محاضرات في تاريخ الدولة العباسية/الباب الأول، الفصل الخامس: خلافة المهدي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل الخامس

خلافة المهدي

١٥٨ - ١٦٩هـ / ۷۷٥ - ۷۸٥م

مات المنصور - كما سبق القول- بالقرب من مكة وهو في طريقه لأداء فريضة الحج، واحتفل بتأبينه وأخذ البيعة لابنه المهدي.

ويفهم من النصوص أن الذي أخذ البيعة للمهدي هو ابنه موسى (الهادي) وكان من بين الحاضرين عدد من كبار رجال الدولة، وبعض عمومة الهادي، بـل وتذكر الرواية أن عيسى بن موسى، ولي العهد الثاني، كان حاضراً بدوره وكـــان متردداً، والنص يقول: "أبى من البيعة"، ولكنه بايع1.

ووصل نبأ وفاة المنصور إلى المهدي، الذي كان ببغداد في منتصف شهر ذي الحجة وأرسلت إليه شارات الملك وهي: بردة النبي صلى الله عليه وسلـم، والقضيب وخاتم الخلافة.

وفي بغداد تمت البيعة الثانية للخليفة الجديد وهي "بيعة العامة". وأولى المشاكل التي اعترضت المهدي هي ولاية العهد، فقد كان عيسى بن موسى، هـو ولي العهد الثاني ومر عيسى بن موسى بنفس المحنة التي عرفها في عهد المنصور فقد تعرض للاضطهاد والتهديد والترغيب، ومحاولة إقناعه عن طريق الفقه والقضاة خلع نفسه في أوائل سنة ١٦٠هـ، وبايع للمهدي، كما بايع ابنه موســـى الهادي بولاية العهد. ثم جلس المهدي في الغد، وأحضر أهل بيته وأخـــذ بيعتهم، وخرج إلى الجامع ومعه عيسى بن موسى فخطب الناس وأخبرهم بخلع عيسـى والبيعة للهادي فأسرع الناس لمبايعته2.

أما عن العلويين فلا تذكر الروايات أنه قام بأعمال عنيفة ضدهم. وكان المهدي كما تقول الرواية محبباً إلى الخاص والعام "لأنه افتتح أمره برد المظالم وكفّ القتل وأمن الخائف وأنصف المظلوم"3. إلا أن المهدي كما يفهم من النصوص استثنى بعض العلويين من التمتع بالعفو، وهو الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بـن الحسن بن الحسن بن علي، مما اضطره إلى الهرب من سجنه، وأقلق ذلك الخليفة، ولكن الأمر انتهى بطلب العلوي الأمان من الخليفة فأمنه المهدي ووصله4.

وأطلق المهدي كما تقول الرواية ابني داود بن طهمان، الذي كان يناصـر إبراهيم في البصرة، وقرب ابنه يعقوب - بن داود - تقریباً شديداً، واستــــــــــوزره وقرّب ابن داود بدوره الزيدية من العلويين. فجمعهم وولاهم أمور الخلافـة فـي المشرق والمغرب5. وكان ذلك من الأسباب التي دفعت الشاعر بشـار بن برد إلى أن يقول بيتيه المشهورين:

بني أميـة هبوا طال نومكم
إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
خليفة الله بين الناي والعود6

والظاهر أن الخليفة أدرك خطورة أمر ترك مقاليد أمور الدولة إلى وزيره، فتخلص منه، وسجنه، وذهب بصره في السجن، ويقي محبوساً حتى عهد هـارون الرشيد، إذ شفع إليه فيه يحيى بن خالد بن برمك، فأمر الرشيد بإخراجـه مـن سجنه وأحسن اليه ورد إليه ماله، واختار يعقوب الإقامة في مكة فأقـام بها حتـى مات في سنة ١٨٧هـ7.
موقف الخوارج:


كان الخوارج يلجأون كعادتهم إلى القيام بأعمال العنف والشدة من ذلـك ما تذكره النصوص من قيام ثورة خارجية بخراسان في سنة ١٦٠هـ تزعمها رجل يعـرف باسم يوسف بن إبراهيم ويلقب "بالبرم" وقد قيل أنه كان حرورياً، واستطـــــــــاع التغلب على بوشيخ ومرو الروذ والجوزجان، ولكن جيوش الخليفة استطاعت القضاء على الثوار والقبض على يوسف هذا الذي سيق إلى الرصافة حيث جرّس ثم قطعـت يداه ورجلاه وقتل هو وأصحابه وصلبوا على الجسر8.

