محلى ابن حزم - المجلد الخامس/الصفحة الخمسون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


أحكام العـــدة

1994 - مسألة: فإن أتبعها في عدتها قبل انقضائها طلاقا بائنا، ولم تكن عدتها تلك من طلاق ثلاث مجموعة، ولا من طلقة ثالثة فعليها أن تبتدئ العدة من أولها فإن طلقها بعد ثنتين ثالثة فتبتدئ العدة أيضا، ولا بد. وكذلك لو راجعها في عدتها فوطئها أو لم يطأها ثم طلقها فإنها تبتدئ العدة، ولا بد.

وروينا مثل قولنا عن طائفة من السلف: كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر، وغيره عن قتادة أن جابر بن عبد الله، وخلاس بن عمرو، قالا جميعا في المطلقة في العدة: تعتد من الطلاق الآخر ثلاث حيض.

وروينا، عن ابن مسعود: أنها تبني على عدتها من الطلاق الأول

وهو قول إبراهيم النخعي، وسعيد بن المسيب، والحسن، وأبي قلابة وبه قال الزهري، وقتادة.

قال أبو محمد: وبه يقول أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، إلا أن أبا حنيفة، ومالكا، وأحد قولي الشافعي في التي يراجعها في العدة ثم يطلق قبل أن يطأها: أنها تستأنف العدة

وقال الشافعي مرة: تبني على عدتها من الطلاق الأول وهو قول عطاء.

قال أبو محمد: ما نعلم لهم حجة من قرآن، ولا من سنة أصلا، ولا متعلق لهذه الطوائف فيما جاء، عن ابن مسعود في ذلك ; لأنه خبر: حدثناه عبد الله بن ربيع قال: أنا محمد بن معاوية القرشي أنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن يحيى بن أيوب المروزي أنا حفص، هو ابن غياث أنا الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: طلاق السنة يطلقها تطليقة وهي طاهرة في غير جماع، فإذا جاء وطهرت طلقها أخرى فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، ثم تعتد بعد ذلك بحيضة. قال الأعمش فسألت إبراهيم النخعي فقال مثل ذلك.

قال أبو محمد: كل هؤلاء الطوائف مخالفون لما صح، عن ابن مسعود هاهنا أنه السنة ; لأنهم كلهم يكرهون أن يتبعها طلاقا في العدة، والمالكيون والشافعيون لا يرون الحيض عدة. ولا عجب أعجب ممن يحتج بقول سعيد بن المسيب في دية أصابع المرأة: هي السنة يا ابن أخي، ويحتج بقول ابن مسعود هاهنا أنه السنة.

قال أبو محمد: وأما نحن فلا حجة عندنا فيما عدا نص قرآن وسنة ثبت حكمها عن رسول الله . وحجتنا لقولنا هاهنا: هو أن الله عز وجل إنما أسقط العدة عن المطلقة غير الممسوسة فقط، وأوجبها على المطقة الممسوسة. وأمر الله تعالى من طلق أن يطلق للعدة، وجعل العدة على التي تحيض ثلاثة قروء. وعلى التي لا تحيض لصغر أو كبر ثلاثة أشهر. وحكم تعالى أنها امرأته ما لم تنقض عدتها منه: يتوارثان، ويلحقها طلاقه، فهو إذا طلقها ثانية: مطلق امرأته الموطوءة منه في ذلك النكاح بلا شك، فعليها أن تبتدئ العدة من إثره بلا فصل. ومن الباطل أن يتقدم شيء من العدة قبل الطلاق، كما من الباطل طلاق موطوءة بلا عدة. أو طلاق موطوءة يكون قرءا واحدا أو قرأين، ولا بد لمخالفينا هاهنا من أحد هذه الوجوه الثلاثة وهي كلها باطل بيقين.

وكذلك من المحال أن تبني المرتجعة على عدة قد بطلت بالرجعة، إذ من الباطل أن تكون مرتجعة، وهي بعد الأرتجاع في العدة، وبالله تعالى التوفيق.

1995 - مسألة: فإن كانت المطلقة حاملا من الذي طلقها أو من زنى أو بإكراه فعدتها وضع حملها ولو إثر طلاق زوجها لها بساعة أو أقل أو أكثر وهو آخر ولد في بطنها، فإذا وضعته كما ذكرنا أو أسقطته فقد انقضت عدتها وحل لها الزواج.

