محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة السابعة والخمسون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كتاب الكتابة

1694 - مسألة: ولا تصح الكتابة إلا بأن يقول له : إذا أديت إلي هذا العدد على هذه الصفة فأنت حر , فإن كان إلى أجل مسمى أو أكثر ذكر ذلك.

برهان ذلك أن العبد ملك للسيد , فلا يستحق عتقا إلا حتى يلفظ سيده له بالعتق , وإلا فلا ; لأنه لم يوجب ذلك نص ، ولا إجماع.


1965 - مسألة: ولا تجوز الكتابة على مجهول العدد , ولا على مجهول الصفة , ولا بما لا يحل ملكه , كالخمر والخنزير وغير ذلك. ولا يصح بشيء من ذلك عتق أصلا , ولا بكتابة فاسدة

وهو قول أبي سليمان وأصحابنا ; لأن كل ذلك غرر محرم ,

وقال الله تعالى : {إن الله لا يصلح عمل المفسدين}

وقال رسول الله : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وبالضرورة يدري كل ذي تمييز صحيح أن ما عقدا لا صحة له إلا بصحة ما لا صحة له فلا صحة له.

وقال الشافعي : الكتابة الفاسدة تفسخ ما لم يؤدها فإذا أداها عتق.

قال أبو محمد : هذا عين الفساد ، ولا يجوز أن يصح الباطل بتمامه , وقد قال تعالى : {ليحق الحق ويبطل الباطل}.

وقال رسول الله  : : ليس لعرق ظالم حق.

وقال مالك : إذا عقدت الكتابة بشرط فاسد بطل الشرط وصحت الكتابة.

قال علي : هذا غاية الخطأ , لأنه يلزمهما عقدا لم يلتزماه قط , ولا أمر الله تعالى بإلزامهما إياه , وإنما تراضيا الكتابة بهذا الشرط , وإلا فلا كتابة بينهما ,

فأما أن يصح شرطهما فتصح كتابتهما ,

وأما أن يبطل الشرط فلا كتابة هاهنا أصلا.

وقال أبو حنيفة : من كاتب على ثوب غير موصوف أو على حكمه , أو على ميتة , أو على ما لا يعرف له مقدار , فهي كتابة باطل , ولا عتق له وإن أدى , وإن كاتب على خمر محدودة , أو على خنزير موصوف , فإن أدى ذلك عتق , وعليه قيمته لمولاه.

قال علي : ما سمع بأنتن من هذا التقسيم , ولا بأفسد منه , وهم يقولون : من باع سلعة بثمن إلا أنهما لم يسميا ذلك الثمن ، ولا عرفاه , فهو بيع فاسد , وإن قبض المشتري السلعة وهي معه وأعتقه جاز عتقه. وكانت حجتهم هاهنا أقبح من قولهم ; لأنهم قالوا : العقود على الخمر والخنزير جائزة بين أهل الذمة , فلقد أنزلوا أنفسهم حيث لم ينزلهم من الأئتساء بأهل الذمة الكفار , وما جعل الله تعالى قط أهل الكفر أسوة , ولا قدوة , وإن في هذه لدلائل سوء نعوذ بالله من الخذلان , فكيف وما أحل ذلك بين أهل الذمة مذ بعث محمد وما نعلم لهم في هذه الأقوال سلفا ، ولا لهم فيها متعلق بشيء


1696 - مسألة: والكتابة جائزة بما لا يحل بيعه إذا حل ملكه , كالكلب , والسنور , والماء , والثمرة التي لم يبد صلاحها , والسنبل الذي لم يشتد ; لأن كل ما ذكرنا مال حلال تملكه , وهبته , وإصداقه , والكتابة ليست بيعا وبالله تعالى التوفيق.


1697 - مسألة: ولا يحل للسيد أن ينتزع شيئا من مال مكاتبه مذ يكاتبه , فإن باعه قبل أن يؤدي ; أو باع منه ما قابل ما لم يؤد : فماله للبائع , إلا أن يشترطه المبتاع إذا باعه كله ,

وأما في بيع بعضه فماله له ومعه.

