مجلة المقتبس/العدد 91/الشيخ إبراهيم الحوراني
مجلة المقتبس/العدد 91/الشيخ إبراهيم الحوراني
تتمة مافي الجزء السابع
4نثره
أرهف المترجم به يراعه منذ الصبا فأجاد في الموضوعات التي دبجها به ولم يبق بحثاً لم يتناوله باسلاته فتفنن في مقلاته تفنناً لا يجيد فيه إلا من كان مثله كثير الاطلاع متضلعاً من العلوم والآداب متقناً للمنقول والمعقول فتراه يذهب بعقل المطالع لكتاباته الوضيحة البليغة كل مذهب وينحو به كل منحى فيمر على المدن والدساكر ويريه الشوارع والمنعطفات ويسدد خطواته في مناهج الحقيقة ويطير به في عالم الخيال ولكنه لا يتيه بالقارئ ولا يضله سبيلاً بل يملأ مخادع حافظته صور تعابير بليغة ويمأن فكره موضوعات مفيدة ويرشده إلى الصراط المستقيم ويطبع في مخيلته أصح الآراء وأسد الأفكار العلمية الأدبية فيعود مطالع أبحاثه مستفيداً كل الاستفادة محرزاً ما يريد من الأبحاث والألفاظ والمعاني مع تفنن في التعبير وخلوص من التعقيد وبساطة في التركيب ومن قرأ ما جادت به قريحته من المقلات الرنانة في المجالات والجرائد والكتب شهد بصحة قولنا ولم يحمله على الإطراء والتزلف فإننا وإن كنا من أصدقائه المخلصين فلسنا من مريديه الكاذبين ولذلك أحيل المطالع المتقيد على ماله من المقلات والخطب والمباحث وأفوض فيه أمر الحكم على المترجم بما يوحيه إليه ضميره الصادق وبصيرة النقادة المنصفة فطالع مقلات (عالم الحس الخيال) و (الكيمياء) و (العين) و (الشعر) و (القلب والعين) و (الظل) و (الشعر العربي والشعر الأوروبي) و (العالم المادي والعالم الأدبي) و (حكمة الأولين) و (فلكياته) و (والبلاغة) و (الكفاية) و (آراء جديدة في أجزاء المادة) و (الخمير والاختمار) و (غرائب الكيمياء) و (تاريخ الكرة الأرضية الطبيعي) و (الاختلاف في الآراء والعقائد) و (الجهل والهوى) و (الطبيعيات والأدبيات) و (ضرر العلم القليل) و (مساعدات الذاكرة) و (الصدى الطبيعي والصدى الأدبي) و (ألفينيقيون) و (أصل اللغات) و (قدرة العلم وعجزه) و (اختلاف تأثير العلة الواحدة باختلاف طبيعة المعلول) و (المام القدماء بظلال ما كشفه المحدثون) و (الكهربائية وكرات النار الجوية و (الموضوع) و (استقر واستدل واحكم) و (مقاومة تنازع البقاء) و (الإنسان) وما شكل كل ذلك من المباحث المختلفة والتفننات الرائقة وإذا تعذر على المطالع الوقوف على هذه الآثار الأدبية الرائقة فإنمني أسهل له ذلك بانتخاب بعض فقرات كلامه: فمن قوله في خطبة (عالم الحس وعالم الخيال) ومن فوائد (الخيال) أنه نزهة المعتزل ففيه يرى الحدائق الغناء توقع عليها فيان الورق أطيب الألحان وتجري تحتها جداول زلال الذمن بنت إلحان وتحيط بمنابتها بواسم الأزهار كما يحيط بالمعاصم السوار. وترى مدافع الشواهق تقذف بلجين الماء على در الحصباء في الأودية الخضراء فترده اماة المهى وظمأ الظبى فتصبو إلى الورد ولا تطفي اواما فتئن وجدا وتنشد هياماً:
