مجلة المقتبس/العدد 94/أحياء الغابات في فلسطين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 94/أحياء الغابات في فلسطين

مجلة المقتبس - العدد 94
أحياء الغابات في فلسطين
ملاحظات: بتاريخ: 1 - 11 - 1914



غرائب زراعة أرض فلسطين.

توفرت منذ ست عشرة سنة على التجارب الزراعية والأبحاث الطبيعية فظهر لي إن ما تحصل معي من البحث قابل للتطبيق في ولايتي سورية وبيروت فإن هذه الولايات لا تتخالف حدودها الطبيعية كما تتخالف حدودها الإدارية.

من ألقى نظره في حال أراضي فلسطين الزراعية يرى أن السماد والمراعي والحطب قليل جداً فيها ويرى مع هذا أن فلسطين مع حاجتها إلى هذه الأصناف تصدر إلى البلاد الأخرى خشباً وتبناً وسمداً (فتخرج الحطب بعد أن تحرقه فحماً إلى مصر وتصدر التبن إلى جزائر البحر الأبيض والسماد إلى مصر).

وإنّ إصدار هذه الأصناف الثلاثة إلى خارج البلاد لما يساعد على انقراض الغابات وخرابها لأن الربح من إصدارها لا يوازي خراب الغابات وقلة غذاء الحيوانات وبوار الأرض بقلة السماد والسباخ. وهذا ويا للأسف برهان ناصع على تقهقر زراعتنا وعلى ما آلت إليه حال فلاحنا من الجهل المطبق ومن ألفاقة الحافزة على حين نرى كل حكومة تود ضمانة منافع بلادها وترفيه حال تبعتها أن تنزع الشر من أساسه وهي مضطرة إلى استعمال أنجع الأدوية السريعة لكل مرض في الأمة.

ماذا يحدث من التأثير بتخريب الغابات؟

بدأ خراب الغابات في فلسطين منذ الأزمنة التاريخية فكان من أهم التأثيرات المدهشة الأساسية أن عريت الجبال وتراكمت كثبان الرمال في الساحل وكثرت البطائح والمستنقعات. ومن المحقق أن حرمان الأراضي المائلة المسطحة من الأشجار والمراعي وتعرضها إلى للأحداث الجوية وتأثيراتها وانهيارها دعا إلى بقاء الجبال عريانة.

ومن المشاهد أن الأمطار التي تسقط في شتاء كل سنة تؤلف مياهها شلالات صغرى وتنتقل من صخرة إلى أخرى وتحمل معها الحصا والحجارة مدة سنة إلى السهول الصالحة للزراعة ولذا أصبحت مملكتنا بتجرد جبالنا كلها أشبه بهيكل عظمي وما كان يروى من أن هذه البلاد كانت في القديم تفيض لبناً وعسلاً لا يتأتى تحققه لتعود إليها قوتها الإنباتية القديمة كما كانت إلا بصرف الهمم الكثيرة والاعتصام بالصبر والمتانة وبالسير في نور حكمة يشفعها تعمل وانكماش. ولا يجب أن ننسى أن جميع بلاد فلسطين جبلية وبتجريد هذه الجبال من غاباتها تخريب زهاء ثلثي الأراضي الصالحة للزراعة في هذه الديار. كثبات الرمال دعا تخريب الغابات وبعبارة أصح تخريب الأشجار إلى تأليف صحار من الرمال متحركة بتحرك الأهوية والعواصف والتاريخ يؤيد ذلك فقد مدح العارفون بأخبار الناس الظلال التي كانت تمتد شرقي قيسارية على ستة أو ثمانية كيلو مترات. ويروى أن نساء الرومان كن يقلن في الهاجرة بعد الظهر في ظل تلك الغابات أما اليوم فنرى جميع هذه الأرض وهي عبارة عن ستة أو ثمانية كيلو مترات غاصة بكثبان من الرمال ولم يبق بعد ما شوهد من التهافت اليوم بعد الآخر على تخريب الحراج إلا أشجار من الدلب صينت من الاحتطاب لتبقى نموذجاً صالحاً ولم يبقى عليها سوى أن بعض القائلين بالأساطير القديمة نظروا إليها نظر تقديس.

ويؤخذ من التاريخ أن ما يشاهد من الرمال المتراكمة على عرض ستتم إلى ثمانية كيلومترات في ساحل فلسطين هو نتيجة عمل ألفي سنة ومن المحقق أن مساحة هذه الكثبان السيارة في سواحل فلسطين تبلغ مليون دونم على أقل تقدير وعلى هذا فإن قطع الأشجار في سواحل فلسطين كما أفقدنا حتى الآن مليون دونم من الأراضي يفقد كل سنة من زراعة فلسطين خمسة آلاف دونم فاقتضى من ثم أن تحصر الحكومة وكدها في إحياء الغابات وغرس الجديد منها لتقوم حاجزاً دون انهيال هذه الرمال. وهذا مما لا يصعب على الحكومة فإن مدينة بوردو في فرنسا كادت تهلك بانهيال الرمال حينها وتجد اليوم في ضاحيتها غابة كثيفة من السنديان الذي يسمونه شجر الذهب وإذا قد غرست هذه الغابة على الأصول العلمنة جاءت منها هذه المنافع في خمسين سنة تأليف البطائح.

إن نسبة تأليف البطائح والمستنقعات لقطع الأشجار تُرى لأول وهلة غريبة وقد بلغت هذه النظرية اليوم درجة الثبوت وإليك البيان: عندما تمطر السماء الجبال المغشاة بالغابات تنقسم مياهها بين الأوراق والأغصان وتبطئ بسقوطها إلى الأرض وتمتص هذه المياه على غاية من السهولة تلك الطبقة القابلة للنفوذ المؤلفة من حثالات الأوراق والأغصان المتساقطة وهذا تترشح المياه تدريجاً وتنفذ إلى باطن الأرض وتحفظ في جذور الأشجار وما يتألف حواليها من شبكة الجزيرات وتسيل رويداً رويداً من السطوح المائلة تحت الأرض فتنبع في السهول صافية براقة تحمل المغانم للسكان ثم تسيل بصفائها تمد الأنهار والأودية وتسيل إلى الأقاصي والأمطار التي تهطل على جبالنا بكثرة تكون على غاية من الانهمار ولا يقف في سبيلها حاجز فتسيل المياه فوق الصخور العريانة والسطوح غير القابلة للنفوذ متبددة.