روينا من طريق حماد بن سلمة عن زياد الأعلم , وقيس , قال زياد : عن الحسن , وقال قيس : عن عطاء , ثم اتفقا جميعا : أن العبد إذا كاتبه مولاه وله مال وسرية وولد : أن ماله له , وسريته له , وولده أحرار

وكذلك العبد إذا عتق. وممن قال بقولنا : مالك , وأبو سليمان.

وقال أبو حنيفة : ماله لسيده وقال سفيان الثوري : المال للسيد إلا أن يشترطه المكاتب وقال الأوزاعي : ما عرفه السيد من مال العبد فهو للعبد , وما لم يعرفه فهو للسيد.

قال أبو محمد : مال العبد له , وجائز للسيد انتزاعه بالنص , فإذا كوتب فلا خلاف أن كسبه له , لا للسيد ولو كان للسيد انتزاعه لم يتم عتقه أبدا.

فصح أن حال الكتابة غير حاله قبلها , وكان ماله كله حكما واحدا في أنه ليس للسيد أخذه , إذ لم يأت بذلك في المكاتب نص.


1698 - مسألة: وولد المكاتب من أمته حر , وكذلك لو ملك ذا رحم محرمة منه , وله أن يكاتب أو يعتق للنصوص الواردة في كل ما ذكرنا ولم يخص الله تعالى مكاتبا من غيره وبالله تعالى التوفيق.


1699 - مسألة: وإذا حل النجم , أو الكتابة ووجبت , فضمانها من أجنبي جائز , وهو قول الزهري ; لأنه مال قد صح وجوبه للسيد , وهو دين لازم , فضمانه جائز. ولو بيع من العبد ما لم يؤد كان ما وجب عليه بعد دينا يتبع به ,

وأما قبل حلول النجم فلا ; لأنه لم يجب بعد ولعله يموت قبل وجوبه , أو يموت السيد فلا يجب على العبد.


1700 - مسألة: ولا تجوز مقاطعة المكاتب , ولا أن يوضع عنه بشرط أن يعجل ; لأنهما شرط ليس في كتاب الله عز وجل , وبيع ما لم يقبض وما لا يدري أهو في العالم أم لا

وقال مالك : وأبو حنيفة : مقاطعة المكاتب جائزة ببعض ما عليه , وبالعروض. وصح ، عن ابن عمر : أنه لا يجوز مقاطعته إلا بالعروض. فخالفا ابن عمر , ولا يعلم له في ذلك مخالف من الصحابة.

وقال الشافعي بقول ابن عمر , ولا حجة إلا في نص. وبالله تعالى التوفيق , وبه نتأيد.


1701 - مسألة: ولا تجوز كتابة بعض عبد ، ولا كتابة شقص له في عبد مع غيره لأن الله تعالى يقول : {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} وليس بعض العبد مما ملكت يمين مالك بعضه , ولا يقال فيه : إنه ملك يمينه أصلا , ولا أنه مما ملكت يمينه , ومن قال ذلك فقد كذب بيقين. فلو اتفق الشريكان معا على كتابة عبدهما أو أمتهما معا بلا فصل جاز ذلك , لأنهما حينئذ مخاطبون بالآية بخلاف الواحد ; لأنه يقال لسادات المشترك وإن كانوا جماعة : هذا العبد ملك يمينكم , ومما ملكت أيمانكم , فكان فعلهما هذا داخلا في أمر الله تعالى مع صحة خبر بريرة وأنها مكاتبة لجماعة , هكذا في نص الخبر.


1702 - مسألة: وإن كانت الكتابة نجمين فصاعدا , أو إلى أجل , فأراد العبد تعجيلها كلها , أو تعجيل بعضها قبل أجله : لم يلزم السيد قبول ذلك , ولا عتق العبد , وهي إلى أجلها , وكل نجم منها إلى أجله. لقول الله تعالى : {أوفوا بالعقود}. وليت شعري أين من خالفنا عن احتجاجهم ب المسلمون عند شروطهم.

وقال مالك : يجبر على قبض ذلك وتعجيل العتق للمكاتب.

وقال الشافعي : إن كانت الكتابة دراهم أو دنانير أجبر السيد على قبولها , وإن كانت عروضا لم يجبر.