ألا قل لسكان وادي الحمى ... هنيئاً لكم في الجنان الخلود
أفيضوا من الماء علينا فيضاً ... فنحن عطاش وأنتم ورود
ثم إذا مللت مشاهد النهار توجهت إلى مشاهد الليل وبدلت طلعة الشمس بمحيا سهيل فتري هنالك النجوم درراً في باطن الخيمة الزرقاء والمجرة نهراً عظيماً تدفق في حديقة نرجس وفروعها جداول البطحاء وترى هناك تباين المؤتلفات. وائتلاف المتباينات فتشاهد الطائر الواقع والذاهب والراجع والخفي والظاهر والثابت والسائر والأسد بين السرطان والعذراء والسرطان بين الأسد والجوزاء والأبراج والطوالع والأوافل فترى العالمين على العلم الأصغر وتنسى أنك العالم الأكبر ثم تنتبه إلى المعتزل وإليه تبوء فتعلم صحة قولهم: (الوحدة خير من جليس السوء) ثم قال في الخيال قولاً فلسفياً هو: ومن فوائده انه معمل المتصرفة ومخترعها أما المتصرفة فعرفوها بأنها قوة من قوى العقل الباطنة شأنها تركيب الصور والمعاني وتفصيلها والتصرف فيها واختراع أشياء لا حقيقة لها. ومن أهم أعمالها التجريد وهو ما تكتسب به الكليات من الجزئيات ولولاه كانت الصور العقلية هويات متفرقة لا علاقة بينها وقد تكلمت عليه بالتفصيل في المقالة الثالثة من كتاب (الحق اليقين) فليطالعها. ومنها إن التركيب جمع المراد مما علم بالتحليل والتعميم في صورة واحدة وهو (أما حقيقي) وهوان يجمع في الذات الحقيقية ما لها من الصفات المختلفة في الواقع كأن تجمع الحمرة والاستدارة وانتساق الأوراق وطيب الرائحة وسائر ما لا بد منه من الشخصيات في هذه الذات لتصوير هذه الوردة. (وأم تخيلي) وهو جمع مختلفات لتصوير ما لا حقيقة له كأن تجمع حمرة الورد ورائحة القرنفل في زهرة الأقحوان على نبت الزنبق فتصور نباتا لم يخلقومن قوله في مقالة (البلاغة): الكلام البليغ ما وضح معناه ووجز لفظه وسهل وطاب للسمع. ومن أهم ما يستلزمه وضوح معناه معرفة المخاطب معاني مفرداته. والمعنى هو الصورة الذهبية المراد بيانها. فالبليغ يرسم في ذهن المخاطب مثل الصورة التي في ذهنه. فإذا أراد أن يصف إليك الإبل مثلاً صورة في خيالك بوجيز كلامه كما يصوره البارع من المصورين على قرطاسة ومثله فيه كما يمله الماهر من نحاتي التمثيل: أما غير البليغ فربما أراد أن يرسم في خيال سامعه ظبياً فصوره قرداً أو شيئا لم يخلق بالعبارات المطولة المشوشة. ولا بد في البلاغة من مراعاة حال المخاطب فابلغ الكلام في خطاب النبيه غير بليغ في خطاب غيره. . . . ومن هذا يعلم أن الإيجاز في البلاغة نسبي أن البلاغة في خطاب الخاصة أيسر منها في خطاب العامة ولهذا سموا ما يفهمه العامة ويرضي به الخاصة بالسهل الممتنعومن قوله في صدر مقالة (أبسط مبادئ الرياضيات): المسائل الرياضية عبء الأذهان وغول الزمان ولذة إدراكها خير اللذات مع أنها نتاج الآلام والأنات وإني ممن قسم لي أن أولع بأبكارها وأسجن دهراً في دارها وشغلت وقتاً طويلاً بتدريسها وألفت وحشها وأنيسها فوجدتها من خير مميزات الأذهان. والحاملات على بغض التقليد وحب البرهان وأقوى العينات على علم الميزان (علم المنطق). ولكن رأيتها تصعب على أكثر الطلاب. وتدق عن إدراك أولى الألباب. لتشعب العقاب. وكثرة الشعاب. فبذلت الجهد عفي البحث عن أصولها ونقائها. إلى أن يسر الله الوصول إلى حقائقها. إن كل المسائل الرياضية في المقادير الصحيحة المنطقة مبنية على ثلاث سلاسل. (الأولي) سلسلة الأعداد الطبيعية 123الخ (والثانية) سلسلة الأعداد الوترية 7531الخ والثالثة سلسلة المثلثات631الخ وهي تنشئ عن جمع حلقات السلسلة الطبيعية على هذه الصورة. + 1و1 + 2و1 + 2 + 3الخ ولهذه السلاسل خواص كثيرة لا محل لها في مثل هذه المقالة الوجيزة فاق - تصر على ذكر ما الحجة إليه في بيان المرادأهالي غير ذلك مما لا يمكن استقراؤه ومعرباته ومصححاتهكلف المترجم منذ صباه بالتأليف وأول مؤلفاته (الشهب الثواقب) في الجدل و (جلاء الدياجي في لألغاز والمعميات والأحاجي) وهي رسالة لطيفة فيها كثير من منظومة ومناهج الحكماء في مذهب النشرة والارتقاءوالحق اليقين في الرد على مذهب دروينوالآيات البينات في عجائب الأرض والسماواتوضوء المشرق في علم المنطقوهذا آخر مؤلفاته المطبوعة. أما مؤلفاته التي لم تطبع فكثيرة منهاديوانه الشعريوقد لاحظ جمعه وتنقيحه ومراجعته قبل وفاته بقليل والأعراب في نهج الأعرابوشمس البرهان في علم الميزانوهو في المنطق اختصر منهضوء المشرقالمذكور الذي طبعالكوكب المنير في علم التفسير. وعنده فذالك كثير من المؤلفات في البيان والفلسفة الطبيعية والفلسفة العقلية والرياضيات لم يحكم ترتيبها لانشغاله بخدمة غيره سحابة العمر. عدا خطبه ومقالاته التي تناقلتها الصحف وبعضها لا يزال مخطوطاً. ونشر بعض الروايات الأدبية مثلإسفار ذات السوارفي مجلة الرئيس ومختصر بعض روايات شكسبير الشاعر وغيرها. أما معرباتها فكثيرة وبعضها لم يذكر فيها أسمه ومنها: المواعظ الميلاديةلسبرجنمواعظ موديووتفسير التوراةأس الأسفار الخمسة بزيادة تفسير له على الأصل وسكان وادي النيلورجال التلغرافوسيرة القديس أوغسطينوسو الطريق السلطانيةوأما مصححاته فليست بقليلة ولكنه لم يذكر اسمه فيها أيضاً فمنها تصحيحالنهج القويم في التاريخ القديمللأستاذ بورتروقاموس الكتاب المقدسللدكتورجورج بوست وساعد الدكتور أدي في جميع تفسير الإنجيل واشتهر في جميع ما كتبه بتحقيقه ورقة أوضاعه العربية وصحة تعابيره اللغوية مع بساطة العبارة ووضوحها حتى يسهل بحسن أسلوبه ما صعب من المباحث فتراها مفهومة.
