانه " لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة " إلى قوله " افلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه " وهو سبحانه قد علم منه انه يسقط حقه عن التائب فان الرجل لو أتى من الكفر والمعاصي بملء الأرض ثم تاب الله عليه وهو سبحانه لا تلحقه بالسب غضاضة ولا معرة وانما يعود ضرر السب على قائله وحرمته في قلوب العباد أعظم من أن يهتكها جرأة الساب وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الرسول فان السب هناك قد تعلق به حق ادمي والعقوبة الواجبة لآدمي لا تسقط بالتوبة والرسول تلحقه المعرة والغضاضة بالسب فلا تقوم حرمته وتثبت في القلوب مكانته الا باصطلام سابه لما ان هجوه وشتمه ينقص من حرمته عند كثير من الناس ويقدح في مكانه في قلوب كثيره فان لم يحفظ هذا الحمى بعقوبة المنتهك والا افضى الأمر إلى فساد

وهذا الفرق يتوجه بالنظر إلى ان حد سب الرسول حقا لآدمي كما يذكره كثير من الأصحاب وبالنظر إلى انه حق الله أيضا فان ما أنتهكه من حرمة الله لا ينجبر الا بإقامة الحد فاشبه الزاني والسارق والشارب إذا تابوا بعد القدرة عليهم

وأيضا فان سب الله ليس له داع عقلي في الغالب وأكثر ما هو سب في نفس الأمر إنما يصدر عن اعتقاد وتدين يراد به التعظيم لا السب ولا يقصد الساب حقيقة الاهانة لعلمه ان ذلك لا يؤثر بخلاف سب الرسول فانه في الغالب إنما يقصد به الاهانة والاستخفاف والدواعي إلى ذلك متوفرة من كل كافر ومنافق وصار من جنس الجرائم التي تدعوا إليها الطباع فإن حدودها لا تسقط بالتوبة بخلاف الجرائم التي لا داعي إليها

ونكتة هذا الفرق ان خصوص سب الله تعالى ليس إليه داع غالب الاوقات فيندرج في عموم الكفر بخلاف سب الرسول فان لخصوصه دواعي متوفرة فناسب ان يشرع لخصوصه حد والحد المشروع لخصوصه لا يسقط بالتوبة كسائر الحدود فلما اشتمل سب الرسول على خصائص من جهة توفر الدواعي إليه وحرص اعداء الله عليه وان الحرمة تنتهك به انتهاك الحرمات بانتهاكها وان فيه حق لمخلوق تحتمت عقوبته لا لأنه اغلظ اثما من سب الله بل لأن مفسدته لا تنحسم الا بتحتم القتل

إلا ترى انه لا ريب ان الكفر والردة أعظم اثما من الزنى والسرقة وقطع الطريق وشرب الخمر ثم الكافر والمرتد إذا تابا بعد القدرة عليهما سقطت عقوبتهما ولو تاب أولئك الفساق بعد القدرة لم تسقط عقوبتهم مع ان الكفر أعظم من الفسق ولم يدل ذلك على أن الفاسق أعظم اثما من الكافر فمن أخذ تحتم العقوبة سقوطها من كبر الذنب وصغره فقد نأى عن مسالك الفقه والحكمة

ويوضح ذلك انا نقر الكفار بالذمة على أعظم الذنوب ولا نقر واحدا منهم ولا من غيرهم على زنى ولا سرقة ولا كبير من المعاصي الموجبة للحدود وقد عاقب الله قوم لوط من العقوبة بما لم يعاقبه بشرا في زمنهم لأجل الفاحشة والأرض مملوئة من المشركين وهم في عافية وقد دفن رجل قتل رجلا على عهد النبي مرات والأرض تلفظه في كل ذلك فقال النبي ان الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله اراكم هذا لتعتبروا ولهذا يعاقب الفاسق الملي من الهجر والاعراض والجلد وغير ذلك بما لا يعاقب به الكافر الذمي مع ان ذلك أحسن حالا عند الله وعندنا من الكافر

فقد رايت العقوبات المقدورة المشروعة تتحتم حيث تؤخر عقوبة ما هو اشد منها وسبب ذلك ان الدنيا في الاصل ليست دار الجزاء وانما الجزاء يوم الدين يوم يدين الله العباد باعمالهم ان خيرا فخير وان شرا فشر لكن ينزل الله سبحانه من العقاب ويشرع من الحدود بمقدار ما يزجر النفوس عما فيه فساد عام لا يختص فاعله أو ما يطهر الفاعل من خطيئته أو لتغلظ الجرم أو لما يشاء سبحانه فالخطيئة إذا خيف ان يتعدى ضررها فاعلها لم تنسحم مادتها الا بعقوبة فاعلها فلما كان الكفر والردة إذا قبلت التوبة منه بعد القدرة لم تترتب على ذلك مفسدة تتعدى التائب وجب قبول التوبة لأن أحدا لايريد ان يكفر أو يرتد ثم إذا أخذ أظهر التوہة لعلمه ان ذلك لا يحصل مقصوده بخلاف أهل الفسوق فانه إذا أسقطت العقوبة عنهم بالتوبة كان ذلك فتحا لباب الفسوق فان الرجل يعمل ما اشتهى ثم إذا أخذ قال اني تائب وقد حصل مقصوده من الشهوة التي اقتضاها فكذلك سب الله هو أعظم من سب الرسول لكن لا يخاف ان النفوس تتسرع إلى ذلك إذا استتيب فاعله وعرض على السيف فانه لا يصدر غالبا الا عن اعتقاد وليس للخلق اعتقاد يبعثهم على إظهار السب لله تعالى وأكثر ما يكون ضجرا وتبرما وسفها وروعه بالسيف والاستتابة تكف عن ذلك بخلاف إظهار سب الرسول فان هناك دواعي متعددة تبعث عليه متى علم صاحبها انه إذا أظهر التوبة كف عنه لم يزعه ذلك عن مقصوده

ومما يدل على الفرق من جهة السنة ان المشركين كانوا يسبون الله بأنواع السب ثم لم يتوقف النبي في قبول إسلام أحد منهم ولا عهد بقتل واحد منهم بعينه وقد توقف في قبول توبة من سبه مثل أبي سفيان وابن أبي امية وعهد بقتل من كان يسبه من الرجال والنساء مثل الحويرث بن نقيد والقينتين وجارية لبني عبد المطلب ومثل الرجال والنساء الذين أمر بقتلهم بعد الهجرة وقد تقدم الكلام على تحقيق الفرق عند من يقول به بما هو ابسط من هذا في المسالة الثالثة

وأما من قال لا تقبل توبة من سب الله سبحانه وتعالى كما لا تقبل توبة من سب الرسول فوجهه ما تقدم من عمر رضى الله تعالى عنه من التسوية بين سب الله وسب الأنبياء في ايجاب القتل ولم يأمر بالاستتابة مع شهرة مذهبه في استتابة المرتد لكن قد ذكرنا عن ابن عباس رضي الله عنهما انه يستتاب لأنه كذب النبي فيحمل ذلك على السب الذي يتدين به

وأيضا فان السب ذنب منفرد عن الكفر الذي يطابق الاعتقاد فان الكافر يتدين بكفره ويقول انه حق ويدعوا إليه وله عليه موافقون وليس من الكفار من يتدين بما يعتقده استخفافا واستهزاء وسبا لله وان كان في الحقيقة سبا كما انهم لا يقولون انهم ضلال جهال معذبون اعداء الله وان كانوا كذلك واما الساب فانه مظهر للتنقص والاستخفاف والاستهانة بالله منتهك لحرمته انتهاكا يعلم من نفسه انه منتهك مستخف مستهزىء ويعلم من نفسه انه قد قال عظيما وان السموات والأرض تكاد تنفطر من مقالته وتخر الجبال وان ذلك أعظم من كل كفر وهو يعلم ان ذلك كذلك ولو قال بلسانه اني كنت لا اعتقد وجود الصانع ولا عظمته والان فقد رجعت عن ذلك علمنا انه كاذب فان فطر الخلائق كلها مجبولة على الاعتراف بوجود الصانع وتعظيمه فلا شبهة تدعوه إلى هذا السب ولا شهوة له في ذلك بل هو مجرد سخرية واستهزاء واستهانة وتمرد على رب العالمين تنبعث عن نفس شيطانية ممتلئة من الغضب أو من سفيه لا وقار لله عنده كصدور قطع الطريق والزنى عن الغضب والشهوة وإذا كان كذلك وجب أن يكون للسب عقوبة تخصه حدا من الحدود وحينئذ فلا تسقط تلك العقوبة بإظهار التوبة كسائر الحدود

ومما يبين ان السب قدر زائد على الكفر قوله تعالى " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم "

ومن المعلوم انهم كانوا مشركين مكذبين معادين لرسوله ثم نهى المسلمون ان يفعلوا ما يكون ذريعة إلى سبهم الله فعلم ان سب الله أعظم عنده من أن يشرك به ويكذب رسوله ويعادني فلابد له من عقوبة تختصه لما أنتهكه من حرمة الله كسائر اللحرمات التي تنتهكها بالفعل وأولى ولا يجوز ان يعاقب على ذلك بدون القتل لأن ذلك أعظم الجرائم فلا يقابل الا بابلغ العقوبات

ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى " ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة واعد لهم عذابا مهينا " فانها تدل على قتل من يؤذي الله كما تدل على قتل من يؤذي رسوله والأذى المطلق إنما هو باللسان وقد تقدم تقرير هذا

وأيضا فانا إسقاط القتل عنه بإظهار التوبة لا يرفع مفسدة السب لله سبحانه فانه لا يشاء شاء ان يفعل ذلك ثم إذا أخذ أظهر التوبة الا فعل كما في سائر الجرائم الفعلية

وأيضا فانه لم ينتقل إلى دين يريد المقام عليه حتى يكون الانتقال عنه تركا له وانما فعل جريمة لا تستدام بل هي مثل الأفعال الموجبة للعقوبات فتكون العقوبة على نفس تلك الجريمة الماضية ومثل هذا لا يستتاب وانما يستتاب من يعاقب على ذنب مستمر من كفر أو ردة

وأيضا فإن استتابة مثل هذا توجب ان لايقام حد على ساب لله فانا نعلم ان ليس أحد من الناس مصرا على السب لله الذي يرى انه سب فان ذلك لا يدعو إليه عقل ولا طبع وكل ما افضى إلى تعطيل الحدودبالكلية كان باطلا ولما كان استتابة الفساق بالأفعال يفضي إلى تعطيل الحدود لم يشرع مع ان أحدهم قد لا يتوب من ذلك لما يدعوه إليه طبعه وكذلك المستتاب من سب الرسول فلا يتوب لما يستحله من سبه فاستتابة الساب لله الذي يسارع إلى إظهار التوبة منه كل أحد أولى ان لا يشرع إذا تضمن تعطيل الحد وأوجب ان تمضمض الافواه بهتك حرمة اسم الله والاستهزاء به

وهذا كلام فقيه لكن يعارضه ان ما كان بهذه المثابة لايحتاج إلى تحقيق إقامة الحد ويكفي تعريض قائله للقتل حتى يتوب

ولمن ينصر الأول ان يقول تحقيق إقامة الحد على الساب لله ليس لمجرد زجر الطباع عما تهوى بل تعظيما لله واجلالا لذكره واعلاء لكلمته وضبطا للنفوس ان تتسرع إلى الاستهانة بجنابه وتقييدا للالسن ان تتفوه بالانتقاص لحقه

وأيضا فان حد سب المخلوق وقذفه لا يسقط بإظهار التوبة فحد سب الخالق أولى

وأيضا فحد الأفعال الموجبة للعقوبة لا تسقط بإظهار التوبة فكذلك حد الأقوال بل شأن الأقوال وتاثيرها أعظم

وجماع الأمر ان كل عقوبة وجبت جزاء ونكالا على فعل أو قول ماض فانها لاتسقط إذا أظهرت التوبة بعد الرفع إلى السلطان فسب الله أولى بذلك ولا ينتقض هذا بتوبة الكافر والمرتد لأن العقوبة هناك إنما هي على الاعتقاد الحاضر في الحال المستصحب من الماضي فلا يصلح نقضا لوجهين

أحدهما ان عقوبة الساب لله ليست لذنب استصحبه واستدامه فانه بعد انقضاء السب لم يستصحبه ولم يستدمه وعقوبة الكافر والمرتد إنما هي الكفر الذي هو مصر عليه مقيم على اعتقاده

الثاني ان الكافر إنما يعاقب على اعتقاد هو الان في قلبه وقوله وعمله دليل على ذلك الاعتقاد حتى لو فرض ان علمنا ان كلمة الكفر التي قالها خرجت من غير اعتقاد لموجبها لم نكفره بان يكون جاهلا بمعناها أو مخطئا قد غلط وسبق لسانه إليها مع قصد خلافها ونحو ذلك والساب إنما يعاقب على انتهاكه لحرمة الله واستخفافه بحقه فيقتل وان علمنا انه لا يستحسن السب لله ولا يعتقده دينا إذ ليس أحد من البشر يدين بذلك ولا ينتقض هذا أيضا بترك الصلاة والزكاة ونحوهما فانهم إنما يعاقبون على دوام الترك لهذه الفرائض فإذا فعلوها زال الترك وان شئت ان تقول الكافر والمرتد وتاركوا الفرائض يعاقبون على عدم فعل الايمان والفرائض اعني على دوام هذا العدم فإذا وجد الايمان والفرائض امتنعت العقوبة لأنقطاع العدم وهؤلاء يعاقبون على وجود الأقوال والأفعال الكبيرة لاعلى دوام وجودها فإذا وجدت مرة لم يرتقع ذلك بالترك بعد ذلك

وبالجملة فهذا القول له توجه وقوة وقد تقدم ان الردة نوعان مجردة ومغلظة وبسطنا هذا القول فيما تقدم في المسالة الثالثة ولا خلاف في قبول التوبة فيما بينه وبين الله سبحانه وسقوط الإثم بالتوبة النصوح

ومن الناس من سلك في ساب الله تعالى مسلكا آخر وهو انه جعله من باب الزنديق كأحد المسلكين اللذين ذكرناهما في ساب الرسول لأن وجود السب منه مع إظهاره للإسلام دليل على خبث سريرته لكن هذا ضعيف فان الكلام هنا إنما هو في سب لا يتدين به فان السب الذي يتدين به كالتثليث ودعوى الصاحبة والولد فحكمه حكم أنواع الكفر وكذلك المقالات المكفرة مثل مقالة الجهمية والقدرية وغيرهم من صنوف البدع

وإذا قبلنا توبة من سب الله سبحانه فانه يؤدب ادبا وجيعا حتى يردعه عن العود إلى مثل ذلك هكذا ذكره بعض أصحابنا وهو قول أصحاب مالك في كل مرتد

فصل[عدل]

وان كان الساب لله ذميا فهو كما لو سب الرسول وقد تقدم نص الإمام أحمد على أن من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب سبحانه فانه يقتل سواء كان مسلما أو كافرا وكذلك أصحابنا قالوا من ذكر الله أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوء فجعلوا الحكم فيه واحدا وقالوا الخلاف في ذكر الله وفي ذكر النبي سواء وكذلك مذهب مالك وأصحابه وكذلك أصحاب الشافعي ذكروا لمن سب الله أو رسوله أو كتابه من أهل الذمة حكما واحدا لكن هنا مسألتان

أحداهما ان سب الله تعالى على قسمين

أحدهما أن يسبه بما لا يتدين به مما هو استهانة به عند المتكلم وغيره مثل اللعن والتقبيح ونحوه فهذا هو السب الذي لا يرب فيه

والثاني أن يكون مما يتدين به ويعتقده تعظيما ولا يراه سبا ولا انتقاصا مثل قول النصراني ان له ولدا وصاحبة ونحوه فهذا مما اختلف فيه إذا أظهره الذمي فقال القاضي وابن عقيل من أصحابنا ينتقض به العهد كما ينتقض إذا أظهروا اعتقادهم في النبي وهو مقتضى ما ذكره الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب وغيرهما فانهم ذكروا ان ما ينقض الايمان ينقض الذمة ويحكى ذلك عن طائفة من المالكية ووجه ذلك انا عاهدناهم على أن لايظهروا شيئا من الكفر وان كانوا يعتقدونه فمتى أظهروا مثل ذلك فقد اذوا الله ورسوله والمؤمنين بذلك وخالفوا العهد فينتقض العهد بذلك كسب النبي وقد تقدم عن عمر رضي الله عنه انه قال للنصراني الذي كذب بالقدرلئن عدت إلى مثل ذلك لاضربن عنقك وقد تقدم ما يقرر ذلك

