مجلة المقتبس/العدد 95/البيزرة وكتاب فيه
مجلة المقتبس/العدد 95/البيزرة وكتاب فيه
مدخل البحث
بين جمادى ورجب سنة 1332 دعاني ورفيقين لي في النجف سادن إلى دار له لصق مسور المشهد العلوي فنثر بين أيدينا من الأجلاد والأوراق والأجزاء والطباق ما أرانا العجب والعجاب. نفيسات آثار شعثها الإهمال وطمسها الابتذال، منبوذة في ناحية غامضة نبذك سقط المتاع ملقاة نالت منها الأرضة والحشرات أضعاف ما اقتبسته العقول النيرات. وقد علاها من الزبل وسلح الطيور ونحوها ما غيّر محاسنها وأخلق كريم دباجتها. فأنتشنا من الجملة الجزء الأول من نواظر العيون في مختصر تذكرة ابن حمدون المتوفى سنة 562 لم نعرف صاحبه غير أنه صنع برسم الخدمة المولوية السلطانية الصالحية خطه حسن جداً يرتقي إلى القرن السابع. وأورد في كشف الظنون (منتخب الفنون في مختصر تذكرة ابن حمدون) وهو مختصر آخر والأصل من أمهات دواوين الأدب والتاريخ. قطعة من كتاب في المقصور والممدود من أجود ما جُرِدَ في هذا المعنى بخط قديم مشكول. شرح أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي المتوفى سنة 468 على ديوان المتنبي ربما ارتقى نسخه إلى عصر المؤلف أو ما يدانيه. كتاب السكردان تأليف ابن أبي حجلة المتوفى سنة 776 مخطوطاً على عهد المؤلف. كتاب البيزرة وهو من حيث الموضوع أهم الجميع فأثرت نعته ونشر شيء منه للقراء غير أن هذا يستلزم إيراد كلمة عن هذه اللفظة في اللغّة وفي الآثار.
لفظة البيزرة في اللغة
البيزرة والبزدرة بمعنى صناعة سياسة البزاة أو حرفة القيام على الجوارح وتعهد عتاق الطير من المفردات الدخيلة في كلام العرب وهي من قولهم بيزار معرب (باز - يار) أي صاحب الباز أو من قولهم بزدار معرب (باز - دار) أي ذي الباز في الفارسية أو أن بازيار وبازدار لغتان. وقيل أنها بالدال مولدة وأن الأصل بيزار قال الكميت:
كأن سوابقها في الغبار ... صقور تعارض بيزارها
وبالدال جاءت في قول أبي فراس
ثم تقدمت إلى الفهاد ... والبازداريين باستعدادِ ويكثر في لسان العلماء والفصحاء دوران بازيار وبيزار جمعوها في التكسير والتصحيح على بيازرة وبازياريين وبازيارّية. على أن للعرب الأقحاح أن يستعملوا مكان بازيار الأعجمية لفظة بياز العربية الصرفة دلالة على اتساع ذرع لغتهم وعدم ضيق عطفها في شيء وقد قالت العرب في قياس قولهم بيّاز صقّار وعقاب لقيم الصقورة والعقبان كما قالوا في هذا الباب كلاب وفهّاد وفيّال ونحو ذلك وهو متداول مشهور. وإنما أضاف اللغويون صناعة البيزرة إلى البزاة مع أنها تتناول غيرها من الجوارح لأن البزاة أجرأها وأجزاها وابتغها أثراً في الصيد. وقد كان لهذا العلم عندهم شأن خطير.
علم البيزرة عند العرب
تلقى العرب صناعة البيزرة على ما يظهر من آثارهم عمن تقدمهم والمرجح أنهم عرفوها أولاً بسليقتهم واختبارهم لمزاولتهم تغرية سباع الطير. على أن ملوكهم فضلوا الصقور على ما دونها وقلما روي شريف من العرب يستحسن حمل الباز لأن ذلك من عمل (البازيار) بخلاف الصقور والشواهين. ولا يدري لذلك علة إلا أن الصقر عندهم عربي والباز أعجمي ثم لما نضجت مدنيتهم أضافوا إلى ما عندهم ما وجد في كتب اليونان والفرس والرومان عن هذه الصناعة فسبيلهم فيها سبيل البيطرة وقد تلحق بها وتعد بمكان الفرع منها. وما أوثق لحمة النسب عندهم بين البيطرة والبيزرة أو بين طب الخيل أو طب الطير بل وطب الإنسان. فكل طب. وربما دونّوا الثلاثة في ديوان وأشركوها في عنون.