6ً منزلته العلمية
صرف حياته منذ صبوته بالتدريس والجمع وتوسيع مداركه بالمطالعة وانتظم في سلك الجمعيات العلمية والأدبية وانتدب مدعواً لبعض المؤتمرات العلمية في أوروبا وعرفه الأوروبيون والأميركيون يسمو المدارك أما في البلاد العثمانية فكان طائر الشهرة وكثيراً ما ترجمت الصحف العثمانيةالتركيةمقالاته وأطرته وتناقلت الصحف العربية آثار أقلامه من جرائد ومجلات وقد سافر إلى مصر سنة 19. 8م ولم يلبث فيها أكثر من سنتين ترأس أثنائها تحرير جريدة المحروسة ثم عاد إلى عمله في بيروت ولقد رصد الكواكب في بيته وقرر كثيراً من شؤونها بعدما رافق أستاذه الدكتور فانديك يرصدها في مرصد الكلية في بيروت وتخرج على يده كثير من أدباء وأديبات سورية ومصر كتب كثيراً في الصحف مثلالنجاحوالجنانوالمشكاةوالمقتطفوالنشرة الأسبوعيةوالصفاوالطبيبوالمباحثولسان الحالوالمحروسةوقلما خلت جريدة من كتاباته ولو نقلاً عن غيره لما فيها من الطلاوة واللذة والفائدة وكثيراً ما دعته الحفلات لإلقاء الخطيب فيها فطربت له أعواد المنابر وأفاد بما يلقيه من منشور ومنظوم ومن مكتشفاته معادلة الجيوب ومعادلة معرفة أضلاع الأشكال القياسية الوترية من المسبع والمتسع وذي الأحدي عشرة وما فوق ذلك إلى غير نهاية وعبارات لجمع الأسرار المعنية وبعض التقارير ألفلكية التي انتبه إليها بالرصد ومن آرائه التي تيقنها الرأي الدوري وصدقه كثير من علماء العصر وأشكال أجزاء المادة وهذا لم يفهمه إلا الخاصة. وكثيراً ما برهن المنطق بالجبر وأجاب على أسئلة في جميع الموضوعات بسداد رأي ودقة نظر. وعرف مؤخراً طريق رسم الأشكال القياسية وقيمتها العددية بلا تكعيب. أما معارفه اللغوية فلم تطن أقل من معارفه العلمية فإذا أورد لفظة تثبت فيها وأشار إلى أول من استعملها مثل شبه جزيرة ملعقةملقةكما قال الشيخ داود البصير الأنطاكي في تذكرته. وهكذا ستخرج من بطون الكتب المصطلحات القديمة وحقق آراء العصر فيها. ومن أوضاعه المشهورة المرقب والمجهر والحوصلةالبكسولوالمضلعالقباجوروالبخيريالمدخنةوألفوارةالنوفرة وأمثالها ومن تعابيره العصرية قوله: مهيع الأخلاق أوسع من فلك نبتن وأطول من قطر المجرة. هذه صورة الحوراني المعنوية مثلناها للقراء الكرام ليعلموا خسارة الوطن بفقده أثابه الله عداد حسناته وأعاض الأدب عنه خيرا بمنه وكرمه
7ً أقواله وحكمه وآراؤه
للفقيد الكثير من الآراء الأدبية والعلمية والأقوال الرائعة والحكم الناجعة انتخب منها الآن نبذة تدل على مكانته وربما كان بعضها معرباً ومقتبساً: فمن ذلك قوله: المرأة المبتسمة أجمل من أجمل النساء المقهقهات. ريشة الإوزة أخطر من براثن الأسد الحكم على البعض لا يستلزم الحكم على الكل ولا نفيه عنه. أن أعظم الناس حرية أقواهم وأكثرهم خداعاً أضعفهم. كل شيء كم أنواع الخير وأفراده فرضنا أنه الخير الأعظم والسعادة لا يصح ما لم يكن ألفضيلة وإن لم يسلم بذلك بعض ألفلاسفة الأقدمين. إن الشرائع الطبيعية كلها نفع وعلة التأذي بها جهل. إن الكبرياء قد يؤدي إلى الجنون. إن