محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة الخامسة والأربعون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كتاب الهبات

1636 - مسألة : وأما إذا أعطى شيئا غير معين من جملة ، أو عددا كذلك ، أو ذرعا كذلك ، أو وزنا كذلك ، أو كيلا كذلك ، فهو باطل لا يجوز ، مثل : أن يعطي درهما من هذه الدراهم ، أو دابة من هذه الدواب أو خمسة دنانير من هذه الدنانير ، أو رطلا من هذا الدقيق ، أو صاعا من هذا التمر ، أو ذراعا من هذا الثوب ، وهكذا في كل شيء ، والصدقة بكل هذا ، والهبة والإصداق ، والبيع ، والرهن ، والإجارة ، باطل كل ذلك سواء فيما اختلفت أبعاضه أو لم تختلف - لا لشريك ولا لغيره ، ولا لغني ولا لفقير - لأنه لم يوقع الهبة ولا الصدقة ، ولا الإصداق ، ولا الرهن ، ولا الإجارة على شيء أبانه عن ملكه ، أو أوقع فيه حكم الرهن ، أو الإجارة ، فإذ ذلك كذلك ، فلم يخرج شيء من تلك الجملة عن ملكه ، ولا أوقع فيه حكما - : فلا شيء في ذلك ، وهذا هو أكل المال بالباطل ، وهذا خلاف ما تقدم ؛ لأن الجزء المسمى متيقن أنه لا جزء إلا وفيه حظ للمشتري ، أو المصدق ، أو الموهوب له ، أو المتصدق عليه ، أو المرتهن ، أو المستأجر - : روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر سألت الزهري عن الرجل يكون شريكا لأبيه فيقول له أبوه : لك مائة دينار من المال الذي بيني وبينك ؟ فقال الزهري : قضى أبو بكر ، وعمر : أنه لا يجوز ، حتى يحوزه من المال ويعزله . وبه إلى معمر عن سماك بن الفضل : كتب عمر بن عبد العزيز : أنه لا يجوز من النحل ، إلا ما أفرد ، وعزل ، وأعلم .

1637 - مسألة : ومن أعطي شيئا من غير مسألة ، ففرض عليه قبوله ، وله أن يهبه بعد ذلك - إن شاء - للذي وهبه له ، وهكذا القول في الصدقة ، والهدية ، وسائر وجوه النفع . برهان ذلك - : ما رويناه من طريق البزار نا إبراهيم بن سعيد الجوهري نا سفيان بن عيينة عن الزهري عن السائب بن يزيد عن حويطب بن عبد العزى عن ابن الساعدي عن عمر بن الخطاب قال : " قال رسول الله  : { ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ، ولا إشراف نفس ، فاقبله } لا نعلم حديثا رواه أربعة من الصحابة في نسق بعضهم عن بعض إلا هذا . ومن طريق مسلم نا أبو الطاهر نا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه { أن رسول الله كان يعطي عمر العطاء فيقول له عمر : يا رسول الله أعطه أفقر إليه مني فقال رسول الله خذه فتموله ، أو تصدق به ، وما جاءك من هذا المال - وأنت غير مشرف ولا سائل - : فخذه ، وما لا فلا تتبعه نفسك } . قال سالم : فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدا شيئا ، ولا يرد شيئا أعطيه " . نا أحمد بن محمد بن الجسور نا أحمد بن الفضل بن بهرام الدينوري نا محمد بن جرير الطبري نا الفضل بن الصباح نا عبد الله بن يزيد نا سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن بسر بن سعيد عن خالد بن عدي الجهني " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { من جاءه من أخيه معروف فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله إليه } . فهذه آثار متواترة لا يسع أحدا الخروج عنها ، وأخذ بذلك من الصحابة ابن عمر كما ذكرنا آنفا وأبوه عمر بن الخطاب - : كما روينا من طريق أحمد بن شعيب نا عمرو بن منصور ، وإسحاق بن منصور ، كلاهما عن الحكم بن نافع - هو أبو اليمان - نا شعيب - هو ابن أبي حمزة - عن الزهري أخبرني السائب بن يزيد أن حويطب بن عبد العزى أخبره أن عبد الله بن السعدي أخبره أن عمر بن الخطاب قال لي في خلافته : ألم أحدث أنك تلي من أعمال الناس أعمالا فإذا أعطيت