مجلة المقتبس/العدد 93/جرمانيا الكبرى
مجلة المقتبس/العدد 93/جرمانيا الكبرى
يدعو الدّعاة الآن إل ضمِّ شمل ممالك أوروبا الوسطى تحت لواءٍ واحدٍ تكون برلين العاملة الوحيدة فيها على نحو ما ضمّت بروسيا إليها شمل الحكومات الألمانيّة منذ ستّ وأربعين سنة. فتنشأ الآن مملكة جرمانيَّة كبرى كما نشأت مملكة ألمانيا الكبرى وبذلك يستحيل على سائر دول أوروبا أن تنال منالاً من هذه المملكة الضخمة التي تصدر عن رأيٍ واحدٍ مركزه برلين وقادته رجال الألمان وتكون حدود هذه المملكة الجديدة من نهر المارن إلى التّخوم الجنوبيّة من بولونيا ومن همبورغ إلى الأستانة وما وراءها إلى الشّرق
وقد كتبت مجلّة المجر في هذا الشّأن فصلاً قالت فيه أن تباور الممالك الوسطى حول الأصل الجرماني قد بدأ وإذا كان خصومنا من الدّول قد شهروا علينا الحرب ليقضوا القضاء الأخير على تغالي ألمانيا في جنديّتها وميل جرمانيا إلى ابتلاع كلّ من يخالفها فهل يستطيعون أن يحولوا دون تأليف أوروبا المركزيّة الجرمانية؟ أيستطيعون أن يمنعوا هذا بالقوّة - قوة الجيوش والأساطيل والمجالس الحربيّة والخُطَب والشّكايات؟
فإذا كانت النّتائج السّلبيّة التي نالها خصومنا منذ سنتين لم تكفِ لإنارة فكرهم في هذا الشّأن فإن إلقاء نظرةٍ على الماضي تكفي لأن تزعزع ثقتهم. وذلك لأن حرب السّبع السّنين مثلاً قد هيّأت أسبابها وعقدت المحالفة الكبرى من النمسا وروسيا وفرنسا والسّويد لتلك الغاية نفسها وهي نزع ما امتلكه بروسيا من الأملاك الجديدة وتصغيرها بحيث تكون أمارة صغيرة ووضع حدّ لإفراطها بالتّجنيد مما كان يقلق أعداء فريدريك الثّاني كما يقلق له اليوم أعداء غليوم الثاني.
ماذا نشأ من ذلك؟ نشأ منه أنّ سيلزيا لم تنفصل فقط عن روسيا بل إنّ هذه خرجت أكبر وأقوى مما كانت مع أنها حاربت أوروبا تقريباً. نعم أثّرت في بروسيا تلك الحرب كما أثرت في خصومها ولكنها خرجت منها وقد جعلت لها مركزاً بين الدّول العظمى فجذب جاذب القوة حول أعلامها الشّروب التي هي من عنصر ألماني فأصبحت برلين منافسةً لفيينا في التّفوق في ألمانيا وانحلّت مسألة هذا الامتزاج الألماني حلاًّ قطعيَّاً لا في موقعةكونيكراتزبل فيسيدانوحاول نابليون الثّالث أن تنعقد أواخي الوحدة الألمانيّة في وكانت إمارات ألمانيا متخالفة بينها على أمور تافهة وبعمله سارعت إلى تناسي اختلافاتها فدفع الألمان الخطر أولاً ثم الحماسة والمجد الباهر الذي أحرزوه بانتصاراتهم إذ ذاك إلى تنبيه عواطف لم يكونوا يعرفونها من قبل ونعني بها عواطف التّضامن العنصري وستكون الحال كذلك اليوم فإن أعدائنا يعزون ألفضل في نجاحنا إلى ألفكر العسكري الشّديد وإلى روح الجنديّة الوحشيّة المنبعثة من التّوتونيين أي الجرمانيين فيرون في ذلك الخطر على حرّيّة الشّعوب وسعادة العالم وحقوق الإنسان ولكن بلغ بهم الضّعف في التَّقدير وقلّة المنطق في السّرد أنهم يريدون أن يحاربوا هذا الشّرّ بشرٍّ مثله كبعث روح الجنديّة في كلِّ شيء وذلك بتحدّي ألمانيا واحتذاء مثالها وإن كان على شيءٍ من الضّعف
وكيف ما كانت الحال فإنَّخلافة برلينكما سمّاها وزير خارجيّة روسيا أو هذا الإتّحاد بين الممالك الوسطى آخذٌ بالتّأليف وبرلين مقرّه لأن لهذه من قوتها وغناها ما تصبح به أقوى مما كانت في حرب السّبع السّنين وأقوى مما كانت في حرب السّبعين وأعشم مما كانت بمحالفتها مع النّمسا والمجر بفضل بيسمرك وأندرلسي وأكثر استمساكاً وبقاءً من التضامن الوقتيّ بين الشّعوب المتحالفة على الحرب الآن. لا جرم أنّ وحدة المصالح التّجارية والاقتصادية وضرورة الدّفاع عن الحوزة ستؤدي بالطبيعة إلى التوفيق بين قوانين كلِّ مملكةٍ من هذه الممالك فنصبح عمّا قريب متَّحدين اتّحاداً سياسيا يشبه اتّحاد الولايات المتحدة الأميركيّة التي تحكمها إرادة واحدة.
