محاضرات في تاريخ الدولة العباسية/الباب الثاني، الفصل الأول: الدولة الصفارية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصـل الأول

۱- الدولة الصفاريـة

(٢٥٤ - ٢٩٠هـ / ٨٦٨ – ٩۰۳م)

یعقوب بن الليث الصفار:


تأسست الدولة الصفارية على يد يعقوب بن الليث الصفار (٢٥٤ - ٢٦٥هـ) الذي أغار على بلاد الدولة الطاهرية في خراسان، التي أسسها طاهر بن الحسين في عهد الخليفة المأمون (٢٠٥هـ ).

وقد استقل بنو طاهر بحكم هذه البلاد، ولكنهم كانوا في الوقت نفســه يعترفون بسلطان الخليفة العباسي، وامتد نفوذهم إلى حدود بلاد الهند، ونقلـوا قاعدتهم إلى نيسابور حيث بقوا فيها حتى سنة ٢٥٩هـ.

كان يعقوب وأخوه عمرو يشتغلان بعمل الصفر ويتظاهران بالزهد. وكان يعقوب أحد زعماء المطوعة، واشتهر أمره منذ سنة ٢٣٧هـ، كما كان أحد قواد صالح ابن النضر الكناني الذي استولى على سجستان. ولكن طاهر بن عبد الله بن طاهر ابن الحسن أمیر خراسان إذ ذاك استردها من هولاء المطوعة.

وسرعان ما تغلب على هذه المدينة درهم بن الحسين زعيم المطوعة الـذي ظهر عجزه، فولی جنده قائده يعقوب بن الليث الذي تولى أمر المطوعة وحـارب الخوارج والشراة وهزمهم هزيمة منكرة، ولم يلبث أن اشتدت شوكته فغلب على سجستان وهراة وبوشنج وما والاها.

ثم احتلت جيوشه نیسابور (سنة ٢٥٩هـ) قاعدة الدولة الطاهرية، مخالفـا أوامر الخليفة ومدعيا أن أهل خراسان قد بعثوا اليه لاستخلاصها من آل طاهر.

ولم يكن يعقوب بن الليث يرمي إلى القضاء على الدولة الطاهرية، بل عمـل على أن يمد نفوذه على بلاد فارس وخراسان، لذلك نراه يحارب الترك على تخوم سجستان فرهنته الملوك وأذعن له ملك المولتان، وملك الرخج، وملك الطبسين، وملك زابلستان، وملك السند ومكران وغيرهم، كما حارب الحسين بن زيد (٢٥٠ - ٢۷۰هـ) مؤسس الدولة العلوية في طبرستان وهزمه.

وفي سنة ٢٦١هـ بدأت أطماع يعقوب بن الليث الواسعة تظهر ظهوراً بيناً، وأدرك الخليفة العباسي المعتمد مدى الخطر الذي تستهدف له دولته من جراء ازدیاد نفوذه، فأضمر له العداء، وجمع ببغداد حاج خراسان والري وطبرستان وجرجان. وقرئ عليهم كتاب الخليفة بلعن يعقوب، وأرسلت عشرات النسخ مـــــــــن هذا الكتاب إلى الأمصار لتذاع بين الناس.

وقد أثار الخليفة العباسي بعمله هذا حنق يعقوب، فأعد عدته لقصد العراق، ثم سار إلى الأهواز، "وكاتب الخليفة وسأله ولاية خراسان وبلاد فارس، وما كان مضموماً إلى طاهر بن الحسين الخزاعي من الكور، وشرطتي بغداد وسر من رآی، وأن يعقد له على كرمان وسجستان والسند، وأن يحضر من قرئت عليهم الكتب التي نسخت في دار عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، ويقرأ عليهم خلاف ما قـــــرئ عليهم أولاً. ليبطل ذلك الكتاب بهذا الكتاب. ففعل ذلك الموفق أخو الخليفـة المعتمد على الله.. وأجابه إلى ما طلب، وجمع الناس وقرأ عليهم ما أحبه الصفار، وأجيب إلى الولاية التي طلبها".

بید أن أطماع يعقوب لم تقف عند حد، فلم يقنع بتولية الخليفة العباسي له على هذه البلاد، بل عمل على قصد بغداد نفسها وحمل الخليفة على الإذعان لمطالبه. ويظهر أنه كان يعتمد على جيش قوي، فقد ذكر ابن خلکان (جـ ۲، ص ۳۱۷) أن مساحة معسكره كانت ميلا في ميل، وأن دولته كانت في غاية الفراهيــة، ولكن ذلك كله لم يعنه شيئاً، فقد ثار جنده عليه حين رأوا الخليفة المعتمد علـى رأس الجيش فحلت به الهزيمة.

