مجلة المقتبس/العدد 92/الحمى
مجلة المقتبس/العدد 92/الحمى
طبياً
عرف العرب مرض الحمى مثل غيرهم من الأمم القديمة وعالجوه بالماء وغيره من الملطفات ووصفه أطباؤهم وألفوا فيها رسائل ومقالات ضافية من أهمها كتاب (الحميات) خمس مقالات لم يوجد أجود منه، وعلاجاته مجربة. ألفه إسحق بن سليمان الإسرائيلي الذي عمر فوق المائة ولم يتزوج ولا أعقب فعير على ذلك فقال: إن لي أربعة كتب تحيي ذكري أكثر من الولد وهي كتاب الحميات و (الأغذية والأدوية) و (البول) و (الاسطقسات) وتوفي هذا المؤلف سنة 32. هـ (932 م) ومن الرسائل في (الحميات) رسالة لمحمد بن إبراهيم ورسالة لجلال الدين السيوطي ولغيرهما رسائل وكتب أخرى ضمنت أنواع الحمى ومعالجاتها وكل ما يتعلق فيها مما هو مفيد اليوم.
شعرياً
ولقد وصفها الشعراء بقصائد ومقاطع كثيرة يحضرنا منها الآن قول المتنبي يصف حماه الليلية التي ظنها بعضهم حمى الدق (السل):
وزائرتي كأن بها حياءً ... فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها ... فتوسعه بأنواع السقام
إذا ما فارقتني غسلتني ... كأنا عاكفان على حرام
كأن الصبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعة سجام
أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام
وتصدق وعدها والصدق شر ... إذا ألقاك في الكرب العظام
فإن أمرض فما مرض اصطباري ... وإن أحم فما حم اعتزامي
وإن أسلم فما أقي ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
وقال ابن شيروية فيها:
وزائرة تزور بلا رقيب ... وتنزل ألفتى من غير حبه
وما أحد يحب القلب منها ... ولا تحلوزيارتها بقلبه تبيت بباطن الأحشاء منه ... فيطلب بعدها من عظم كربه
وتمنعه لذيذ العيش حتى ... تنغصه بمأكله ومشربه
أتت لزيارتي من غير وعد ... وكم من زائرلا مرحباً به
وقال أبوبكر الخوارزمي أمير الكتاب يشير إلى ترك الغذاء فيها:
ولي من أم ملدم كل يوم ... ضجيج لا يلذ له شمام
مقبلة وليس لها ثنايا ... معانقة وليس لها التزام
كأن لها ضرائر من غذائي ... فيغضبها شرابي والطعام
إذا ما صافحت صفحات وجهي ... غدا ألفاً وأمسى وهو لام
وقال الأمير ناصر الدين بن النقيب في نوبة الحمى موارياً:
أقول لنوبة الحمى اتركيني ... ولا بك منك لي ما عشت أوبه
فقالت كيف يمكن ترك هذا ... وهل يبقى الأمير بغير نوبه
وقال أبوالحجاج الفهري الغرناطي في الوزير ابن الحكم وقد أصابته حمى تركت على شفتيه عقابيل (بثوراً):
حاشاك أن تمرض حاشاكا ... قد اشتكى قلبي لشكواكا
إن كنت محموماً ضعيف القوى ... فإنني أحسد حماك
ما رضيت حماك إذا باشرت ... جسمك حتى قلبك فاكا
وقال المتنبي مشيراً إلى توقيف الحمى في اصطلاح الأطباء وهو من التعليل الحسن المبني على الشك:
ومنازل الحمى الجسوم فقل لنا ... ما عذرها في تركها خيراتها
أعجبتها شرفاً فطال وقوفها ... لتأمل الأعضاء لا لإذاتها
ولم يخرج عنه أبوالفتح كشاجم الرملي فقال في سبب الحمى:
ولقد أخطأ قوم زعموا ... أنها من فضل برد في العصب
هو ذاك الذهن أذكى ناره ... والمزاج المفرط الحر التهب
ومن ألطف ما قيل في حمى الأولاد قول أحمد بن بدر المعروف بالبلاط في ولد له حم:
أعزز علي بني ما تلقى ... سدت علي شكاتك الطرقا قد كدت بالحمى أحق فليتني ... التي من الحمى الذي تلقى
وقال أبو نواس يخاطب عناناً جارية الناطفي مشيراً إلى إمكان عدواها وقد مرض وشفيا ولم يعلم هو بمرضها إلا بعد برئه:
إني حممت ولم أشعر بحماك ... حتى تحدث عوادي بشكواك
فقلت ما كانت الحمى لتطرقني ... من غير ما سبب إلا بحماك
وخصلة كنت فيها غير متهم ... عافاني الله منها حين عافاك
حتى إذا أنفقت نفسي ونفسك في ... هذا وذاك وفي هذا وذاك
وقال إلياس صالح كنعان البيروتي لما ثقلت عليه وطأة الحمى وهو آخر نظمه مشيراً إلى تأثير الحمى في الأحشاء والرأس:
إذا جن الظلام وغاب صبحي ... وفارقني أحبائي وناسي
أتت تسعى إلي وليست ترضى ... مقاماً غير أحشائي ورأسي
هذه طرف مختلفة من أوصاف الحمى الشعرية. فبقي علينا أن نذكر ما عرفه اللغويون
عنها مما لم نره مجموعاً في رسالة أو كتاب بل استخرجناه بالبحث والاستقراء.