هذه لمحة من مسألة اتّحاد دول أوروبا المركزيّة ومنه يستدلُّ جليَّاً أنّ ألمانيا أيقنت على ما أحرزته من الغلبة في هذه الحرب أنّ لا مناص من أن تقوي نفسها وحلفاءها للمستقبل وأن برلين كما قالت المجلة المجرية ترقّت من كونها عاصمة التحالف الثلاثي إلى كونها عاصمة تحالف ممالك أوروبا الوسطى بأجمعها ولكن لم يجر للدول العلية ذكر صريح في هذا ألفصل هل تدخل في جملة التحالف الجرماني هي وبلغاريا أيضاً أم لا؟ ونظن أن هناك بعض عقبات تحول بيننا وبين الدخول في هذه المعاهد إلا على حد محدود كما هي محالفتنا اليوم مع ألمانيا والنمسا والمجر. ومن جملة الأسباب التي تحول دون دخولنا بحسب ما نرى في اتحاد أوروبا الوسطى ما أوردت المجلة المجرية من الأسباب التي تربأ ببلاد المجر عن الدخول في هذه الوحدة قالت: ألمانيا عرفت مبلغ المجر من حسن البلا. وما امتازوا به من الصفات العالية وكانت لا تعرف منها إلا ذرواً قليلاً وليس في برلين من يريد أن يعبث باستقرار هنغاريا ولا بأوضاعها الوطنية ولولا ذلك لا يوجد في المجر إنسان يودّ الاقتراب من المملكة الجرمانية. إننا نحرص على لغتنا وأخلاقنا ودستورنا الوطني أكثر حرصنا على كل مغنم سياسي أو اقتصادي ونعلم أن هنغاريا لاى تتمكن من القيام بمهمّتها التّاريخية أي أن تكون واسطة بين الغرب والشّرق الآن تكون سوراً قوياً لأوروبا إلا إذا احتفظت بأخلاقها الوطنية المجرية وبحريتها السياسية وآدابها المستقلة. ومصلحة ألمانيا لا تنافي بتاتاً استقلال الأمة المجرية وعلى العكس فإن حلفاءها يعترفون بمشروعية هذه الأميال وكلما عرفوا أخلاق عنصرنا والأحوال الخاصة التي عيّنت لنا خطّتنا السياسية يفهمون مرامينا أكثر.
وبعد أن تساءلت تلك الصحيفة عن كيفية تكوين هذا الاتحاد الجديد وقالت أن عدد العنصر الجرماني في اتحاد ممالك أوروبا الوسطى يزيد على سبعة أو ثمانية أضعاف العنصر المجري فيُخشى حينئذٍ من أن يمتزج المجر بطول الزمن بالعنصر الجرماني ويندمج فيه كما يندمج كل عنصرٍ أجنبيٍ في الولايات المتحدة الأميركية بالعنصر الإنكليزي السكسوني قالت عبثاً يقول الألمان أنهم لا يريدون أن يُكرهونا على تعلّم لغتهم ولا آدابهم ولا طرق تفكيرهم ولا طرز حياتهم العقلية والأدبية بقطع النظر عن التمثيل ببولونيا فإن هنغاريا تتجرمن بطبيعة الحال وتندمج في الأكثرية فتفقد جزءاً من أخلاقها القومية وأنه خيرٌ للشعوب الصغيرة أن تظل على استقلالها وإن أورثتها الحرب ضعفاً فتخرج رافعةً رأسها وتتنافس الدّول الكبرى أن تكون تبَعاً تخسر نفسها ومقوّماتها ومشخّصاتها
هذا ما تحاذر منه الصّحيفة المجريّة تحاذر أن يندمج المجريّون في غيرهم ويفقدوا مشخصاتهم وقوميتهم والعنصر المجري في مملكة النمسا والمجر هم أقل من العنصر الجرماني ومن العنصر السلافي ومعلوم أن إمبراطورية النمسا والمجر مزيج من عناصر مختلفة طبائعها محتفظة بلغاتها ومشخصاتها لم يثبت الأعضاء أن عنصراً ربح من العنصر الآخر كثيراً في هذا الشأن بل هم في هذا الشأن بل هم في هذا المزيج كالفسيفساء البديعة في رقعة شطرنج فالألمان في غربي المملكة وشمالها الغربي والسلافيون في الشمال والشمال الشرقي والجنوب الغربي والمجر في الشرق وإلى جانب السلافيين في بوهيميا ومورافيا وسيلزيا تجد التشك وسلافيو غاليسيا والبورونيون والروتينيون وتجد السولفايين في شمالي البحر والسولفيين في كارنتيا وفي صقع آخر الخرواتيين أو الصربيين كما تجد الطليان في ترانتين وفريول وايستيريا والرومانيين في ترانسلفانيا وبوكوفينا.