وعندما تسيل مياه الأمطار إلى المروج تنشأ منها تيارات ومسايل كبيرة ويكون من هذه المسايل مدة بضع ساعات - وقد رويت تربة السهول من مياه الأمطار - طين مانع كبير ويتألف من هذا الطين صلصال مفيد يخرب زروع الحقول ويوسع مجاري المياه ويطمها وتتألف في السهول في مدة قليلة مستنقعات وبطائح كبيرة تكون مضرتها زمناً طويلاً وإذا وقع الضرر منها في مكان مرة واحدة تأخذ على الدوام في الزيادة ويتفاقم شرها ولذلك قال أصحاب الغابات: حافظوا على سلامة الجبال لإنقاذ السهول. إن هذه الأنهار التي تتبدل مجاريها وتسيل ببطء عندما تفيض بأوحال الجبال وتجري إلى البحار تصادف قرب مصابها رمالاً منتقلة تحول دون انبعاثها فمن أجل هذا ترى تلك السيول في الأراضي ذات اليمين وذات الشمال ويتألف منها بطائح. سبق أن قدرنا مساحة كثبان الرمال في فلسطين بمليون دونم والآن نقدر المستنقعات الواقعة على الساحل بعشرة آلاف دونم ولئن كانت مساحة المستنقعات أقل عشرة أضعاف من مساحة الكثبان فإنها من حيث الضرر أضر على البلاد مئة ضعف ومن المحقق أن المستنقعات هي السبب الرئيسي القديم في انتشار الحميات وهذا على رأي الأطباء كافة هو أعظم حائل يحول دون نمو السكان لأن الحمى بانتشارها يصاب بها الأطفال خاصة فتودي بالقسم المهم منهم.

ليس لدينا إحصاء عام نعرف منه زيادة الولادات على الوفيات في الولاية بيد أن ماجرى من البحث في بعض القصبات قد أثبت أن عدد السكان يزيد ببطء كثير على الرغم من وفرة الولادات ويقع هذا البطء وإن كان الزراع على شئ من الرفاهة يتبلغون بميسور العيش ومعلوم أن ازدياد السكان هو العنصر الأساسي الذي تقوم عليه عظمة الأمة وقوتها الاقتصادية.

اليد العاملة في فلسطين

يكفي الكيلومتر الواحد في فلسطين لإعاشة أربعين أو خمسين نسمة ويدخل في ذلك سكان المدن وعلى كثرة الولادات وتيسر أسباب العيش وقيام أعمال عمرانية نافعة لماذا لم يترق عدد السكان في الكيلومتر المربع عن خمس وعشرين نسمة منذ ثلاثين سنة والجواب أن كثرة الوفيات مانعة من نمو السكان النمو المطلوب وأهم ما يكثر به الموتان الحميات وهي منتشرة بكثرة بين الزراع. إن بقاء الجبال عريانة وتوسع أكثبة الرمال السيارة حتى أحدثت مستنقعات هما أعظم آفة على زراعة فلسطين

الأسباب الثانوية في خراب الغابات

ترجع هذه الأسباب إلى ثلاثة الأول الإقليم والثاني فقدان الأشجار الثمينة والثالث ندرة الطيور النافعة في الزراعة. وبعد فقد مضى الزمن الذي كان يعتقد فيه الناس أن الغابات تجلب الأمطار فإن العلم الحديث أبطل هذه النظرية من أساسها ولنا عدة أدلة على أن القطر ألفلسطيني لم يتبدل مدة ألفي سنة تبدلاً محسوساً أكثر من كل الأقطار ذات المدنيات القديمة. وما يهطل الآن هنا من الأمطار لا يختلف كثرة وقلة عما كان عليه على عهد بني إسرائيل.

إذا تقررت هذه الحقيقة تنتج لنا فائدة عظيمة عملية وهي أننا نستنتج أن قطع الغابات لم ينشأ منه خراب البلاد خراباً لا يتأتى إصلاحه وتلافي أمره وليس من الصواب أن نعتقد أن جبالنا التي حرمناها من نضرة الخضرة يتعذر أن نعيد إليها خضرتها

لا جرم أن الأشجار تساعد على خزن المياه في الأرض وتؤلف مستودعات كثيرة لها ومن هذه المخازن يحدث ألفيضان الشديد وفي أيام الجفاف وانقطاع الأمطار تمدُّ الينابيع بما يرشح منها فتكون بهذا النظام كافية للغاية وتكاثف الأشجار يعدل من قوة الرياح ويعدل قوة التبخر في المياه المخزونة فتجد النباتات من التربة طراوة ثم إن الأشجار بمحافظتها على طراوة الأرض وظلها تساعد على تأليف طبقة ترابية غنية من المواد العضوية ومن الأوراق المتساقطة وتحولها البطيء. وقصارى القول فإن إنشاء الغابات لا يؤثر تأثيراً محسوساً يوجه من الوجوه في كثرة الأمطار ولا في كيفية نزولها ولكنها تحدث ظلالاً وتخفف من شدة الرياح وتدعو إلى إسالة المياه ببطء.

جئنا إلى الكلام على قطع الأشجار الثمينة فإن لدي عدة براهين على كثرة الأشجار في القديم ومنها ما فقد تماماً أو أصبح نادراً للغاية أو وجد الآن وليس فيه ألفناء المطلوب بالنسبة لحاجة العصر ومن هذه الأشجار شجر الدلب والدردار والعرعر الخ ومن أراد زيادة بيان فليرجع إلى مجلة جمعية النباتات ألفرنساوية ففيها معلومات مختصرة عن الجغرافيا الزراعية في فلسطين غاية في ألفائدة.

