محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة الثانية والأربعون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ابن حزم - المحلى المؤلف ابن حزم
كتاب قتل أهل البغي (مسألة 2161 - 2166)


كتاب قتل أهل البغي

2161 - مسألة: أحكام أهل البغي

اختلف الناس في أحكام أهل البغي فقال أبو حنيفة , وأصحابه حاشا الطحاوي أنه ما حكم به قاضي أهل البغي فلا يجوز لقاضي أهل العدل أن يجيز ذلك , ولا أن يقبل كتابه قالوا : وما أخذوه من صدقة فلا يأخذها الإمام ثانية , لكن الأفضل لمن أخذوها منه أن يؤديها مرة أخرى. قالوا :

وأما من مر عليهم من التجار فعشروه فإن الإمام يأخذه ثانية من التجار.

وقال الشافعي : ينفذ كل قضية قضوها إذا وافقت الحق , ويجزي ما أخذوه من الزكاة , وما أقاموا من الحدود

وهو قول مالك. وقال أبو سليمان وأصحابنا لا ينفذ شيء من قضاياهم , ولا بد من إعادتها ، ولا يجزئ ما أخذوه من الصدقات , ولا ما أقاموا من الحدود , ولا بد من أخذ الصدقات , ومن إقامة الحدود ثانية.

قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه بعون الله تعالى.

فنظرنا في قول أبي حنيفة , فوجدناهم يحتجون بأن قالوا : إن أخذ الصدقات إنما جاء التضييع من قبل الإمام فقد يجب عليه دفعهم ,

وأما من مر عليهم فقد عرض ماله للتلف

قال أبو محمد رحمه الله : ما نعلم لهم شبهة غير هذا وهذا لا شيء ; لأنه لم يأت نص ، ولا إجماع بأن تضييع الإمام يسقط الحقوق الواجبات لله تعالى

وأيضا فكما أخذوا العشر ثانية ممن جعلوا ذنبه أنه عرض ماله للتلف فكذلك يلزمهم أن يأخذوا الزكاة ثانية , ويجعلوا ذنب أهلها أنهم عرضوا أموالهم للتلف , فقد كان يمكنهم الهرب عن موضع البغاة , أو يعذروا المعشرين. ثم نظرنا فيما احتج به مالك , والشافعي , فوجدناهم يقولون : إنهم إذا حكموا بالحق كما أمر الله تعالى ; وإذا أخذوا الزكاة كما أمر الله تعالى , وأقاموا الحدود كما أمر الله تعالى , فقد تأدى كل ذلك كما أمر الله تعالى , وإذا تأدى كما أمر الله تعالى , فلا يجوز أن يقام ذلك على أهله ثانية , فيكون ذلك ظلما.

وقال بعضهم : كما لا يؤاخذون بما أصابوا من دم أو مال , فكذلك لا يؤاخذون هم ، ولا غيرهم بما حكموا أو أقاموا من حد , أو أخذوا من مال صدقة , أو غيرها بحق أو بباطل ، ولا فرق.

قال أبو محمد رحمه الله : وهذا كله ليس كما قالوا , وذلك أننا نسألهم , فنقول لهم : ماذا تقولون : إذا كان الإمام حاضرا ممكنا عدلا , أيحل أن يأخذ صدقة دونه , أو يقيم حدا دونه , أو يحكم بين اثنين دونه , أم لا يحل ذلك ، ولا سبيل إلى قسم ثالث

فإن قالوا : هذا كله مباح : خرقوا الإجماع , وتركوا قولهم , وأبطلوا الأمانة التي افترضها الله تعالى , وأوجبوا أن لا حاجة بالناس إلى إمام وهذا خلاف الإجماع والنص.