لا جرم أن سكان هذه المملكة النمساوية المجرية إذا تم تأليف الإتحاد الجرماني يندمجون مع الزمن على اختلاف أجناسهم في سكان ألمانيا الذين يجمعهم لسان واحد وعنصر واحد وتربية واحدة ومن العادة أن يتمثل الصغير في الكبير كما يبتلع الكبير الصغير ومهما حاولت بولونيا وهنغاريا والدانيمرك وهولاندة أن تحتفظ بلغتها وقوميتهافإن مدينة جرمانيا التي تفيض على الأطراف تتناول كل ما يقف يقف أمامها وتضمه إليها بالطبيعة والسيل يجرف ما في المنحدرات أمامه كما أنه حرب المكان العالي
هذا الاندماج أمرٌ طبيعي في الأمم يتمّ في أجيال ولكن الإكثار من خشيته واتخاذ الأساليب غير المشروعة من تعليم وتربية مضرّ في الأمم المؤلّفة من شعوب وقبائل وأجناس. قال بلوك: إن من الناس من يتجرون باسم الوطنية والقومية كما أن منهم من يتجر باسم الدين. ومنم يتجرون بنغمة القومية في مملكة ضخمة وقوميتهم عبارة عن خمسين أو مئة ألف عائلة لا تستطيع أن تؤلّف على حدتها حكومة خاصة يضرون بالإنسانية لأن من مصلحة المجتمع أن تقوم فيه مراكز كبرى تنبعث منها أنوار المدنية وأصحاب هذه القومية بلغتهم التي لايفهمها غيرهم وتغاليهم بالتماهي بها لا يكون لهم مدنية خاصة ويبقون على اعتزالهم مؤلّفين من حثالات ورغبتهم في أن يكونوا مجتمعاً منفرداً عن غيره يضعف المجتمع الكبير الذي تضمّهم جامعته ولا يتيسّر لهم بحال وينطفئ نورهم المضيء ونارهم التي تقدف بالحرارة ومن يستحسنون عمل من يذهب هذا المذهب في استقلالهم بقوميّتهم هم أعداء البلاد في الدّاخل والخارج وأبناء الوطن الواحد إذاشجر بينهم مثل هذه الدعوة تجرّ عليهم شرّاً أكثر من الخير
مثال ذلك. ببلاد النمسا والمجر المنقسمة إلى قسمين غير متساويين فأقل من نصف النمسا يتكلم بالألمانية ومنهم أهل لغة التشيك ومشقات اللغة البولونيّة والروتينيّة والسولفانيّة والصّربيّة أو الخرواتيّة والإيطالية والرّومانيّة والنّصف الآخر بلاد المجر نحو ثلثها يتكلّمون بالمجريّة والباقون بالرومانيّة والألمانية والأسكلافونيّة والصّربيّة والروتينية وغيرها من اللغات ففي بلاد النّمسا والمجر نشأت من مسألة الوطنيّة مشاكل للحكومة فعبث ذلك بنجاحها السياسي والأدبي والمادّي ونفوذها السياسي قال: أما في سويسرا فليس في مسألة اللغات ما يهدد كيان كيان هذه الجمهوريّة. وسويسرا أحسن مثالٍ للشّعوب المختلفة بلغتها تعيش في بلد واحد حول جبال واحدة بحيراتٍ واحدة تتكلم الأكثرية فيها الألمانية والألمان ثلاث أرباعها والربع الآخر يتكلّم الإفرنسيّة والإيطالية والرومانشية وغيرها من اللغات والبلجيك تشبه سويسرا من بعض الوجوه نصف أهلها يتكلمون بالإفرنسية والآخر بالفلامندية ومنهم من يتكلم بهاتين اللغتين معاً وغيرهم يتكلم بالألمانية وغيرها من اللغات قال: وأما بقية بلاد أوربة ما عدا الدولة العثمانية وفرنسا وألمانية والدانيماركأسلاندة والسويد والنويج لايون فليس فيها سوى شعوب قليلة تتكلم لغة خاصة بها وقد كان من الحوادث المعلومة أن أنقذت البلاد العثمانية من عدة قوميات غريبة عن العنصر الحاكميعني بذلك البلغار والصرب واليونان والرومان وليس في هذا الباب إحصاء يعتمد عليه.
