مجلة المقتبس/العدد 95/الشيخ عبد الرزاق البيطار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 95/الشيخ عبد الرزاق البيطار

مجلة المقتبس - العدد 95
الشيخ عبد الرزاق البيطار
ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1914



فقدت دمشق في 10 ربيع الأول سنة 1335 هذا العالم المنوّر والأديب المشارك عن 82 عاماً (ولد سنة 1253هـ) فعز نعيه على كل من عرف فضله الواسع وأدبه الغض ومجالسه المفيدة ودروسه الممتعة.

حفظ القرآن وجوّده في صباه وتمهر في علومه وأخذ بحظ وافر من الحديث والفقه والتصرف وكانت له يد في التاريخ والأدب والفلك والموسيقى وخلص في آخر أمره من قيود التقييد فكان يتكلم كلام من فهم أسرار الشريعة وتعلق بالكتاب والسنة صحيحة ولذلك لم يخل من حساد ومنافسين استعانوا بالسلطة الزمنية ليحطوا من قدره عند العامة.

كانت مجالس الأستاذ الخاصة كمجالسه العامة مملوءة بالفوائد العلمية والأدبية إذا جد اشرأبت إليه الأعناق والأفكار وإذا مزح ارتاحت لمباسطته الأرواح والقلوب فكان جعبة أدب وظرف ظرف ما غشي مجلسه أحد إلا وتمنى لو امتد أمد الاجتماع به والاستفادة من مروياته ومحفوظاته والتسلي بوثائقه ونوادره. طبع بطابع الرقة وحسن العشرة وأوتي الضرب على العرق الحساس في الناس.

نظم الشعر ومنه بعض المقاطيع والموشحات المشهورة المتداولة ونظمه أرقى من نظم الفقهاء. ودون شعر المغلقين من الشعراء وكتابته على طريقة السجع القديمة وقل أن انفك من أسره كما انفك من أسر التقليد الأعمى لبعض المتقدمين.

وكانت في فن الموسيقى العربية مرجعا يعتمد عليه تخرج به أناس في هذه الحاضرة وساعده على ذلك عذوبة صوته وعذوبة حديثة فجمع إلى العلم بهذا الفن الجليل عملاً حتى كانت له في صباه وكهولته مجالس خاصة في الإنشاد والغناء المستجاد يحسده عليها كل من رزق ذوقاً سليماً وهي في غير ما محرم عقلاً وديناً وعرفاً بل يقصد منها راحة القلب من هموم الحياة وإلقاء النشاط في النفس لتقوى على العمل والانكماش وتدب فيها روح الشجاعة ورقة العاطفة وتلقن حب الوطن والملة.

فإذا كان فقيدنا توغل في كتب السنة وأمعن النظر فيما قاله ابن تيمية وابن قيم الجوزية والشوكاني وحسن صديق خان فلم يفته تلحين شعر ابن الرومي وابن المعتز وأبي فراس وأبي الطيب وإن دعا إلة العلم الإسلامي الصحيح فما قصر في النسيب والتشبيب وما يطرب به الأديب. وإذا رتل الكتاب ترتيلا في محرابه وصومعته فما سلب من النفس حظها في خلوته وجلوته فهو متنسك متعبد وطروب مغرد مولع بتداول الأفكار وتسقط الأخبار ولوعه بتجويد الألحان وتوقيع الأوتار جمع بين زاد الآخرة ومقومات الحياة في الدنيا فذهب شيخاً معمراً شبع من دنياه وعمل لأخراه بما علمه مولاه.

لم يشبه عصر الشيخ الأول هذا العصر في وفرة أنواره وسعة محيطه وظهور الحقائق فيه جلية فجاء منه في أول أمره رجل يقرب من الحشوية المظلمة عقولهم اللهم إلا في ذكائه وتحصيله فلما انتشرت كتب الأئمة رجع عن كثير مما كان يقول به في الأربعين والخمسين من عمره شأن العالم العاقل. ولقد كان يقول لصديقه فقيد العلم الشيخ جمال الدين القاسمي ياجمال أحمد الله على أن انتبهت وأنت في سعة من عمرك ولحيتك سوداء فتتمكن من الاستمتاع بعقلك ويتسع لك الوقت لنشر آثار فضلك أما أنا فلم يعد لي وقت طويل في الحياة وهاقد ابيضت لحيتي وشاب قذالي فانتبهت لأشياء كنت من القائلين بها وقد كبرت سني ووهن العظم مني فالآمال فيك وبأمثالك من الشببة والكهول محصورة.

للفقيد عشر رسائل وكتب منها في الموضوعات الدينية والصوفية ومنها في الأبحاث التاريخية الأدبية وأهمها كتاب حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر وهو في نحو 1500 صفحة وقد تكلمنا عليه في مكان آخر من هذا الجزء والمؤلف على ما ظهر لنا من صداقتنا معه أعظم في اجتماعاته منه في كتبه لأن معظمها قد كتبه بسرعة قبل أن يفتح عليه فيما اشتهر عنه في آخر عمره وكم من عالم رزق الحظ فيما يكتب ولم يرزقه فيما يخطب وبالعكس ورب شاعر لا ينثر وناثر لا ينظم.

نُكب المرحوم بفقد ولديه الوحيدين في آخر حياته فزهده ذلك في العالم وزحزحه عن التأليف والتدريس وعزفت نفسه عن عزف المعازف والاستزادة من أسباب المعارف وشغل أجزل الله توابه بأمر مبكياته عن مفرحاته ومنشطاته.

والعمر كالكأس تستحلى أوائله ... لكنه ربما محت أواخره