والمنصوص عن مالك ان من شتم الله من اليهودوالنصارى بغير الوجه الذي كفروا به قتل ولم يستتب قال ابن القاسم الا ان يسلم تطوعا فلم يجعل ما يتدين به الذمي سبا وهذا قول عامة المالكية وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه ذكره أصحابه وهو منصوصه قال في الام في تحديد الإمام ما ياخذه من أهل الذمة وعلى أن لايذكر وا رسول الله الا بما هو أهله ولا يطعنوا في دين الإسلام ولا يعيبوا من حكمة شيئا فان فعلوه فلا ذمة لهم وياخذ عليهم ان لايسمعوا المسلمين شركهم وقولهم في عزير وعيسى فان وجودهم فعلوا بعد التقدم في عزير وعيسى إليهم عاقبهم على ذلك عقوبة لا يبلغ بها حدا لأنهم قد اذن لهم بإقرارهم على دينهم مع علم ما يقولون وهذا ظاهر كلام الإمام أحمد لأنه سئل عن يهودي مر بمؤذن فقال له كذبت فقال يقتل لأنه شتم فعلل قتله بانه شتم فعلم ان ما يظهر به من دينه الذي ليس بشتم ليس كذلك وقال رضي الله عنه من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تعالى فعليه القتل مسلما كان أو كان كافرا وهذا مذهب أهل المدينة وانما مذهب أهل المدينة فيما هو سب عند القائل وذلك ان هذا القسم ليس من باب السب والشتم الذي يلحق بسب الله وسب النبي لأن الكافر لايقول هذا طعنا ولا عيبا وانما يعتقده تعظيما واجلالا وليس هو ولا أحد من الخلق يتدين بسب الله تعالى بخلاف ما يقال في حق النبي من السوء فانه لايقال الا طعنا وعيبا وذلك ان الكافر يتدين بكثير من تعظيم الله وليس يتدين بشيء من تعظيم الرسول الا ترى انه إذ قال في محمد هو ساحر أو شاعر فهو يقول إن هذا نقص وعيب وإذا قال إن المسيح أو عزيرا ابن الله فليس يقول إن هذا نقص وعيب وان كان هذا عيبا ونقصا في الحقيقة وفرق بين قول يقصد به قائله العيب والنقص وقول لا يقصد به ذلك ولا يجوز ان يجعل قولهم في الله تقولهم في الرسول بحيث يجعل الجميع نقضا للعهد إذ يفرق في الجميع بين ما يعتقدونه وما لا يعتقدونه لأن قولهم في الرسول كله طعن في الدين وغضاضة على الإسلام واضهار لعداوة المسلمين يقصدون به عيب الرسول ونقصه وليس مجرد قولهم الذي يعتقدونه في الله مما يقصدون به عيب الله ونقصه الا ترى ان قريشا كانت تقار النبي على ما كان يقوله من التوحيد وعبادة الله وحده ولا يقارونه على عيب الهتهم والطعن في دينهم وذم ابائهم وقد نهى الله المسلمين ان يسبوا الاوثان لئلا يسب المشركون الله سبحانه مع كونهم لم يزالوا على الشرك فعلم ان محذور سب الله اغلظ من محذور الكفربه فلايجعل حكمهما واحدا

المسالة الثانية

في استتابة الذمي من هذا وقبل توبته

أما القاضي وجمهور أصحابه مثل الشريف وابن والبناء وابن عقيل ومن تبعهم فانهم يقبلون توبته ويسقطون عنه القتل بها وهذا ظاهر على أصلهم فانهم يقبلون توبة المسلم إذا سب الله فتوبة الذمي أولى وهذا هو المعروف من مذهب الشافعي وعليه يدل عموم كلامه حيث قال في شروط أهل الذمة وعلى أن أحدا منكم ان ذكر محمدا أو كتاب الله ودينه بما لاينبغي فقد برئت منه ذمة الله ثم قال وايهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان قولا الا انه لم يصرح بالسب لله فقد يكون عنى إذا ذكروا ما يعتقدونه وكذلك قال ابن القاسم وغيره من المالكية انه يقتل الا ان يسلم وقال ابن مسلمة وابن أبي حازم والمخزومي انه لا يقتل حتى يستتاب فان تاب والا قتل والمنصوص عن مالك انه يقتل ولا يستتاب كما تقدم وهذا معنى قول أحمد رضي الله عنه في إحدى الروايتين

قال في رواية حنبل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب فعليه القتل مسلما كان أو كافرا وهذا مذهب أهل المدينة وظاهر هذه العبارة ان القتل لا يسقط عنه بالتوبة كما لا يسقط القتل عن المسلم بالتوبة فانه قال مثل هذه العبارة في شتم النبي في رواية حنبل أيضا قال كل من شتم النبي مسلما كان أو كافرا فعليه القتل وكان حنبل يعرض عليه مسائل المدنيين ويساله عنها

ثم ان أصحابنا فسروا قوله في شاتم النبي بانه لا يسقط عنه القتل بالتوبة مطلقا وقد تقدم توجيه ذلك وهذا مثله وهذا ظاهر إذا قلنا ان المسلم الذي يسب الله لا يسقط عنه القتل بالتوبة لأن المأخذ عندنا ليس هو الزندقة فانه لو أظهر كفرا غير السب استتبناه وانما المأخذ ان يقتل عقوبة على ذلك وحدا عليه مع كونه كافرا كما يقتل لسائر الأفعال

ويظهر الحكم في المسألة بان يرتب هذا السب ثلاث مراتب

المرتبة الأولى أن من شان الرب بما يتدين به وليس فيه سب لدين الإسلام الا انه سب عند الله تعالى مثل قول النصارى في عيسى ونحو ذلك فقد قال الله تعالى فيما يرويه عنه رسوله شتمني ابن ادم وما ينبغي له ذلك ثم قال واما شتمه اياي فقوله اني اتخذت ولدا وانا الاحد الصمد الذي لم الد ولم أولد فهذا القسم حكمة حكم سائر أنواع الكفر سميت شتما أو لم تسم وقد ذكرنا الخلاف في انتقاض العهد بإظهار مثل هذا وإذا قيل بانتقاض العهد به فسقوط القتل عنه بالإسلام متوجه وهو في الجملة قول الجمهور

المرتبة الثانية ان يذكر ما يتدين به وهو سب لدين المسلمين وطعن عليهم كقول اليهودي للمؤذن كذبت وكرد النصراني على عمر رضي الله عنه وكما لو عاب شيئا من أحكام الله أو كتابه ونحو ذلك فهذا حكمه حكم سب الرسول في انتقاض العهد به وهذا القسم هو الذي عناه الفقهاء في نواقض العهد حيث قالوا إذا ذكر الله أو كتابه أو رسوله أو دينه بسوء ولذلك اقتصر كثير منهم على قوله أو ذكر كتاب الله أو دينه أو رسوله بسوء واما سقوط القتل عنه بالإسلام فهو كسب الرسول الا ان في ذلك حقا لآدمي فمن سلك ذلك المسلك في سب اللرسول فرق بينه وبين هذا وهي طريقة القاضي وأكثر أصحابه ومن قتله لما في ذلك من الجناية على الإسلام وانه محارب لله ورسوله فانه يقتل بكل حال وهو مقتضى أكثر الأدلة التي تقدم ذكرها

المرتبة الثالثة ان يسبه بما لايتدين به بل هو محرم في دينه كما هو محرم في دين الله تعالى كاللعن والتقبيح ونحو ذلك فهذا النوع لا يظهر بينه وبين سب المسلم فرق بل ربما كان فيه اشد لأنه يعتقد تحريم مثل هذا الكلام في دينه كما يعتقد المسلمون تحريمه وقد عاهدناه على أن نقيم عليه الحد فيما يعتقد تحريمه فإسلامه لم يجدد له اعتقادا لتحريمه بل هو فيه كالذمي إذا زنى أو قتل أو سرق ثم أسلم سواء ثم هو مع ذلك مما يؤذي المسلمين كسب الرسول بل اشد فإذا قلنا لا تقبل توبة المسلم من سب الله فان نقول لا تقبل توبة الذمي أولى بخلاف سب الرسول فانه يتدين بتقبيح من يعتقد كذبه ولا يتدين بتقبيح خالقه الذي يقر انه خالقه وقد يكون من هذا الوجه أولى بان لا يسقط عنه القتل ممن سب الرسول ولهذا لم يذكر عن مالك نفسه وأحمد استثناء فيمن سب الله تعالى كما ذكر عنهما الاستثناء فيمن سب الرسول وان كان كثير من أصحابهما يرون الأمر بالعكس وانما قصدا هذا الضرب من السب ولهذا قرنا بين المسلم والكافر فلابد أن يكون سبا منهما واشبه شئ بهذا الضرب من الأفعال زناه بمسلمة فانه محرم في دينه مضر بالمسلمين فإذا أسلم لم يسقط عنه بل اما ان يقتل أو يحد حد الزنى كذلك سب الله تعالى حتى لو فرض ان هذا الكلام لا ينقض العهد لوجب ان يقام عليه حده لأن كل أمر يعتقده محرما فانا نقيم عليه فيه حد الله الذي شرعه في دين الإسلام وان لم يعلم ما حده في كتابه مع ان الاغلب على القلب ان أهل الملل كلهم يقتلون على مثل هذا الكلام كما ان حده في دين الله القتل الا ترى ان النبي لما أقام على الزاني منهم حد الزنى قال اللهم اني أول من احيا أمرك إذ اماتوه ومعلوم ان ذلك الزاني منهم لم يكن يسقط الحد عنه لو أسلم فإقامة الحد على من سب الرب تبارك وتعالى سبا هو سب في دين الله ودينهم عظيم عند الله وعندهم أولى ان يحيا فيه أمر الله ويقام عليه حده

وهذا القسم قد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال

أحدها ان الذمي يستتاب منه كما يستتاب المسلم منه وهذا قول طائفة من المدنيين كما تقدم وكان هؤلاء لم يروه نقضا للعهد لأن ناقض العهد يقتل كما يقتل المحارب ولا معنى لاستتابة الكافر الاصلي والمحارب وانما رأوا حده القتل فجعلوه كالمسلم وهو يستتيبون المسلم فكذلك يستتاب الذمي على قول هؤلاء فالأشبه ان استتابة من السب لا تحتاج إلى إسلامه بل تقبل توبته مع بقائه على دينه