العمالة كرهتها . قلت : إن لي أفراسا وأعبدا وأنا بخير ، فأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين قال له عمر : فلا تفعل - ثم ذكر له خبره مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو ما ذكرناه - فهذا عمر ينهى عن رد ما أعطي المرء . ومن طريق حماد بن سلمة ، نا ثابت البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة قال : ما أحد يهدي إلي هدية إلا قبلتها ، فأما أن أسأل ، فلم أكن لأسأل . ومن طريق الحجاج بن المنهال نا مهدي بن ميمون نا واصل مولى أبي عيينة عن صاحب له : أن أبا الدرداء قال : من آتاه الله عز وجل من هذا المال شيئا من غير مسألة ولا إشراف ، فليأكله ، وليتموله ومن طريق الحجاج بن المنهال نا عبد الله بن داود - هو الخريبي - عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت قال : رأيت هدايا المختار تأتي ابن عباس وابن عمر فيقبلانها . ومن طريق محمد بن المثنى نا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي قال : خذ من السلطان ما أعطاك . قال أبو محمد : هذا من طريق الأثر ، وأما من طريق النظر فإنه لا يخلو من أعطاه : سلطان أو غير سلطان ، كائنا من كان ، من بر أو ظالم ، من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها - : إما أن يوقن المعطى أن الذي أعطي حرام ، وإما أن يوقن أنه حلال ، وإما أن يشك فلا يدري أحلال هو أم حرام ؟ ثم ينقسم هذا القسم ثلاثة أقسام : إما أن يكون أغلب ظنه أنه حرام ، أو يكون أغلب ظنه أنه حلال ، وإما أن يكون كلا الأمرين ممكنا على السواء . فإن كان موقنا أنه حرام وظلم وغصب ، فإن رده فهو فاسق عاص لله تعالى ظالم ؛ لأنه يعين به ظالما على الإثم والعدوان بإبقائه عنده ، ولا يعين على البر والتقوى في انتزاعه منه ، وقد نهى الله تعالى عن ذلك وأمره بخلاف ما فعل بقوله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } . ثم لا يخلو من أن يكون يعرف صاحبه الذي أخذ منه بغير حق أو لا يعرفه ، فإن كان يعرفه . فهنا زاد فسقه ، وتضاعف ظلمه ، وأتى كبيرة من الكبائر ، وصار أظلم من ذلك الظالم ؛ لأنه قدر على رد المظلمة إلى صاحبها وعلى إزالتها عن الظالم فلم يفعل ، بل أعان الظالم ، وأيده وقواه ، وأعان على المظلوم . وإن كان لا يعرف صاحبه فكل مال لا يعرف صاحبه فهو في مصالح المسلمين ، فالقول في هذا القسم كالقول في الذي قبله سواء سواء ، إذ منع المساكين والفقراء والضعفاء حقهم ، وأعان على هلاكهم ، وقوى الظالم بما لا يحل له ، وهذا عظيم جدا - نعوذ بالله منه . فإن كان يوقن أنه حلال فإن الذي أعطاه مكتسب بذلك حسنات جمة بلا شك ، فهو في رده عليه ما أعطاه غير ناصح ، له ، إذ منعه الحسنات الكثيرة ، وقد قال رسول الله  : { الدين النصيحة الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم } فمن لم ينصح لأخيه المسلم في دينه فقد عصى الله عز وجل في ذلك ، ولعله إن رده لا يحضر المردود عليه بنية أخرى في بذله ، فيكون قد حرمه الأجر وصد عن سبيل من سبل الخير . وإن كان لا يدري أحلال هو أم حرام ؟ فهذه صفة كل ما يتعامل به الناس إلا في اليسير الذي يوقن فيه أنه حلال ، أو أنه حرام ، فلو حرم أخذ هذا لحرمت المعاملات كلها إلا في النادر القليل جدا . وقد كان على عهد رسول الله سرقات ومعاملات فاسدة غير مشهورة ، فما حرم عليه الصلاة والسلام قط من أجل ذلك أخذ مال يتعامل به الناس ، إلا أن قوما من أهل الورع اتقوا ما الأغلب عندهم أنه حرام ، فما كان من هذا القسم فهو داخل في باب وجوب النصيحة بأخذه ، فإن طابت نفسه عليه فحسن ، وإن اتقاه فليتصدق به فيؤجر على كل حال ، فهذا برهان ظاهر لائح . وبرهان آخر - : وهو أن من الجهل المفرط ، والعمل في الدين بغير علم أن يكون المرء يستسهل بلا مؤنة أخذ مال زيد في بيع يبيعه منه ، أو في إجارة يؤجر نفسه في عمل يعمله ، له ، ثم يتجنب أخذ مال ذلك الزيد نفسه إذا أعطاه إياه طيب النفس به ، فهذا عجب عجيب ، لا مدخل له في الورع أصلا ؛ لأنه إن كان يتقي كون ذلك المال خبيثا فقد أخذه في البيع والإجارة فهذا يكاد يكون رياء مشوبا بجهل . فإن قيل : يكره المرء أخذه ؟ قيل : هذا خلاف فعل رسول الله والرغبة عن سنته نعوذ بالله من هذا - : كما روينا من طريق البخاري نا محمد بن بشار نا محمد بن أبي عدي عن شعبة عن سليمان - هو الأعمش - عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي قال : { لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت ، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت } ومن رغب عن سنته فما وفق لخير صح أنه عليه الصلاة والسلام قال : { من رغب عن سنتي فليس مني } . قال أبو محمد : وكان مالك ، والشافعي لا يردان ما أعطيا ، ولا يسألان أحدا شيئا ، فإن احتج المخالف بحديث الصعب بن جثامة { إذ أهدى إلى النبي حمار وحش فرده عليه وقال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم } . وبما روينا من طريق عبد الرزاق نا معمر عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : { لقد هممت أن لا أقبل هبة إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي } . ومن طريق أبي داود نا محمد بن عمرو والرازي نا سلمة بن الفضل نا محمد بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { وايم الله لا أقبل بعد يومي هذا من أحد هدية إلا أن يكون من مهاجري قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي } . وبما رويناه من طريق البخاري نا محمد بن يوسف نا الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير أن حكيم بن حزام قال { سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ، ثم قال : يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه ، وكان كالذي يأكل ولا يشبع ، واليد العليا خير من اليد السفلى قال حكيم فقلت : يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ بعدك أحدا شيئا حتى أفارق الدنيا } ، فكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا ، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا ، فقال عمر : يا معشر المسلمين إني أعرض عليه حقه الذي قسمه الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه - فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس شيئا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى توفي " . وبما رويناه من طريق أبي ذر أنه قال للأحنف بن قيس وقد سأله الأحنف عن العطاء ؟ فقال له أبو ذر : خذه ، فإن فيه اليوم معونة ، فإذا كان ثمنا لدينك فلا تأخذه . فكل هذا لا حجة لهم فيه - : أما حديث { لقد هممت أن لا أقبل هبة } فإن سعيد بن أبي سعيد لا يخلو : إما أن يكون سمعه من أبي هريرة أو لم يسمعه . فإن كان لم يسمعه فهو منقطع ، وإن كان سمعه فإنما فيه : أنه عليه السلام هم بذلك ، لا أنه أنفذه وهو موافق لمعهود الأصل ، لأن الأصل كان أن المعطى مخير إن شاء قبل وإن شاء رد . وحديث عمر رضي الله عنه وارد بإبطال الحال الأول ، ولا شك في ذلك حين أمره عليه الصلاة والسلام بقبول ما جاء من المال من غير مسألة ولا إشراف نفس . فصح أن هذا الهم قد صح نسخه بيقين لا مرية فيه ، فمن ادعى أن الموقن نسخه قد دعا ونسخ الناسخ ، فقد ادعى الباطل ، وما لا علم له به ، وحاش الله من جواز ذلك في الدين ، إذ لو كان ذلك لما علمنا صحيح الدين من سقيمه فيه ولا ما يلزمنا مما لا يلزمنا ، ومعاذ الله من هذا - فبطل التعلق بهذا الخبر جملة . وأما الآخر { لا أقبل بعد يومي هذا من أحد هدية } فرواية سلمة بن الفضل الأبرش - وهو ساقط مطرح - فبطل التعلق به جملة . وأما حديث الصعب بن جثامة فقد بين عليه الصلاة والسلام السبب الذي من أجله رده وهو كونهم محرمين ، وهذا بعض الأحوال التي عمها حديث عمر ، فهو مستثنى منه ، وكذلك نقول : إن المحرم إذا أهدي له صيد فهو مخير في قبوله ورده ، وهكذا روينا عن عائشة أم المؤمنين ، وابن عمر أنهما كانا يقبلان الهدايا ويردان الصيد إن أهدي لهما وهما محرمان . وأما حديث حكيم - فبين جدا ؛ لأنه لما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيمن أخذ المال بإشراف نفس ما قال من أنه { لا يبارك له فيه } وعلم من نفسه الإشراف إلى المال لم يستجز أخذه وهكذا نقول : إنه إنما يلزم أخذه من كان غير مشرف النفس إليه . وبرهان ذلك - : إخباره عن نفسه أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاه ، ثم سأله فأعطاه ، ثم سأله فأعطاه - كذا جاء في بعض الروايات حتى خاطبه بما خاطبه به . وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب { أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكيم بن حزام يوم حنين عطاء فاستقله ، فزاده } ، ثم ذكر الحديث المذكور ، وهذا غاية إشراف النفس ؛ وروينا من طريق أبي داود الطيالسي نا ابن أبي ذئب عن مسلم بن جندب عن حكيم بن حزام قال { : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فألحفت في المسألة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أنكر مسألتك يا حكيم إن هذا المال حلو خضر } . وذكر الحديث . فهذا بيان لائح ، ولا يجوز أن يظن بحكيم رضي الله عنه غير هذا . وأما قول أبي ذر فصحيح ؛ لأن ما أعطى المرء وطلب عوضا منه فحرام عليه أخذه ، وإنما يلزم أخذ ما أعطي دون شرط فاسد - : روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن ذر بن عبد الله المرهبي عن عبد الله بن مسعود أن رجلا سأله فقال : لي جار يأكل الربا ، وأنه لا يزال يدعوني . فقال له ابن مسعود : مهناه لك ، وإثمه عليك ، قال سفيان : إن عرفته بعينه فلا تأكله . قال أبو محمد : صدق سفيان الأكل غير الأخذ ، لما عرف أن عينه حرام ؛ لأنه يقدر في أخذه على أن يؤدي فيه ما افترضه الله تعالى عليه من إيصاله إلى أهله وإزالته عن المظالم ، ولا يقدر على ذلك في الأكل ، ففرض عليه اجتناب أكله . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق السبيعي عن الزبير - هو ابن الخريت - عن سلمان الفارسي قال : إذا كان لك صديق عامل ، أو جار عامل ، أو ذو قرابة عامل ، فدعاك إلى طعام فاقبله ، فإنه مهناه لك وإثمه عليه . وبه إلى عبد الرزاق عن معمر قال : كان عدي بن أرطاة - هو عامل البصرة - يبعث إلى الحسن كل يوم بجفان ثريد فيأكل الحسن منها ويطعم أصحابه قال : وبعث عدي إلى الحسن ، والشعبي ، وابن سيرين ، فقبل الحسن ، والشعبي ، ورد ابن سيرين . قال : وسئل الحسن عن طعام الصيارفة ؟ فقال : قد أخبركم الله تعالى عن اليهود ، والنصارى أنهم يأكلون الربا وأحل لكم طعامهم . وبه إلى معمر عن منصور بن المعتمر قلت لإبراهيم النخعي : عريف لنا يهمط ويصيب من الظلم فيدعوني فلا أجيبه فقال إبراهيم : الشيطان عرض بهذا ليوقع عداوة ، وقد كان العمال يهمطون ويصيبون ثم يدعون فيجابون ، قلت له : نزلت بعامل فنزلني وأجازني ، قال : اقبل ، قلت : فصاحب ربا ؟ فقال : اقبل ما لم تره بعينه . قال علي : وهكذا أدركنا من يوثق بعلمه - وبالله تعالى التوفيق .

