محلى ابن حزم - المجلد الأول/الصفحة الخامسة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


التـــــوحيد

66 - مسألة : وأن محمدا أسرى به ربه بجسده وروحه ، وطاف في السماوات سماء سماء ، ورأى أرواح الأنبياء عليهم السلام هنالك .

قال عز وجل : {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} .

ولو كان ذلك رؤيا منام ما كذبه في ذلك أحد ، كما لا نكذب نحن كافرا في رؤيا يذكرها.

وقد ذكرنا رؤيته عليه السلام للأنبياء عليهم السلام قبل فأغنى ، عن إعادته .

67 - مسألة : وأن المعجزات لا يأتي بها أحد إلا الأنبياء عليهم السلام .

قال عز وجل : {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} .

وقال تعالى : {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر}

وقال تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام أنه قال : {قال أولو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين} {فألقى عصاه} .

وقال تعالى : {فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه} .

فصح أنه لو أمكن أن يأتي أحد ساحر أو غيره بما يحيل طبيعة أو يقلب نوعا ، لما سمى الله تعالى ما يأتي به الأنبياء عليهم السلام برهانا لهم ، ولا آية لهم ، ولا أنكر على من سمى ذلك سحرا ، ولا يكون ذلك آية لهم عليهم السلام.

ومن ادعى أن إحالة الطبيعة لا تكون آية إلا حتى يتحدى فيها النبي الناس فقد كذب وادعى ما لا دليل عليه أصلا ، لا من عقل ، ولا من نص قرآن ، ولا سنة ، وما كان هكذا فهو باطل ، ويجب من هذا أن حنين الجذع وإطعام النفر الكثير من الطعام اليسير حتى شبعوا وهم مئون من صاع شعير. ونبعان الماء من بين أصابع رسول الله وإرواء ألف وأربعمائة من قدح صغير تضيق سعته ، عن شبر ليس شيء من ذلك آية له عليه السلام لانه عليه السلام لم يتحد بشيء من ذلك أحدا.

68 - مسألة : والسحر حيل وتخييل لا يحيل طبيعة أصلا .

قال عز وجل : {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} .

فصح أنها تخييلات لا حقيقة لها ، ولو أحال الساحر طبيعة لكان لا فرق بينه وبين النبي وهذا كفر ممن أجازه.

69 - مسألة : وأن القدر حق ، ما أصابنا لم يكن ليخطئنا ، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا

قال الله عز وجل : {مآ أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأهآ} .

70 - مسألة : ولا يموت أحد قبل أجله ، مقتولا أو غير مقتول .

قال الله عز وجل : : {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا} .

وقال تعالى: {فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} .

وقال تعالى: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} .

71 - مسألة : وحتى يستوفي رزقه ويعمل بما يسر له ، السعيد من سعد في علم الله تعالى ، والشقي من شقي في علمه تعالى .

حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا أبي وأبو معاوية ، ووكيع قالوا : حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الله بن مسعود قال : حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله تعالى الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقى أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» .

72 - مسألة : وجميع أعمال العباد خيرها وشرها كل ذلك مخلوق خلقه الله عز وجل ، وهو تعالى خالق الاختيار والإرادة والمعرفة في نفوس عباده .

قال عز وجل : {والله خلقكم وما تعملون} .

وقال تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} .

وقال تعالى: {خلق السماوات والأرض وما بينهما} .

73 - مسألة : لا حجة على الله تعالى ، ولله الحجة القائمة على كل أحد .

قال تعالى {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} .

وقال تعالى: {قل فلله الحجة البالغة فلو شآء لهداكم أجمعين} .

74 - مسألة : ولا عذر لاحد بما قدره الله عز وجل من ذلك ، لا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، وكل أفعاله تعالى عدل وحكمة. لإن الله تعالى واضع كل موجود في موضعه ، وهو الحاكم الذي لا حاكم عليه ، ولا معقب لحكمه.

قال تعالى {ربك فعال لما} .

75 - مسألة : الإيمان والإسلام شيء واحد .

قال عز وجل : {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} .