وفي أواخر هذه السنة قامت ثورة خارجية أخرى بنواحي الموصل، ينفرد بذكر تفصيلات دقيقة عنها خليفة بن خياط في تاريخه، كما ينفرد بإيراد نص الرسائل المتبادلة بين الثائر الخارجي عبد السلام اليشكري والخليفة المهدي9. وقد سببت حركة اليشكري - الذي استولى على معظم ديار ربيعة - الكثير من المتاعب للدولة، وذلك قبل أن يقضى عليها ويقتل زعيمها.

الحركات المذهبيـة:


حركة المقنع:


أما عن الحركات المذهبية التي اشتهرت بها خراسان منذ مقتل أبـي مسـلـم فإنها أنتجت على أيام المهدي ثورة كبيرة قام بها رجل يعرفه الكتاب بلقب "المقنع" وهذا الرجل كان يؤمن بالتناسخ، واسم هذا الرجل هاشم، وهو من مـرو الــــروذ، واعتنق هاشم فكرة التناسخ والحلول فقال: "إن الله خلق آدم فتحول في صورته، ثم في صورة نوح وهلم جراً إلى أبي مسلم الخراساني ثم تحول إلى هاشـم.. وكـان هذا يعني أن روح الله قد تقمصته وعلى ذلك يقول بعض الكتّاب أنه ادعـــــــــــــى الألوهية. وبدأت الدعوة التي قام بها المقنع في منطقة كش ونسف - من أرض ما وراء النهر - والتف حوله جمع كثير، وأيده أعداء الدولة من أتباع مذهـب أبي مسلم الذين عرفوا بالمبيضة ببخارى والصغد، وساعد على نجاح هذه الثـــــــــورة قيام الثورة الخارجية في خراسان (ثورة البرم)، وكذلك إعانة الترك، الذين استنجـد بهم، فتمكن المقنع من السيطرة على الإقليم في وقت قليل، كما استطاع أن يحقـق عدداً من الانتصارات على قوات الخلافة التي سارت ضده. وكان الرجل يظهر أمام الناس مرتدياً قناعاً، هذا القناع منسوج بخيوط الذهب حتى يبهر الأبصار عن طريق إشراق الأنوار الإلهية كما كان يدعي. وتقول النصوص أن أتباعه كانوا يسجدون له، ولهذا السبب عرف بالمقنع. وربما كان السبب في ارتدائه ذلك القناع، هو محاولته إخفاء تشويه وجهه. إذ تقول الرواية: "إنه كان أعور"10.

وبعد عدة حملات كللت بالظفر، استطاعت الجيوش العباسية هزيمة الثـوار في منطقة بخارى بعد أن ضيقوا عليهم الخناق وحاصروهم حوالي أربعة أشهـــر، ولكن المنهزمين لم يستسلموا إذ لحقوا بالقـوات الرئيسية للمقنع11، وطالت المناوشات طوال سنة ١٦٠هـ دون جدوى، وفي السنة التالية وهـي سنة ١٦١هـ تجمعت قوات الخلافة وتقدمت نحو الثائر، وشددت عليه الحصار حتى اضطر كثير من أتباعه إلى الاستسلام وذلك بعد أخذ الأمان سراً منه، وبقي المقنع في قلـة من أصحابه زهاء ألفين، وعندما أيقن بالهلاك اضطر إلى إلقاء نفسه هو وأهلـــــــه ونسائه وخواصه في النار وذلك بعد أن أحرق كل مافي قلعته "من دابة وثوب وغير ذلك" وتقول الرواية أنه قال: "من أحب أن يرتفع معي إلى السماء فليلق نفسه معي في هـذه النار"12.

ورغم القضاء على الفتنـة، وقتل أمير بخارى، فإن ذلك المذهب ظل باقيـا في كش وبعض قرى بخاری. ونهاية هاشم الغريبة هذه كانت سببا في افتتان من بقي من أصحابه كما تقول النصوص13.

وتقول النصوص أن المهدي جد في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم14. كما تقول الرواية أنه قال لولي عهده الهادي وقد قدم إليه زنديقاً فقتله وأمر بصلبه: "يابني إذا سار الأمر إليك فتجرد لهذه العصابة - يعني أصحـاب ماني - فإنها تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش، والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثم تخريبها من هذا إلى تحريم اللحوم ومس الماء الطهور وترك قتل الهوام تحرجاً، ثم تخرجها إلى عبادة اثنين، أحدهما النور والآخر الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول، وسرقة الأطفال من المهد لينقذوهم من ظلال الظلمة إلى بداية النور. فارفع فيها الخشب وجرد السيـف فيها وتقرب بأمرها إلى الله"15.

وفي سنة ١٦٦هـ قتـل الشاعر الأعمى بشار بن برد بتهمة الزندقة، إلى جانب أنه كان هجاء ولم يسلم من هجائه الخلية نفسه16.