قال أبو محمد : أما قول الشافعي : فتقسيم فاسد , لا دليل عليه لا من قرآن , ولا سنة , ولا رواية سقيمة , ولا قول أحد نعلمه قبله , ولا قياس , وما كان هكذا فهو باطل بلا شك. وقد يكون للسيد غرض في تأجيل الدراهم والدنانير ومنفعة ظاهرة من خوف لحقه أو رجاء ارتفاع سعر لدينه منهما , كما في العروض ، ولا فرق.

وأما المالكيون : فإنهم أوهموا أنهم يحتجون ب

ما روينا من طريق ابن الجهم ، حدثنا الوزان ، حدثنا علي ، حدثنا معاذ العنبري ، حدثنا علي بن سويد بن منجوف ، حدثنا أنس بن سيرين عن أبيه قال : كاتبني أنس بن مالك على عشرين ألفا , فكنت في مفتح تستر فاشتريت رثة فربحت فيها , فأتيت أنسا بجميع مكاتبتي , فأبى أن يقبلها إلا نجوما , فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال : أراد أنس الميراث , وكتب إلى أنس : أن اقبلها , فقبلها. وهذا أحسن ما روي فيه عن عمر وسائرها منقطع.

ومن طريق ابن وهب ، عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن أباه كاتب عبدا له فلما فرغ من كتابته أتاه العبد بماله كله , فأبى الحارث أن يأخذه وقال : لي شرطي , فرفع ذلك إلى عثمان , فقال له عثمان : هلم المال فاجعله في بيت المال فتعطيه منه في كل حل ما يحل , فأعتق العبد.

قال أبو محمد : هذا عجيب جدا إذ رأى عمر , وعثمان إجابة السيد إلى كتابة عبده إذا طلبها العبد , وخالفه أنس ,

واحتج عمر , وعثمان بالقرآن كان قول أنس حجة , وكان قول عمر , وعثمان ليس بحجة , وإذا وافق قول عمر , وعثمان رأي مالك , خالفهما أنس , والحارث بن هشام , وهما صاحبان , والقرآن : صار قول عمر , وعثمان حجة , ولم يكن قول أنس حجة " إن هذا لعجب وحسبنا الله ونعم الوكيل ". فإن موهوا بتعظيم أمر العتق

قلنا : أين كنتم عن هذا التعظيم إذ لم توجبوا الكتابة فرضا لعتق العبد إذا طلبها والقرآن يوجب ذلك , وعمر , وعثمان , وغيرهما. وأين كنتم عن هذا التعظيم إذ رددتم المكاتب رقيقا من أجل دينار أو درهم بقي عليه لم يقدر عليه فبادرتم وأبطلتم كل ما أعطى ولم تؤجلوه إلا ثلاثة أيام , وبعضكم أيضا : أمرا يسيرا , وأنتم بزعمكم أصحاب نظر , فأي فرق بين طلب العبد تعجيل جميع ما عليه ليتعجل العتق والسيد يأبى إلا شرطه الجائز بالقرآن , والسنة , والإجماع : فتجبرون السيد على ما لا يريد , وبين أن يريد السيد تعجيل الكتابة كلها ليتعجل عتق العبد والعبد قادر على ذلك , إلا أنه يأبى إلا الجري على نجومه فلا تجبرونه على ذلك , فهل في التخاذل والتحكم بالباطل والمناقضة أكثر من هذا.


1703 - مسألة: وفرض على السيد أن يعطي المكاتب مالا من عند نفسه ما طابت به نفسه , مما يسمى مالا في أول عقد للكتابة , ويجبر السيد على ذلك. فلو مات قبل أن يعطيه كلف الورثة ذلك من رأس المال مع الغرماء.

برهان ذلك قول الله تعالى : {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} فهذا أمر لا يجوز تعديه

وهو قول الشافعي , وأبي سليمان , إلا أن الشافعي تناقض , فرأى قول الله تعالى : {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} على الندب ورأى

وقوله تعالى : {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} على الوجوب وهذا تحكم , وكلا الأمرين لم يجد فيه عددا ما أحدهما : موكول إلى السيد , والآخر : موكول إليه وإلى العبد بالمعروف , مما لا حيف فيه ، ولا مشقة , ولا حرج عليهما.

وقال أبو حنيفة , ومالك : كلا الأمرين ندب قوله تعالى : {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} أمر للسيد ولغيره.

