محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة الثامنة والثلاثون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كتاب السلم

1619 - مسألة : والسلم جائز في الدنانير ، والدراهم إذا سلم فيهما عرضا ؛ لأنهما وزن معلوم ، فهو حلال بنص كلامه عليه السلام ، ومنع من ذلك مالك وما نعلم له حجة أصلا . ومن السلم الجائز : أن يسلم الحيوان الذي يجوز تملكه وتمليكه وإن لم يجز بيعه ، أو جاز بيعه في لحم من صنفه إن كان يحل أكل لحمه ، أو في لحم من غير صنفه كتسليم عبد ، أو أمة ، أو كلب ، أو سنور ، أو كبش ؛ أو تيس ، أو بعير ، أو بقرة ، أو أيل ، أو دجاج ، أو غير ذلك كله في لحم كبش ، أو لحم ثور ، أو لحم تيس ، أو غير ذلك ؛ لأنه كله سلف في وزن معلوم إلى أجل معلوم . ولا يجوز السلف في الحيوان أصلا ؛ لأنه ليس يكال ولا يوزن . وجائز أن يسلم البر في دقيق البر ، ودقيق البر في البر ، متفاضلا وكيف أحبا وكذلك الزيت في الزيتون والزيتون في الزيت واللبن في اللبن ، وكل شيء حاشا ما بينا في " كتاب الربا " وهو الذهب في الفضة أو الفضة في الذهب فلا يحل أصلا أو التمر ، والشعير ، والبر ، والملح فلا يحل أن يسلف صنف منها ، لا في صنفه ولا في غير صنفه منها خاصة ، وكلها يسلف فيما ليس منها من المكيلات والموزونات ، وحاش الزرع أي زرع كان ، فلا يجوز تسليفه في القمح أصلا ، وحاشا العنب والزبيب فلا يجوز تسليف أحدهما والآخر كيلا ، ويجوز تسليف كل واحد منهما في الآخر وزنا لما قد بيناه في " كتاب الربا " فأغنى عن إعادته . ومما يجمعه قول رسول الله { فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم } فلم يستثن عليه السلام من ذلك شيئا ، حاشا الأصناف المذكورة فقط { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } . { وما كان ربك نسيا } . و { لتبين للناس ما نزل إليهم } . و { اليوم أكملت لكم دينكم } فمن حرم ما لم يفصل لنا تحريمه رسول الله فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله ، ومن قول رسول الله ما لم يقله أو أضاف إليه ما لم يبينه فقد كذب عليه . وقال عليه السلام { من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار } وقد اختلف المخالفون لنا : فأبو حنيفة يجيز أن يسلم كل ما يكال في كل ما يوزن ، فيجيز هو وسفيان تسليم القمح في اللحم ، واللحم في القمح . ويجيز مالك تسليم الحديد في النحاس وأبو حنيفة يحرم ذلك ويجعله ربا { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } والشافعي يجيز تسليم الفلوس في الفلوس . وسفيان يجيز الخبز في الدقيق من جنسه .