وكذلك المعتقة وهي حامل تتخير فراق زوجها، ولا فرق.

وكذلك المتوفى عنها زوجها وهي حامل منه، أو من زنى، أو من إكراه فإن عدتها تنقضي بوضع آخر ولد في بطنها ولو وضعته إثر موت زوجها ولها أن تتزوج إن شاءت. وكذلك لو أسقطته، ولا فرق. برهان ذلك: قول الله عز وجل: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} فلم يخص عز وجل كون الحمل منه أو من غيره وسواء وطئها الزوج أو لم يطأها ; لأن الله تعالى قال ما ذكرنا.

وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها}.

قال أبو محمد: فاحتمل أن يستثني هذه من الأولى فيكون المراد: وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن إلا اللواتي لم تمسوهن وهن حوامل منكم من تشفير أو من غيركم. واحتمل أن تستثنى الأولى من هذه فيكون المراد: ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها إلا أن يكن حوامل منكم أو من غيركم، فواجب أن ننظر أي الأستعمالين، أو أي الأستثناءين هو الحق إذ قد ضمن عز وجل بيان ذلك فيما أنزل إلينا من شرائعه: فوجدنا خبر عبد الله بن عمر في طلاق امرأته وقد ذكرناه في " أول مسألة من الطلاق في كتابنا هذا " بإسناده. فوجدنا فيه أنه قال مره: فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا، أو حاملا منه. وفيه أيضا إذا طهرت فليطلق أو ليمسك، وقرأ رسول الله يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن.

قال أبو محمد: فصح أن طلاق الحامل جائز عموما، إذ هذا منه عليه الصلاة والسلام تعليم لكل مطلق إلى يوم القيامة، سواء كان الحمل منه أو من غيره ; لأنه عليه الصلاة والسلام لم يخص حاملا من حامل من غيره، وأن تلك الحال هو قبل عدتها، فوجبت العدة عليها بما ذكرنا، ولم يجز أن يسقط هذا الحكم إلا بيقين، ولا يقين في سقوطه إلا في المطلقة التي لم يطأها وليست حاملا فقط. وإذا صح أن عليها العدة فقد وجب ضرورة أن له الرجعة عليها ما دامت في العدة من، طلاقه، وعليه النفقة، ويتوارثان، ويلحقها إيلاؤه، وظهاره، ويلاعنها ; لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك}. وبقوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف}. وبالله تعالى التوفيق.

وكذلك نقول: إنه إن طلقها وعدتها بالأقراء أو بالشهور، ثم حملت قبل تمام العدة منه أو من غيره بزنى أو بإكراه، فإنها تنتقل عدتها إلى وضع ذلك الحمل، فإذا وضعت فقد تمت عدتها.

وكذلك لو مات فحملت في عدتها من وفاته من زنى أو إكراه فإن عدتها تنتقل إلى عدة الحامل بوضع الحمل ; لأن كل ذلك داخل في عموم قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}. وقد غلب رسول الله وضع الحمل في الوفاة على الأربعة الأشهر والعشر كما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا حسين بن منصور بن جعفر النيسابوري أنا جعفر بن عون، أخبرنا يحيى بن سعيد هو الأنصاري أخبرني سليمان بن يسار أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: بعثنا كريبا هو مولى ابن عباس إلى أم سلمة أم المؤمنين فجاءنا من عندها أن سبيعة وضعت بعد وفاة زوجها بأيام، فأمرها رسول الله أن تتزوج.

وأما قولنا " آخر ولد في بطنها " فلقول الله عز وجل: {أجلهن أن يضعن حملهن} فمتى ما بقي من حملها شيء في بطنها: لم تضع حملها.

قال أبو محمد: ولمحمد بن الحسن قول هاهنا نذكره ليحمد الله تعالى سامعه على السلامة وهو، أنه قال: إذا خرج من بطن المرأة من الولد النصف فقد تمت عدتها، لا يعد في ذلك النصف: فخذاه، ولا ساقاه، ولا رجلاه، ولا رأسه وقال أبو يوسف: من قال لأمته وهي تلد: أنت حرة فإن كانت حين قوله ذلك قد خرج نصفه الذي فيه رأسه فهي حرة والولد حر، وإن كانت قد خرج نصف بدنه سوى رأسه فالولد مملوك، وهي حرة. روى عنهما ذلك جميعا هشام بن عبيد الله الراوي في سماعه منهما.