وحوالي ذلك الوقت عهد المهدي بالتفتيش على الزنادقة إلى موظف خـاص يعرف باسم "المتولي لأمر الزنادقة" أو صاحب الزنادقة. وتذكر الرواية أن أول مـن تقلد هذا المنصب الجديد هو عمر الكلواذاني17، الذي توفي سنة ١٦٨هـ فولى مكانه محمد بن عيسى بن حمدويه، الذي كان عنيفا "فقتل من الزنادقة خلقاً كثيرا"18. ولا شك في أن تهمة الزندقة هذه كانت تحقق للخليفة ولعماله همدفين فـي وقت واحد، أول هذين الهدفين هو التخلص من الأعداء السياسيين. والثانـي كسب حب الشعب، وهناك نصوص نستشف منها ذلك فعندما يود الخليفة التخلص من وزيره يرميه بالزندفة، وتذكر الرواية أن المهدي عندما تجهز لغزو الـروم في سنة ١٦٣هـ، أرسل وهو بحلب - فجمع من بتلك الناحية من الزنادقة فجمعوا فقتلهم وقطع كتبهم بالسكاكين19.

ونهج خلفاء المهدي نفس السياسة، فوجهوا تهمة الزندقة إلى كل من أرادوا التخلص منه بل وإلى كل أصحاب الآراء التي لا ترضي الخليفة.

أما عهد المهدي فهو عهد ازدهار ورخاء. وقد قصد بابه الشعراء فأكرمهم وأغدق عليهم. ويرجع الفضل إلى المهدي في إنشاء شبكة من الطرق، وكذلـك تحسين نظام البريد. وعلى أيام المهدي غدت مدينة بغداد المحطة الرئيسيــة لتجارة الهند، وبفضل اهتمام الخليفة ازدهرت الصناعة. واهتم المهدي اهتماماً خاصاً كما تقول النصوص بالحرمين، فأمر ببناء المحطات للقوافل على طول الطريـق إلى مكة، وأمر ببناء المصانع (الصهاريج) لخزن المياه، وحفر الآبار، وقلد هذا العمل لموظف خاص أطلق عليه "صاحب المصانع"20. كما أمر المهدي كما تقول الرواية في سنة ١٦٧هـ بإقامة البريد بين مكة والمدينة وكذلك بينهما وبين اليمن. ولم يكن هنالك بريد قبل ذلك21. وعلى أيامه جددت كسوة الكعبـة كما أمر بالزيادة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم (سنة ١٦٧هـ) فدخلت فيه دور كثيرة22. وعلى عهده أيضاً تم بناء مسجد الرصافة وسورها وخندقها، كما زاد في مسجدي البصرة والموصل23.

وتنسب إليه النصوص أنه وضع في سنة ١٦٢هـ ديوان الأزمة كما "أجرى على الجذميين وأهل السجون الأرزاق في جميع الآفاق"24.

السياسـة نحو بيزنطـة:


وكانت سياسة المهدي إزاء بيزنطة، نفس السياسة التقليدية للدولة العربية الإسلامية. وينسب للمهدي تجهيز حملات قوية ضد بيزنطة ولكنها لم تحرز انتصارات حاسمة.

ففي سنة ١٦٣هـ تذكر الرواية أن المهدي تجهز بنفسه وأعد عدة عظيمة، وجمع الأجناد من خراسان وغيرها، وخرج على رأس قوات كبيرة، وكان بصحبتــه ابنه هرون (الرشيد)، بينما استخلف على بغداد ابنه موسى (الهادي)، وسـار إلى الموصل والجزيرة، ومن هناك عبر الفرات إلى حلب، ثم رافق ابنه هرون حتى جار الدرب (أي الممر) المؤدي إلى أرض الروم، وهناك ودعه وعاد أدراجـه لیزور بيت المقدس25.

وسار الرشيد بأرض العدو وكان بصحبته عدد من كبار القواد منهم: عيسى بن موسى والحسن بن قحطبة، كما كانت أمانة الحملة من أمور العساكر والنفقـات والكتابة موكولة إلى يحيى بن خالد الذي كان كاتب الرشيد. وأغلب الظن أن هذه الحملة لم تأت بنتائج كبيرة وذلك أنها تمكنت من فتح أحد الحصون فقط بعد حصار استمر أكثر من شهر، وفي سنة ١٦٤هـ أي السنة التالية ردت بيزنطة بأن تقدم البطريق ميخائيل وتحدى الصائفة الإسلامية التي اضطرت إلى الانسحاب وعـادت مما أثار سخط المهدي على قائد الصائفة حتى أنه رغب في قتله26.