وإن قالوا : بل لا يحل أخذ شيء من ذلك كله ما دام الإمام قائما فقد صح أن لا يحل أن يكون حاكما إلا من ولاه الإمام الحكم , ولا أن يكون آخذا للحدود إلا من ولاه الإمام ذلك , ولا أن يكون مصدقا إلا من ولاه الإمام أخذها , فإن ذلك كذلك فكل من أقام حدا , أو أخذ صدقة , أو قضى قضية , وليس ممن جعل الله ذلك له بتقديم الإمام , فلم يحكم كما أمره الله تعالى , ولا أقام الحد كما أمره الله تعالى , ولا أخذ الصدقة كما أمره الله تعالى ; فإذ لم يفعل ذلك كما أمر , فلم يفعل شيئا من ذلك بحق , وإذا لم يفعل ذلك بحق , فإنما فعله بباطل , وإذ فعله بباطل فقد تعدى ;

وقال تعالى {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}

وقال رسول الله  : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد فإذ هو ظلم , فالظلم لا حكم له إلا رده ونقضه فصح من هذا أن كل من أخذ منهم صدقة فعليه ردها ; لأنه أخذها بغير حق , فهو متعد , فعليه ضمان ما أخذ , إلا أن يوصله إلى الأصناف المذكورة في القرآن فإذا أوصلها إليهم فقد تأدت الزكاة إلى أهلها وبالله تعالى التوفيق. وصح من هذا أن كل حد أقاموه فهو مظلمة لا يعتد به , وتعاد الحدود ثانية ، ولا بد , وتؤخذ الدية من مال من قتلوه قودا , وأن يفسخ كل حكم حكموه ، ولا بد. ويبين ما قلناه نصا :

ما روينا من طريق مسلم : حدثنا محمد بن نمير ، حدثنا عبد الله ، هو ابن إدريس ، حدثنا ابن عجلان , ويحيى بن سعيد الأنصاري , وعبيد الله بن عمر , كلهم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده , قال : بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره , وعلى أثرة علينا , وأن لا ننازع الأمر أهله , وعلى أن نقول بالحق أينما كنا , لا نخاف في الله لومة لائم.

ومن طريق مسلم ، حدثنا أبو بكر بن نافع ثنا غندر ثنا شعبة عن زياد بن علاقة قال : سمعت عرفجة , قال : سمعت رسول الله يقول إنه سيكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف , كائنا من كان.

قال أبو محمد رحمه الله : فصح أن لهذا الأمر أهلا لا يحل لأحد أن ينازعهم إياه , وأن تفريق هذه الأمة بعد اجتماعها لا يحل.

فصح أن المنازعين في الملك والرياسة مريدون تفريق جماعة هذه الأمة , وأنهم منازعون أهل الأمر أمرهم , فهم عصاة بكل ذلك.

فصح أن أهل البغي عصاة في منازعتهم الإمام الواجب الطاعة , وإذ هم فيه عصاة , فكل حكم حكموه مما هو إلى إمام , وكل زكاة قبضوها مما قبضها إلى الإمام , وكل حد أقاموه مما إقامته إلى الإمام فكل ذلك منهم ظلم وعدوان. ومن الباطل أن تنوب معصية الله تعالى عن طاعته , وأن يجزي الظلم عن العدل , وأن يقوم الباطل مقام الحق , وأن يغني العدوان عن الإنصاف. فصح ما

قلنا نصا ووجب رد كل ما عملوا من ذلك لقول النبي عليه السلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد فإن لم يكن للناس إمام ممكن فقد

قلنا : إن كل من قام بالحق حينئذ فهو نافذ , فالبغاة إن كانوا مسلمين فكل ما فعلوه في ذلك فهو نافذ

وأما إن كانوا كفارا فلا ينفذ من حكم الكافر في دين الله تعالى شيء أصلا وبالله تعالى التوفيق.


2162 - مسألة: هل يستعان على أهل البغي بأهل الحرب أو بأهل الذمة أو بأهل بغي آخرين ؟

قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في هذا , فقالت طائفة : لا يجوز أن يستعان عليهم بحربي , ولا بذمي , ولا بمن يستحل قتالهم , مدبرين وهذا قول الشافعي رضي الله عنه وقال أصحاب أبي حنيفة : لا بأس بأن يستعان عليهم بأهل الحرب , وبأهل الذمة , وبأمثالهم من أهل البغي ,

وقد ذكرنا هذا في " كتاب الجهاد " من قول رسول الله  : إننا لا نستعين بمشرك وهذا عموم مانع من أن يستعان به في ولاية , أو قتال , أو شيء من الأشياء , إلا ما صح الإجماع على جواز الأستعانة به فيه : كخدمة الدابة , أو الأستئجار , أو قضاء الحاجة , ونحو ذلك مما لا يخرجون فيه عن الصغار. والمشرك : اسم يقع على الذمي والحربي.

قال أبو محمد رحمه الله : هذا عندنا ما دام في أهل العدل منعة فإن أشرفوا على الهلكة واضطروا ولم تكن لهم حيلة , فلا بأس بأن يلجئوا إلى أهل الحرب , وأن يمتنعوا بأهل الذمة , ما أيقنو أنهم في استنصارهم : لا يؤذون مسلما ، ولا ذميا في دم أو مال أو حرمة مما لا يحل.

برهان ذلك : قول الله تعالى {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} وهذا عموم لكل من اضطر إليه , إلا ما منع منه نص , أو إجماع. فإن علم المسلم واحدا كان أو جماعة أن من استنصر به من أهل الحرب , أو الذمة يؤذون مسلما , أو ذميا فيما لا يحل , فحرام عليه أن يستعين بهما , وإن هلك , لكن يصبر لأمر الله تعالى وإن تلفت نفسه وأهله وماله أو يقاتل حتى يموت شهيدا كريما , فالموت لا بد منه , ولا يتعدى أحدا أجله.

برهان هذا : أنه لا يحل لأحد أن يدفع ظلما عن نفسه بظلم يوصله إلى غيره هذا ما لا خلاف فيه.

وأما الأستعانة عليهم ببغاة أمثالهم فقد منع من ذلك قوم واحتجوا بقول الله تعالى {وما كنت متخذ المضلين عضدا}. وأجازه آخرون وبه نأخذ ; لأننا لا نتخذهم عضدا , ومعاذ الله , ولكن نضربهم بأمثالهم صيانة لأهل العدل كما قال الله تعالى

وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا وإن أمكننا أن نضرب بين أهل الحرب من الكفار , حتى يقاتل بعضهم بعضا , ويدخل إليهم من المسلمين من يتوصل بهم إلى أذى غيرهم , بذلك حسن. وقد قال رسول الله  : إن الله ينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم كما حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب أخبرني عمران بن بكار بن راشد ثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، هو ابن أبي حمزة عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب ، حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله  : إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر. و

حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن سهل بن عسكر ثنا عبد الرزاق أنا رياح بن زيد عن معمر بن راشد عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله  : إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم.

قال أبو محمد رحمه الله : فهذا يبيح الأستعانة على أهل الحرب بأمثالهم , وعلى أهل البغي بأمثالهم من المسلمين الفجار الذين لا خلاق لهم.

وأيضا فإن الفاسق مفترض عليه من الجهاد , ومن دفع أهل البغي , كالذي افترض على المؤمن الفاضل , فلا يحل منعهم من ذلك , بل الفرض أن يدعو إلى ذلك وبالله تعالى التوفيق.


2163 - مسألة: قال أبو محمد رحمه الله : ولو أن رجلا من أهل العدل قتل في الحرب رجلا من أهل العدل , ثم قال : حسبته من أهل البغي , فإن كان ما يقول ممكنا , فالقول قوله مع يمينه , ثم يضمن ديته في ماله ; لأنه لم يقتله خطأ بل قتله عمدا قصدا إلى قتله إلا أنه لم يعلم أنه حرام الدم , فلذلك لم يقد منه وإن لم يمكن ما قال فعليه القود , أو الدية باختيار أولياء المقتول وهكذا القول سواء سواء , إذا قتله في أرض الحرب , ولا فرق.

وكذلك لو رجع إلينا بعض أهل البغي تائبا فقتله رجل من أهل العدل وقال : إني ظننته دخل ليطلب غرة , فإن نكل هؤلاء عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا ، ولا بد ; لأن اليمين قد وجبت عليهم , ولا قود أصلا ; لأنه لم يثبت عليهم ما يوجب القود من التعمد وهم عالمون.