لغوياً
من الغريب أن الكلمات العربية المبدوءة بالحاء تدل على الحرارة والتوقد ونحوهما ولذا فنحن نستقري هذه السلسلة لنصل إلى اسم (الحمى) وصحة اختياره لهذا الداء ألفتاك الذي يذيب الدماغ والحشى بل يحرق الجسم ويهلك صاحبه.
فإذا تتبعنا سلسلة الحاء وما يتركب معها من الحروف المضاعفة نجد: أنحب بمعنى عشق وحث الشيء حكه ليسقط وحثه على الشيء أحماه عليه وحج غلب بالحجة وفيه حدة وحد غضب وحذ قطع ومثلها جز وجذ. وحر ضد برد وحز قطع وفيه احتكاك وحرارة وحس البرد العشب أحرقه وحس اللحم جعله على الجمر زحش النار أوقدها والمحش ما تحرك به النار. وحص الشعر حلقه وأذهبه وحضه على الأمر أحماه عليه وحط وجهه خرج به الحطاط وهو نوع من البثور أي الحبوب يعرف بحب الصبا. والحظ التوفيق وحف الشيء كشطه. وحقت الحاجة نزلت واشتدت وحقه غلب على الحق وحكه دلكه وكشطه وحل الحرير استل خيوطه منه بالحرارة وحم التنور سجره أي أوقده وأحماه. وحن إليه أي اشتاق وانعطف وحي ضد مات.
فإذا راجعنا هذه المادة نجد أنها من أشد المواد العربية دلالة على الحرارة والاشتعال ولذلك أخذ منها اسم الحمى التي هي من أشد الأمراض فتكاً بالأجسام اشتعالاً ومما يزيد قولنا هذا برهاناً أننا إذا حذفنا حروف هذه المادة الثنائية وأضفنا إليها حروفاً أخرى كان لنا من معنى المادة ألفاظ كثيرة تدل على الحرارة والاتقاد مثلاً حبحبت النار اتقدت والحباحب سراج الليل المتألق، وحبك شد وقطع. والحبوكرى الداهية. وحبت السفينة جرت وتحركت وحثحث إذا ضاعف الحث. وحجن عطف وجذب. وحدر الجدار ورم من الضرب، وحدث في السير أسرع، وحسم قطع إلى آخر المادة.
ومن الكلمات التي تتعلق بالحمى من مادتها قولهم أرض وبلاد محمة ومحمة ذات حمى أو كثيرة الحمى، وحم الرجل فهو محموم إذا أصيب بها وأحمته البلد. إلى غير ذلك من الاصطلاحات.
وأما حمى التيفوئيد فهي من كلمتين يونانيتين الأولى (تيفوس) أي السبات من الحمى والثانية بمعنى شكل فمجموع معناها شكل السبات أوشبه التيفوس. والتيفوس يونانية كما مر بمعنى سبات الدماغ ونحوه. أما كلمة الحمى في اللغات الإفرنجية فهي من كلمة اللاتينية بمعنى ليسخن وليحم فهي مثل الكلمة العربية ومنها اشتقت كلمة ألفرنسية وكلمة الإنكليزية الإسبانية والإيطالية وأشباهها.
أما أنواع الحمى التي عرفها العرب فهي حمى مردم من أردمت عليه إذا لم تفارقه أياماً وحمى نائبة تنوبه كل يوم. والبرحاء شدة الحمى، وحمى الرس أول الحمى قبل أن تأخذه وتظهر فإذا كان مع الحمى قرة وجد مسها فهي العرواء (البردية) في اصطلاح العامة وعري إذا أصيب بها. وعك الرجل إذا وجد عرواء الحمى، فإذا عرق منها فهي الرحضاء وهو مرحوض وتقول أخذته رحضاء ورحض. والصالب الصداع من الحمى، وحمى صالب تسيل العرق من الصليب أي الورك وقد صلبت عليه الحمى وأخذته النفضة أي الرعدة، وأخذته حمى نافض ونفضته الحمى، والوعك الحمى التي معها حر خالص تقول وعكته الحمى فهو وعك، والورد يوم الحمى وقد وردته الحمى، وحمى ربع التي تأتي في اليوم الرابع وقيل التي تدع يومين وتأخذ يوماً وربع الرجل وأربع وأربعته الحمى وأربعت عليه وربعت، والقلد يوم تأتيه الربع والغب إن تأخذه يوماً وتدعه آخر وقد أغبته الحمى وأغبت عليه وغبت فهو مغب.
وإذا أقامت الحمى فذلك الحين هو القلع وخمدت الحمى سكن فوارها، وصارت الحمى تتعهده وتتعاهده وتحاوده بمعنى تداومه وتنقطع عنه، والعقابيل ما يظهر على الشفتين من غب الحمى، وهو يتضور من الحمى أي يتلوى ويضج ويتقلب ظهراً لبطن، والمسبوت العليل الملقي كالنائم يغمض عينيه في أكثر أحواله وهي من أعراض الحمى، وحمى قبس اقتبسها من غيره بالعدوى وحمى عرض تعرض لها من تلقاء نفسه، والمليلة حرارة الحمى وتوهجها، والحمى الدائرة التي تأخذ وقتاً وتدع وقتاً، وأفرق المحموم إذا تركته الحمى.
إلى كثير من أشباه هذه الاصطلاحات الكثيرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
زحلة (لبنان):
عيسى اسكندر معلوف