قال أبو محمد: فليعجب سامع هذا من هذا الأختلاط أتراه البائس كان من الغرارة بحيث لا يدري أنه متى خرج رأس المولود ومنكباه فإنه في أسرع من كر الطرف يسقط كله، فمتى يتفرغ لتكسير صلب المولود ومساحته حتى يعلم أخرج نصفه أم أقل أم أكثر، وأنه متى خرج رأسه ومنكباه فإنه لا يمكن ألبتة أن يتم قوله أنت حرة حتى يقع جميعه. أتراه خفي عليه أنها المسكينة في ذلك الوقت " أشغل من ذات النحيين ". إن العجب ليكثر من نسبة من هذا مقدار علمه إلى شيء من العلم وحسبنا الله ونعم الوكيل. فإن بقي من المشيمة ولو شيء فهي في العدة بعد ; لأنها من حملها المتولد مع الولد سواء سواء

1996 - مسألة: فإن مات في بطنها فلا تنقضي عدتها إلا بطرح جميعه، ولو لم يبق منه إلا أصبع أو بعضها ; لأنها لم تضع جميعه فلم تضع حملها وبالله تعالى التوفيق.

1997 - مسألة: فإن كانت المطلقة لا تحيض لصغر أو كبر أو خلقة ولم تكن حاملا وكان قد وطئها: فعدتها ثلاثة أشهر من حين بلوغ الطلاق إليها أو إلى أهلها إن كانت صغيرة ; لقول الله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن}. وهذا قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان، وأصحابهم يعني: لزوم ذلك للصغيرة والكبيرة.

وقال مالك: لا عدة على الصغيرة جدا.

قال أبو محمد: ولا نعلم أحدا قال بهذا قبله، وهو قول فاسد ; لوجوه: أحدها أنه تخصيص للقرآن مخالف لحكمه. وثانيها أنه أوجب عليها عدة الوفاة ولو أنها في المهد وأسقط عنها عدة الطلاق وهي موطوءة مطلقة وهذا تناقض ظاهر الفساد. وثالثها أنه لم يحد منتهى الصغر الذي أسقط فيه عنها عدة الطلاق من مبدأ وقت ألزمها فيه العدة وهذا تلبيس لا خفاء بفساده، ومزج للفرض بما ليس فرضا. ويكفي من هذا كله أنه قول لا دليل على صحته، لا من قرآن، ولا سنة، ولا رواية سقيمة، ولا رواية فاسدة، ولا قياس، ولا رأي له وجه، ولا قول سلف وما كان هكذا فهو ساقط بيقين.


1998 - مسألة: فإن طلقها في استقبال أول ليلة من الشهر مع تمام غروب الشمس اعتدت حتى يظهر هلال الشهر الرابع، فإذا ظهر حلت من عدتها. فإن طلقها قبل ذلك أو بعده لزمها أن تعتد سبعا وثمانين ليلة بمثلهن من الأيام كملى، إلى مثل الوقت الذي لزمتها فيه العدة. ولا يلغى كسر اليوم، ولا كسر الليلة ; لأنه لا يجوز أن يكون بين أول عدتها وبين وقت لزوم العدة لها فرق أصلا، لا ما قل، ولا ما كثر. فإذا أتمت ما ذكرنا حلت ; لقول رسول الله : الشهر تسع وعشرون وقد ذكرناه في " كتاب الصيام " بإسناده.

فإن قيل: إنه قد لزمتها عدة بيقين فلا تخرج منها إلا بيقين. قلنا: هذا وضع فاسد، لكن قد لزمتها عدة بوحي الله عز وجل إلى رسول الله بيقين من قبل الوحي الذي ذكرنا لا بيقين مطلق من ظن كاذب، أو قول قائل، فلا نخرج من ذلك إلا ببيان رسول الله الذي هو اليقين حقا. وقد بين عليه الصلاة والسلام أن الشهر تسع وعشرون فلا يحل أن يزاد على ذلك شيء بوسوسة لا أصل لها وما كان ربك نسيا.


1999 - مسألة: وقد قلنا: إن أسقطت الحامل المطلقة، أو المتوفى عنها زوجها ; أو المعتقة المتخيرة فراق زوجها: حلت. وحد ذلك: أن تسقطه علقة فصاعدا، وأما إن أسقطت نطفة دون العلقة فليس بشيء، لا تنقضي بذلك عدة.