وقد مضى لهذه الحرفة شان كبير في حدثان ما كان من دولة العباسيين فبلغ من عنايتهم بها وأهلها أن رسموهم في الأعطيات والفرائض فأخصبوا وأفادوا أكثر من كثير في المهنة وأرباب الصناعات حتى قالوا إن البيازرة أغنى ممن يبتاع منهم وجاء في قائمة نفقات المعتصم (سنة 279 - 295) خمسمائة دينار مشاهرة أصحاب الصيد من البازياريين والكلابزيريين وثمن الطعم والعلاج وقيل كانت مياومتهم سبعين ديناراً.
ثم أن هذه الصناعة نفذت فيما نفذ من علوم المشرق إلى الأندلس بالمغرب فعني بحملتها بعض أمراء تلك الديار منهم نجم بن طرفة (سنة 330) الملقب صاحب البيازرة وهو على ما يظهر من أهل التأنق في المعيشة. ولما لم تكن البيزرة من الصناعات الضرورية التي عمت بها البلوى عندهم تراجعت وتأخرت وقلت بل انتفت تدريجياً دراستها من حيث أنها فن من الفنون المدونة فدرست أو كادت حتى أن المتكلمين على تاريخ الفنون والآداب العربية لم يشيروا إليها في الأغلب. وأصبح من لهم العناية بأمور الجوارح على قلتهم يربونها تربية مأخذها التجربة والاختبار لا الصحف والآثار كما يشاهد الآن في بعض الأقطار العربية والأعجمية. هذا وقد عرف في الطبقة الأولى جماعة من مشاهير البيازرة.
مشاهير البيازرة
إنه لشيء لا ينقضي العجب منه أن يكون بين أئمة هذا الفن عند العرب مثل الغطريف ممن صحب الرشيد. هاشم. أدهم بن محرز. سعد بن عقير يستشهد بأقوالهم ويحتج برواياتهم وأنقالهم ثم لا يتسع لهم مجال كتب الترجمة والتاريخ وتضيق عنهم صدور المعاجم معاجم الأطباء والحكماء. وإنما يجيء ذكرهم عرضاً في بعض الآثار الموضوعة في صناعتهم سموهم فيها تسمية مجردة. وقد سموا غير من مرّ من أعلام البيازرة. سومارس. صرغيث النبطي. ابن العوام لعله أبو زكريا يحيى بن محمد بن العوام صاحب كتاب الفلاحة نقله عن اليونانية. قسطوس الرومي لعله قسطوس بن اسكور صاحب كتاب الفلاحة الرومية وهم كالمجاهيل أغفلهم أصحاب معاجم الأعلام والطبقات مع أن بعضهم من رجال صدر الدولة العباسية ويغلب على الظن أن بعضهم من السريانيين المستعربين الذين كثر بينهم حذقة العلوم القديمة ونقلتها إلى العربية إذ ذاك.
البيزرة في الكتب
قلما تكلم على البيزرة من الوجهة العلمية عالم أو أديب في كتاب اللهم إلا الشيخ داوود الأنطاكي المتوفى سنة 1008 فقد أملى فيها نحو أربع قوائم من التذكرة مورداً في ترجمتها لفظ بزدرةناقلاً عن أهل هذا الفن معترفاً بقلتهم. وأورد فيها الحاج خليفة المتوفى سنة 1068 ثلاثة أسطر فقط نقلاً عن جامع السعادة لطاشكبري زاده بلفظ بيزرة والظاهر أنه لم يقف على كلام الأنطاكي وإلا لزاد. وفي بعض الكتب الفارسية عنها شيء لعله منقول على العربية مثل ما في كتاب تحفة المؤمنينتأليف حكيم مؤمنمن المتأخرين وفي دائرة البستاني عنها كلمة لم تستوعب عموداً ترجمتها بزدرة.
وقد تكلم على طباع الضواري والسباع من الطيور استطراداً لا من باب الخوض والتشمير في الفن جماعة منهم المسعودي في مروج الذهب والقزويني في عجائب المخلوقات والدميري في حياة الحيوان وغيرهم في غيرها كثير.