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا كانت جماعة من أهل العدل والسنة في عسكر الخوارج وأهل البغي , فقتل بعضهم بعضا عمدا , وجرح بعضهم بعضا عمدا , وأخذ بعضهم مال بعض عمدا , فلا شيء في ذلك : لا قود , ولا دية غلب أهل الجماعة والإمام العدل عليهم بعد ذلك : أو لم يغلبوا

قال أبو محمد رحمه الله : ما لهذا القول جواب إلا أنه حكم إبليس , والله ما ندري كيف انشرحت نفس مسلم لأعتقاد هذا القول المعاند لله تعالى , ولرسوله عليه السلام , أو كيف انطلق لسان مؤمن يدري أن الله تعالى أمره ونهاه بهذا القول السخيف ونسأل الله تعالى عافية شاملة كأن أصحاب هذا القول لم يسمعوا ما أنزل الله تعالى من وجوب القصاص في النفوس , والجراح , ومن تحريم الأموال , في القرآن , وعلى لسان رسوله .

وهذا قول ما نعلم فيه لأبي حنيفة سلفا : لا من صاحب ، ولا من تابع , ونبرأ إلى الله تعالى من هذا القول , فإنما موهوا بما روي من حديث عبيد الله بن عمر : كما ثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري , وذكر قتل عمر , قال : فأخبرني سعيد بن المسيب أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ولم نجرب عليه كذبة قط , قال : حين قتل عمر بن الخطاب انتهيت إلى الهرمزان , وجفينة , وأبي لؤلؤة وهم بحي فتبعتهم فثاروا وسقط من بينهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه. وقال عبد الرحمن فانظروا بما قتل به عمر فوجدوه خنجرا على النعت الذي نعت عبد الرحمن , فخرج عبيد الله بن عمر بن الخطاب مشتملا على السيف حتى أتى الهرمزان فقال : اصحبني ننظر إلى فرس لي وكان الهرمزان بصيرا بالخيل فخرج بين يديه , فعلاه عبيد الله بالسيف , فلما وجد حد السيف قال : لا إله إلا الله , فقتله. ثم أتى جفينة وكان نصرانيا فلما أشرف له علاه بالسيف فضربه فصلب ما بين عينيه ثم أتى ابنة أبي لؤلؤة جارية صغيرة تدعي الإسلام فقتلها , فأظلمت الأرض يومئذ على أهلها. ثم أقبل بالسيف صلتا في يده وهو يقول : والله لا أترك في المدينة سبيا إلا قتلته وغيرهم كأنه يعرض بناس من المهاجرين , فجعلوا يقولون له : ألق السيف , فأبى ويهابونه أن يقربوا منه حتى أتاه عمرو بن العاص فقال : أعطني السيف يا ابن أخي فأعطاه إياه , ثم ثار إليه عثمان فأخذ برأسه , فتناصبا حتى حجز الناس بينهما. فلما ولي عثمان قال : أشيروا علي في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق يعني عبيد الله بن عمر فأشار عليه المهاجرون أن يقتله , وقال جماعة من الناس : قتل عمر بالأمس وتريدون أن تتبعوه ابنه اليوم , أبعد الله الهرمزان , وجفينة فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين , إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الأمر ولك على الناس من سلطان , إنما كان هذا الأمر ، ولا سلطان لك , فاصفح عنه يا أمير المؤمنين قال : فتفرق الناس على خطبة عمرو , وودى عثمان الرجلين والجارية. قال الزهري : وأخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن أباه قال : فيرحم الله حفصة أن كانت لمن شيع عبيد الله على قتل الهرمزان , وجفينة قال معمر : قال غير الزهري : قال عثمان : أنا ولي الهرمزان , وجفينة , والجارية , وإني قد جعلتها دية.

قال أبو محمد رحمه الله : وقد روينا عن أحمد بن محمد عن أحمد بن الفضل عن محمد بن جرير بإسناد لا يحضرني الآن ذكره : أن عثمان أقاد ولد الهرمزان من عبيد الله بن عمر بن الخطاب , وأن ولد الهرمزان عفا عنه.