برهان ذلك: ما روينا من طريق مسلم أنا أبو بكر بن أبي شيبة،، ومحمد بن عبد الله بن نمير، قالا جميعا: أنا أبو معاوية،، ووكيع، قالا جميعا: أنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة وذكر باقي الخبر.

ومن طريق مسلم أنا أبو الطاهر أحمد بن عمر بن السرح، أخبرنا ابن وهب أنا عمرو بن الحارث عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه أنه سمع حذيفة بن أسيد الغفاري يقول: سمعت رسول الله يقول إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى وذكر باقي الخبر.

قال أبو محمد: معناه خلق الجملة التي تنقسم بعد ذلك سمعا وبصرا وجلدا ولحما وعظاما فصح أن أول خلق المولود كونه علقة لا كونه نطفة، وهي الماء.


2000 - مسألة: فإن طلقت التي لم تحض قط ثم حاضت قبل تمام العدة، سواء إثر طلاقها أو في آخر الشهر فما بين ذلك: تمادت على العدة بالشهور، فإذا أتمتها حلت ولم تلتفت إلى الحيض.

وكذلك لو حملت منه أو من غيره إثر طلاقها، أو قبل انقضاء الثلاثة الأشهر فلو مات هو قبل انقضاء الثلاثة الأشهر ابتدأت عدة الوفاة كاملة.

برهان ذلك: قول الله عز وجل: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} فإنما أوجب الله عز وجل عليها عدة ثلاثة أشهر إثر وجوب العدة عليها من الطلاق، فلا يبطل ما أوجبه الله تعالى عليها بدعوى لم يأت بها قط نص. فإن قيل: فالله تعالى قد أوجب الأقراء بقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} وقال تعالى أيضا: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} وهذه زوجة مطلقة. قلنا: إنما أوجب الله تعالى ما ذكرتم على ذوات الأقراء، وعلى ذوات الحمل، وهذه إذ لزمتها عدة هذا الطلاق إنما كانت بيقين من اللائي يئسن، أو من اللائي لم يحضن، ولم تكن أصلا من ذوات الأقراء، ولا من ذوات الحمل. ومن الباطل المتيقن، والمحال الممتنع: أن يلزم الله تعالى العدة بالأقراء من لا قرء لها حين وجوب العدة عليها، أو يلزم العدة بالحمل من ليست ذات حمل حين وجوب العدة عليها. كما أن من الباطل أن يحول بين وقت وجوب العدة من الطلاق، أو الموت، وبين العدة وقت ليس من العدة ; لقوله عليه الصلاة والسلام: فطلقوهن لقبل عدتهن. وقد ذكرناه قبل هذا بإسناده إلا أن يأتي بذلك نص جلي فيوقف عنده.

وأيضا فإن القرء إنما هو ما بين الحيضتين من الطهر، فحالها قبل أن تحيض وبعد اليأس من المحيض ليس قرءا فبطل أن تعتد بالأقراء من لم تطلق في استقبال قرء هي فيه، وهي وإن كان ولدها منه لاحقا به ; لأنها زوجته بعد فقد قلنا: إن وطأه لها ليس رجعة، ولا طلاقا فتبتدئ العدة منه. وقد ادعى قوم الإجماع هاهنا وهذا باطل ; لأنهم لا يقدرون على إيراد كلمة في ذلك عن أحد الصحابة، رضي الله عنهم، إنما جاءت في ذلك آثار عن ثمانية من التابعين فقط: وهم: عطاء، ومجاهد، وسعيد بن المسيب والزهري، والحسن، وقتادة، والنخعي، والشعبي ومثل هذا لا يعده إجماعا إلا من استجاز الكذب على الأمة.

قال أبو محمد: ثم استدركنا النظر في قول الله تعالى: {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} وقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن}. فوجدنا المعتدة إذا حاضت في العدة فليست من اللائي يئسن من المحيض، ولا من اللائي لم يحضن بلا شك، بل هي من اللائي حضن، فوجب ضرورة أن عدتها ثلاثة قروء ومن الباطل أن تكون من اللائي يحضن، وتكون عدتها الشهور.

فصح أن حكم الأعتداد بالشهور قد بطل، وإن كان بعض العدة. وصح أنها تنتقل إلى الأقراء، أو إلى وضع الحمل إن حملت.