أما ندرة الطيور النافعة للزراعة فإنها لما كانت الطيور الجارحة كثيرة العدد في فلسطين والطيور النافعة قليلة أصبحت الخسائر الناشئة المزروعة من الحشرات المضرة على من الكثرة فالجوارح تختار من الأراضي الأعالي والصخور والحواجز لتجد ما تفترسه وعلى العكس في الطيور الآكلة للحشرات فإنها تنزل الظلال وفي الغابات التي يسهل بها اختباؤها وتعيش بما هناك من الطراوة وما يتفسخ فيها ويتحول من المواد العضوية ولذلك توسلت الحكومات المتمدنة بتكثير طيور الزراعة ومنت القوانين النافعة لبقائها ونمائها أم نحن فيقضي لنا في بادئ الرأي أن نحي غاباتنا أداؤنا الجزية ألفاحشة إلى غيرنا في حين استحواذ الخراب على غاباتنا لقد صرفت الهمة لقطع غابات فلسطين على صورة واسعة جداً حتى لم يبق في بعض المحال حطب للدفء والحرق. ذكرنا فيما سلف ما جرّ على زراعتنا من الضرر إخراج السماد من البلاد ولا ندري ما نقول الآن وقد استعظمنا الأمر هناك في انقراض مادة السماد النافع في المحروقات. وقد قيل أن بلاد الجنوب كانت فقيرة بغاباتها منذ ألفي سنة أيضاً ونعني بها بلاد يهوذا ولكن البلاد المشهورة بغاباتها وهي بلاد اجليل وجبل الشيخ قد أصابها ما أصاب غيرها على نسبة واحدة فالبلاد التي ليس فيها حطب للوقود لا يكون عندها بالطبع خشب ولا ألواح للبناء وإذا كانت الأناضول تصدر قليلاً من الخشب اضطررنا للتجارة أن نستبضع ما يلزمنا من هذا الصنف من البلاد الخارجية وإذ ليس لدينا إحصاء يظهر منه مقدار ما يصرفه كل سنة من المال في هذا السبيل لا نكون إلى المبالغة إذا فرضنا أن ما يصل ثغور بيروت وحيفا ويافا كل سنة من الخشب لا يقل عن أربعمائة ألف ليرة عثمانية والمثال الذي نأتي عليه الآن يدل دلالة قطعية على حالتنا المعيبة وأننا ندفع الجزية إلى الخارج كان ما تصدره هذه البلاد من صناديق البرتقال إلى الخارج قبل ثلاثين سنة بضعة ألوف وما يصدر اليوم من يافا وحدها يربو على مليون صندوق وبعد خمس منين سيكون ثلاثة ملايين والصناديق التي يحفظ فيها البرتقال يؤتى بها من روسيا والنمسا يبتاع ألواح منها بثلاثة قروش وبعبارة ثانية أننا نؤدي خراجا معيناً عن كل صندوق نصدره وهذا الخراج يزيد على ما تستوفيه الحكومة ثلاثة أو أربعة أضعاف دعا جهل حكامنا السابقين وإهمالهم إلى امحاء منابع الثروة وكان من الشعوب المختلفة التي أحسنت الاحتفاظ بمنابعها الطبيعية وثروتها من غاباتها باتخاذ الأساليب المعقولة أن أصبحنا نؤدي إليها الجزية الباهظة وحولنا وجوهنا عما منحتنا الطبيعة إياه من الامتيازات فأخذت الآن تنتقم من على هذه الصورة

أهم الآفات التي ابتليت بها الغابات

أهم هذه الآفات ثلاث الرعي المتبادل وحتى الرعي في الأراضي الخالية والحيوانات الصغيرة ولا سيما الماعز وفأس المرأة ألفلاحة. ونعني بالرعي المتبادل حتى رعي قطعان أهل ناحيتين أو أكثر في أرض لهم. ويطلع حتى المرعى في الأراضي الخالية على أهالي ناحية مواشيهم إلى ما يدخل في ناحيتهم من المراعي وما لهم من الحق برعيتها ولئن استبان أن الرعي المتبادل وحق الرعي في الأراضي الخالية شيئان متخالفان ولكنهما شيء واحد في الحقيقة فإن أصول المرعى في الأراضي الخالية إذا لم توجد لا يوجد رعي متبادل. وكانت هذه الطريقة في الرعي المتبادل والرعية في الأراضي الخالية شائعة في أوربا خلال القرون الوسطى فتبينت مضارها للزراعة وفي تربية البهائم فأبطلتها الممالك المتوفرة على تربية الحيوانات وبقيت أصول الرعي المتبادل في سويسرا وإنكلترا وهولندة إلى القرن الثامن عشر حتى أبطل منها بتة. وترى اليوم كل إنسان يقبح باسم ترقي الزراعة طريقة الرعي المتبادل وحق المرعى في الأراضي الخالية لأن ذلك مما دعا إلى هلاك قطعاننا وساعد على انتشار الأمراض السارية فيها وهذه العادة ضربة قاضية على حقوق أصحاب الأراضي تدعو إلى الأسف ولها دخل كبير في تخريب الغابات وانقراضها.