القوة الطبيعية مقسورة أبداً والفضيلة متوقفة على الاختيار. كثيرا ما يقع الناس في الخطأ لإطلاقهم الحكم على الشيء في كل الأحوال والاعتبارات. فليتوقع الراغب في كثرة العلم قلة المال أو ألفقر المدقع. أنه قد يجهل العالم ما يعلمه الجاهل من آفات الانتباه توجيه ألفكر إلى أمر واحد وقتاً طويلاً ومثله الاقتصار على فن واحد أو الولوع به أكثر من سواه. متى ثار غضبك فلا تقل ولا تفعل. لا يقاس على الآراء الضعيفة إلا على سبيل الإمكان. ولا يقاس على الآراء القوية التي لم تبلغ اليقين إلا غلى سبيل الظن. قليل الطعام المغذي ونقي الهواء ومعتدل الرياضة من أمنع الحصون دون جيوش الأمراض والأوباء. إن العلل لا تفعل بالمعلولات إلا بالمباشرة. إن من اللذات آلاماً. من الناس من يخسر كل شجاعته وإيمانه في ساعة اضطراب. إن الذي لا يؤثر فيه الشعر البليغ خشن الطباع سقيم الذوق. ومما ينتج من الرياء طبعاً أن صاحبه لا يصدق ولا يركن إليه وإن تكلم بالحق وكفى ذلك عذابا للمرائين. إن نظرك في إساءتك إلى غيرك يخمد نار غيظك من إساءة غيرك إليك. القول الصالح حسن والفعل الصالح أحسن منه فالقول الصالح الجسد والعمل الصالح الروح. المرأة أجمالاً تعادل الرجل فهماً لكنها تجري أعمالها على سنن التصور أكثر مما تجريها على مقتضى المنطق. المرأة ألفاضلة مهذبة الزوج والأولاد الأقرباء والأصدقاء بالقول والفعل ولها في ذلك من التأثير ما لا تستطيعه كل فلاسفة الأرض. اللطف رشوة من لا رشوة له. من أفسد بين اثنين فعلى أيديهما هلاكه إذا اصطلحا. الصدق أس الإصلاح الأدبي. إنه يستحيل على المترجم للشعر من لغة إلى أخرى يأتي بكل محسناته الأصلية مع المحافظة على تمام الأصلي إلا نادراً. الاختبار أثبت قبول الإنسان التهذيب والتحلي بالفضائل ولكن أكثر الناس يجهلون السبيل. استقر واستدل واحكم. الشعر ضرب من الوحي. إن القوة على نظم الشعر موهبة إلهية يشرفها الإنسان أو يحقرها بالموضوعات التي يستعملها فيها. إن للشعر البليغ تأثيراً في النفوس عظيماً حتى شبهه الكثير من المشارقة والمغاربة بالسحر. نعم إنه سحر حلال يحمد به الساحر وينعم به المسحور. العلم القليل أضر من الجهل. إياك وخداع الخيال فإنه مصدر كثير من صنوف الضلال والخرافات الثقال. وأخزن فيه صور الهاديات الأخلاق والحاملات على مكارم الأخلاق. إن شرف نفس الإنسان يحفظ شرف يحفظ شرف نفسه لا شرف نسبه يحفظ شرف نفسه. ما أقدرنا على الكلام وما أعجزنا عن العمل. إذا مالت نفسك إلى كتابة مالا تريد أن يعلن بخطك فأعلم أن ذلك الميل خطر هائل لأنك بذلك تضر نفسك أكثر مما تضر غيرك. إن أصل المادة بأسرها أجزاء صغيرة لا تدركها الحواس تتجزأ في بعض الأحوال دون بعض. إن الصداقة تنتهي حيث يبتدئ الحذر إنا خلقنا نشعر بالألم لنحذر من أن نؤلم سوانا أحسن وقاية من النميمة أن تسد أذان عنها وأن يكتب تجاهك أبداً قول بعضهم (لا تصدق كل ما تسمع) الوعظ من أسباب الحياة الجسدية والحياة الروحية لمن يؤثر فيه إلى ما يضارع هذه الروائع ويشاكل هذه النواجع.