1638 - مسألة : ولا تحل الرشوة : وهي ما أعطاه المرء ليحكم له بباطل ، أو ليولي ولاية ، أو ليظلم له إنسان - فهذا يأثم المعطي والآخذ . فأما من منع من حقه فأعطى ليدفع عن نفسه الظلم فذلك مباح للمعطي ، وأما الآخذ فآثم ، وفي كلا الوجهين فالمال المعطى باق على ملك صاحبه الذي أعطاه كما كان ، كالغصب ولا فرق - ومن جملة هذا ما أعطيه أهل دار الكفر في فداء الأسرى ، وفي كل ضرورة ، وكل هذا متفق عليه ، إلا ملك أهل دار الكفر ما أخذوه في فداء الأسير وغير ذلك ، فإن قوما قالوا : قد ملكوه - وهذا باطل ؛ لأنه قول لم يأت به قرآن ، ولا سنة ، ولا قياس ، ولا نظر ، وقولنا في هذا هو قول الشافعي ، وأبي سليمان ، وغيرهما . برهان صحة قولنا - : قول الله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فنسأل من خالفنا : أبحق أخذ الكفار ما أخذوا منا في الفداء وغيره أم بباطل ؟ فمن قولهم : بالباطل ، ولو قالوا غير ذلك كفروا ، وفي هذا كفاية ؛ لأنه خطاب لجميع الجن والإنس ، وللزوم الدين لهم . وقول رسول الله { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . فإن قيل : لم أبحتم إعطاء المال في دفع الظلم ، وقد رويتم من طريق أبي هريرة ، قال : { جاء رجل إلى رسول الله فقال : يا رسول الله إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : فلا تعطه مالك ، قال : أرأيت إن قاتلني ؟ قال : قاتله ، قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال : فأنت شهيد ، قال : أرأيت إن قتلته ؟ قال : فهو في النار } . وبالخبر المأثور { لعن الله الراشي والمرتشي } . قال أبو محمد : خبر لعنه الراشي إنما رواه الحارث بن عبد الرحمن وليس بالقوي - وأيضا - فإن المعطي في ضرورة دفع الظلم ليس راشيا . وأما الخبر في المقاتلة فهكذا نقول : من قدر على دفع الظلم عن نفسه لم يحل له إعطاء فلس فما فوقه في ذلك ، وأما من عجز فالله تعالى يقول : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . وقال عليه السلام : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } فسقط عنه فرض المقاتلة والدفاع ، وصار في حد الإكراه على ما أعطى في ذلك . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } وقد ذكرناه بإسناده فيما سلف من ديواننا هذا - والحمد لله رب العالمين . وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من طريق أبي موسى الأشعري : { أطعموا الجائع وفكوا العاني } وهذا عموم لكل عان عند كل كافر أو مؤمن بغير حق . روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري ، ومعمر قال : معمر عن الحسن البصري ، وقال سفيان : عن إبراهيم النخعي ، ثم اتفق الحسن ، وإبراهيم ، قالا جميعا : ما أعطيت مصانعة على مالك ودمك ، فإنك فيه مأجور - وبالله تعالى التوفيق .

1639 - مسألة : وأما من نصر آخر في حق ، أو دفع عنه ظلما ، ولم يشترط عليه في ذلك عطاء ، فأهدى إليه مكافأة ، فهذا حسن لا نكرهه ؛ لأنه من جملة شكر المنعم ، وهدية بطيب نفس ، وما نعلم قرآنا ولا سنة في المنع من ذلك - وقد روينا عن علي ، وابن مسعود المنع من هذا ، ولا نعلم برهانا يمنع منه - وبالله تعالى التوفيق .