القول الثاني انه لايستتاب لكن ان أسلم لم يقتل وهذا قول ابن القاسم وغيره وهو قول الشافعي وهو إحدى الروايتين عن أحمد وعلى طريقة القاضي لم يذكر فيه خلاف بناء على انه قد نقض عهده فلا يحتاج قتله إلى استتابة لكن إذا أسلم سقط عنه القتل كالحربي

القول الثالث انه يقتل بكل حال وهو ظاهر كلام مالك وأحمد لأن قتله وجب على جرم محرم في دين الله وفي دينه فلم يسقط عنه موجبه بالإسلام كعقوبته على الزنى والسرقة والشرب وهذا القول هو الذي يدل عليه أكثر الأدلة المتقدم ذكرها

فصل[عدل]

السب الذي ذكرنا حكمه من المسلم هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف وهو ما يفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كاللعن والتقبيح ونحوه وهو الذي دل عليه قوله تعالى " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم "

فهذا أعظم ما تفوه به الالسنة فاما ما كان سبا في الحقيقة والحكم لكن من الناس من يعتقده دينا ويراه صوابا وحقا ويظن أن ليس فيه انتقاص ولاتعييب فهذا نوع من الكفر حكم صاحبه اما حكم المرتد المظهر للردة أو المنافق المبطن للنفاق والكلام في الكلام الذي يكفر به صاحبه أو لايكفر وتفصيل الاعتقادات وما يوجب منها الكفر أو البدعة فقط وما اختلف فيه من ذلك ليس هذا موضعه وانما الغرض ان لايدخل هذا في قسم السب الذي تكلمنا في استتابة صاحبه نفيا واثباتا والله أعلم

فصل[عدل]

فان سب موصوفا بوصف أو مسمى باسم وذلك يقع على الله سبحانه أو بعض رسله خصوصا أو عموما لكن قد أظهر انه لم يقصد ذلك اما لاعتقاده ان الوصف أو الاسم لا يقع عليه أو لأنه وان كان يعتقد وقوعه عليه لكن ظهر انه لم يرده لكون الاسم في الغالب لا يقصد به ذلك بل غيره فهذا القول وشبهه حرام في الجملة يستتاب صاحبه منه ان لم يعلم انه حرام ويعزر مع العلم تعزيرا بليغا لكن لا يكفر بذلك ولايقتل وان كان يخاف عليه الكفر

مثال الأول سب الدهر الذي فرق بينه وبين الاحبة أو الزمان الذي احوجه إلى الناس أو الوقت الذي ابلاه بمعاشرة من ينكد عليه ونحو ذلك مما يكثر الناس قوله نظما ونثرا فانه إنما يقصد ان يسب من فعل ذلك به ثم انه يعتقد أو يقول إن فاعل ذلك هو الدهر الذي هو الزمان فيسبه وفاعل ذلك إنما هو الله سبحانه فيقع السب عليه من حيث لم يعتمده المرء والى هذا أشار النبي بقوله لا تسبوا الدهر فان الله هو الدهر بيده الأمر وقوله فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى يقول ابن ادم يا خيبة الدهر وانا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار فقد نهى النبي عن هذا القول وحرمه ولم يذكر كفرا ولا قتلا والقول المحرم يقتضي التعزيز والتنكيل

ومثال الثاني ان يسب مسمى باسم عام يندرج فيه الأنبياء وغيرهم لكن يظهر انه لم يقصد الأنبياء من ذلك العام مثل ما نقل الكرماني قال سالت أحمد قلت رجل افترى على رجل فقال يا ابن كذا وكذا إلى ادم وحواء فعظم ذلك جدا وقال نسال الله العافية لقد أتى هذا عظيما وسئل عن الحد فيه فقال لم يبلغني في هذا شيء وذهب إلى حد واحد وذكر هذا أبو بكر عبد العزيز أيضا فلم يجعل أحمد رضي الله عنه بهذا القول كافرا مع ان اللفظ يدخل فيه نوح وادريس وشيث وغيرهم من النبيين لأن الرجل لم يدخل ادم وحواء في عمومه وانما جعلها غاية وحدا لمن قذفه والا لو كانا من المقذوفين تعين قتله بلا ريب ومثل هذا العموم في مثل هذا الحال لايكاد يقصد به صاحبه من يدخل فيه من الأنبياء فعظم الإمام أحمد ذلك لأن أحسن أحواله أن يكون قذف خلقا من المؤمنين ولم يوجب الا حدا واحدا لأن الحد هنا ثبت للحي ابتداء على أصله وهو واحد وهذا قول أكثر المالكية في مثل ذلك

ذهب سحنون واصبغ وغيرهما في رجل قال له غريمه صلى الله على النبي محمد فقال له الطالب لا صلى الله على من صلى عليه قال سحنون ليس هو كمن شتم النبي أو شتم الملائكة الذين يصلون عليه إذا كان على ما وصف من الغضب لأنه إنما شتم الناس وقال اصبغ وغيره لا يقتل إنما شتم الناس وكذلك قال ابن أبي زيد فيمن قال لعن الله العرب ولعن الله بني إسرائيل ولعن الله بني ادم وذكر انه لم يرد الأنبياء وانما اردت الظالمين منهم ان عليه الادب بقدر اجتهاد السلطان

وذهب طائفة منهم الحارث بن مسكين وغيره إلى القتل في مسالة المصلي ونحوها وكذلك قال أبو موسى بن مناس فيمن قال لعنه الله إلى ادم أنه يقتل وهذه مسألة الكرماني بعينها وهذا قياس أحد الوجهين لأصحابنا فيمن قال عصيت الله في كل ما أمرني به فان أكثر أصحابنا قالوا ليس ذلك بيمين لأنه إنما التزم المعصية كما لو قال محوت المصحف أو شربت الخمر ان فعلت كذا ولم يظهر قصد إرادة الكفر من هذا العموم لأنه لو أراده لذكره باسمه الخاص ولم يكتف بالاسم الذي يشركه فيه جميع المعاصي

ومنهم من قال هو يمين لأن مما أمره الله به الايمان ومعصيته فيه كفر ولو التزم الكفر بيمينه بان قال هو يهودي أو نصراني أو هو برئ من الله أو من الإسلام أو هو يستحل الخمر والخنزير أو لا يراه الله في مكان كذا ان فعل كذا ونحوه كان يمينا في المشهور عنه ووجه هذا القول إن اللفظ عام فلا يقبل منه دعوى الخصوص ولعل من يختار هذا يحمل كلام الإمام أحمد على أن القائل كان جاهلا بان في النسب أنبياء

ووجه الأول ان أبا بكر رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي امية في المراة التي كانت تهجو المسلمين يلومه على قطع يدها ويذكر له انه كان الواجب ان يعاقبها بالضرب مع ان الأنبياء يدخلون في عموم هذا اللفظ ولان الالفاظ العامة قد كثرت وغلب إرادة الخصوص بها فإذا كان اللفظ لفظ سب وقذف وللأنبياء ونحوهم من الخصائص والمزايا ما يوجب ذكرهم بأخص اسمائهم إذا أريد ذكرهم والغضب يحمل الانسان على التجوز في القول والتوسع فيه كان ذلك قرائن عرفية ولفظية وحالية في انه لم يقصد دخولهم في العموم لا سيما إذا كان دخول ذلك الفرد في العموم لا يكاد يشعر به

ويؤيد هذا ان يهوديا قال في عهد النبي والذي اصطفى موسى على العالمين فلطمه المسلم حتى شكاه إلى النبي ونهى النبي عن تفضيله على موسى لما فيه من انتقاض المفضول بعينه والغض منه ولو ان اليهودي أظهر القول بان موسى أفضل من محمد لوجب التعزير عليه إجماعا أما بالقتل أو بغيره كما تقدم التنبيه عليه

فصل[عدل]

والحكم في سب سائر الأنبياء كالحكم في سب نبينا فمن سب نبيا مسمى باسمه من الأنبياء المعروفين كالمذكورين في القران أو موصوفا بالنبوة مثل ما يذكر حديثا ان نبيا فعل كذا أو قال كذا فيسب ذلك القائل أو الفاعل مع العلم بانه نبي وان لم يعلم من هو أو يسب نوع الأنبياء على الاطلاق فالحكم في هذا كما تقدم لأن الايمان بهم واجب عموما وواجب الايمان خصوصا بمن قصه الله علينا في كتابه وسبهم كفر وردة ان كان من مسلم ومحاربة ان كان من ذمي

وقد تقدم في الأدلة الماضية ما يدل على ذلك بعمومه لفظا أو معنى وما اعلم أحدا فرق بينهما وان كان أكثر كلام الفقهاء إنما فيه ذكر من سب نبيا فانما ذلك لمسيس الحاجة إليه وانه وجب التصديق له والطاعة له جملة وتفضيلا ولا ريب ان جرم سابه أعظم من جرم ساب غيره كما ان حرمته أعظم من حرمة غيره وان شاركه سائر اخوانه من النبيين والمرسلين في ان سابهم كافر محارب حلال الدم