8ً مجونه وأزجاله
كان رحمه الله ينزع المجون والأحماض في الأحاديث أو إحجاماً للخاطر ليس إلا على حد قول الشاعر:
أروح القلب ببعض الهزل ... تجاهلاً مني بغير جهل
أمزح فيه مزح أهل ألفضل ... والمزح أحياناً جلاء العقل
ولذلك كثرت نوادره وأزجاله وأشعاره الدالة على بداهته وسرعة خاطره فكان إذا آنس من السامعين انقباضاً أو مللأولا سيما في العمليات البحتة ونحوها بنكتة رائعة تستجم خواطرهم وتلفت أسماعهم وتتلاعب بعواطفهم فيثيب إليهم نشاطهم ويتجدد ارتياحهم كما قال الرشيدالنوادر تستحد الأذهان وتفتق الآذانوإذا استقرينا أخلاقه منذ صغره رأيناه مولعاً بهذا الأسلوب الفكاهي وهذه الرقائق المستحبة حتى أنه لما كان يدرس في (عبيه) في صبوته سمع أحدهم يفاخر بقول الشيخ ناصيف اليازجي من قصيدة رقيقة:
كلفت حمل تحيتي ريح الصبا ... فكأنني حملتها بعض الربى
لا تجمل الريح الجبال وليتني ... كلفتها حملي فإني كالهبا
فقال المترجم له: وأين يروح الشيخ بعمامته وكبرهاثم لما غار المدرسة وجاء بيروت اجتمع باليازجي سنة 1871 قبل وفاته فقال له الشيخومإذا ثقلت عليك عمامتيفأجابه الحورانيوالله لو عرفت أنه سيبلغك حديث العمامة لما رأيتك إلى يوم القيامةومن نكاته أنه لما كتب في (أشكال أجزاء المادة) لم يفهم كلامه إلا القليلون فقال عنه بعضهم أنه كتب في أمر لم يدركه حق الإدراك حتى أبهم قولهفأجابه الحورانيوأنا أثني عليه أصاب أم لم يصبوله كثير من أمثال هذه الرقائق التي تدل على ظرفه وبديهته ودماثة أخلاقه أما نكاته الشعرية المجونية فمنها أنه كان مرة يروح النفس على شاطئ نهر العاصي حمص فعثر وسقط على فتاة كانت قريبة منه فشكت إلى أبيها فاغلظ له الكلام وكان لا يزال صبياً فقال مورياً وأجاد:
ياسيد الحلم يامن نور حكمته - يهدى به الناس من دان ومن قاص
زللت في شاطئ العاصي إلى رشاء ... عن غير عمد فاضحى الظبي قناصي
وقد شكاني إليكم فاغفروا زللي ... حتى يقولوا غفرتم زلة (العاصي)
وقال في فتاة جميلة لقية متعصبة في الدين كانت تعنقه على مزاحه وتبكيه عند ضحكه
غراء شمس نهارنا من وجهها ... وهلال ليلتنا مثال جبينها
ما كان أطربني لطيب حديثها ... لو أن رقة خصرها في دينها
ودعي مرة إلى صيداء ليخطب في حفلة مدرسية فافتتح بأبيات غزلية وتمحل لشيخوخته عذراً بقوله
قدم الزمان وصبوتي تتجدد ... فكأنني في كل عصر أولد
شيخاً أرى بين الشيوخ وأمرداً ... في المراد مما شاب
قالت غواني الرقمتين وقد رأت ... ثلجالمشيب أظن نارك تجمد
فأجبتها ما الشيب بل لهب الهوى ... في الرأس مما في الحشى يتوقد
قالت مشيبك أسود في ناظري ... قلت الحقيقةأن لحظك أسود
وكان مرة مبحراً من طرابلس إلى بيروت ورفيقه الخواجه موسى مخايل الطرف الطرابلسي ومعهما فتاتين جميلتان عيسوية اسمها مريم وموسوية اسمها سارة فلما نزلا في القارب جلست مريم على مقربة من موسى وسارة قرب إبراهيم فقال المترجم:
شمسان في القارب شنت على ... وجهيهما شمس العلى الغارة
فظل موسى رد عن مريم ... وظل إبراهيم عن سارة
وأرخ زفاف حسناء اسمها لمى إلى رجل ذميم بليد سنة 1862م:
زفاف كالحمام لكل نفس ... به شمط الرزابا قد تجلت
وأشد في الحداد مؤرخوه ... لمى سمش ببرج الثور حلت
وقال شيخ كثير المعاصي خضب شعره:
يا خاضب المبيض من فرعه=بالخزي لا يحسن هذا السواد إن كنت ذا لب ورمت الهدى ... فاصبغه قبل الردى بالرماد
