محاضرات في تاريخ الدولة العباسية/الباب الثاني، الفصل الثاني: الدولة الإخشيدية في مصر والشام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


۲ - الدولة الإخشيدية فـي مصـر

(۳۲۳ - ٣٥٨هـ/ ٩٣٥ – ٩٦٩م)

هجرية ميلادية
محمد الإخشيد بن طغج ٣٢٣ ٩٣٥
أبو القاسم أنوجور بن الإخشيد ٣٢٤ ٩٤٦
أبو الحسن علي بن الإخشيد ٣٤٩ ٩٦٠
أبو المسك كافور ٣٥٥ ٩٦٦
أبو الفوارس أحمد بن علي ٣٥٧ ٩٦٧
٩٦٩

محمد بن طغج الاخشيد (٣٢۳ - ٣٣٤هـ):


کان أبو بكر محمد بن طغج بن جف من أولاد ملوك فرغانة، وكان كل مـن ملوكها يلقب بالإخشيد، كما يلقب ملك الفرس بكسرى، وملك الروم بقيصر، وملـك الحبشة بالنجاشي.

ولما سار جف جد الإخشيد إلى الخليفة المعتصم، فأكرمه، وأقام معه إلى أن توفي هذا الخليفة، فاتصل بابنه الواثق ثم بأخيه المتوكل، وظل على ذلك إلى أن توفي في نفس الليلة التي قتل فيها المتوكل.

ولما سار جف إلى بغداد بمن بقي معه من الطولونيين وأنصارهم، سار معه ابنه طغج، فنقم على الوزير العباس بن الحسن، لأنه ترفع عن النزول له والترجـل، فأوقع به الوزير عند الخليفة وحبسه مع ابنيه محمد وعبيد الله.

وقد ظل طغج وإبناه في الحبس إلى أن توفي سنة ٢٩٤هـ على ما تقدم، فأطلق الوزير ابنيه، فلزما خدمته، وكانا يركبان معه إذا ركب ويقفان بين يديه إذا جلس، وظلا على ذلك إلى اليوم الذي ضرب فيه الحسين بن حمدان الوزير العباس بن الحسن بالسيف على عاتقه. ولم يكن ولدا طغج نسيا الأخذ بثـأر أبيهما كما لم يكن ابن حمدان يجهل ما فعله الوزير بطغج. فلما سقط الوزير عــن جواده صاح ابن حمدان بولدي طغج ليثأرا لقتل أبيهما، فضربا العباس بالسيف. وهرب ابن حمدان إلى ديار ربيعة، وهرب عبيد الله بن طغج إلى شیراز حیث دخل في خدمة أميرها.

اما طغج بن جف فقد زودنا ابن زولاق بشيء ذي غناء عن سيرته، فذكـر لنا أنه ولد له سبعة أولاد من الذكور، أحدهم محمد الأخشيد الذي ولد فـي منتصف شهر رجب سنة ٢٦٨هـ بشارع باب الكوفة ببغداد، ووصفه بالثراء وسعـة العيش. اتصل محمد بن طغج بخدمة ابن بسطام عامل بلاد الشام، وقد ذكـر ابن سعيد نقلاً عن ابن زولاق أن عبيد الله بن طغج عاد إلى بغداد في أيام الخليفة المقتدر، واتصل بخدمته، وحاز من علو المرتبة ما جعله يفتخر على اخيـه الإخشيد، فكان يخرج معه للصيد. ولما ولي ابن بسطام مصر صحبه الإخشيد إليها وبقي معه إلى أن توفي سنة ٢٩٧هـ، فانضم بخدمة ابنه أبي القاسم علي، ثم حـارب تحت قيادة تكين، في الموقعة التي دارت بين الجند المصريين وجند حباسة بـن يوسف الكتامي قائد عبيد الله المهدي الفاطمي في بلاد المغرب. وفي هذه الموقعة أبلى الإخشيد بلاءً حسناً، وتوثقت الصلة بينه وبين تكين، فكان يتنقل معـه بين الشام ومصر. وقد ولي عمان وجبل الشراة شمالي العقبة سنة ٣٠٦هـ نيابة عن تكين الذي كان يلي بلاد الشام إذ ذاك، ثم ولاه الإسكندرية في ولايته الثانية على مصر (۳۰۷ - ۳۰۹هـ)، واشترك في غزوة الفاطميين الثانية على مصر بقيادة القائم ابن المهدي وولي عهده.