فاما ان سب نبيا غير معتقد لنبوته فانه يستتاب من ذلك إذا كان ممن علمت نبوته بالكتاب والسنة لأن هذا جحد لنبوته ان كان ممن يجهل انه نبي واما ان كان ممن لايجهل انه نبي فانه سب محض ولا يقبل قوله اني لم اعلم انه نبي

فصل[عدل]

فاما من سب أزواج النبي فقال القاضي أبو يعلى من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد وصرح غير واحد من الائمة بهذا الحكم

فروي عن مالك من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل قيل له لم قال من رماها فقد خالف القران ولان الله تعالى قال " يعظكم الله ان تعودوا لمثله أبدا كنتم مؤمنين "

وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري سمعت القاسم بن محمد يقول لإسماعيل بن إسحاق أتى المأمون بالرقة برجلين شتم أحدهما فاطمة والآخر عائشة فأمر بقتل الذي شتم فاطمة وترك الآخر فقال إسماعيل ما حكمهما الا ان يقتلا لأن الذي شتم عائشة رد القران وعلى هذا مضت سيرة أهل الفقه والعلم من أهل البيت وغيرهم

قال أبو السائب القاضي كنت يوما بحضرة الحسن بن زيد الداعي بطبرستان وكان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوجه في كل سنة بعشرين الف دينار إلى مدينة السلام يفرق على سائر ولد الصحابة وكان بحضرته رجل ذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة فقال يا غلام اضرب عنقه فقال له العلويون هذا رجل من شيعتنا فقال معاذ الله هذا رجل طعن على النبي قال الله تعالى " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم " فان كانت عائشة خبيثة فالنبي خبيث فهو كافر فاضربوا عنقه فضربوا عنقه وانا حاضر رواه اللالكائي

وروي عن محمد بن زيد اخي الحسن بن زيد انه قدم عليه رجل من العراق فذكر عائشة بسوء فقام إليه بعمود فضرب به دماغه فقتله فقيل له هذا من شيعتنا ومن يتولانا فقال هذا سمى جدي قرنان ومن مسمي جدي قرنان استحق القتل فقتله

وأما من سب غير عائشة من أزواجه ففيه قولان

أحدهما انه كساب غيرهن من الصحابة على ما سيأتي

والثاني وهو الاصح ان من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها وقد تقدم معنى ذلك عن ابن عباس وذلك لأن هذا فيه عار وغضاضة على رسول الله واذى له أعظم من اذاه بنكاحهن بعده وقد تقدم التنبيه على ذلك فيما مضى عند الكلام على قوله " ان الذين يؤذون الله ورسوله " الآية والأمر فيه ظاهر

فصل[عدل]

فاما من سب أحدا من أصحاب رسول الله من أهل بيته وغيرهم فقد أطلق الإمام أحمد انه يضرب ضربا نكالا وتوقف عن كفره وقتله

قال أبو طالب سألت أحمد عمن شتم أصحاب النبي قال القتل اجبن عنه ولكن اضربه ضربا نكالا

وقال عبد الله سألت أبي عمن شتم رجلا من أصحاب النبي قال أرى ان يضرب قلت له حد فلم يقف على الحد الا انه قال يضرب وقال ما اراه على الإسلام

وقال سالت أبي من الرافضة فقال الذين يشتمون أو يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما

وقال في الرسالة التي رواها أبو العباس أحمد بن يعقوب الاصطخري وغيره وخير الامة بعد النبي أبو بكر وعمر بعد أبي بكر وعثمان بعد عمر وعلي بعد عثمان ووقف قوم على عثمان وهم خلفاء راشدون مهديون ثم أصحاب رسول الله بعد هؤلاء الأربعة خير الناس لا يجوز لاحد ان يذكر شيئا من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له ان يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه فان تاب قبل منه وان ثبت اعاد عليه العقوبة وخلده الحبس حتى يموت أو يراجع

وحكى الإمام أحمد هذا عمن ادركه من أهل العلم وحكاه الكرماني عنه وعن إسحاق والحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم

وقال الميموني سمعت أحمد يقول ما لهم ولمعاوية نسأل الله العافية وقال لي يا أبا الحسن إذا رأيت أحدا يذكر أصحاب رسول الله بسوء فاتهمه على الإسلام

فقد نص رضي الله عنه على جواب تعزيره واستتابة حتى يرجع بالجلد وان لم ينته حبس حتى يموت أو يراجع وقال ما اراه على الإسلام واتهمه على الإسلام وقال اجبن عن قتله

وقال إسحاق بن راهويه من شتم أصحاب النبي يعاقب ويحبس

وهذا قول كثير أصحابنا منهم ابن أبي موسى قال ومن سب السلف من الروافض فليس بكفؤ ولا يزوج ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد مرق من الدين ولم ينعقد له نكاح على مسلمة الا ان يتوب ويظهر توبته وهذا في الجملة قول عمر بن عبد العزيز وعاصم الاحول وغيرهما من التابعين

قال الحارث بن عتبة ان عمر بن عبد العزيز أتى برجل سب عثمان فقال ما حملك على أن سببته قال ابغضه قال وان ابغضت رجلا سببته قال فامر به فجلد ثلاثين سوطا

وقال ابراهيم بن ميسرة ما رايت عمر بن عبد العزيز ضرب انسانا قط الا انسانا شتم معاوية فضربه اسواطا رواهما اللالكائي

وقد تقدم انه كتب في رجل سبه لا يقتل الا من سب النبي ولكن اجلده فوق راسه اسواطا ولولا اني رجوت ان ذلك خير له لم افعل

وروى الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا عاصم الاحول قال اتيت برجل قد سب عثمان قال فضربته عشرة اسواط قال ثم عاد لما قال فضربته عشرة أخرى قال فلم يزل يسبه حتى ضربته سبعين سوطا

وهذا هو المشهور من مذهب مالك قال مالك من شتم النبي قتل ومن شتم أصحابه ادب

وقال عبد الملك بن حبيب من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه ادب ادبا شديدا ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه اشد ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى يموت ولا يبلغ به القتل الا في سب النبي

وقال ابن المنذر لا اعلم أحدا يوجب قتل من سب من بعد النبي

وقال القاضي أبو يعلى الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة ان كان مستحلا لذلك كفر وان لم يكن مستحلا فسق ولم يكفر سواء كفرهم أو طعن في دينهم مع إسلامهم

وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سب الصحابة وكفر الرافضة قال محمد بن يوسف الفريابي وسئل عمن شتم أبا بكر قال كافر قيل فيصلى عليه قال لا وسأله كيف يصنع به وهو يقول لا إله إلا الله قال لا تمسوه بأيديكم ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته

وقال أحمد بن يونس لو ان يهوديا ذبح شاة وذبح رافضي لأكلت ذبيحة اليهودي ولم اكل ذبيحة الرافضي لأنه مرتد عن الإسلام

وكذلك قال أبو بكر بن هانيء لا تؤكل ذبيحة الروافض والقدرية كما لا تؤكل ذبيحة المرتد مع انه تؤكل ذبيحة الكتابي لأن هؤلاء يقامون مقام المرتد وأهل الذمة يقرون على دينهم وتؤخذ منهم الجزية

وكذلك قال عبد الله بن ادريس من اعيان ائمة الكوفة ليس لرافضي شفعه لأنه لا شفعة الا لمسلم

وقال فضيل بن مرزوق سمعت الحسن بن الحسن يقول لرجل من الرافضة والله ان قتلك لقربة إلى الله وما امتنع من ذلك الا بالجوار وفي رواية قال رحمك الله قد عرفت إنما تقول هذا تمزح قال لا والله ما هو بالمزح ولكنه الجد قال وسمعته يقول لئن أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم

وصرح جماعات من أصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من علي وعثمان وبكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة الذين كفروا الصحابة وفسقوهم وسبوهم

وقال أبو بكر عبد العزيز في المقنع واما الرافضي فان كان يسب فقد كفر فلا يزوج

ولفض بعضهم وهو الذي نصره القاضي أبو يعلى انه ان سبهم سبا يقدح في دينهم أو عدالتهم كفر بذلك وان كان سبا لا يقدح مثل ان يسب أبا أحدهم أو يسبه سبا يقصد به غيظه ونحو ذلك لم يكفر

قال أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتم عثمان هذه زندقة وقال في رواية المروذي من شتم أبا بكر وعمر وعائشة ما اراه على الإسلام وقال في رواية حنبل من شتم رجلا من أصحاب النبي ما اراه على الإسلام

قال القاضي أبو يعلى فقد أطلق القول فيه انه يكفر بسبه لاحد من الصحابة وتوقف في رواية عبد الله وابي طالب عن قتله وكمال الحد وايجاب التعزير يقتضي انه لم يحكم بكفره

قال فيحتمل ان يحمل قوله ما اراه على الإسلام إذا استحل سبهم بانه يكفر بلا خلاف ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن ياتي المعاصي قال ويحتمل ان يحمل قوله ما اراه على الإسلام على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله ظلموا وفسقوا بعد النبي واخذوا الأمر بغير حق ويحمل قوله في إسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم نحو قوله كان فيهم قلة علم وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة وكان فيهم شح ومحبة للدنيا ونحو ذلك قال ويحتمل ان يحمل كلامه على ظاهره فتكون في سابهم روايتان إحداهما يكفر والثانية يفسق وعلى هذا استقر قول القاضي وغيره حكوا في تكفيرهم روايتين