قال أبو محمد : هذا خطأ. أما قولهم " كلا الأمرين ندب " فلا يحل أن يحمل قول الله تعالى : افعلوا , على : لا تفعلوا إن شئتم ، ولا يفهم هذا المعنى أحد من هذا اللفظ وهذه إحالة لكلام الله تعالى عن مواضعه إلا بنص آخر ورد بذلك.

وأما قولهم " إنه أمر للسيد وغيره " فباطل ; لأنه معطوف على قوله : فكاتبوهم. فصح ضرورة أن المأمورين بالكتابة لهم : هم المأمورون بإتيانهم من مال الله , لا يفهم أحد من هذا الأمر غير هذا فظهر فساد قولهم وتحكمهم بالدعوى بلا دليل.

وروينا هذا القول : أنه حث عليه السيد وغيره عن بريدة الأسلمي من طريق فيها الحسن بن واقد وهو ضعيف ، ولا حجة في أحد دون رسول الله

وقالت طائفة : أمر بذلك السيد وغيره , فهؤلاء رأوه واجبا.

كما روينا من طريق سعيد بن منصور ، حدثنا هشيم عن يونس , والمغيرة , قال يونس : عن الحسن وقال المغيرة : عن إبراهيم ثم اتفقا في قول الله تعالى : {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} قال : أمر الله تعالى مولاه والناس أن يعينوا المكاتب.

ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبد الأعلى ، حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي وشهدته كاتب عبدا له على أربعة آلاف فحط عنه ألفا في آخر نجومه ثم قال : سمعت علي بن أبي طالب يقول : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم الربع مما تكاتبوهم عليه.

ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي ، حدثنا علي بن عبد الله ، هو ابن المديني ، حدثنا المعتمر بن سليمان عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله تعالى : {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} قال : ربع الكتابة

وروينا أيضا في أنه عشر الكتابة.

وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قول الله تعالى : {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} قال : هو العشر يترك له من كتابته. وممن قال : إنه واجب

كما روينا من طريق وكيع ، حدثنا أبو شبيب عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن عمر بن الخطاب كاتب مولى له يقال له : أبو أمية , فجاءه بنجمه حين هل فقال له عمر : يا أبا أمية اذهب فاستعن به , فقال : يا أمير المؤمنين لو كان هذا في آخر نجم فقال عمر : لعلي لا أدركه , قال عكرمة ثم قرأ : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم

ومن طريق الحجاج بن المنهال ، حدثنا المبارك بن فضالة حدثتني أمي عن أبي عن جدي عبيد الله الجحدري قال المبارك : وحدثني ميمون بن جابان عن عمي عن جدي , قال : سألت عمر بن الخطاب المكاتبة قال لي : كم تعرض قلت : مائة أوقية , قال : فما استزادني , قال : فكاتبني وأرسل إلى حفصة أم المؤمنين إني كاتبت غلامي , وأردت أن أعجل له طائفة من مالي فأرسلي إلي بمائتي درهم إلى أن يأتيني شيء فأرسلت بها إليه , فأخذها عمر بيمينه وقرأ : والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم خذها بارك الله فيها

قال أبو محمد : لقد كان أشبه بأمور الدين , وأدخل في السلامة أن يقول الحنفيون بقول علي في هذه المسألة , وأن يقولوا : مثل هذا لا يقال بالرأي منهم , حيث يقولون ما يضحك الثكالى , ويبعد من الله تعالى , ومن المعقول : أنه إن انكشف في فخذ الحرة في الصلاة , أو من الساق , أو من البطن , أو من الذراع , أو من الرأس الربع : بطلت الصلاة , فإن انكشف أقل لم تبطل الصلاة , لا سيما وقد

روينا من طريق إسحاق بن راهويه عن عبد الرزاق ، حدثنا ابن جريج عن عطاء بن السائب عن حبيب بن أبي ثابت عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب عن النبي  : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم قال : ربع الكتابة.

ومن طريق الدبري عن عبد الرزاق ، حدثنا ابن جريج أخبرني عطاء بن السائب أن عبد الله بن حبيب هو أبو عبد الرحمن السلمي أخبره عن علي بن أبي طالب عن النبي  : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم قال : ربع الكتابة ,

قال علي : فإن قيل : فلم لم تأخذوا بهذا الحديث

قلنا : لأن ابن جريج لم يسمع من عطاء بن السائب إلا بعد اختلاط عطاء.