اشتهر أمر محمد بن طغج في الدولة العباسية منذ سنة ٣٠٦هـ، حين ولي اقليم طبرية وجبل الشراة نيابة عن تكين، وذلك على إثر بلائه وإيقاعه بجماعة من لخم وجذام كانوا قد دهموا حاج الشام وجماعة من أهل العراق، منهم جاريـة أم الخليفة المقتدر. وقد سار الإخشید بالأسرى إلى دمشق، فحمد له تكين هذا العمل، وكتب أهل العراق بما كان من خلاصهم على يد الإخشید، فاشتهر أمـــــــره وكتب إليه الناس يشكرون له فعله ويحمدون مرؤته.

ولا غرو فقد كان من أثر انتصار محمد بن طغج على جند الفاطميين الذين غزوا مصر (۳۲۱ - ٣٢٤هـ)، أن أمر الخليفة العباسي بزيادة "الإخشيد" على اسمه، وهو اللقب الذي كان يطلق على ملوك فرغانة، ودعي له بهذا اللقب على منابر مصر والشام في شهر رمضان سنة ٣٢٧هـ.

وقد أعاد الإخشيد النظام والسكينة، ووطد مركزه في مصر والشام، وصـد غزوات الفاطميين الذين أرسلوا إلى مصر حملة استمرت ثلاث سنوات (۳۲۱ - ٣٢٤هـ) حدثت فيها مناوشات بين جند الفاطميين والمصريين، وانتهت بمعاهدة الصلح.

ويخبرنا الكندي أنه حدثت في عهد ولاية الإخشيد الثانية (رمضان سنــة ۳۲۳ جمادى الثانية سنة ٣٢٤) عدة مواقع انتهت بعقد الصلح بين الفريقين، وانضمام بعض الزعماء المصريين إلى جيش المغاربة الذي دخل الإسكندرية، فأرسل إليهم الإخشيد جيشاً هزمهم وأرغمهم على العودة إلى بلادهم.

وكتب القائم الفاطمي إلى الإخشید بیده کتاباً دونه ابن سعيد في كتابـه "المغرب في حلى المغرب" وإنما فعل القائم ذلك رغبة منه في أن تفعل سياسـة اللين والمسالمة ما لا تفعله سياسة العداوة والحرب التي أخفق فيما هو وأبوه مـن قبل.

وقد سادت صلة الوفاق بين الإخشيد والخلافة العباسية إلى سنة ٣٢٨هـ، حين تبدلت هذه الصلة بمسير محمد بن رائق الخزري إلى الشام يريد مصر بتقليـد من الخليفة، مما حدا بالإخشيد إلى إلغاء الخطبة للخليفة العباسي وذكر اسم الخليفة الفاطمي محل اسمه في الخطبة، أو على الأقل إلى وقف الدعوة للخليفـة العباسي ردحا من الزمن.

وفي هذه السنة وقعت الحرب في العريش بين الإخشيد وابن رائق، الذي استولى على دمشق من قبل، فمضى ابن رائق منهزماً إلى الرملة، وعلى الرغم مـــن قتل عبيد الله بن طغج أخي الإخشيد، عقد الصلح على ما يحب ابن رائق، فتقلد ولاية الأراضي الشامية الواقعة شمالي الرملة، وتعهد الإخشيد بأن يدفع إليـه ١٤٠,٠٠٠ دينار جزية سنوية، مما حدا ببعض المؤرخين إلى أن يعد عقـد الإخشيد للصلح على هذه الصورة مع انتصاره على خصمه دليلاً على ضعف سیاسته.

على أننا نرى في عمله هذا ما يبرره نظراً للأحوال التي كانت تربط به، لأنه كان يخشى أن تواصل الخلافة العباسية الحملات عليه وعلى الرغم من انتصاره فـي هذه المرة، ولأنه كان يخشى خصماً آخر يهدده من ناحية مصر الغربية، وهـو الخليفة الفاطمي.

بيد أن وفاة ابن رائق بعد الصلح بسنتين أعادت الى حوزة الإخشيد كل بلاد الشام من غير حرب، ودخلت مكة والمدينة تحت سيادة مصر، وأصبح الإخشيـد من القوة بحيث يستطيع أن يأمر عماله وقواد، بالاعتراف بولاية ابنه أنوجور.

غير أن الأمر لم يكن قد استتب للإخشيد بعد، لخروج العلويين عليه فــي مصر، ومناوأة الحمدانيين الذين استولوا على قنسرين والعواصم سنة ٣٣٢هـ فولاها ناصر الدولة بن حمدان صاحب الموصل ابن عمه الحسين بن سعيد بن حمدان. ثم سار الإخشيد إلى الشام، فانتهز ابن السراج العلوي هذه الفرصة وسار إلى الصعيد ونهب بعض بلاده. ولكن قوته لم تكن بالتي تديل دولاً وتقيم أخرى، فسرعـان ما سار إلى برقة ودخل في سلطان الخليفة.