قال القاضي ومن قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه كفر بلا خلاف

ونحن نرتب الكلام في فصلين أحدهما في حكم سبهم مطلقا والثاني في تفصيل أحكام السب

أما الأول فسب أصحاب رسول الله حرام بالكتاب والسنة

أما الأول فلأن الله سبحانه يقول " ولا يغتب بعضكم بعضا " وأدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتابا وقال تعالى " ويل لكل همزة لمزة " والطاعن عليهم همزة لمزة وقال " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا " وهم صدور المؤمنين فانهم هم المواجهون بالخطاب في قوله تعالى " يا ايها الذين آمنوا " حيث ذكرت ولم يكتسبوا ما يوجب اذاهم لأن الله سبحانه رضي عنهم رضى مطلقا بقوله تعالى " والسابقون الأولون من المهاجرين والانصار والذين اتبوعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه " فرضي عن السابقين من غير اشتراط احسان ولم يرض عن التابعين الا ان يتبعوهم باحسان وقال تعالى " لقد رضي الله عن المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة " والرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى الا عن عبد علم انه يوافقه على موجبات الرضى ومن رضى الله عنه لم يسخط عليه أبدا وقوله تعالى " إذ يبايعونك " سواء كانت ظرفا محضا أو ظرفا فيها معنى التعليل فان ذلك ظرف لتعلق الرضى بهم فانه يسمى رضى أيضا كما في تعلق العلم والمشيئة والقدرة وغير ذلك من صفات الله سبحانه وقيل بل الظرف يتعلق بنفس الرضى وانه يرضى عن المؤمن بعد ان يطعيه ويسخط عن الكافر بعد ان يعصيه ويحب من اتبع الرسول بعد اتباعه له وكذلك أمثال هذا وهذا قول جمهور السلف وأهل الحديث وكثير من أهل الكلام وهو الأظهر وعلى هذا فقد بين في مواضع آخر ان هؤلاء الذين رضي الله عنهم هم من أهل الثواب في الآخرة يموتون على الايمان الذي به يستحقون ذلك كما في قوله تعالى " والسابقون الأولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه واعد لهم جنات تجري تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم "

وقد ثبت في الصحيح عن النبي انه قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة

وأيضا فكل من أخبر الله أنه رضي عنه فانه من أهل الجنة وان كان رضاه عنه بعد ايمانه وعمله الصالح فانه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح عليه فلو علم انه يتعقب ذلك ما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك

وهذا كما في قوله تعالى " يا ايتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " ولانه سبحانه وتعالى قال " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم انه بهم رءوف رحيم " وقال سبحانه وتعالى " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " وقال تعالى " محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا " الآية وقال تعالى " كنتم خير امة أخرجت للناس " " وكذلك جعلناكم امة وسطا " وهو أول من وجه بهذا الخطاب فهم مرادون بلا ريب وقال سبحانه وتعالى " والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولاتجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا انك رءوف رحيم " فجعل سبحانه ما افاء الله على رسوله من أهل القرى للمهاجرين والانصار والذين جاءوا من بعدهم مستغفرين للسابقين ودأعين الله ان لايجعل في قلوبهم غلا لهم فعلم ان الاستغفار لهم وطهارة القلب من الغل لهم أمر يحبه الله ويرضاه ويثني على فاعله كما انه قد أمر بذلك رسوله في قوله تعالى " فاعلم انه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات " وقال تعالى " فاعف عنهم واستغفر لهم " ومحبة الشيء كراهة لضده فيكون الله سبحانه وتعالى يكره السب لهم الذي هو ضد الاستغفار والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة وهذا معنى قوله عائشة رضي الله عنها أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد فسبوهم رواه مسلم

وعن مجاهد عن ابن عباس قال لا تسبوا أصحاب محمد فان الله قد أمرنا بالاستغفار لهم وقد علم انهم سيقتتلون رواه الإمام أحمد

وعن سعد بن أبي وقاص قال الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة فأحسن ما أنتم كائنون عليه ان تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت قال ثم قرأ " للفقراء المهاجرين " إلى قوله " ورضوانا " فهؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت " والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم " إلى قوله " ولو كان بهم خصاصة " قال هؤلاء الانصار وهذه منزلة قد مضت ثم قرا " والذين جاءوا من بعدهم " إلى قوله " رحيم " قد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة فأحسن ما أنتم كائنون عليه ان تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت يقول إن تستغفروا لهم ولان من حاز سبه لعينه أو لعنته لم يجز الاستغفار له كما لا يجوز الاستغفار للمشركين لقوله تعالى " ما كان للنبي والذين آمنوا ان يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم انهم أصحاب الجحيم " وكما لا يجوز ان يستغفرلجنس العاصين مسمين باسم المعصية لأن ذلك لا سبيل إليه ولانه شرع لنا ان نسأل الله ان لايجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا والسب باللسان أعظم من الغل الذي لاسب معه ولو كان الغل عليهم والسب لهم جائزا لم يشرع لنا ان نسأله ترك مالا يضر فعله ولانه وصف مستحقي الفيء بهذه الصفة كما وصف السابقين بالهجرة والنصرة فعلم ان ذلك صفة لهم وشرط فيهم ولو كان السب جائزا لم يشترط في استحقاق الفيء ترك أمر جائز كما لايشترط ترك سائر المباحات بل لو لم يكن الاستغفار لهم واجبا لم يكن شرطا في استحقاق الفيء لأن استحقاق الفيىء لا يشترط فيه ما ليس بواجب بل هذا دليل على أن الاستغفار لهم داخل في عقد الدين واصله

وأما السنة ففي الصحيحين عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو ان احدكم انفق مثل أحد ذهبا ما ادرك مد أحدهم ولانصيفه

وفي رواية لمسلم واستشهد بها البخاري قال كان بين خالد ابن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله لا تسبوا أصحابي فان احدكم لو انفق مثل أحد ذهبا ما ادرك مد أحدهم ولا نصيفه

وفي رواية للبرقاني في صحيحه لا تسبوا أصحابي دعوا لي أصحابي فان احدكم لو انفق كل يوم مثل أحد ذهبا ما ادرك مد أحدهم ولا نصيفه

والأصحاب جمع صاحب والصاحب اسم فاعل من صحبه يصحبه وذلك يقع على قليل الصحابة وكثيرها لأنه يقال صحبته ساعة وصحبته شهرا وصحبته سنة قال الله تعالى " والصاحب بالجنب " قد قيل هو الرفيق في السفر وقيل هو الزوجة ومعلوم ان صحبة الرفيق وصحبة الزوجة قد تكون ساعة فما فوقها وقد اوصى الله به احسانا ما دام صاحبا وفي الحديث عن النبي خير الأصحاب عنه الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره وقد دخل في ذلك قليل الصحبة وكثيرها وقليل الجوار وكثيره وكذلك قال الإمام أحمد وغيره كل من صحب النبي سنة أو شهرا أو يوما أو راه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة بقدر ذلك

فإن قيل فلم نهى خالد عن ان يسب أصحابه إذا كان من أصحابه أيضا وقال لو ان احدكم انفق مثل أحد ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه

قلنا لأن عبد الرحمن بن عوف ونظراءه هم من السابقين الأولين الذين صحبوه في وقت كان خالد وأمثاله يعادونه فيه وانفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا وهو أعظم درجة من الذين انفقوا من بعد الفتح وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى فقد انفردوا من الصحبة بما لم يشركهم فيه خالد فنهى خالدا ونظراءه ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل ان يسب أولئك الذين صحبوه قبله ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه كنسية خالد إلى السابقين وابعد

وقوله لاتسبوا أصحابي خطاب لكل أحد ان يسب من انفرد عنه بصحبته وهذا كقوله في حديث آخر ايها الناس اني اتيتكم فقلت اني رسول الله اليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت فهل أنتم تاركوا لي صاحبي فهل أنتم تاركوا لي صاحبي أو كما قال بابي هو وامي قال ذلك لما غامر بعض الصحابة أبا بكر وذاك الرجل من فضلاء أصحابه ولكن امتاز أبو بكر بصحبة انفرد بها عنها

وعن محمد بن طلحة المدني عن عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة عن ابيه عن جده قال قال رسول الله ان الله اختارني واختار لي أصحابا جعل لي منهم وزراء وانصارا واصهارا فمن سبه فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا وهذا محفوظ بهذا الإسناد

وقد روى ابن ماجة بهذا الإسناد حديثا وقال أبو حاتم في محمد هذا محله الصدق يكتب حديثه ولا يحتج به على انفراده ومعنى هذا الكلام انه يصلح للاعتبار بحديثه والاستشهاد به فإذا عضده آخر مثله جاز ان يحتج به ولا يحتج به على انفراده