الكتب في البيزرة
إن مجموعة ما ألفيناه من الكتب المجردة في البيزرة ضئيلة جداً إليك أهمها. كتاب البزاة والصيد تأليف الأمير أبي دلف العجلي المتوفى سنة 225 القانون في البيزرة في الخزانة التيمورية وفي كشف الظنون نقلاً عن جامع السعادة أنه كاف في هذا العلم وسماه القانون الواضح ولم يسموا المؤلف. أنس الملا بوحش الفلا في البزدرة تأليف محمد بزمنكلي نقيب الجيش المصري ي أواخر القرن الثامن رقمه 2834 في خزانة باريس. رسالة في البزدرة تأليف قابادانيوس الحكيم الفيلسوف تاريخ نسخها سنة 923 في هذه الخزانة. القواعد المحبرة في البيطرة والبزدرة للأنطاكي وهناك آثار تعمم الصيد بالكلاب والنبل والنشاب وهي كثيرة ولا قمس الموضوع مساس الكتب المتقدمة نذكر من جملتها كتاب المصائد والمطارد تأليف أبي الفتح كشاجم المتوفى سنة 330 انتهاز الفرص في الصيد والقنص للشيخ تقي الدين بن حمزة بن عبد الله الناشري ألفه بزبيد سنة 910 مناهج السرور والرشاد في الرمي والسباق والصيد والجهاد تأليف زين الدين عبد القادر ابن أحمد بن علي الفاكهي رقمه 2834 من خزانة باريس. وقد وصف كواسب الطير وكواسرها ونعت أحرارها ومصرحاتها وكيفية تخليتها وإرسالها ونحو ذلك مما نحن فيه فريق من شعراء العرب أشهرهم أبو نواس وأبو فراس والناشي وكشاجم وصفي الدين في قصائد مزدوجة سميت الطردياتوهي مشهورة. ومن أهم ما عثرنا عليه من كتب هذا الفن كتابنا في البيزرة.
كتابنا في البيزرة
أول شيء في هذا الكتاب إغفال تسمية مؤلفه فيه وأنه خال من البسملة والحمدلة عار من تقديم مقدمة قبل الشروع في المقصود. وعلة ذلك أخرجناها فيما قدمنا من انقطاع دابر هذا الفن وأهله حتى لم تتألف من مشاهيرهم إلا طبقة محدودة ما أدركنا منها إلا الأسماء المجردة سيما وكثير منهم من غير أهل الإسلام. وليس هذا الكتاب ما ألف للإسكندر الرومي ثم نقل إلى العربية كما يظهر مما جاء على ظهره وهذا نصه كتاب البيزرة صنف الحكماء المتقدمين للملك الإسكندر الرومي وهو كتاب عجيب مما يصلح بالملوك إذ لابد لكل ملك من مسير إلى صيد بأحد هذه الطيور الجوارح والذي أوقع الوراقين في هذا الوهم ما ورد في نحو الكتاب من إن ثقات الروم من أهل المعرفة ذكروا أن الإسكندر الرومي قال للحكماء المحتفين بخدمته أريد أن تعرفوني بطبيعة الباز وأمراضه وعلامة كل مرض ودائه وهل طبيعة الباز تقارب طبيعة الآدمي أم لا؟. وأنت تعلم قصور هذه العبارة فيما يدعون. كيف وفي الكتاب نقل كثير عن حكماء العرب والمستعربين ومنهم من صحب الرشيد!! فالكتاب إذاً من طرائف عصر عربي راق كما يظهر أيضاً من أسلوب إنشائه السهل الممتنع البليغ. ولا يبعد أن يكون مؤلفه من رجال أواخر القرن الثالث أو أوائل الرابع للهجرة. يدلنا على ذلك أن المسعودي المتوفى سنة 346 أورد في مروج الذهب عن الجوارح فصلين نرجح أنهما منقولان عن هذا الكتاب باختلاف يسير كما سيقع الإيماء إلى ذلك.
وروى لنا خبير أن في خزانة باريس كتاب رقمه 2831 بدون اسم إلا أنه كتب على ظهره بخط غير خطه كتاب الجوارح والبزدرة تصنيف الفيلسوف أبو بكر ابن يوسف بن أبي بكر بن حسن بن محمد القاسمي القرشي العلوي الأشعري تاريخ كتابه سنة 848 هـ.
فاسم هذا الكتاب طبق المحز وأصاب المفصل من الكتاب الماثل أمامي الآن لكن لا تزال حقيقة مؤلفة مبهمة مجهولة. هذا وكتابنا جزآن أو مقالتان في المقالة الأولى 52باباً في تاريخ الصيد بالجوارح وتقسيمها إلى أقسامها وكيفية تربيتها وسياستها ثم إرسالها على غايتها وفي المقالة الثانية 63 باباً في أدواء الجوارح وعللها وما يتخذ لعلاجها من المركبات فجملة الأبواب 115 باباً في حجم 145 قائمة أو 290 صحيفة صغيرة مخطوطة خطاً واضحاً متأخراً االيطه يخطائها العد وفي آخره وقع الفراغ من كتابة هذه البيزرة نهار السبت 10 جمادى الأخرى سنة 1201 من الهجرة على يد ملامط بن عبد الله الطرفي.
النجف -
محمد رضا الشبيهي