وقد ساءت العلاقة بين الإخشيديين وسيف الدولة الحمداني على إثر استيلائه على حلب واضطر الإخشيد إلى عقد الصلح الذي يقضي بترك حلب وما يليها من بلاد الشام شمالاً للحمدانيين، وتعهد بأن يدفع لهم جزية سنوية كفاء احتفاظه بدمشق.
وصاية كافور على أولاد الأخشيد:


ولما شعر الاخشيد بدنو أجله، عهد إلى كافور بالوصاية على ولده أبي القاسم أنوجور. وقد مات الإخشيد بدمشق في ٢٤ ذي القعدة سنة ٢٣٩هـ (يوليـه سنة ٩٤٦م)، وهو في السادسة والستين من عمره، ونقل إلى بيت المقدس، ودفـن بها بعد أن ولي مصر إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر ويومين. فخلفه ابنه أبو القاسم أنوجور ثم أبو الحسن علي. ولا نستطيع الحكم عليهما، إذ لم تترك لهما الفرصـة الكافية لإظهار كفايتهما حتى ماتا في غموض تام لم يشعر بولايتهما أحد. وكـان أنوجور في ذلك الحين لا يزال طفلاً لم يجاوز الرابعة عشرة من عمره، فقام بتدبيـر أمره کافور الإخشيد، الذي بقيت علاقته بهذا الوالي الجديد على ما كانت عليه من قبل، وهي علاقة الأستاذ بالتلميذ، وأصبح كافور بذلك صاحب السلطان المطلق في إدارة الدولة الإخشيدية. "وبقي الاسم لأبي القاسم والدست لكافور".

وقام في وجه كافور في مبدأ حكمه بعض المشاكل الداخلية والخارجية، فنجح في القضاء على ثورة قام بها أهل مصر، فارتفع شأنه عند الناس على اختلافهم. وبعد ذلك بقليل وردت الأنباء باضطراب الأمور في الشام واستيلاء سيف الدولة الحمداني صاحب حلب على دمشق وبأنه عول على المسير إلى الرملة لغزو مصر، فحاربه كافور وانتصر عليه انتصاراً حاسماً بالقرب من مرج عذرا بجوار دمشق، ودخل الجيش المصري مدينة حلب، وعقد بين الفريقين معاهدة الصلح، بنفس الشروط التـي عقدت بها في أواخر أيام الإخشیدي، ماعدا الجزية التي وقف دفعها.

وحصل كافور على موافقة الخليفة العباسي على تولية الأمير الصغير على مصر والشام وعلى المدينتين المقدستين مكة والمدينة، كما ضم إلى حكم مصر فيما بعد كل بلاد سورية حتى مدينتي حلب وطرسوس. وبذلك عظم شأنه وزادت شهرته، واستطاع أن يقبض على زمام الأحكام من غير أن تكون له سلطة شرعية. وخاطبه علية القـوم بالأستاذ، وذكر اسمه في الخطبة، ودعي له على المنابر في مصر والبلاد التابعة لها، وأتيح له بما أغدقه من العطايا والهبات أن يكتسب محبة رؤساء الجند وكبار الموظفين. على أن أنوجور لما كبر وشعر بحرمانه من سلطته ظهرت الوحشية بينه وبين کافور. وانقسم الجند فريقين: الإخشيدية، وهم مماليك الأسرة الإخشيدية وأنصارها. والكافوريون وهم أنصار کافور الذين رقاهم إلى المناصب العالية في الدولة. ومع ذلك ظل كافور على ما هو عليه يصرف لابن سيده راتباً سنوياً قدره أربعمائة ألـــف دینار.

ولا شك أن كافوراً كان مشغولاً بالإمارة ولوعاً بالسلطة، فإنه لما تولى أبـو الحسن علي بن الإخشيد بعد أخيه أنوجور، ظل يباشر الأمور بنفسه، على الرغم من أن الوالي الجديد قد ناهز الثالثة والعشرين من عمره، بل أنه حرمه كل عمـل، ومنع الناس من الاجتماع به، فأصبح أبو الحسن أسيراً في قصره لا عمل لـــــــه إلا الصلاة أو اللهو. وعين له كافور – كما عين لأخيه من قبل - أربعمائة ألف دينار في كل سنة، وبقي أبو الحسن على ذلك إلى أن مات سنة ٣٥٥هـ بالعلة التي مـات بها أخوه من قبل.