تأصلت عادة الرعي المتبادل في نفوس الأهلين هنا فنزعها أو تجديدها يدعو إلى هلاك العشائر السيارة المعروفة بشن الغارة وتضطرهم إلى الرجوع أدراجهم أو أن يعودوا فيرجحوا العيش الثابت ويؤثروا حياة ألفلاح والتوطن ويطلقوا تقاليدهم القديمة منذ قرون من عيش الخيام ورعية الأنعام كما هي حال عشائر يوركلر في الأنضول وحال عشائر البدو الصغرى المختلفة في هذه الولاية ولما كانت هذه العشائر تعتقد أن طريقة الرعي المتبادل من الحقوق السماوية أصبح من الصعب أن يرجعوا عن تلك العادة حتى أن الأهالي الساكنين إذا أصابهم ضرر من هذا القبيل وجب على الحكومة أن تتداخل في الأمر بقوة السلاح فكما أن تراجان وكورنيليوس وبالما من قواد الرومان حموا على عهد حكومتهم الأراضي الزراعية بين صرخد وبصرى الساكنين في حوران والجولان من الأهلين ودوا عنهم غارة المغيرين من أهل البادية هكذا نعهد إلى الحكومة العسكرية اليوم أن تحمي حمانا في تلك الحال أيضاً من أبناء تلك العشائر القديمة وهم الرولة وولد علي وبني صخر.

وبعد فإن الحكومة لم تمد يد المساعدة لمن أراد أن يقوم من الأهلين بنفسه يحمي المراعي من التخريب ليأمن على أرضه حتى أن مهاجري الجراكسة لما نزلوا القنيطرة وأرادوا الانتفاع من مروج الجولان يقطعون منه قصيلاً للشتاء أغمضت الحكومة عينها عنهم فاضطر الجراكسة أن يقتتلوا مع أهل البادية دفعاً لرد عادية هؤلاء عنهم وأصبحوا يحصلون لمواشيهم على قصيل زيادة عما يلزمهم.

أوردت هذه الحادثة لأشير بها إلى أن عادة الرعي المتبادل مهما كانت متأصلة في طبيعة الأهالي ففي الوسع نزعها ومتى تم ذلك في أرض استفاد الأهلون والحكومة معاً. أن تخريب المراعي هو العامل الرئيسي في تخريب الغابات وقد أثبتت التجارب هذه الحقيقة على صورة لا تقبل الاعتراض وليس القطع أو الحريق من أعظم الحوائل في نمو الأشجار على اختلاف ضروبها وإيصال الأذى إليها من جذورها أو رأسها بل الضرر كل الضرر في إيصال الأذى إلى رأسها فتحول أسنان المواشي دون نموها فتتصلب سطوح الأراضي الثابتة وتنقسم الكثبان وبدلك يصعب أن تعود إلى الأشجار حياتها.

تخريب الحيوانات الصغرى ولاسيما الماعز

الماعز أعظم الآفات على غاباتنا وإذا اجتمعت على تخريب الغابة النار والفأس فلا يفعلان فيها كما تفعل أسنان الماعز. عرفت فيها هذه المضرة منذ القديم حتى جاء في قوانين بني إسرائيل صريحاً خطر تربية الحيوانات الصغيرة في فلسطين. وكان المنورون منهم يهتمون جدّ الاهتمام للمحافظة على هذا القانون ووضع القيود لتنفيذه. جاء في التلمود أن أحد حاخامي بني إسرائيل أصيب بسعال شديد فأوصه الأطباء أن يشرب لبن عنز سائغاً حديثاً فجاءه بحسب العادة المتبعة بعض رفاقه من الحاخامين يعودونه في مرضه فرأوا في فناء الدار تلك العنزة التي جعلت هناك للانتفاع بلبنها ولم يلبثوا أن رجعوا أدراجهم قائلين والغضب آخذ منهم، في باب الحاخام المذكور أشقياء مسلحين لا جرم أن العنزة كانت تعيش بما تخضمه وتقضمه من هنا وهناك.

وقد جرت الولايات المتحدة في تربية الحيوانات على قاعدة أن تجعل لكل مئة رأس بقعة من الأرض مساحتها 15. دونماً تروح الماشية فيها وتغدو سنتين على أن يقطع المرج من أساسه ولا شك أن ماشية ولاية بيروت لا تقل عن مليون رأس تخرب كل سنتين من الغابات15. . . . . دونم وبعبارة أخرى أن تخريبها لا يقل مانهة عن75. . . . دونم إلى مليون. فالرعي المتبادل وحق الرعي في الأراضي الخالية لا يحول فقط دون حفظ الغابات ويقرضها بل يمنعنا من تربية الماعز ويسوقنا إلى هذه النتيجة سوقاً

تخريبات المرأة ألفلاحة

تجيء المرأة القروية بعد الماعز في باب تخريب الغاب لأن من شأن المرأة في هذه الأصقاع أن تتدارك الحطب اللازم للدار والحطب المقتضي بيعه في السوق ويضيف هؤلاء النساء إلى ضعفهن الطبيعي أنهن يتسلحن بفؤوس رديئة يضربن بها الأشجار ألفتية ويحولن وجوههن عن الأشجار الكبرى ذات الأغصان المستطيلة والجذوع المتأصلة. وأن في دخول البنات والنساء إلى قراهن وقد احتطبن وجعلن حطبهم على رؤوسهن باسمات شاديات من المناظر الغريبة ولم ينحصر هذا العمل في النساء وحدهن بل يشاركهن فيه الرجال في ضواحي القرى ليحرقوا من أحطابها كلساً. ومن المشاهد أن أكمة أو جبلاً يعرى في بضعة أسابيع من مراعيه وأحطابه ليجعل من حطبه وقود لفرن أو فرنين من أفران الكلس الفقيرة أو بضعة أحمال صغيرة من ألفحم وهذا ولا شك من الجنايات التي لا ينظر إليها قانون من قوانين مملكة نظر تسامح وأغضاء.