1640 - مسألة : ولا يحل السؤال تكثرا إلا لضرورة فاقة ، أو لمن تحمل حمالة ، فالمضطر فرض عليه أن يسأل ما يقوته هو وأهله مما لا بد لهم منه ، من : أكل ، وسكنى ، وكسوة ، ومعونة ، فإن لم يفعل فهو ظالم ، فإن مات في تلك الحال فهو قاتل نفسه . وأما من طلب غير متكثر فليس مكروها . وكذلك من سأل سلطانا فلا حرج في ذلك - : روينا من طريق مسلم حدثني أبو الطاهر أخبرني عبد الله بن وهب أخبرني الليث هو ابن سعد - عن عبيد الله بن أبي جعفر عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : { ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم } . ومن طريق مسلم نا أبو كريب نا ابن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر } . ومن طريق مسلم نا يحيى بن يحيى نا حماد بن زيد عن هارون بن رئاب حدثني كنانة بن نعيم العدوي عن قبيصة بن المخارق الهلالي ، { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له : يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ، أو قال سدادا من عيش ، ورجل أصابته فاقة حتى يقوت ثلاثة من ذوي الحج من قومه فيقولون : لقد أصابت فلانا فاقة ، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ، أو قال : سدادا من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا } . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمود بن غيلان قال : نا وكيع نا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن زيد بن عقبة عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله  : { المسألة كد يكد الرجل بها وجهه ، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان ، أو في الأمر لا بد له منه } . فهذا نص ما قلنا حرفا بحرف - ولله الحمد . ومن طريق النظر : أننا قد ذكرنا في " كتاب الزكاة " من ديواننا هذا وجوب قيام ذوي الفضل من المال بمن لا مال معه ، يقوم منه بنفسه وعياله ، فإذ ذلك كذلك فالمحتاج إنما يسأل حقه الواجب ، ودينه اللازم ، الذي على الحاكم أن يحكم له به ، وله أخذه كيف قدر إن منعه ، فلا غضاضة عليه في ذلك . وأما السلطان فليس يسأل من ماله شيء ، إنما بيده أموال المسلمين ، فلا حرج على المسلم أن يسأل من أموال المسلمين الذين هو أحدهم . وأما سؤال غير المتكثر فقد ذكرنا في " كتاب الحج { قول رسول الله لأبي قتادة وأصحابه في الحمار الذي عقروه : معكم منه شيء ؟ فقلت : نعم : فناولته العضد فأكلها حثى نفذها ، وهو محرم . } وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد الخدري الذي رقي على قطيع من الغنم : { اقتسموا واضربوا لي بسهم معكم }

1641 - مسألة : وإعطاء الكافر مباح ، وقبول ما أعطى هو كقبول ما أعطى المسلم - : روينا من طريق البخاري نا سهل بن بكار نا وهيب - هو ابن خالد - عن عمرو بن يحيى عن عباس الساعدي عن أبي حميد الساعدي قال { : غزونا مع رسول الله تبوك وأهدى ملك آيلة للنبي بغلة بيضاء وكساه بردا } . ومن طريق البخاري نا عبيد بن إسماعيل نا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن { أسماء بنت أبي بكر قالت : قدمت أمي علي - وهي مشركة - فاستفتيت رسول الله فقال : صلي أمك } . ومن طريق مسلم نا قتيبة عن مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله  : { في كل كبد رطبة أجر } . فإن قيل : فأين أنتم عما رويتم من طريق ابن الشخير عن عياض بن حمار { أنه أهدى إلى رسول الله هدية ، فقال : أسلمت ؟ قلت لا ، قال : إني نهيت عن زبد المشركين } . ومن طريق الحسن عن عياض بن حمار مثله ، وقال : فأبى أن يقبلها - قال الحسن : زبد المشركين رفدهم ؟ قلنا : هذا منسوخ بخبر أبي حميد الذي ذكرنا ؛ لأنه كان في تبوك ، وكان إسلام عياض قبل تبوك - وبالله تعالى التوفيق .

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب الهبات
كتاب الهبات (مسأله 1626 - 1629) | كتاب الهبات (مسأله 1630) | كتاب الهبات (مسأله 1631) | كتاب الهبات (مسأله 1632 - 1633) | كتاب الهبات (مسأله 1634 - 1635) | كتاب الهبات (مسأله 1636 - 1641) | كتاب الهبات (مسأله 1642 - 1649) | كتاب الهبات (مسأله 1650) | كتاب الهبات (مسأله 1651 - 1652) | كتاب الهبات (مسأله 1653 - 1659)