وقال تعالى : {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} .

76 - مسألة : كل ذلك عقد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .

وقال عز وجل : {فأما الذين آمنوا فزادتهم} .

حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري ، حدثنا أبي ، حدثنا كهمس التميمي ، عن عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر قال : قال لي عبد الله بن عمر : حدثني أبي عمر بن الخطاب قال : «بينما نحن عند رسول الله ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى رسول الله وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله (الإسلام) أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال: صدقت، فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال صدقت وذكر باقي الحديث وفيه أن رسول الله قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم» .

حدثنا عبد الرحمان بن عبد الله بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن عبد الله بن دينار ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي قال : «الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان» .

وبه إلى البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عبد الله بن عمرو «أن رجلا سأل رسول الله أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» .

حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن رمح ، حدثنا الليث ، عن ابن الهاد ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر ، عن رسول الله قال «ما رأيت من ناقصات دين وعقل أغلب لذي لب منكن: قالت (امرأة): يا رسول الله وما نقصان العقل والدين ؟ قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل؛ فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان ـــ فهذا نقصان الدين» .

قال علي : قال الله عز وجل : {إن الدين عند الله الإسلام} .

فصح أن الدين هو الإسلام ، وقد صح أن الإسلام هو الإيمان ، فالدين هو الإيمان ، والدين ينقص بنقص الإيمان ويزيد. وبالله تعالى التوفيق.

77 - مسألة : من اعتقد الإيمان بقلبه ولم ينطق به بلسانه دون تقية فهو كافر عند الله تعالى وعند المسلمين ، ومن نطق به دون أن يعتقده بقلبه فهو كافر عند الله وعند المسلمين .

قال الله تعالى ، عن اليهود والنصارى : إنهم يعلمون رسول الله كما يعلمون أبناءهم .

وقال تعالى {وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما}

وقال تعالى: {إذا جآءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} .

78 - مسألة : ومن اعتقد الإيمان بقلبه ونطق به بلسانه فقد وفق ، سواء استدل أو لم يستدل ، فهو مؤمن عند الله تعالى وعند المسلمين .

قال الله تعالى {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}

ولم يشترط عز وجل في ذلك استدلالا ولم يزل رسول الله مذ بعثه الله عز وجل إلى أن قبضه يقاتل الناس حتى يقروا بالإسلام ويلتزموه ، ولم يكلفهم قط استدلالا ، ولا سألهم هل استدلوا أم لا ، وعلى هذا جرى جميع الإسلام إلى اليوم. وبالله تعالى التوفيق.

79 - مسألة : ومن ضيع الأعمال كلها فهو مؤمن عاص ناقص الإيمان لا يكفر .

حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا أبي ، عن ابن شهاب ، عن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله قال في حديث طويل: «حتى إذا فرغ الله من قضائه بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله عز وجل أن يرحمه ممن يقول لا إله لا الله» .

80 - مسألة : واليقين لا يتفاضل ، لكن إن دخل فيه شيء من شك أو جحد بطل كله .

برهان ذلك أن اليقين هو إثبات الشيء ، ولا يمكن أن يكون إثبات أكثر من إثبات ، فإن لم يحقق الإثبات صار شكا.

81 - مسألة : والمعاصي كبائر فواحش ، وسيئات صغائر ولمم ، واللمم مغفور جملة ، فالكبائر الفواحش هي ما توعد الله تعالى عليه بالنار في القرآن أو على لسان رسوله فمن اجتنبها غفرت له جميع سيئاته الصغائر .

برهان ذلك قول الله عز وجل : {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة}

واللمم هو الهم بالشيء ، وقد تقدم ذكرنا الأثر في أن من هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء .

حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله  : «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به» .

وقال الله عز وجل: {إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} .

وبالضرورة نعرف أنه لا يكون كبيرا إلا بالإضافة إلى ما هو أصغر منه ، لا يمكن غير هذا أصلا ، فإذا كان العقاب بالغا أشد ما يتخوف فالموجب له هو كبير بلا شك ، وما لا توعد فيه بالنار فلا يلحق في العظم ما توعد فيه بالنار ، فهو الصغير بلا شك ، إذ لا سبيل إلى قسم ثالث.