وترتب على ذلك أنه في سنة ١٦٥هـ سيّر المهدي ابنه هرون (الرشيـد) على رأس حملة عظيمة بلغت حوالي ٩٥ ألف رجل كما تقول الرواية27. والظاهـر أنها لاقت نجاحاً إذ أن القائد البيزنطي اضطر إلى الانسحاب أمام هرون الـذي توغل هو والخراسانية في أرض الروم إلى أن وصلوا إلى خليج البوسفور. وخافـت إيرين (امرأة اليون كما يقول ابن الأثير) الوصية على إبنها قسطنطين السـادس واضطرت إلى عقد الصلح أو الهدنة لمدة ثلاث سنوات على أن تدفع الجزية السنوية. وسينقض البيزنطيون هذه الهدنة قبل حلول أجلها وذلك في أواخر سنة ١٦٨هـ أي قبل وفاة المهدي28.

أما عن موقف المهدي إزاء المغرب والأندلس فسنراه بتفصيل فيما بعد.

أما من جهة المشرق فتقول النصوص أن المهدي اهتم بالمشرق حتى بــــلاد الهند، وذلك أنه أرسل حملة بحرية إلى هذه البلاد في سنة ١٦٩هـ وكانت هذه الحملة تحوي كثيراً من الجند النظامي والمتطوعة، وهاجمت هذه الحملة إحـدى المدن الساحلية الهندية، وخربت معبد المدينة البوذي "البـد"، وأخذت المدينة، وعاد المسلمون محملين بالأسرى والمغانم ولكن الحملة انتهت نهايــة أليمة قرب ساحل فارس إذ عصفت بها الرياح فتكسرت معظم المراكب29.

موت المهـدي:


وفي سنة ١٦٩هـ مات المهدي، بعد خلافة دامت عشر سنين، وترك الخلافة لابنه موسى الذي تلقب بالهادي30.


  1. ابن الأثير، الكامل، ج ٥، ص ٥٠.
  2. ابن الأثير، الكامل، ج ٥، ص ص ٥٤ - ٥٥ (ذكر خلع عيسى بن موسى وبيعة موسى الهادي)، أحداث سنة ١٦٠هـ.
  3. المسعودي، مروج الذهب، ج ٤، ص ١٦٩.
  4. ابن الأثير، ص ٥١ – ٥٢.
  5. ابن الأثير، الكامل، ج ٥، ص ٦٦.
  6. نفس المصدر، ص ٦٦، وقارن الجهشیاری، کتاب الوزراء والكتاب، ص ١٥٦ حيث يورد البيت الثاني على الوجه التالي:
    ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا
    خليفة الله بين الزّق والعود
  7. الجهشیاري، ص ١٦١ - ١٦٢.
  8. ابن الأثير، ج ٥، ص ٥٤.
  9. انظر، خليفة، تاريخ خليفة، ج ٢، ص ۷۰۰ – ٧٠٤.
  10. ابن الأثير، الكامل، ج ٥، ص ٥٢.
  11. نفس المصدر، ص ٥٣.
  12. نفس المصدر، ص ٥٨.
  13. ابن الأثير، الكامل، ح ٥، ص ٥٨.
  14. انظر، ابن الأثير، الكامل، ج ٥، ص ٦٩.
  15. نفس المصدر، ص ۸۱.
  16. ابن الأثير، الكامل، ج ٥، ص ٦٨، انظر، الجهشیاري، کتاب الـوزراء والكتاب، ص ١٥٨.
  17. ابن الأثير، ج ٥، ص ٦٩.
  18. ابن الأثير، ج ٥، ص ۷۰.
  19. ابن الأثير، ٥، ص ٦٣.
  20. انظر، ابن الأثير، ج ٥، ص ٦٠، ص ٦٤ حيث تقول الرواية أن المهدي سـار للحج، فلما بلغ العقبة ورأى قلة الماء خاف ولحق الناس عطش شديد حتى کادوا يهلكون، وغضب المهدي على يقطين لأنه صاحب المصانع".
  21. انظر، ابن الأثير، ص ٦٨.
  22. ابن الأثير، ج ٥، ص ٥۷، ص ٦٩.
  23. ابن الأثير، ج ٥، ص ٦٩.
  24. نفس المصدر، ص ٦٢.
  25. نفس المصدر، ص ٦٣.
  26. ابن الأثير، الكامل، ج ٥، ص ٦٤.
  27. نفس المصدر السابق، ص ٦٥.
  28. انظر، ابن الأثير الكامل، ح ٥، ص ٦٥.
  29. نفس المصدر السابق، ص ٥٥.
  30. نفس المصدر السابق، ص ۷۱.