قال أبو محمد رحمه الله : وأي ذلك كان فلا حجة لهم في شيء منه ; لأن عبيد الله بن عمر لم يقتل من قتل في عسكر أهل البغي , ولا في وقت كان فيه باغ من المسلمين على وجه الأرض يعرف في دار الهجرة , ومحلة الجماعة وصحة الألفة , وفي أفضل عصابة وأعدلها. وهذا خلاف قولهم في المسألة التي نحن فيها من قتل في عسكر أهل البغي وهم لا يقولون بإهدار القود عمن قتل في الجماعة بين موت إمام وولاية آخر , فقد خالفوا عثمان ومن معه في هذه القصة.

وأيضا فإن في هذا الخبر : أن عثمان جعلها دية وهذا خلاف قولهم ; لأنهم لا يرون في ذلك دية , والواجب أن نحكم في كل ذلك كما نحكم في محلة الجماعة ، ولا فرق ; لأن دين الله تعالى واحد في كل مكان , وكل زمان , وعلى كل لسان , وما خص الله تعالى بإيجاب القود , وأخذ الحدود , وضمان الأموال وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة وصوم رمضان , وسائر شرائع الإسلام مكانا دون مكان , ولا زمانا دون زمان , ولا حالا دون حال , ولا أمة دون أمة وبالله تعالى التوفيق.


2164 - مسألة: قال أبو محمد رحمه الله : ولو كان في الباغين غلام لم يبلغ أو امرأة فقاتلا دوفعا , فإن أدى ذلك إلى قتلهما في حال المقاتلة فهما هدر ; لأن فرضا على كل من أراده مريد بغير حق أن يدفع عن نفسه الضر كيف أمكنه ، ولا دية في ذلك , ولا قود

قال الله تعالى {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}.

قال أبو محمد رحمه الله : ولو أن أهل البغي سألوا النظرة حتى ينظروا في أمورهم فإن لم يكن ذلك مكيدة , فعليه أن ينظرهم مدة يمكن في مثلها النظر فقط وهذا مقدار الدعاء , وبيان الحجة فقط ,

وأما ما زاد على ذلك فلا يجوز ; لقول الله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} فلم يفسح الله تعالى في ترك قتالهم إلا مدة الإصلاح , فمن أبى قوتل.

وأيضا فإن فرضا على الإمام إنفاذ الحقوق عليهم وتأمين الناس من جميعهم , وأن يأخذوهم بالأفتراق إلى مصالح دينهم ودنياهم. ومن قال غير هذا سألناه : ماذا يقول , إن استنظروه يوما أو يومين أو ثلاثة , وهكذا نزيده ساعة ساعة , ويوما يوما حتى يبلغ ذلك إلى انقضاء أعمارهم , وفي هذا إهلاك الدين والدنيا والأشتغال بالتحفظ عنهم , كما هو فرض عليه النظر فيه , فإن حد في ذلك حدا من ثلاثة أيام أو غير ذلك كلف أن يأتي بالدليل على ذلك من القرآن أو من تحديد رسول الله في ذلك , ولا سبيل له إليه.

فإن ذكروا أن رسول الله قد قاضى قريشا على أن يقيم بمكة ثلاثا وجعل أجل المصراة ثلاثا , وخيار المخدوع في البيع ثلاثا , وأن الله تعالى أجل ثمود ثلاثة أيام

قلنا لهم : نعم , هذا حق , وقد جعل الله تعالى أجل المولي أربعة أشهر , وأجل المتوفى عنها زوجها في العدة أربعة أشهر وعشرا فما الذي جعل بعض هذه الأعذار أولى من بعض , فكان ما حكم الله تعالى به , فهو الحق , وكان ما أراده مريد أن يزيده في حكم الله تعالى برأيه وقياسه فهو الباطل وبالله تعالى التوفيق.


2165 - مسألة: فإن تحصن البغاة في حصن فيه النساء والصبيان , فلا يحل قطع المير عنهم , لكن يطلق لهم منه بمقدار ما يسع النساء والصبيان , ومن لم يكن من أهل البغي فقط , ويمنعون ما وراء ذلك. وجائز قتالهم بالمنجنيق والرمي , ولا يحل قتالهم بنار تحرق من فيه من غير أهل البغي , ولا بتغريق يغرقهم كذلك ; لقول الله تعالى {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى}.