82 - مسألة : ومن لم يجتنب الكبائر حوسب على كل ما عمل ، ووازن الله عز وجل بين أعماله من الحسنات وبين جميع معاصيه التي لم يتب منها ، ولا أقيم عليه حدها ، فمن رجحت حسناته فهو في الجنة ، وكذلك من ساوت حسناته سيئاته .

قال الله عز وجل : {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} .

وقال تعالى: {فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية} .

ومن تساوت فهم أهل الأعراف. قال الله عز وجل: {إن الحسنات يذهبن السـيئات} .

ولا خلاف في أن التوبة تسقط الذنوب .

حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني إسماعيل بن سالم ، أخبرني هشيم ، حدثنا خالد ، عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن عبادة بن الصامت قال : «أخذ علينا رسول الله كما أخذ على النساء: أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يعضه بعضنا بعضا فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارة له ومن ستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له» .

83 - مسألة : ومن رجحت سيئاته بحسناته فهم الخارجون من النار بالشفاعة على قدر أعمالهم

قال الله عز وجل : {وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية * ومآ أدراك ما هيه * نار حامية}

وقال عز وجل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعـمل مثقال ذرة شرا يره} .

وقال تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كـسبت} .

حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا أبي ، عن ابن شهاب ، عن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله قال في حديث طويل : «ويضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم. وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله عز وجل، تخطف الناس بأعمالهم فمنهم (يعني) الموبق بعمله ومنهم المخردل حتى ينجى »

وبه إلى مسلم ، حدثنا أبو غسان المسمعي ، ومحمد بن المثنى قالا ، حدثنا معاذ ، و، هو ابن هشام الدستوائي أخبرنا أبي ، عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك أن النبي  : «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة» .

قال علي : وليس قول الله عز وجل : {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن}

وقول النبي في حديث عبادة الذي ذكرناه آنفا «إن شاء غفر له وإن شاء عذبه» بمعارض لما ذكرنا ; لانه ليس في هذين النصين إلا أنه تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء .

وهذا صحيح لا شك فيه ، كما أن قوله تعالى : {إن الله يغفر الذنوب جميعا}

وقوله تعالى في النصارى حاكيا عن عيسى عليه السلام أنه قال: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}

قال الله {قال الله هـذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} ليس بمعارض لهذين النصين .

وليس في شيء من هذا أنه قد يغفر ، ولا يعذب من رجحت سيئاته على حسناته ، والمبين لاحكام هؤلاء مما ذكرنا هو الحاكم على سائر النصوص المجملة.

وكذلك تقضي هذه النصوص على كل نص فيه : من فعل كذا حرم الله عليه الجنة ، ومن قال لا إله إلا الله مخلصا حرم الله عليه النار ، وعلى قوله تعالى : {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها} .

ومعنى كل هذا أن الله يحرم الجنة عليه حتى يقتص منه ، ويحرم النار عليه أن يخلد فيها أبدا ، وخالدا فيها مدة حتى تخرجه الشفاعة ، إذ لا بد من جمع النصوص كلها. وبالله تعالى التوفيق.

84 - مسألة : والناس في الجنة على قدر فضلهم عند الله تعالى ، فأفضل الناس أعلاهم في الجنة درجة .

برهان ذلك قوله تعالى : {والسابقون السابقون * أولـئك المقربون * في جنات النعيم} .

ولو جاز أن يكون الأفضل أنقص درجة لبطل الفضل ولم يكن له معنى ، ولا رغب فيه راغب ، وليس للفضل معنى إلا أمر الله تعالى بتعظيم الأرفع في الدنيا وترفيع منزلته في الجنة.

85 - مسألة : وهم الأنبياء ثم أزواجهم ثم سائر أصحاب رسول الله وجميعهم في الجنة .