وكان الوارث للعرش ولداً صغيراً يدعى أحمد بن أبي الحسن علي، فحال کافور دون تعيينه بحجة أنه غير صالح للحكم لصغر سنة، وبقيت مصر بغير أمير نحواً من شهر. وفي المحرم سنة ٣٥٥هـ. أخرج كافور كتاباً من الخليفة العباسي بتقليده على ولاية مصر، وأظهر الخلع التي وصلت إليه من الخليفة، فنودي به والياً على مصر وما يليها من البلاد، فلم يتغير لقبه "الأستاذ" ودعي له بعد الخليفة على المنابر.

ظل كافور على رأس الحكومة المصرية زهاء سنتين وأربعة أشهر (۱۰ صفر ٣٥٥ - جمادی الأولى سنة ٣٥٧هـ). ويصف المؤرخون عهـده بأنه كان عهـــدا أسود، توالت فيه المصائب على مصر، فقد تعرضت بلاد الشام لغارات القرامطـة الذين نهبوها وقبضوا على قافلة مصرية كبيرة تتألف من عشرين ألف جمل كانــــــــت ذاهبة إلى مكة لأداء فريضة الحج (سنة ٣٥٥هـ)، ووقعت بمصر زلازل مروعة، وشبت نیران هائلة دمرت ۱۷۰۰ منزل من منازل الفسطاط، وأغار ملك النوبة على مصر فجأة، وعاث فساداً في البلاد الواقعة بين الشلال الأول وأخميم، فأحرق بـعـض المدن وقتل أهلها بالسيف ونهب أموالهم. وكان أشد هذه الأهوال انخفــاض ماء النيل. وفي عهد كافور حاول المعز لدين الله رابع الخلفاء الفاطميين العودة لغزو مصر، وسار بجيشه إلى حدود هذه البلاد الغربية، ووصل إلى الواحات. فجهـز إليه كافور جيشاً أوقف تقدمه وطرده، ولكنه تلقى بالقبول الدعاة الفاطميين الذيـن قدموا عليه من قبل المعز يدعونه إلى طاعته والاعتراف بسيادته، ووعد كثير من رجال بلاط وكبار موظفي دولته بتقديم الولاء للخليفة الفاطمي.

روی ابو المحاسن عن الذهبي: "وكان كافور يدني الشعراء ويجيزهم، وكانت تقرأ عنده في كل ليلة السير وأخبار الدولة الأموية والعباسية، وله ندماء، وكان عظيم الحرمة، وله حجاب، وله جوار مغنيات، وله من الغلمان الروم والسود ما يتجـاوز الوصف. زاد ملكه على مولاه الإخشيد. وكان كثير الخلع والهبات، خبيراً بالسياسة فطناً ذكياً، جيد العقل داهية. كان يهادي المعز صاحب المغرب ويظهر ميله إليه وكذا يذعن بالطاعة لبني العباس، ويداري ويخادع هؤلاء وهؤلاء، وتم له الأمر".

وقد نبغ بمصر في عهد كافور الإخشيد كثير من الفقهاء والأدباء والمؤرخين ومن أشهرهم القاضي أبو بكر بن الحداد، وتلميذه محمد بن موسى المعروف بسيبويه المصري، وأبو عمر الكندي، والحسن بن زولاق.

توفي كافور بمصر في شهر جمادى الأولى سنة ٣٥٧هـ، وعاش بضعاً وستين سنة، وكذلك إمارته على مصر ثلاثاً وعشرين سنة، استقل منها بالملك سنتين وأربعـة شهور، خطب له فيها على منابر مصر والشام والحجاز والثغور، مثل طرسوس والمصيصة وغيرهما، وحمل تابوته إلى القدس فدفن به، وكتب على قبره:

ما بال قبرك يا كافور منفرداً
بالصّحصح المرت بعد العسكر اللّجب
يدوس قبرك آحاد الرجال وقد
كانت أسود الشرى تخشاك في الكتب

ولما توفي كافور، اختار رجال البلاط أبو الفوارس أحمد حفيد الإخشيـد واليا على هذه البلاد، وكان طفلاً لم يبلغ الحادية عشرة من عمره، فعينوا الحسن بن عبيد الله بن طغج - والي الشام - وصياً عليه. غير أنه لم يلبث أن استبد بالأمر وأساء معاملة الأهلين، فسخط عليه المصريون، واضطر أخيراً إلى العودة إلى بلاد الشام، وقد انتهز المعز لدين الله الفاطمي فرصة هذا الاضطراب الـذي فشا في مصر، وضعف بغداد عن الدفاع عنها، لاشتغالها بصد غارات البيزنطيين الذين توغلوا في بلاد الدولة العباسية، فبعث جيشاً لغزو مصر بقيادة جوهر الصقلي سنة ٣٥٨هـ1.


  1. انظر، حسن إبراهیم حسن، تاریخ الإسلام السياسي، ج ۳، ص ١٢٦ - ١٤٢.