ما قام به الأفراد لأحياء الغابات

مما يؤلم النفس أن الحكومة لم تقم حتى الآن بعمل يذكر في باب إحياء الغابات وتنميتها في أطراف المملكة على اختلاف اصقاعها ولا سيما في هذه الولاية ولم تنشط من أرادوا التشبث بذلك وقد قام فريقان من النازلين في هذه الديار وأتوا بعمل وإن كان صغير الجرم ولكنه كبير القدر في مسألة الغابات. فالفريق الأول أهل المستعمرة الألمانية قام بالتحريج على صورة محدودة ولكنها عاقلة والفريق الثاني أهل الاستعمار الإسرائيلي تذرعوا بمثل هذا العمل على صورة أوسع وأشجع ولما وضع ألمان حيفا أيديهم على الأقسام المهمة من جبل الكرمل رأوا أن يتذرعوا إلى الاستفادة من هذا الجبل بعض الشيء فغرسوا فيه أشجار الصنوبر وغرسوا أثمن أنواعه فأتت منها نموذجات نادرة وهو صنوبر حلب وغرسوا أيضاً من صنوبر الحبّ والصنوبر المشاهد نموذجات منه في لبنان وبيروت ولا تزال هذه البقعة من الغابات تتوسع فتدخل البهجة إلى قلوب من نزلوا في جوارها وعلى مقربة منها من الألمان.

ولئن كان هذا التوفيق درس عبرة لنا فأنا لست مع هذا من القائلين بغرس أشجار الصنوبر في ساحات واسعة وقولي هذا مستند على أسباب مهمة معروفة في فن الغابات وذلك لأن عامة أشجار ألفصيلة الصمغية سريعة الاحتراق وإذا احترقت فلا يعزب عن بالنا أن نوعها ليس من الأنواع التي تعود فتنمو وكثيراً ما يقع حريق الغابات في موسم الصيف وليليه الحارة وإذا كان ولا بد من غرس الأشجار من ألفصيلة الصمغية فيجب أن تحاط بأشجار الأوكاليبتوس المعروفة بشدة مقاومتها للحريق.

والخوف من الحريق ليس من الأمور النادرة بل وقع كثيراً في تونس والجزائر وكثرت الحوادث المكدرة بسببه فوجب علينا أن نعتبر فإن أهل الإخصاء في هذا ألفن فن التحريج لا يكتفون بما رسمه العلم من النظريات بل يراعون حال المحيط وروح الأهلين فإن هناك بعد المصاعب ألفنية موانع معنوية وروحية.

ما تذرع به الإسرائيليون لإحياء الغابات

حصدت الحميات منذ عشرين سنة الإسرائيليين وإذ كان شجر الأوكاليبتوس من موانع الحمى لم يكتفوا بالذي ذكرناه من الحرج الضعيف بل توسعوا في الغابة وغرسوا من الأوكاليبتوس كثيراً فكثر عددها حتى بلغت بحسب الجهات المئات والألوف فمنذ سنة 12 - 13 كانت هذه الساحات خالية بالكلية من الأشجار فأصبحت بحرمانها من فأس الحطاب غابات غبياء وأراضي شجراء والعمل جار الآن في كيفية استحصال طريقة أربح من غيرها من خشب الأوكاليبتوس وهذه القضية صعبة في الحل بعض الصعوبة.

وهنا مجال لأن أقول أنني في رحلاتي إلى تونس والجزائر للبحث في أحوال الغابات رأيت أشجارا وأردت اختبار أكثرها ملائمة لهذه الديار وقد بلغت أنواعها مئة نوع ولكن ما جربناه هنا فجاد بلغ اثني عشر نوعاً. وقد جربنا الأشجار المعتمد عليها في البلاد الحارة وشبه الحارة مثل أميركا وأوقيانوسيا فلم نجدها صالحة للغرس والنمو

وسائط لمنع تخريب الغابات

سبق لنا في ألفصول السابقة وصف النتائج التي آلت إليها الغابات بتخريبها رأينا أن الحالة من ناحيتها مخوفة داعية إلى القلق. إن انقراض الغابات آخذ بالارتقاء ويزيد فيه جهالة الأهلين نعم قامت بدل الغابات مروج وهذه تدعو الحاجة إلى الاحتفاظ بها فكما أن من اللازم اللازب قبل استرجاع ثروة فقدت بالتبذير والإسراف أن يحافظ على البقية الباقية منها فمن الواجب قبل التذرع بوسائط لاحياء الغابات أن يفكر في عدم انقراضها وتوقيف تيار الأضرار بها. والواجب في هذا لباب وضع قوانين والعناية بتطبيق مفاصلها لأن الأضرار بالغابات لم ينشأ من القوانين الخاصة بها بل من أهماها وعدم العناية بتنفيذها ولذا بات مستقبل البلاد مهدداً وتظهر فيه أنفع القوانين من الخطة التي تجري عليها في الإنقاذ فإن انفع قانون يعمد في تنفيذه إلى مأمور جاهل لا يكون إلا ذريعة لتشديد الحكم الكيفي ويزيد في الشدة على الأهلين ويبالغ في تضعيف أضرار خزانة الحكومة بواسطة بعض أهل المنافع من أرباب الأفكار الخسيسة ولذا نقترب من هذا البحث والرهبة والاحتراز آخذان منا.

لئن قل في الحكومات من وقف أمام تلك الحالة التي أضنت على انقراض الغابات في فلسطين فليست حكومتنا فقط اشتغلت بإحياء الغابات وحل قضيتها المغمضة ولكن هذه القضية المذكورة مع سهولتها على الحكومات المومأ إليها فقد شوهد أن حلها ليس من السهولة بالمكان الذي تصوروه وأدركت الحكومات التي عُنيت بالاحتفاظ بالغابات وبأحياء الجديد منها بفضل ما قامت به من التجارب الخاصة أن حل هذه القضية المعقدة بطئٌٌ يحتاج إلى نفقات طائلة وإذا خالف التوفيق من يعنى باتخاذ الطرق إليها فيكون بتنفيذ القوانين بشأنها حق التنفيذ بالحرف وتوزيع المخصصات على صورة رشيدة واسعة وأن يعهد في العمل لطبقة مختارة من الموظفين ويبالغ في البحث والاستقراء العلمي.