وقد ذكرنا قول رسول الله أنه لو كان لاحدنا مثل أحد ذهبا فأنفقه ما بلغ مد أحدهم ، ولا نصيفه.

وقد ذكرنا أن أفضل الناس أعلاهم درجة في الجنة ، ولا منزلة أعلى من درجة الأنبياء عليهم السلام ، فمن كان معهم في درجتهم فهو أفضل ممن دونهم ، وليس ذلك إلا لنسائهم فقط.

وقال تعالى {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولـئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى}

وقال عز وجل: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولـئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون} {لا يحزنهم الفزع الأكبر} .

فجاء النص أن من صحب النبي فقد وعده الله تعالى الحسنى .

وقد نص الله تعالى {إن الله لا يخلف الميعاد} .

وصح بالنص كل من سبقت له من الله تعالى الحسنى ، فإنه مبعد ، عن النار لا يسمع حسيسها ، وهو فيما اشتهى خالد لا يحزنه الفزع الأكبر. وهذا نص ما قلنا ، وليس المنافقون ، ولا سائر الكفار ، من أصحابه عليه السلام ، ولا من المضافين إليه .

86 - مسألة : ولا تجوز الخلافة إلا في قريش ، وهم ولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ، الذين يرجعون بأنساب آبائهم إليه .

حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن أبيه قال : قال عبد الله بن عمر قال رسول الله  : «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان» .

قال علي : هذه اللفظة لفظة الخبر ، فإن كان معناه الأمر فحرام أن يكون الأمر في غيرهم أبدا ، وإن كان معناه معنى الخبر كلفظه ، فلا شك في أن من لم يكن من قريش فلا أمر له وإن ادعاه ، فعلى كل حال فهذا خبر يوجب منع الأمر عمن سواهم.

87 - مسألة : ولا يجوز الأمر لغير بالغ ، ولا لمجنون ، ولا امرأة ، ولا يجوز أن يكون في الدنيا إلا إمام واحد فقط ، ومن بات ليلة وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولا يجوز التردد بعد موت الإمام في اختيار الإمام أكثر من ثلاث .

برهان ذلك ما حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن السليم ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي ظبيان ، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله  : «رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المبتلى حتى يعقل» .

قال علي : الإمام إنما جعل ليقيم الناس الصلاة ويأخذ صدقاتهم ويقيم حدودهم ويمضي أحكامهم ويجاهد عدوهم ، وهذه كلها عقود ، ولا يخاطب بها من لم يبلغ أو من لا يعقل.

حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث ، هو ابن سعد ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي ، أنه قال «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» .

وبه إلى مسلم ، حدثنا وهب بن بقية الواسطي ، حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي ، عن الجريري ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله ، أنه قال : «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» .

وبه إلى مسلم ، حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري ، حدثنا أبي ، حدثنا عاصم ، هو ابن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن زيد بن محمد ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله  : «من خلع يدا من طاعة لقى الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» .

حدثنا أحمد بن محمد الجسوري ، حدثنا وهب بن مسرة ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، عن أبي داود الطيالسي ، عن عيينة بن عبد الرحمان ، عن أبيه ، عن أبي بكرة أن رسول الله قال : «لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة» .

حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان أن النبي قال : «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» .

فصح أن أهل كل عصر لا يجوز أن يخلوا من أن يكون فيهم قائل بالحق ، فإذا صح إجماعهم على شيء فهو حق مقطوع بذلك ، إذا تيقن أنه لا مخالف في ذلك وقطع به وقد صح يقينا أن جميع أهل الإسلام رضوا بقاء الستة إذ مات عمر رضي الله ، عن جميعهم ثلاثة أيام يرتئون في إمام. فصح هذا وبطل ما زاد عليه ، إذ لم تبحه سنة ، ولا إجماع. وبالله تعالى التوفيق. ثم تدبرنا هذه القصة فوجدنا عمر قد ولى الأمر أحد الستة المعينين أيهم اختاروا لانفسهم.