وعن عبد الله بن مغفل قال قال رسول الله الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي من أحبهم فقد أحبني ومن ابغضهم فقد ابغضني ومن اذاهم فقد اذاني ومن اذاني فقد اذى الله ومن اذى الله فيوشك ان يأخذه رواه الترمذي وغيره من حديث عبيدة ابن أبي رائطة عن عبد الرحمن بن زياد عنه وقال الترمذي غريب لا نعرفه الا من هذا الوجه

وروي هذا المعنى من حديث أنس أيضا ولفظه من سب أصحابي فقد سبني ومن سبني فقد سب الله رواه ابن البناء وعن عطاء بن أبي رباح عن النبي قال لعن الله من سب أصحابي رواه أبو أحمد الزبيري حدثنا محمد بن خالد عنه وقد روي عنه عن ابن عمر مرفوعا من وجهه آخر رواهما اللالكائي

وقال علي بن عاصم انبأ أبو قحذم حدثني أبو قلابة عن ابن مسعود قال قال رسول الله إذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا رواه اللالكائي

ولما جاء فيه من الوعيد قال ابراهيم النخعي كان يقال شتم أبي بكر وعمر من الكبائر وكذلك قال أبو إسحاق السبيعي شتم أبي بكر وعمر من الكبائر التي قال الله تعالى " ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " وإذا كان شتمهم بهذه المثابة فاقل ما فيه التعزير لأنه مشروع في كل معصية ليس فيها حدا ولا كفارة وقد قال انصر اخاك ظالما أو مظلوما وهذا مما لا نعلم فيه خلافا بين أهل الفقه والعلم من أصحاب النبي والتابعين لهم باحسان وسائر أهل السنة والجماعة فانهم مجمعون على أن الواجب الثناء عليهم والاستغفار لهم والترحم عليهم والترضي عنهم واعتقاد محبتهم وموالاتهم وعقوبة من اساء فيهم القول

ثم من قال لا اقتل بشتم غير النبي فانه يستدل بقصة أبي بكر المتقدمة وهو ان رجلا اغلظ له وفي روايه شتمه فقال له أبو برزة اقتله فانتهره وقال ليس هذا لاحد بعد النبي وبانه كتب إلى المهاجر بن أبي امية ان حد الأنبياء ليس يشبه الحدود كما تقدم ولان الله تعالى ميز بين مؤذي الله ورسوله ومؤذي المؤمنين فجعل الأول ملعونا في الدنيا والآخرة وقال في الثاني " فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا " ومطلق البهتان والإثم ليس بموجب للقتل وانما هو موجب للعقوبة في الجملة فتكون عليه عقوبة مطلقة ولا يلزم من العقوبة جواز القتل ولان النبي قال لا يحل دم أمرىء مسلم يشهد ان لا إله إلا الله الا بإحدى ثلاث كفر بعد ايمان أو زنى بعد احصان أو رجل قتل نفسا فيقتل بها ومطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر لأن بعض من كان على عهد النبي كان ربما سب بعضهم بعضا ولم يكفر أحدا بذلك ولان اشخاص الصحابة لا يجب الايمان بهم باعيانهم فسب الواحد لا يقدح في الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر

وأما من قال يقتل الساب أو قال يكفر فلهم دلالات احتجوا بها

منها قوله تعالى " محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم " إلى قوله تعالى " ليغيظ بهم الكفار " فلابد ان يغيظ بهم الكفار وإذا كان الكفار يغاظون بهم فمن غيظ

بهم فقد شارك الكفار فيما اذلهم الله به واخزاهم وكبتهم على كفرهم ولا يشارك الكفار في غيظهم الذين كبتوا به جزاء لكفرهم الا كافر لأن المؤمن لا يكبت جزاء للكفر

يوضح ذلك ان قوله تعالى " ليغيظ بهم الكفار " تعليق للحكم بوصف مشتق مناسب لأن الكفر مناسب لأن يغاظ صاحبه فإذا كان هو الموجب لأن يغيظ الله صاحبه بأصحاب محمد فمن غاظه الله بأصحاب محمد فقد وجد في حقه موجب ذاك وهو الكفر

قال عبد الله ابن ادريس الاودي الإمام ما امن أن يكونوا قد ضارعوا الكفار يعني الرافضة لأن الله تعالى يقول " ليغيظ بهم الكفار " وهذا معنى قول الإمام أحمد ما اراه على الإسلام

ومن ذلك ما روى عن النبي انه قال من ابغضهم فقد ابغضني ومن اذاهم فقد اذاني ومن اذاني فقد اذى الله وقال فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا واذى الله ورسوله كفر موجب للقتل كما تقدم وبهذا يظهر الفرق بين اذاهم قبل استقرار الصحبة واذى سائر المسلمين وبين اذاهم بعد صحبتهم له فانه على عهده قد كان الرجل ممن يظهر الإسلام يمكن أن يكون منافقا ويمكن ان يرتد فأما إذا مات مقيما على صحبه النبي وهو غير مزنون بنفاق فاذاه اذى مصحوبه قال عبد الله بن مسعود اعتبروا الناس باخدانهم وقالوا

عن المرء لا تسال وسل عن قرينه ** فكل قرين بالمقارن يقتدي

وقال مالك رضي الله عنه إنما هؤلاء قوم أرادوا القدح في النبي فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه حتى يقال رجل سوء كان له أصحاب سوء ولو كان رجلا صالحا كان أصحابه صالحين أو كما قال وذلك انه ما منهم رجل الا كان ينصر الله ورسوله ويذب عن رسول الله بنفسه وماله ويعينه على إظهار دين الله واعلاء كلمة الله وتبليغ رسالات الله وقت الحاجة وهو حينئذ لم يستقر أمره ولم تنتشر دعوته ولم تطمئن قلوب أكثر الناس بدينه ومعلوم ان رجلا لو عمل به بعض الناس نحو هذا ثم اذاه أحدا لغضب له صاحبه وعد ذلك اذى له والى هذا أشار ابن عمر قال نسير بن ذعلوق سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول لا تسبوا أصحاب محمد فان مقام أحدهم خير من عملكم كله رواه اللالكائي وكانه اخذه من قول النبي لو انفق احدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم أو نصيفه وهذا تفاوت عظيم جدا

ومن ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة انه لعهد النبي الامي الي انه لايحبك الا مؤمن ولا يبغضك الامنافق رواه مسلم

ومن ذلك ما خرجاه في الصحيحين عن أنس ان النبي قال اية الايمان حب الانصار واية النفاق بغض الانصار وفي لفظ قال في الانصار لا يحبهم الا مؤمن ولا يبغضهم الا منافق

وفي الصحيحين أيضا عن البراء بن عازب عن النبي انه قال في الانصار لا يحبهم الا مؤمن ولا يبغضهم الا منافق من أحبهم أحبه الله ومن ابغضهم ابغضه الله

وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال لا يبغض الانصار رجل امن بالله واليوم الآخر

وروى مسلم أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي قال لا يبغض الانصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر

فمن سبهم فقد زاد على بغضهم فيجب أن يكون منافقا لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر وانما خص الانصار والله أعلم لأنهم هم الذين تبؤوا الدار والايمان من قبل المهاجرين واووا رسول الله ونصروه ومنعوه وبذلوا في إقامة الدين النفوس والأموال وعادوا الاحمر والاسود من اجله واووا المهاجرين وواسوهم في الأموال وكان المهاجرون إذ ذاك قليلا غرباء فقراء مستضعفين ومن عرف السيرة وايام رسول الله وما قاموا به من الأمر ثم كان مؤمنا يحب الله ورسوله لم يملك ان لا يحبهم كما ان المنافق لا يملك ان لا يبغضهم وأراد بذلك والله أعلم ان يعرف الناس قدر الانصار لعلمه بان الناس يكثرون والانصار يقلون وان الأمر سيكون في المهاجرين فمن شارك الانصار في نصر الله ورسوله بما أمكنه فهو شريكهم في الحقيقة كما قال تعالى " يا ايها الذين آمنوا كونوا انصار الله " فبغض من نصر الله ورسوله من أصحابه نفاق

ومن هذا رواه طلحة بن مصرف قال كان يقال بغض بني هاشم نفاق وبغض أبي بكر وعمر نفاق والشاك في أبي بكر كالشاك في السنة

ومن ذلك ما راوه كثير النواء عن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن ابيه عن جده قال قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال رسول الله يظهر في امتي في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام هكذا راوه عبد الله ابن أحمد في مسند ابيه

وفي السنة من وجوه صحيحة عن يحيى بن عقيل حدثنا كثير ورواه أيضا من حديث أبي شهاب عبد ربه بن نافع الخياط عن كثير النواء عن ابراهيم بن الحسن عن ابيه عن جده يرفعه قال يجيء قوم قبل قيام الساعة يسمون الرافضة براء من الإسلام وكثيرالنواء يضعفونه