وهب أن الحال ساعدت على وضع قوانين لا تكلف نفقة وعهد إلى موظفين بالإشراف عليها وتطبيق مفاصلها فإن تنظيم خطط هذا التجديد وإخراجه إلى ألفعل يحتاج إلى موظفين أخصوا في هذا العلم وهناك أيضاً صعوبة في جلبهم وجمعهم. لأن التبريز في صناعة يقتضي لمن يديره أن يقضي دور الاستعداد في دائرة نظريات العلم ويعقبه دور طويل يقضيه في العمل وليس في البلاد حتى الآن علماء بالغابات على هذه الصورة وإذا صرفنا النظر عن الصعوبات الكثيرة التي تعترضنا في جلب علماء بالغابات من الخارج فهناك صعوبة واحدة يكتفى بإيرادها وهو أنهم يكونون ولا شك غرباء بعيدين عن معرفة ما يلزم لإنشاء الغابات في مثل هذا المحيط غير ملمين بأحوال القطر ولا بحالته الاقتصادية.

أرى هنا أن أورد بعض التجارب التي عمدوا إلى تطبيقها في بعض الممالك التي تشبهنا وأهم الأقطار التي يجب على رجال حكومتنا أن يبالغوا في البحث فيها: الجزائر وتونس وقبرص فإن بلادنا هذه تشبه تلك الأقطار من وجوه كثيرة فالمناخ فيها عينه عندنا وما يشاهد من الإسراف في قرض الغابات في فلسطين قد شوهد مثله في تلك الأصقاع أيضاً وإذ كان سكان هذه البلاد وسكان تلك من المسلمين فلهم نفس التقاليد والتواريخ ثم إنه استعملت في تلك الأقطار نفس الأشجار التي توافق بلادنا والواجب قبل كل شيء تحديد المقطوع من الخشب والحطب وتعيين شروط إصدار حاصلات الغابات ولئن كنا لا ننكر أن عندنا كثيراً من القوانين في هذا الشأن فإننا نقول بأنه لم يجر تنفيذها بتة على أن الواجب أيضاً تعديل هذه القوانين ببعض لوائح حسب محيط كل بلد وطبيعة كل أقليم وعادته فوضع القوانين واستعمال الجد في إنفاذها يجب أن يكونا توأمين متلازمين.

حرّاس الغابات

يجب أن يعهد إلى حرّاس يشرفون على الغابات على شرط آن لا يراعى في تطبيق القوانين والنظامات المذكورة الأصول القديمة وأن يختاروا من الذين تعلموا تعليماً ابتدائياً صناعياً في الجملة فإن الأصول التي اتبعت فيما مضى فدعت إلى أن يعهد إلى الجهال بمثل هذه الوظائف قد ألحق الضرر الكثير بالآهلين وإن إحداث وظائف الكسالى لا يكون إلا ذريعة لتشديد الضرر الذي يراد توقيفه. وكنا نرجي أن يكون ألفرق بين الحراس القدماء والحراس المحدثين في الغابات كالفرق بين أفراد الدرك اليوم وأفراد الدرك أمس على الأقل وما أشبه الليلة بالبارحة.

تنظيم قطع الغابات أشرنا فيما سلف من ألفصول إلى ما تحدثه المرأة القروية من الأضرار بالغابات عند احتطابها منها ولأجل توقيف هذا التخريب يجب توقيف الاحتطاب بتاتاً أيام نمو الأشجار والاحتطاب يبدأ في أيام الحر من 15 تموز إلى 15 أيلول فلا يسمح للمرأة ألفلاحة أن تحتطب إلا في هذا الموسم ومن الممكن أن يمتد هذا التوقيف عن الاحتطاب إلى كانون الثاني. وهذه حقائق ثابتة وفوائدها ظاهرة المحسنات فلا تحتاج إلى تفصيل.

قلع الجذور جرم

أبنا فيما سلف عند البحث على عمل الكلس والفحم الأضرار الناشئة من الطريقة التي يعمد إليها وأهم هذه الخسائر قطع جذور الأشجار مما لا يحول فقط دون نموها بل يقرضها أبديّاً فالواجب عمل الكلس والفحم على الأصول النظامية وفي الزمن الذي لا يمنع من نمو الأشجار وربما رأى الناس شدة في هذه الطرق والأساليب ولكنها في الحقيقة ليست مهمة فبدلاً من أن يقوم فلاحونا ويربحوا قليلاً من عمل ألفحم بقرض الغابات نوصيهم بأن يعمدوا إلى طرق أخرى فإنهم يضمنون لأنفسهم أرباحاً أكثر وما يكسبونه قليلاً من إصدار السماد والتبن يتأتى لهم استحصاله من طريق آخر ليعدلوا ميزانيتهم وإن ما تعلمه الوطنيون من مستعمرة الألمان والإسرائيليين في الثلاثين سنة الأخيرة من طريقة استعمال الأسمدة للأراضي أصبح في حكم قانون ثبتت فوائده في أرباض القرى وما يفعله في نمو البقول والأثمار ليس مفيداً فقط بل ضروري للغاية أما التبن فإنه يساعد ألفلاح على علف أبقاره وثيرانه على صورة أحسن فيكون من العوامل في تربيتها. وسنذكر في ألفصول التالية عند الكلام على صورة تنظيم أصول الرعي في الأراضي الخالية أن من المفيد جداً للحكومة تحديد عدد الماعز ومعاونة الأهلين على تربية البقر.

هذا ولا يتردد الرعاة بتة في قطع أغصان الأشجار ليطعموا بها قطعانهم فإن تجريد الأشجار الكبرى من بعض أغصانها يكون داعية انقراضها.