على أن هذه الهزيمة لم تفت في عضد يعقوب بن الليث الذي لم يكتف بمـا استولى عليه من البلاد، بل أخذ يحارب بعض ولاة الخليفة. وفي أواخر سنـة ٢٦٣هـ، استولى على جند نيسابور، ثم أخذ الأهواز من يد صاحب الزنج بعد حروب طاحنة. وقد ذكر ابن خلکان (جـ ۲ ص ۳۲۰) أن الخليفة المعتمد حاول أن يستميل إليه يعقوب بن الليث ليأمن جانبه، فيقول: أرسل إليه رسولاً يترضــاه ويستميله ويقلده أعمال فارس، فوصل الرسول ويعقوب مريض، فجلس له، وجعـل عنده سيفا ورغيفا.. ومعه بصل، وأحضر الرسول فأدى الرسالة، وقال له: "قـل للخليفة إني عليل، فإن مت فقد استرحت منك واسترحت مني، وإن عوفيت فليس بيني وبينك إلا السيف هذا، حتى آخذ بسيفي أو تكسرني وتغقرني فأعود إلى هـذا الخبز والبصل. وعاد الرسول فلم يلبث يعقوب أن مات (في جنديسابور). وكان موته لأربع عشرة ليلة خلت من شهر شوال سنة ١٦٥هـ.

اشتهر يعقوب بن الليث باليقظة وحسن التدبير، فكان يحسن اختيـــــــار رجاله، كما کان يحسن تنظيم جيوشه وإعدادها بالعدة والسلاح. وامتلأت خزائنه بالأموال حتى قيل أنه ترك خمسين ألف ألف درهم وثمانين ألف ألف دينار.

ويقول براون، أن استقلال بلاد الفرس يمكن أن يقال أنه بعث عن طريـق هذه الأعمال الباهرة التي قام بها يعقوب بن الليث الصفار، فإنه على الرغم من أنـه لم يكن من بيت عريق، نجح في تأسيس دولة استطاعت مع قصر عهدها أن تنشر نفوذها، ليس في سجستان وحدها حيث قامت دولتها أول الأمر، بل في أرجاء فارس وإلی أسوار بغداد تقريبا.

عمرو بن الليث الصفار (٢٦٥ - ٢٨٧هـ):


ولما توفي يعقوب بن الليث الصفار أقر أبو أحمد الموفق أخو الخليفـة العباسي المعتمد أخاه عمرو بن الليث على خراسان وفارس وأصبهان وسجستان والسند وكرمان والشرطة ببغداد، وخلع عليه. وبذلك قبض عمرو على ما كان بيـد أخيه، وأناب عبيد الله بن عبد الله بن طاهر عنه في شرطة بغداد وسامرا، وبعث إلى الموفق بعمود من الذهب.

ويقول ابن خلكان (جـ ۲ ص ۳۲۰) أن عمرو بن الليث لما تولى ولايته أحسن التدبير والسياسة حتى قيل: ما أدرك في حسن السياسة للجنود والهـدايـة إلى قوانين المملكة منذ زمن طويل مثل عمرو بن الليث.

على أن العلاقة لم تلبث أن ساءت بين الدولة الصفارية والخلافة العباسية، فقد عزل الخليفة المعتمد عمرو بن الليث عن البلاد التي ولاه إياهـا، وأعلن هذا الخلع على ملأ من حاج خراسان، ولعنه بحضرتهم، وأخبرهم أنه قلـد محمد بن طاهر بن الحسين بلاد خراسان وأمر بلعن عمرو على المنابر، بيد أن محمد ابن طاهر آثر البقاء بحاضرة الخلافة وأناب رافع بن هرثمة في إدارة ولاية خراسان. وانتصرت جيوش المعتمد على عمرو بن الليث، وخرج أبو أحمد الموفق في سنـة ٢٧٤هـ لحربه، ولكنه لم يستطع الاستيلاء على كرمان وسجستان وعاد أدراجه.

ولما ولى المعتضد الخلافة (٢٧٩هـ)، عزل رافع بن هرثمة الذي كـان محمد بن طاهر قد أنابه عنه في ولايتها، وأعادها إلى عمرو بن الليث. ولكن رافعاً لم يذعن لأمر الخليفة وشق عصا الطاعة، وحارب عمراً الذي قتله في سنة ٢٨٣هـ وبعث برأسه إلى المعتضد، ففرح لذلك غاية الفرح، وأرسل إليه الخلع واللواء دليلاً على رضاه عنه. ولكن عمراً اعتذر عن قبول هذه الخلع وأصر على طلب ولاية بـــــــلاد ما وراء النهر، وكانت بيد إسماعيل بن أحمد الساماني. ولم يجد الخليفة بداً مـن إجابة عمرو الذي لم تقف أطماعه عند حد وكتب إليه إسماعيل: "إنك قد وليت دنيا عريضة، وأنا في يدي ما وراء النهر، وأنا في ثغر، فاقنع بما في يدك، واتركني مقيما بهذا الثغر، فأبى إجابته إلى ذلك، وذكر له من أمر نهر بلخ وشدة عبوره، فقـال عمرو: لو شئت أن أسكره ببدر الأموال وأعبره لفعلت".