وروى أبو يحيى الحماني عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني أو النخعي عن عمه عن علي قال قال لي النبي يا علي أنت وشيعتك في الجنة وان قوما لهم نبز يقال لهم الرافضة ان ادركتهم فاقتلهم فانهم مشركون قال علي ينتحلون حبنا أهل البيت وليسوا كذلك واية ذلك انه يشتمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ورواه عبد الله بن أحمد حدثني محمد بن إسماعيل الاحمسي حدثنا أبو يحيى

ورواه أبو بكر الأثرم في سننه حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي جناب عن أبي سليمان الهمداني عن رجل من قومه قال قال علي قال رسول الله الا ادلك على عمل إذا عملته كنت من أهل الجنة وانك من أهل الجنة انه سيكون بعدنا قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة فان ادركتموهم فاقتلوهم فانهم مشركون قال وقال علي رضي الله عنه سيكون بعدنا قوم ينتحلون مودتنا يكذبون علينا مارقة اية ذلك انهم يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما

ورواه أبو القاسم البغوي حدثنا سويد بن سعيد قال حدثنا محمد بن خازم عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني عن علي رضي الله عنه قال يخرج في آخر الزمان قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة يعرفون به وينتحلون شيعتنا وليسوا من شيعتنا واية ذلك انهم يشتمون أبا بكر وعمر اينما ادركتموهم فاقتلوهم فانهم مشركون

وقال سويد حدثنا مرون بن معاوية عن حماد بن كيسان عن ابيه وكانت اخته سرية لعلي رضي الله عنه قال سمعت عليا يقول يكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يسمون الرافضة يرفضون الإسلام فاقتلوهم فانهم مشركون فهذا الموقوف على علي رضي الله عنه شاهد في المعنى لذلك المرفوع

وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث أم سلمة وفي إسناده سوار ابن مصعب وهو متروك

وروي ابن بطة بإسناده عن أنس قال قال رسول الله ان الله اختارني واختار لي أصحابي فجعلهم انصاري وجعلهم اصهاري وانه سيجيء في آخر الزمان قوم ينتقصونهم الا فلا تواكلوهم ولا تشاربوهم الا فلا تناكحوهم الا فلا تصلوا معهم ولا تصلوا عليهم عليهم حلة اللعنة وفي هذا الحديث نظر

وروى ما هو اغرب من هذا واضعف رواه ابن البناء عن أبي هريرة قال قال رسول الله لا تسبوا أصحابي فان كفارتهم القتل

وأيضا فان هذا ماثور عن أصحاب النبي فروى أبو الاحوص عن مغيرة عن شباك عن ابراهيم قال بلغ علي بن أبي طالب ان عبد الله بن السوداء ينتقص أبا بكر وعمر فهم بقتله فقيل له تقتل رجلا يدعو إلى حبكم أهل البيت فقال لايساكنني في دار أبدا

وفي رواية عن شباك قال بلغ عليا ان ابن السوداء انتقص أبا بكر وعمر قال فدعاه ودعا بالسيف أو قال فهم بقتله فكلم فيه فقال لا يساكنني ببلد انا فيه فنفاه إلى المدائن وهذا محفوظ عن أبي الاحوص وقد رواه النجاد وابن بطه واللالكائي وغيرهم ومراسيل ابراهيم جياد لا يظهر علي رضي الله عنه انه يريد قتل رجل الا وقتله حلال عنده ويشبه والله أعلم أن يكون إنما تركه خوف الفتنه بقتله كما كان النبي يمسك عن قتل بعض المنافقين فان الناس تشتتت قلوبهم عقب فتنة عثمان رضي الله عنه وصار في عسكره من أهل الفتنة اقوام لهم عشائر لو أراد الانتصار منهم لغضبت لهم عشائرهم وبسبب هذا وشبهه كانت فتنة الجمل

وعن سلمة بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن بن ابزي قال قلت لأبي ياابت لو كنت سمعت رجلا يسب عمر بن الخطاب ماكنت تصنع به قال كنت اضرب عنقه هكذا رواه الاعمش عنه

ورواه الثوري عنه ولفظه قلت لأبي يا ابت لو اتيت برجل يشهد على عمر ابن الخطاب بالكفر اكنت تضرب عنقه قال نعم رواهما الإمام أحمد وغيره

ورواه ابن عيينه عن خلف بن حوشب عن سعيد بن عبد الرحمن ابن ابزي قال قلت لأبي لو اتيت برجل يسب أبا بكر ماكنت صانعا قال اضرب عنقه قلت فعمر قال اضرب عنقه وعبد الرحمن ابن ابزي من أصحاب النبي ادركه وصلى خلفه واقره عمر رضي الله عنه عاملا على مكة وقال هو ممن رفعه الله بالقران بعد ان قيل له انه عالم بالفرائض قاريء لكتاب الله واستعمله على رضي ا لله عنه على خراسان

وروى قيس ابن الربيع عن وائل عن البهي قال وقع بين عبيد الله بن عمر وبين المقداد كلام فشتم عبيد الله المقداد فقال عمر علي بالحداد اقطع لسانه لايجتريء أحد بعده بشتم أحد من أصحاب النبي وفي رواية فهم عمر بقطع لسانه فكلمه فيه أصحاب محمد فقال ذروني اقطع لسان ابني حتى لا يجتريء أحد بعده يسب أحدا من أصحاب محمد رواه حنبل وابن بطة واللالكائي وغيرهم ولعل عمر إنما كف عنه لما شفع فيه أصحاب الحق وهم أصحاب النبي ولعل المقداد كان فيهم

وعن عمر بن الخطاب انه أتى باعرابي يهجو الانصار فقال لولا ان له صحبة لكفيتكموه رواه أبو ذر الهروي

ويؤيد ذلك ما روى الحكم بن جحل قال سمعت عليا يقول لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما الا جلدته جلد المفتري

وعن علقمة بن قيس قال خطبنا علي رضي الله عنه فقال انه بلغني ان قوما يفضلوني على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولوكنت تقدمت في هذا لعاقبت فيه ولكني اكره العقوبة قبل التقدم ومن قال شيئا من ذلك فهو مفتر عليه ما على المفتري خير الناس كان بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر رواهما عبد الله بن أحمد وروى ذلك ابن بطة اللالكائي من حديث سويد بن غفلة عن علي في خطبة طويلة خطبها

وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن أبي ليلى قال تداروا في أبي بكر وعمر فقال رجل من عطارد عمر أفضل من أبي بكر فقال الجارود بل أبو بكر أفضل منه قال فبلغ ذلك عمر قال فجعل يضربه ضربا بالدرة حتى شغر برجليه ثم اقبل إلى الجارود فقال اليك عني ثم قال عمر أبو بكر كان خير الناس بعد رسول الله في كذا وكذا ثم قال عمر من قال غير هذا اقمنا عليه ما نقيم على المفتري

فاذا كان الخليفتان الراشدان عمر وعلي رضي الله عنهما يجلدان حد المفتري لمن يفضل عليا على أبي بكر وعمر أو من يفضل عمر على أبي بكر مع ان مجرد التفضيل ليس فيه سب ولا عيب علم ان عقوبة السب عندهما فوق هذا بكثير

فصل[عدل]

في تفاصيل القول فيهم

أما من اقترن بسبه دعوى ان عليا إله أو انه كان هو النبي وانما غلط جبريل في الرسالة فهذا لاشك في كفره بل لاشك في كفر من توقف في تكفيره

وكذلك من زعم منهم ان القران نقص منه ايات وكتمت أو زعم ان له تأويلات باطنة تسقط الاعمال المشروعة ونحو ذلك وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية ومنهم التناسخية وهؤلاء لا خلاف في كفرهم

وأما من سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك فهذا هو الذي يستحق التاديب والتعزير ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من العلماء

وأما من لعن وقبح مطلقا فهذا محل الخلاف فيهم لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد

وأما من جاوز ذلك إلى ان زعم انهم ارتدوا بعد رسول الله الا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا أو انهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضا في كفره فانه مكذب لما نصه القران في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم بل من يشك في كفر مثل هذا فان كفره متعين فان مضمون هذه المقالة ان نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق وان هذه الامة التي هي " كنتم خير امة أخرجت للناس " وخيرها هو القرن الأول كان عامتهم كفارا أو فساقا ومضمونها ان هذه الامة شر الامم وان سابقي هذه الامة هم شرارها وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ولهذا تجد عامة من ظهر عنه شيء من هذه الأقوال فانه يتبين انه زنديق وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم وقد ظهرت لله فيهم مثلات وتواتر النقل بان وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات وجمع العلماء ما بلغهم في ذلك وممن صنف فيه الحافظ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابه في النهي عن سب الا صحاب وما جاء فيه من الإثم والعقاب

وبالجملة فمن أصناف السابة من لاريب في كفره ومنهم من لايحكم بكفره ومنهم من يرتدد فيه وليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك وانما ذكرنا هذه المسائل لأنها في تمام الكلام في المسألة التي قصدنا لها

فهذا ما تيسر من الكلام في هذا الباب ذكرنا ما يسره الله واقتضاه الوقت والله سبحانه يجعله لوجهه خالصا وينفع به ويستعملنا فيما يرضاه منم القول والعمل