تنظيم المراعي

رأينا فيما سلف مقدار الضرر من الرعي المتبادل في الأراضي الخالية وحق الرعية فيها فعلى الحكومة إذا صحت عزيمتها على توقيف الضرر أن تبادر إلى تنظيم مراعيها. قد يشاهد في الظاهر تناقض بين مسألة تنظيم المراعي لما فيه مصلحة أصحاب المواشي وبين الزراع الذين ليس لهم ما يعلفون به دوابهم فيجب للتأليف بين هذين ألفريقين الظاهر تخالفهما كل التخألف بأن لا يشرع في العمل لذلك قبل إمعان الروية وإطالة النظر في المدخل والمخرج فينظر في اختلاف الحالة الاقتصادية في كل ناحية وفي سد حاجة الأهلين على غاية من التدقيق والعناية ثم يشرع في حل هذه المباينة وقد ظهر مما سبق أن تنظيم أصول المراعي يحتاج إلى تدقيق عميق طويل فإن كل الناس اليوم يقولون بأن بين المراعي والأشجار علاقة اشتراك ولذا فإن تخريب الغابات في الأماكن العالية يدعو إلى تغيير منابع المياه وجفاف المراعي فينشأ من ذلك تدني عدد الحيوانات من قلة المياه والمراعي فيكون الضرر لاحقاً في الأكثر بأصحاب المواشي. ولا جرم أن عدد الحيوانات آخذ بالتناقص ولا تنمو إلا بإحداث الغابات ونموها فهذه مقدمة لها فالواجب البداءة بهذا التحسين قبل كل شيء.

منع طريقة الرعي المتبادل

لإصلاح حق المرعى في الأراضي الخالية ولئلا يجري التزاحم على المراعي يجب أن يعين ما يلزم لكل قرية وناحية من المراعي وهنا نقسم المسألة إلى شقين فنجعل في الأول الكمية اللازمة للاستعمال في ألفلاحة والحمولة وما ماثل ذلك ليسد مجموعها حاجة القرية أو الناحية وفي الشق الثاني عدد الحيوانات التي تزيد في محصول هذا المجموع ورأس ماله بمعنى أننا إذا قلنا بأن نفادي بشيء لأجل حيوانات الطبقة الأولى فإننا لا نوافق على ذلك لحيوانات الطبقة الثانية أي أننا لا نفادي في هذا السبيل بقرض الحراج والغابات ونسوق البلاد إلى الخراب.

تحديد المراعي الخارجة عن الغابات

إن كثرة هذه المراعي في الأراضي السهلية يكون سبباً لعدم إدخال قطعان المواشي إلى الأراضي الجبلية ومع هذا فالواجب يقضي بمنع القطعان من دخول الغابات في الربيع لكثرة العشب فيه فإن ذلك مما يساعد الغابات على الراحة والتجدد وعلى تأصيل أصول الأشجار الصغيرة في الأرض وقت نشوءها الأول فيدخل في الإمكان إذ ذاك تجدد الغابات.

لا شبهة أن التزاحم من العناصر المضرة في تخريب المراعي وإن تنقيص عدد الحيوانات في بلاد يكون عدد أغنامها وماعزها متناسباً مع ثروتها ولها منها منافع كثيرة وعادات هو من الأمور الصعبة بل البطيئة وليس هذا خاصاً بنا وحدنا بل هو مشاهد في أعظم الممالك تمدناً. وقد عارضت أهالي الجبال في فرنسا فاضطرت الحكومة هناك إلى نشر قانون سنة 1882 بشأن المراعي طبقت مفاصله كل التطبيق فعلى الرغم من شدته لم تنشأ منه النتائج المنتظرة كما قال مدير الغابات العام في تقريره سنة 1911 آسفاً متلهفاً. ولم تقوَ النصائح والتنشيط الذي وقع على رفع الموانع العظيمة الحائلة دون تجدد المراعي وإحيائها.

الوسائل القانونية في التشجيع

أبنا سالفا مقدار التخريب العظيم الذي يحدثه الماعز للغابات ولذلك وجب التذرع بكل الأسباب التي من شأنها تنقيص عدد الماعز وتحديده والأبقار ليست من الضرر بدرجة الماعز ولذلك أرى أن تراعى البقر في وضع رسوم قليلة عليها ويؤخذ عن الماعز رسوم تامة وأن يلغى الرسم عن الغنم ويبقى الرسم على الماعز وان يطرد الجمال والماعز من الغابات طرداً كلياً وهذا من أوفق وسائط التشجيع بالوساطة لغرس الأراضي القابلة لزراعة الغابات. إلا أن الأربح للحكومة والواجب عليها أن تعمد إلى أسباب من التشويق بلا واسطة وهو أن تعفي من الخراج مدة ثلاثين سنة كل قطعة أرض جبلية جعلها صاحبها من أطرافها الأربعة بعيدة عن تخريب حق المرعى والرعي المتبادل في الأراضي الخالية.

إن هذه الأصول التي يجب اتباعها لتسهيل تجديد الغابات يتأتى أن يكون لها تأثير أسرع. ولذلك جاءت النوبة لاتخاذ وسيلة قانونية يكون لها التأثير العظيم بالنظر لارتقاء المملكة وسيرها نحو التكامل.

ولا يخفى أنه لم يبقى أثر للغابات في البلاد ولا سبيل لزراعتنا أن يتوقع منها شيءٌٌ في هذا السبيل وإن من نتائج ذلك أصبحت جبالنا وآكامنا معرضة للاتكال ولذلك تدعو الضرورة الشديدة إلى غرس الأشجار التي تجنى منها هذه الثمرة بعض الشيء وتحيا بها البلاد قليلاً فقد اشتهرت فلسطين بمحاصيلها من الحبوب ومع هذا فهي من الأقاليم التي تلائم كل التلاؤم زراعة الأشجار التي تُثمر هذه الثمرات بالنظر لأحوال هذا القطر وشؤونه الزمنية ووضعه الجغرافي ولنا عدة أبواب كبرى نصرف فيها هذا المحصول وإن مصر التي ليس فيها أراض صالحة لهذا الصنف من الزراعة قد أقامتنا الطبيعة لأن ندعي بأننا متعهدون لها بتقديم ما يلزمها من أرضنا من هذا القبيل ولذا أصبح من اللازم اللازب على الحكومة أن تعمد إلى اتخاذ جميع أسباب التشجيع لزراعة الغابات وتنميتها.