وروينا من طريق العقيلي ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا أبو النعمان عن يحيى بن سعيد القطان قال : تغير حفظ ابن السائب بعد وحماد بن زيد سمع منه قبل أن يتغير.

ومن طريق العقيلي ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحسن بن علي الحلواني ، حدثنا علي ، هو ابن المديني قال : كان يحيى بن سعيد القطان لا يروي حديث عطاء بن السائب إلا عن شعبة , وسفيان

قال أبو محمد : فصح اختلاطه , فلا يحل أن يحتج من حديثه إلا بما صح أنه كان قبل اختلاطه , وهؤلاء الذي ذكرنا لم يرو أحد منهم عنه إلا موقوفا على علي رضي الله عنه

وأما هم فإذا وافق الخبر رأيهم لم يعللوه وإن كان موضوعا فإذ قد سقط هذا الخبر فلا حجة لأهل هذه المقالة.

واحتج القائلون بأنه على الندب بحديث كتابة سلمان رضي الله عنه وبحديث عائشة أم المؤمنين أن جويرية أم المؤمنين وقعت في سهم ثابت بن قيس أو ابن عم له فكاتبها فأتت رسول الله تستعينه فقال لها عليه الصلاة والسلام : أو خير من ذلك أقض عنك كتابتك وأتزوجك قالوا : فلم يذكر في هذين الخبرين إيتاء مال المكاتب.

قال علي : لا حجة لهم في شيء من هذا. أما خبر سلمان فإن مالكه كان يهوديا غير ذمي , بل منابذ لا تجري عليه أحكام الإسلام , فلا متعلق لهم بهذا.

وأعجب شيء احتجاجهم به فيما ليس فيه له ذكر من إيتاء المال , ومخالفتهم له فيما أجازه فيه نصا رسول الله من إحياء ثلاثمائة نخلة , وأربعين أوقية من ذهب إلى غير أجل مسمى , ولا مقبوضة , وهم لا يجيزون شيئا من هذا , فسبحان من أطلق ألسنتهم بهذه العظائم التي يجب أن يردع عنها الحياء , وأن يردع عنها الدين.

وأما خبر جويرية : فليس فيه على ماذا كاتبها , ولا هل كاتب إلى أجل أم إلى غير أجل , فيلزم على هذا أن يكون حجة في إجازة الكتابة إلى غير أجل , وكل كتابة أفسدوها إذ لم يذكروا فيها إيتاء المال , فليس فيه : أنها لم تؤت المال , فلا متعلق لهم به , فكيف وهي كتابة لم تتم بلا شك ; لأنه لم يقل أحد من أهل العلم : أن جويرية أم المؤمنين كانت مولاة لثابت , ولا لأبن عمه , بل قد صح أن رسول الله أعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها. فبطل كل ما موهوا به والحمد لله رب العالمين. وقالوا : لو كان فرضا لكان محدود القدر.

قال أبو محمد : فقلنا : من أين قلتم هذا وما المانع من أن يفرض الله تعالى علينا عطاء يكله إلى اختيارنا وأي شيء أعطيناه كنا قد أدينا ما علينا. وهلا قلتم هذا في المتعة التي رآها الحنفيون , والشافعيون فرضا وهي غير محدودة القدر وهلا قال هذا المالكيون في الخراج المضروب على الأرض المفتتحة عنوة وهو عندهم فرض غير محدود القدر وكما قالوا فيما أوجبوا فيه الحكومة فرضا من الخراج وهو غير محدود القدر فسبحان من جعل لهم عند أنفسهم وفي ظنهم : أن يتعقبوا على الله تعالى حكمه بما لا يتعقبونه على أنفسهم فيما يشرعونه في الدين بآرائهم. وحسبنا الله ونعم الوكيل. تم كتاب الكتابة والحمد لله رب العالمين.

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب الكتابة
كتاب الكتابة (مسأله 1686 - 1689) | كتاب الكتابة (مسأله 1690 - 1693) | كتاب الكتابة (مسأله 1694 - 1703)