فصح يقينا أن عثمان كان الإمام ساعة موت عمر في علم الله تعالى ، بإسناد عمر الأمر إليه بالصفة التي ظهرت فيه من اختيارهم إياه ، فارتفع الإشكال وصح أنهم لم يبقوا ساعة ، فكيف ليلة دون إمام بل كان لهم إمام معين محدود موصوف معهود إليه بعينه ، وإن لم تعرفه الناس بعينه مدة ثلاثة أيام.

88 - مسألة : والتوبة من الكفر والزنى وفعل قوم لوط والخمر وأكل الأشياء المحرمة كالخنزير والدم والميتة وغير ذلك : تكون بالندم والإقلاع والعزيمة ، على أن لا عودة أبدا ، واستغفار الله تعالى. هذا إجماع لا خلاف فيه.

والتوبة من ظلم الناس في أعراضهم وأبشارهم وأموالهم لا تكون إلا برد أموالهم إليهم ، ورد كل ما تولد منها معها أو مثل ذلك إن فات ، فإن جهلوا ففي المساكين ووجوه البر مع الندم والإقلاع والاستغفار ، وتحللهم من أعراضهم وأبشارهم ، فإن لم يكن ذلك فالأمر إلى الله تعالى ، ولا بد للمظلوم من الانتصاف يوم القيامة ، يوم يقتص للشاة الجماء من القرناء.

والتوبة من القتل أعظم من هذا كله ، ولا تكون إلا بالقصاص فإن لم يمكن فليكثر من فعل الخير ليرجح ميزان الحسنات.

حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمان بن بهرام الدارمي ، حدثنا مروان يعني بن محمد الدمشقي ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، عن ربيعة بن يزيد ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر ، عن النبي فيما روى ، عن الله تعالى ، أنه قال : «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» .

وبه إلى مسلم ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله قال : «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال عليه السلام: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» .

قال علي : هذا كله خبر مفسر مخصص لا يجوز نسخه ، ولا تخصيصه بعموم خبر آخر.

89 - مسألة : وأن الدجال سيأتي وهو كافر أعور ممخرق ذو حيل .

حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة قال سمعت أنس بن مالك يقول إن النبي قال : «ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كفر» .

وبه إلى مسلم ، حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن المغيرة بن شعبة قال : «ما سأل أحد النبي عن الدجال أكثر مما سألته عنه قال: وما سؤالك عنه؟ قال قلت: إنهم يقولون معه جبال من خبز ولحم ونهر من ماء، قال: هو أهون على الله من ذلك» .

حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن السليم ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا أبو داود السجستاني ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا جرير ، حدثنا حميد بن هلال ، عن أبي الدهماء قال : سمعت عمران بن حصين يحدث قال : قال رسول الله  : «من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات ، أو لما يبعث به الشبهات ، قال هكذا ؟ قال: نعم» .

90 - مسألة : والنبوة هي الوحي من الله تعالى بأن يعلم الموحى إليه بأمر ما يعلمه لم يكن يعلمه قبل. والرسالة هي النبوة وزيادة ، وهي بعثته إلى خلق ما بأمر ما هذا ما لا خلاف فيه والخضر نبي قد مات ، ومحمد لا نبي بعده .

قال الله عز وجل حاكيا ، عن الخضر {وما فعلته عن} فصحت نبوته.

وقال تعالى: {ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما * يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جآءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جآءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} .

91 - مسألة : وأن إبليس باق حي قد خاطب الله عز وجل معترفا بذنبه مصرا عليه موقنا بأن الله عز وجل خلقه من نار ، وأنه تعالى خلق آدم من تراب ، وأنه تعالى أمره بالسجود لادم فامتنع واستخف بآدم فكفر .

قال الله تعالى حاكيا عنه ، أنه قال : {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} .

وأنه قال: {قال أنظرني إلى يوم يبعثون} .

وأنه قال: {فبمآ أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} .

وقال تعالى: {وكان من الكافرين} .

باب التوحيد
التوحيد (مسألة 1 - 20) | التوحيد (مسألة 21 - 40) | التوحيد (مسألة 41 - 65) | التوحيد (مسألة 66 - 91)