فصل


استدركنا شيئا يحتج به الشافعيون في إجازتهم السلم حالا في الذمة إلى غير أجل ، وهما خبران : أحدهما : رويناه من طريق البزار قال : نا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين قالت : { ابتاع رسول الله جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة وهي العجوة فجاء به رسول الله إلى منزله ، فالتمس التمر فلم يجده ، فقال للأعرابي : يا عبد الله إنا ابتعنا منك جزورا بوسق من تمر الذخيرة ، ونحن نرى أنه عندنا ، فالتمسناه فلم نجده ؟ فقال الأعرابي : واغدراه ، فزجره الناس وقالوا : أتقول هذا لرسول الله ؟ فقال رسول الله دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ، ثم أعاد رسول الله الكلام ثانية كما أوردنا ، فقال الأعرابي : واغدراه ، قال : فلما لم يفهم عنه الأعرابي أرسل رسول الله إلى أم حكيم : أقرضينا وسقا من تمر الذخيرة حتى يكون عندنا فنقضيك ؟ فقالت : أرسل رسولا يأتي يأخذه ، فقال للأعرابي : انطلق معه حتى يوفيك } وذكر باقي الخبر . فهذا لا حجة لهم فيه على مذهبهم ومذهبنا ؛ لأن البيع لم يكن تم بعد بين النبي وبين الأعرابي ؛ لأنهما لم يتفرقا . هكذا نص الحديث ، ويبين ذلك { قول النبي له إنا كنا ابتعنا منك بعيرا بوسق من تمر الذخيرة ، ونحن نرى أنه عندنا ، فالتمسناه فلم نجده } وقول أم المؤمنين في الخبر نفسه ، فلما لم يفهم عنه الأعرابي استقرض من أم حكيم فصح أنه عليه السلام حينئذ أمضى معه العقد المحدود وتم البيع بحضور الثمن وقبض الأعرابي . هذا الخبر حجة على الحنفيين ، والمالكيين ؛ لأنهم يرون البيع يتم قبل التفرق وليس لهم أن يقولوا : إن هذا منسوخ بذكر الأجل في السلم ؛ لأن ذكر الأجل في السلم كان في أول الهجرة : كما روينا من طريق البخاري نا صدقة هو ابن خالد نا سفيان بن عيينة أخبرني ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس قال : { قدم رسول الله المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين ، والثلاث فقال : من أسلف في شيء فليسلف من كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم } وكان خبر عائشة بعد ذلك . فإن قيل : إن قول النبي { دعوه فإن لصاحب الحق مقالا } دليل على أن البيع قد كان تم بينهما . قلنا : لأنه عليه السلام لم يقل : إن هذا الأعرابي صاحب حق ، إنما أخبر أن لصاحب الحق مقالا فقط ، وهو كذلك ، وحاشا الله أن يكون الأعرابي صاحب حق وهو يصف النبي بالغدر ؟ والخبر الثاني : رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا عبد الله بن نمير نا يزيد بن زياد بن أبي الجعد نا أبو صخرة جامع بن شداد عن طارق بن عبد الله المحاربي : قال { رأيت رسول الله مرتين مرة بسوق ذي المجاز وهو ينادي بأعلى صوته يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ، وأبو لهب يتبعه بالحجارة قد أدمى كعبيه وعرقوبيه ، فلما ظهر الإسلام قدم المدينة أقبلنا من الربذة حتى نزلنا قريبا من المدينة ، ومعنا ظعينة لنا ، فأتانا رجل فسلم علينا ، فرددنا عليه السلام ، ومعنا جمل لنا ، فقال : أتبيعون الجمل ؟ فقلنا نعم ، قال : بكم ؟ قلنا : بكذا وكذا صاعا من تمر ، قال : قد أخذته ثم أخذ برأس الجمل حيث دخل المدينة ، فتلاومنا وقلنا : أعطيتم جملكم رجلا لا تعرفونه ؟ فقالت الظعينة : لا تلاوموا فلقد رأيت وجها ما كان ليخفركم ما رأيت وجها أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه ، فلما كان العشي أتانا رجل فقال : السلام عليكم إني رسول رسول الله إليكم وإنه يأمركم أن تأكلوا حتى تشبعوا وتكتالوا حتى تستوفوا ، ففعلنا ، فلما كان من الغد دخلنا المدينة ، فإذا رسول الله قائم على المنبر يخطب الناس } وذكر باقي الخبر . قال علي : هذا لا حجة لهم فيه لوجهين : أحدهما : أنه ليس فيه دليل على أن الذي اشترى الجمل كان رسول الله ولا أنه علم بصفة ابتياعه ، والأظهر أن غيره كان المبتاع بدليل قول طارق بأنه رأى رسول الله مرتين مرة بذي المجاز ومرة على المنبر يخطب ، فلو كان عليه السلام هو الذي ابتاع الجمل لكان قد رآه ثلاث مرات وهذا خلاف الخبر . فصح أنه كان غيره ، ولا حجة في عمل غيره ، وقد كان في أصحاب النبي الجمال البارع ، والوسامة ، والمعاملة الجميلة . وقد اشترى بلال وما يقطع بفضل أحد من الصحابة عليه غير أبي بكر ، وعمر : صاعا من تمر بصاعي تمر ، وقد يكون مشتري الجمل سأل رسول الله أن يؤدي عنه إلى القوم ثمن الجمل ففعل . الوجه الثاني : أنه لو صح أنه عليه السلام كان المشتري ، أو أنه علم الأمر فلم ينكره لكان حديث ابن عباس بإيجاب الأجل زائدا عليه زيادة يلزم إضافتها إليه ، ولا يحل تركها . فبطل تعلقهم بهذين الخبرين ، وليعلم من قرأ كتابنا هذا أنهما صحيحان لا داخلة فيهما إلا أن القول فيهما كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق .

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب السلم
كتاب السلم (مسأله 1613 - 1618) | كتاب السلم (مسأله 1619) | كتاب السلم (مسأله 1620 - 1625)