وأما انتقالها إلى عدة الوفاة إن كان الطلاق رجعيا فقط، وإلا فلا ; فلأنها زوجة ترثه ويرثها، فهي متوفى عنها فيلزمها بالوفاة عدة الوفاة وبالله تعالى التوفيق.

2001 - مسألة: وأما المستحاضة التي لا يتميز دمها، ولا تعرف أيام حيضتها فإن كانت مبتدأة لم يكن لها أيام حيض قبل ذلك بعدتها: فعدتها ثلاثة أشهر، لأنها لم يصح منها حيض قط، فهي من اللائي لم يحضن، فإن كانت ممن كان لها حيض معروف فنسيته، أو نسيت مقداره ووقته فعليها أن تتربص مقدارا توقن فيه أنها قد أتمت ثلاثة أطهار وحيضتين، وصارت في الثالثة، ولا بد. فإذا مضى المقدار المذكور فقد حلت ; لأنها من ذوات الأقراء بلا شك فعليها إتمام ثلاثة قروء، وأما إذا تميز دمها فأمرها بين إذا رأت الدم الأسود فهو حيض، وإذ رأت الأحمر، أو الصفرة فهو طهر.

وكذلك التي لا يتميز دمها إلا أنها تعرف أيامها فإنها تعتد إذا جاءت أيامها التي كانت تحيض فيها حيضا، وبأيامها التي كانت تطهر فيها طهرا.

وقد ذكرنا برهان ذلك: في " كتاب الحيض " في " الطهارة " من ديواننا هذا فأغنى عن إعادته، وهي أخبار ثابتة عن رسول الله بما ذكرنا.

وأما المستريبة فإن كانت عدتها بالأقراء أو بالشهور فأتمتها إلا أنها تقدر أنها حامل وليست موقنة بذلك، ولا بأنها ليست حاملا فهذه امرأة لم توقن أنها من ذوات الأقراء قطعا، ولا توقن أنها من ذوات الشهور حتما، ولا توقن أنها من ذوات الأحمال بتلا هذه صفتها بلا شك نعلم ذلك حسا ومشاهدة. فإذ هي كذلك فلا بد لها من التربص حتى توقن أنها حامل فتكون عدتها وضع حملها، أو توقن أنها ليست حاملا فتتزوج إن شاءت إذا أيقنت أنها لا حمل بها ; لأنها قد تمت عدتها المتصلة بما أوجبها الله تعالى من الطلاق إما الأقراء. وأما الشهور وبالله تعالى التوفيق.، وأقصى ما يكون التربص من آخر وطء وطئها زوجها خمسة أشهر، فلا سبيل إلى أن تتجاوزها إلا وهي موقنة بالحمل، أو ببطلانه ; لأن رسول الله أخبر بأنه بعد أربعة أشهر ينفخ فيه الروح، وإذا نفخ فيه الروح فهو حي إذا كان حيا فلا بد له ضرورة من حركة.

وأما المختلفة الأقراء فلا بد لها من تمام أقرائها بالغة ما بلغت لا حد لذلك ; لأن الله تعالى أوجب عليها أن تتربص ثلاثة قروء، ولم يجعل الله تعالى لذلك حدا محدودا ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه فإن حاضت حيضة ثم لم تحض، أو حاضت حيضتين ثم لم تحض، أو انتظرت الحيضة الأولى فلم تأتها بعد أن كانت قد حاضت في عصمة زوجها ; أو قبلها. فلا بد لهؤلاء كلهن من التربص أبدا حتى يحضن تمام ثلاث حيض كما أمر الله عز وجل، أو حتى يصرن في حد اليأس من المحيض، فإذا صرن فيه استأنفن ثلاثة أشهر، ولا بد لأن الله تعالى لم يجعل العدة ثلاثة أشهر إلا على اللواتي لم يحضن، وعلى اليائسات من المحيض وهذه ليست واحدة منهما، فإذا صارت من اليائسات فحينئذ دخلت في أمر الله تعالى لها بالعدة بثلاثة أشهر هذا نص كلام الله عز وجل وحكمه والحمد لله رب العالمين. وفيما ذكرنا اختلاف: روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أن حبان بن منقذ طلق امرأته وهو صحيح وهي ترضع فمكثت سبعة أشهر لا تحيض يمنعها الرضاع الحيض، ثم مرض حبان بعد أن طلقها بأشهر فقالوا له: إنها ترثك إن مت فأمر أن يحمل إلى عثمان فحمل إليه، فذكر له شأن امرأته وعنده علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، فسألهما عثمان فقالا جميعا: نرى أن ترثه إن مات، وأنه يرثها إن ماتت، فإنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض، ولا من الأبكار اللائي لم يحضن. أنا يونس بن عبد الله أنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم أنا أحمد بن خالد أنا محمد بن عبد السلام الخشني أنا محمد بن بشار، أخبرنا يحيى بن سعيد القطان عن أشعث بن عبد الملك الحمراني عن محمد بن سيرين: أن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود قالا جميعا في الشابة تطلق فلا تحيض: إنها تنتظر حتى تيأس من المحيض.

ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري، ومعمر، كلاهما عن منصور بن المعتمر، وحماد بن أبي سليمان، كلاهما عن إبراهيم النخعي عن علقمة أنه طلق امرأته تطليقة أو تطلقتين، ثم ارتفعت حيضتها ستة عشر شهرا ثم ماتت فقال له عبد الله بن مسعود: حبس الله عليك ميراثها، وورثه منها هذا في غاية الصحة، عن ابن مسعود. وقد روينا هذا بعينه، عن ابن عباس، وابن عمر، إلا أنه من طريق ابن وهب، عن ابن سمعان.

ومن طريق محمد بن عبد السلام الخشني أنا محمد بن المثنى أنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي، قال: سألت منصور بن المعتمر عمن طلق امرأته فحاضت حيضة ثم يئست من المحيض قال: تستأنف العدة حينئذ بثلاثة أشهر. قال: وسألته عن امرأة شابة طلقت فلم تحض من مرض أو ارتفع حيضها قال: تعتد بالحيض ما كان. وسألته عن جارية حاضت حيضة وطلقت فلم تحض سنتين قال عدتها الحيض ما كان.

ومن طريق ابن وهب أنا عقبة بن نافع عن خالد بن يزيد عن عطاء بن أبي رباح أنه سأل عن مطلقة لا تحيض في السنة إلا مرة قال: أقراؤها ما كانت.

ومن طريق ابن وهب عن مالك عن الزهري مثل ذلك.

ومن طريق ابن وهب أخبرني يونس عن أبي الزناد قال: ينبغي لها أن تعتد ثلاث حيض ولو كانت في عشرين سنة إذا كانت تحيض ولها شباب.

ومن طريق وكيع عن الربيع بن صبيح، ويزيد بن إبراهيم هو التستري عن الحسن البصري قال: تعتد بالحيض، وإن كانت لا تحيض في السنة إلا مرة.

ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال عطاء: تعتد أقراءها ما كانت تقاربت أو تباعدت. وقال ابن جريج: وهو قول عبد الكريم قال عطاء: فإن وجدت في بطنها كالحشة لا تدري أفي بطنها ولد أم لا فلا تعجل بنكاح حتى تستبين أنه ليس في بطنها ولد.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: إذا كانت تحيض فعدتها على حيضتها، تقاربت أو تباعدت.

ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء جابر بن زيد أنه كان يقول: تعتد أقراءها ما كانت.

ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن داود بن أبي هند عن الشعبي في المرأة تحيض حيضا مختلفا أن عدتها الحيض، وإن لم تحض في كل سنة إلا مرة.

ومن طريق سعيد بن منصور أنا هشيم أنا عبيدة عن إبراهيم قال: إذا كانت تحيض فعدتها بالحيض وإن حاضت في كل سنة مرة.

ومن طريق سعيد بن منصور أنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار في التي لا تحيض في السنة إلا مرة قال: أقراؤها ما كانت.

وهو قول أبي حنيفة، وسفيان الثوري، والشافعي، وأبي سليمان، وأصحابهم، وأبي عبيد وقاله الليث في المختلفة الأقراء.

قال أبو محمد: فكل هؤلاء يقولون مثل قولنا، وههنا قول ثان كما روينا من طريق مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر بن الخطاب أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين، ثم رفعت حيضتها "، فإنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل فذلك، وإلا اعتدت بعد التسعة الأشهر ثلاثة أشهر ثم حلت. وصح مثل هذا عن الحسن البصري، وسعيد بن المسيب.