ولكن عمراً لم يقدر الصعاب التي قد تقف في سبيله وتحول دون تحقيـق أمنيته برغم قيادته الجيوش بنفسه، فحلت به الهزيمة ووقع أسيرا في قبضة إسماعيل ابن أحمد الساماني، وتشتت شمل جيشه الذي بلغ سبعين ألفا أيدي سبأ. وكانت هذه الموقعة من المواقع الحاسمة، لأنها كانت من أهم العوامل التي أدت إلـى سقوط الدولة الصفارية وقيام الدولة السامانية على أنقاضها.

ولما علم الخليفة المعتضد بهزيمة عمرو بن الليث فرح فرحاً شديداً وأشاد بذكر إسماعیل بن أحمد الذي سير عمرا إلى الخليفة، وألبس عمرو دراعة ديباج وبرنس السخط، وحمل على جمل له سنامان – يقال له إذا كان ضخماً على هذه الصورة "الفالج" - في غاية الارتفاع، وكان عمرو قد أهداه فيما أهدى للخليفة. وقد ألبس الجمل الديباج وحلي بذوائب وأرسان مفضفضة، وأدخل بغداد فاشتقها في الشارع الأعظم إلى دار الخليفة بقصر الحسنى، وعمرو رافع يديه يدعو ويتضرع دهـاء منه، فرقت له العامة، وأمسكت عن الدعاء عليه. ثم أدخل إلى الخليفة، وقد جلس له، واحتفل به، فوقف بين يديه ساعة وبينهما قدر خمسين ذراعاً وقال له: هذا ما يبغيك يا عمرو. ثم أخرج من بين يديه إلى حجرة قد أعدت له. ومات عمرو في غد ذلك اليوم، ودفن، وقيل أنه قتل.

"وكان عمرو – كما يقول ابن الأثير (جـ ۷ ص ۱۷۸ - ۱۷۹) - عظيم السياسة قد منع أصحابه وقواده أن يضرب أحد غلاماً إلا بأمره، أو يتولى عقوبة الغلام نائبه أو أحد حجابه. وكان يشتري المماليك الصغار ويربيهم ويهبهم لقواده، ويجري عليهم الجرايات الحسنة سراً ليطالعوه بأحوال قواده، ولا يكتم عنه من أخبارهـم شيء، ولم يكونوا يعلمون من ينقل إليه عنهم، فكان أحدهم يحذره وهو وحده".

ولما أسر عمرو، آل حكم الدولة الصفارية إلى حفيده طاهر بن محمد بــــن عمرو بن الليث (صفر سنة ٢٨٨هـ)، إلا أنه لم يكن له من الأمر شيء، لاستبــداد سبك السبكري غلام عمرو بن الليث بالسلطة، حيث قبض عليه وعلى أخيه يعقوب بن محمد بن عمرو بن الليث في سنة ٢٩٦هـ وبعث بهما إلى بغداد. وتغلب علـى بلاد فارس الى أن طرده منها الليث بن علي بن الليث الصفار، فاستنجد السبكري بالخليفة المقتدر، فأمده بجيش بقيادة مؤنس الخادم(۲۷۹هـ) وحلت الهزيمـة بالليث الصفاري وأسر. ولكن الجو لم يصف للخلافة بسبب عصيان السبكري وامتناعـه عن إرسال الأموال إلى بيت المال.

وقد بعثت الخلافة العباسية الجيوش تلو الجيوش للقضاء على السبكـري، ولكنها لم تستطع القبض عليه حتى تمكن أحمد بن إسماعيل الساماني من الاستيلاء على سجستان والقبض على محمد بن علي بن الليث الصفاري. ثم على السبكـــري، وبعث بهما إلى بغداد في شوال سنة ٢٩٨هـ. ومن ثم زالت الدولة الصفاريـة التي لم يقتصر خطرها على انتزاع ذلك الجزء الكبير من أراضي الدولة العباسية، بل حاول يعقوب فتح بغداد، واقتفى أخوه عمرو أثره، ولكنهما لم يصلا إلى بغيتهما.

ويرجع ضعف الدولة الصفارية وزوالها إلى موقف الخلافة العباسية العدائي منها، وما بذلته من الجهود المتصلة للقضاء عليها. أضف إلى ذلك موقـف السامانيين من هذه الدولة، فقد هزم إسماعيل بن أحمد الساماني جيوش عمرو بن الليث الصفار وأرسله الى بغداد، وقضى ابنه أحمد بن إسماعيل عليها نهائيا. هذا إلى مناوأة بعض قوادهم ولا سيما سبك السبكري غلام عمرو بن الليث الصفـار الذي كان لثورته أثر كبير في ضعف هذه الدولة وزوالها في النهاية.