لئن نشر قانون يقضي بأن كل أرض جبلية غرست زيتوناً تعفى من الضرائب من ثلاث إلى عشر سنين فقد قل الأفراد الذين استفادوا من هذا الإعفاء على أن الحد الأعظم في هذا العفو وهو عشر سنين قليل بالنسبة لما ينبغي من وسائل التنشيط والواجب أن تعفى من الضرائب جميع الأراضي الجبلية التي تغرس زيتوناً مدة خمس عشرة سنة وهذا لإعفاء يشمل أشجار الخرنوب. والخرنوب إذا طعم يعطي من السكر 4. % وقشره صالح لرعية الماعز وانك لترى في جزيرة قبرص ألوفاً من الدونمات مستورة بأشجار الخرنوب. والأولى أن يسن قانون لحفظ الأشجار البرية وتجديدها وتطعيمها ويحمل الناس على اتباعه ويعهد إلى حراس الغابات بالإشراف عليه ويجب أن تعفى من الضرائب مدة خمس عشرة سنة بعض الأصقاع التي يجود فيها التفاح والكثرى على أنواعهما وأن يطعم التفاح البري إن أمكن كما نعفى شجر الزعرور إعفاء الكروم في الأراضي الجبلية من الخراج عشر سنين وتنشيط الغابات لإحيائها وإحداثها

لا بأس من أن يشمل العفو عن الخراج عشر سنين في الكروم ليسارع ألفلاح إلى غرسها فيقف تجريد الغابات من كسوتها وتزيد محاصيل البلاد وأن كان ذلك لا يقوم مقام الغابات بحال بيد أن هذا الإعفاء الذي منح لمدة عشر سنين هو لمقاومة دودة الكرمة فإذا شمل العفو الكروم نفع أيضاً في بابه.

لم تتشبث الحكومة بأدنى تشبث من شأنه أن يحيي الغابات ويكثر عددها ولكن الأفراد تذرعوا في هذا السبيل بأمور وما تذرعوا به من هذا القبيل حري بمعاونة الحكومة من كل وجه وأهله جديرون بأن يميزوا بامتيازات خاصة وللوصول إلى هذا الغرض أرى من المناسب قبول القانونين اللذين سنتهما فرنسا ونتجت منهما لها فوائد كثيرة فقد جاء في المادة 228 من قانون الغابات عندهم: تعفى من الخراج مدة ثلاثين سنة كل أنواع الأشجار التي تغرس على أكمة أو سطح مائل في الجبال وكل كثيب من الرمال. ولكن حكومة فرنسا أرادت أن تستفيد من هذا الحق جميع الأراضي الزراعية البائرة الفقيرة فوضعت المادة الآتية وهي مادة 116 من قانونها وأيدتها سنة 19. 7 بالبند الثالث من ميزانيتها ومعناها أن تقدر الأراضي التي تزرع أشجارا بربع قيمتها فقط وتعفى من الخراج من أول غرسها إلى مرور ثلاثين سنة عليها فنشط لذلك أصحاب الأراضي واستفادوا من هذه القوانين وأحيوا قسماً منها.

وعلى الحكومة علاوة على ذلك أن تحدث شركات أحياء الغابات تشوق الناس لاتخاذ الأصول الجديدة وتمنحها بعض الامتيازات وتخص بهذه الامتيازات تلك الشركات ليعم نفعها في أي نوع من الأراضي مملوكة كانت أو مستأجرة لمدة طويلة ومثل هذه الشركات كثير في الممالك المختلفة نتجت منها أعظم ألفوائد ومنها شركة إنشاء الغابات وأحيائها في الجزائر وشركة محبي الأشجار الدولية في تونس وشركة أشجار مدريد الوطنية. ولكن جميع هذه التشبثات لا تحل في وقت من الأوقات قضية أحداث الغابات وأحيائها فإن ذلك متوقف على أحياء الجبال وتثبيت الأكثبة وتجفيف البطائح ويحتاج ذلك إلى نفقات طائلة وأناس عارفين بالعلم وتحتاج الحكومة إلى سلوك القصد في عملها بيد أن الحكومة لم تقم بعمل شيء وتغييرها لكبار مأموريها على طريقة تبادل الوظائف مما يحول دونهم ودون معرفة البلاد وأقرب الطرق الآن أن تكتفي الحكومة بتنشيط الشركات وإنشائها لهذا الغرض وتبذل المعاونة ألفعلية والمعنوية لانتشار فن الغابات ولئن كانت الامتيازات في مثل هذه الأحوال غير معتبرة فنحن نعترف بذلك ولكن بلاداً ليس لها شركات ذات أموال كثيرة وليس عندها موظفون عالمون لا سبيل لها لأن تعمل غير ذلك ولذلك تجلب أناساً من متخصصي الأجانب يشرفون على الشروط التي نالها أصحاب الأمتياز ويهيمنون على العمل حتى ينتهي بأحسن النتائج. والقيام بعمل على خلاف هذه الصورة لا يكون منه إلا الفشل.

وبعد فقد ظهر بما تقدم ما تمس إليه الحاجة من الذرائع العظيمة لإنشاء الغابات في الجبال والمبالغة بالقيام على تعهدها ولتثبيت الأكثبة وتطهير البطائح وتجفيفها وللقيام لإدارة ذلك ينبغي إيجاد شركات ذات رؤوس أموال تكون مختلطة أو خاصة لتشرف على هذه الأعمال وتديرها وتنيل الربح لمساهميها على طرية معقولة وهذا مما يحفظ حقوق بيت المال والأهلين معاً ويصونها من الاعتداء ولا يجب بالنسبة للأحوال الحاضرة في البلاد أن يطوى شيء من هذه الإيضاحات التي هي عملية ونتيجة تجارب طويلة بل على العكس نرى في الإمكان أن يضاف إليها أمور كثيرة ولا نطالب الحكومة في حل هذه المسألة بالقيام بكل عمل فذلك خارج عن طاقتها ولكننا نطالب برفع الموانع والحوائل وتشجيع أحباب الغابات على إنشاء الجديد منها والاحتفاظ بالقديم.