لا جرم أن حبّ الإنسان للغته غريزية في البشر ويزداد شعوراً بذلك وتفانياً فيه كلما تقدّم خطوات في طريق الحضارة. ومن كتبت له الرحلة إلى بلاد النمسا والمجر وبلاد سويسرا وبلاد البلجيك وغيرها من البلاد المختلفة السكّان يشهد غرائب من ذلك قال صاحب كتاب بلجيكا الحديثة: لقد صُرفت العناية بعد سنة183. لفرنساألفلاندر (من أقاليم البلجيك) فشقّت عصا الطاعة وعصت على كلّ ما أريدت عليه وظلّ تركيبها العقلي ثابتاً كصفاتها التشريحية ولم يطرأ أدنى تبدّلٍ على أفكارها وتقاليدها وشعورها وطرقها في التفكير والتقدير وما اللغة إلا عنوانٌ لأمّة وما من أمةٍ بدون لغةٍ ولهذا ينهض سكان فنلاندة لدفع الغارات عن أمّتهم وكذلك أهل بولونيا والنمسا والمجر وسويسرا وإسبانيا وغيرهم في كل صقعٍ ونادٍ. ويجب الإعتراف بأنّ الوطنيين الفلامنديين يصدرون عن صوابٍ في رأيهم إذا رأوا لغتهم القوة الموجدة التي وحدها يمكن أن تؤثّر فيهم
وذكر المؤلِّف أيضاً أن دعاة الاتحاد الجرماني عفوا اثر حدود مملكة ألمانيا بل تخطّوها إلى غيرها فنُشرت بطاقات بريد مصوِّرةً ممالك أوروبا سنة 195. م وقد توارث منهم البلجيك وهولندا والدانيمارك والنمسا وقسم من روسيا ورومانيا قد اندمجت في الأمة الجرمانية. ويرى اليوم دعاة الجرمنيَّة أكثر من نصف بلجيكا ألمانيا بلسانه وأنَّ لهجة هولندا وليموج المستعملة في عدَّة ولايات من تلك البلاد ليست إلا ألمانيّة محرّفة دجة في شمالي ألمانيا فالحدود الألمانيّة قد ألقت بخمسة ملايين من البشر في هولندا وجوارها وثلاثة ملايين ونصف في بلجيكا وتوسَّع بعضهم فقال أنّ فلاندرا الشّرقيّة والغربيّة هما أيضاً ألمانيّتان جنساً. كما أنّ هولندا شمالي فرنسا هما أيضاً من هذا الطّراز.
هذا ما قاله المؤلِّف قبل الحرب بأعوامٍ قليلةٍ أما الآن وقد افتتحت ألمانيا بالسّيف بلاد البلجيك وبضع ولايات في شمالي فرنسا فماذا يكون مصيرها منالجَرْمَنَةلا ريب أنّ ألفاتح يهوى نشر لغته ولايكلِّفه ذلك إلا صدور الأمر ومرور الزّمن وبذلك تتحقق أماني دعاة الجرمنة فتكبر رقعة مملكة جرمانيا المتحدة ولا يمضي على سكّانها جيلٌ أو جيلان إلا وتصبح كلُّها ألمانيّة المنحى والمنزع. وربما دعت حالة أوروبا وأميركا إلى تأليف الأمم بحسب العناصر فيكون العنصر الجرماني أو الاتحاد الجرماني شقَّاً والعنصر السّلافي شقّاً آخر وكلاً من العنصر اللاتيني والعنصر الإنكليزي والسّكسوني شقّاً كما يكون الجنس الأصفر في الشّرق الأقصى برأسه فسبحان مفرّق اللغات واللهجات وملوِّن الصّور والسِّحنات