ومن طريق مالك، عن ابن شهاب هو الزهري عن سعيد بن المسيب مثل قول عمر في المستحاضة تعتد سنة.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: إذا كانت في الأشهر مرة يعني الحيض فعدتها سنة. وقول ثالث

كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن رجل عن عكرمة أنه سئل عن التي تحيض فيكثر دمها حتى لا تدري كيف حيضتها قال: تعتد ثلاثة أشهر وهي الريبة، التي قال الله عز وجل: {إن ارتبتم} قضى بذلك ابن عباس، وزيد بن ثابت.

ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار عن طاووس قال: إذا كانت تحيض حيضا مختلفا أجزأ عنها أن تعتد ثلاثة أشهر. من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عكرمة قال: إذا كانت تحيض حيضا مختلفا فإنها ريبة عدتها ثلاثة أشهر، قال قتادة: تعتد المستحاضة ثلاثة أشهر.

ومن طريق سعيد بن منصور أنا سفيان، هو ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد قال: إذا كانت تحيض في كل سنة مرة يكفيها ثلاثة أشهر.

قال أبو محمد: اختلف ابن جريج، وسفيان بن عيينة: على عمرو بن دينار في هذا كما أوردنا، فذكر سفيان عن جابر بن زيد: ثلاثة أشهر وعن طاووس: أقراؤها ما كانت. وذكر ابن جريج عن جابر بن زيد: أقراؤها ما كانت وعن طاووس: ثلاثة أشهر.

وأما المتأخرون فإن الليث بن سعد قال: عدة المستحاضة في الطلاق والوفاة سنة. وقال الأوزاعي: إن ارتفع حيض المطلقة ثلاثة أشهر اعتدت سنة.

وقال أحمد، وإسحاق: عدة المستحاضة الأقراء، إن عرفت أوقاتها وإلا فسنة.

وقال مالك: إن لم تحض المطلقة تسعة أشهر متصلة استأنفت عدة ثلاثة أشهر، فإن أتمتها، ولم تحض فقد تمت العدة، وحلت للأزواج وإن حاضت قبل تمامها عدت كل ذلك قرءا واحدا ثم تنتظر الحيض، فإن لم تحض تسعة أشهر استأنفت عدة ثلاثة أشهر، فإن لم تحض حتى تتمها تمت عدتها، وإن حاضت فيها عدت كل ذلك قرءا ثانيا ثم تنتظر تسعة أشهر، فإن لم تحض اعتدت ثلاثة أشهر، فإن حاضت فيها أو أتمتها دون أن ترى حيضا فقد تمت عدتها.

قال أبو محمد: كل هذه الأقوال لا حجة لتصحيحها من قرآن، ولا من سنة، ولا رواية ضعيفة، ولا قياس، ولا رأي يصح، ولا رواية تصح عن صاحب، إنما جاء في ذلك الرواية التي ذكرنا عن عمر، مع أنها لا تصح ; لأن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر إلا نعيه النعمان بن مقرن. وقد روينا عن عمر خلاف ذلك كما أوردنا آنفا فما الذي جعل إحدى الروايتين عنه أولى من الأخرى.

وقال مالك: إنما تبتدي بتربص التسعة الأشهر من حين ارتفعت حيضتها، لا من حين طلقها زوجها، إلا التي رفعتها حيضتها إثر طلاقها، فهذه تعتد التسعة الأشهر من حين طلقت. قال: والمستحاضة كذلك عدتها سنة الحرة والأمة سواء، وكذلك التي ارتفع حيضها من مرض الأمة والحرة سواء قال: وأما التي ارتفع حيضها من أجل الرضاع فإنها بخلاف ذلك، ولا تتم عدتها إلا بتمام ثلاثة أقراء كائنة ما كانت. قال: وأما المرتابة فإنها تقيم حتى تذهب الريبة أو يصح الحمل، قال: وأقصى تربصها تسعة أشهر.

قال أبو محمد: هذه تقاسيم لا تحفظ عن أحد قبله. فإن شغبوا بالرواية التي هي عن علي، وزيد بحضرة عثمان. قلنا: لم يقولوا إن ذلك من أجل الرضاع ; إنما بينوا أنها ليست من اللائي لم يحضن، ولا من اللائي لم ييأسن من المحيض، فلا يحل أن يقولوا ما لم يقولوا وبالله تعالى التوفيق. قالب:محلى ابن حزم - المجلد الخامس/أحكام العدة