وأما إذا لم يكن فيه إلا البغاة فقط ففرض أن يمنعوا الماء والطعام حتى ينزلوا إلى الحق , وإلا فهم قاتلو أنفسهم بامتناعهم من الحق.

وكذلك يجوز أن توقد النيران حواليهم , ويترك لهم مكان يتخلصون منه إلى عسكر أهل الحق ; لأن هذه نار أوقدناها , وما أطلقناه هم قادرون على الخلاص منها إن أحبوا ، ولا يحل إحراقهم , ولا تغريقهم دون أن يتخلصوا ; لأن الله تعالى لم يأمر بذلك ، ولا رسوله وإنما أمر بالمقاتلة فقط. ولا يحل بأن يبيتوا إلا بأن نقبض عليهم ,

وأما من لم يقاتل فلا يحل قتله وبالله تعالى التوفيق.


2166 - مسألة: قال أبو محمد رحمه الله : قال قوم : إن أمان العبد , والمرأة , والرجل الحر جائز لأهل البغي. وهذا عندنا ليس بشيء ; لأن أمان أهل البغي بأيديهم , متى تركوا القتال حرمت دماؤهم , وكانوا إخواننا , وما داموا مقاتلين باغين فلا يحل لمسلم إعطاؤهم الأمان على ذلك , فالأمان والإجارة هاهنا هدر ولغو , وإنما الأمان والإجارة للكافر الذي يحل للإمام قتله إذا أسروه واستبقاؤه , لا في مسلم إن ترك بغيه كان هو ممن يعطى الأمان ويجار. ولو أن أحدا من أهل البغي أجار كافرا جازت إجارته , كإجارة غيره , ولا فرق ; لقول رسول الله  : يجير على المسلمين أدناهم. ولو أن أهل البغي دخلوا غزاة إلى دار الحرب فوافقوا أهل العدل فقاتلوا معهم فغنموا , فالغنيمة بينهم على السواء ; لأنهم كلهم مسلمون. ومن قتل من أهل البغي قتيلا من أهل الحرب فله سلبه ; لأنه من جملة المخاطبين بذلك الحكم. ولو ترك أهل الحرب من الكفار , وأهل المحاربة من المسلمين على قوم من أهل البغي , ففرض على جميع أهل الإسلام , وعلى الإمام عون أهل البغي وإنقاذهم من أهل الكفر , ومن أهل الحرب ; لأن أهل البغي مسلمون. وقد قال الله تعالى {إنما المؤمنون إخوة}

وقال تعالى {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين}

وقال تعالى {أشداء على الكفار رحماء بينهم}

وأما أهل المحاربة من المسلمين فإنهم يريدون ظلم أهل البغي في أخذ أموالهم , والمنع من الظلم واجب قال الله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} فمن ترك المحارب , لم يعن المطلوب فقد أعان المحارب على إثمه وعدوانه , وهذا حرام. ولو أن أهل العدل وأهل البغي توادعوا وتعاطوا الرهان فهذا لا يجوز , إلا مع ضعف أهل العدل على المقاتلة ; لقول الله تعالى {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} فما دمنا قادرين على المقاتلة لهم لم يحل لنا غيرها أصلا , ولسنا في سعة من تركها ساعة فما فوقها , فإن ضعفنا عن ذلك , فقد قال الله تعالى {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}.

وقال رسول الله  : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. فإن قتلوا رهن أهل العدل لم يحل لنا قتل رهنهم ; لأنهم مسلمون غير مقاتلين , ولم يقتلوا لنا أحدا وإنما قتل الرهن غيرهم , وقد قال الله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.

محلى ابن حزم - المجلد السادس/كتاب قتل أهل البغي
كتاب قتل أهل البغي (مسألة 2158) | كتاب قتل أهل البغي (مسألة 2159 - 2160) | كتاب قتل أهل البغي (مسألة 2161 - 2166)