وقال في أمرأة تركت مهذباً ألفقره وتزوجت خشناً لغناه فعذبها:
لقد هجرت أخافهم ... قليلاً ما له يعلم
وودت بعده وحشاً ... كثير المال لا يفهم
فنالت من مخالبه ... جراحاً ما لها بلسم
وذاك جزاء تاجرة ... تبيع الحب بالدرهم
وقال في غابة دمشقية:
سقت أجفان صبك كل صدر ... من العواد أيام ألفراق
ففرخ في قلوبهم التصابي ... وجن النبت من تلك السواقي
وارتجل للائم مضمناً قوا العامة (من غير شر) لما يؤذي:
ليس لي عن صبوتي بالائمي ... ماتجلى وجه سلمى من مفر
وملام الصب شر في الهوى فانصرف ياعاذلي (من غير شر)
وقال في منتزه في دمشق اسمه الجزيرة مورياً:
رأتني عند شط النهر أجري ... إليها كاعبيد إلى الأميرة
فقالت ما أتى بك قلت القى ... عبيدك بحر حبك في الجزيرة
وقال لعاشق يبكي ويشكو:
كثيراُ ما أرى العشاق تلهو ... وأنت تظل تذكر أم عمرو
وتبكي للنوى ما جن ليل ... كأنك في الصبابة (بوم قبر)
إلى كثير مما يساوي هذا الأسلوب من المجون الأدبي والنكات وللطائف والأحماضات (أما زجلياته) فلطيفة التصرف بديعة المعاني والألفاظ ابتكر فيها أوزاناً رائقة وابتده أناشيد رائعة ننتخب منها الآن ما يدل على براعته بها فمن ارتجالياته من فرادية مثل فيها السكران قوله:
اعتبروا من نحسي ياناس ... أوعوا تجوا صوب الكاس
أصل الضنا والإفلاس ... خمره في كاس الساقي
في كأس الساقي خمره ... وفي قلب الشارب جمره لاتشرب منها بمره ... لتصبح بالدنيا راقي
ومن تفنناته قوله من قصيد طويل موجهاً بالغناء وألفقه ومورياً:
يبكي (صبا) في حين بتغني (نوي) يلي شفافك تمر خالي من النوى
أحرقت قلبي بالتجافي والنوى ... ما كان ظني فيك تحرق منزلك
ما سمعت في محبوب أحرق مسكنه ... واللي عطاه أياه واللي سكنه
مين عاد من أهل الضمانة يضمنه ... إذا عرف أنك أحرقته وهوإلك
ومن مخترعاته الترصيع في المطلع المخمس المردوف من قصيد طويل
يلي بلحظك بابل الأسحار ... وبصحن خدك كوكب الأسحار
سرك مصون بمهجة المفتون ... ما بتدركوا الأباب والأفكار
سرك مصون بمهجة المفتون ... لولا دموعي والعيون عيون
ياظبي عينك سيفها مسنون
قطع أكباد الغزلان ... وجندل آساد ألفرسان
واستعبد مي وغزلان ... وليلى وعاشقها المجنون
ولحظك صاب أسود الغاب ... برشق حراب وشق كبود
وهز العطف رماح الحتف ... وسل الطرف سيوف الهند
ودار الريح بغير أقداح ... وبلبل صاح بلحن العود
ومال البان وسري بان ... وكان الكان بكاف ونون
سر الهوى مدفوق ... مع دمعة العاشق
يافتنة المخلوق ... ياآية الخالق
قلب ألفتى مسروق ... من لحظك السارق
سر العيون بيسرق الأرواح ... وبيظهر الأخفى من الأسرار
وهكذا إلى آخر هذه الأنشودة البليغة الجامعة لتفننات تأخذ بمجامع القلوب ومن ذلك قوله في مطلع آخر ليس بقابل بلاغة من غيره:
حنوا على المحبوس في حبس الهوى ... ضاقت علي الأرض من أربع قطار
سهرت عيوني وطال ليلي بالنوى ... من طول ليلي نسيت شو شكل النهار سهرت عيوني وطال ليلي بالنوى ... يلي شفافك تمر خالي من النوى
غنيت لحن حجاز وعراق ونوي ... حتى بكوا طيور السما ولأنوا الحجار
حتى بكوا طيور السما ولأن الصفا ... وزاد نهر الدمع عا نهر الصفا
يا حسرتي حل الكدر بعد الصفا ... وصار ألفي وصاحبي وحش القفار
وصار ألفي الوحش في قفر اللوى ... ومال صالب مهجتي عني ولوى
يلي رفعتو للظى أعلى لوا - دلوا غريب الدار عا ظبي النفاروقوله في مطلع آخر وفيه
تلميح وتفنن:
آمنت برهان ما بيلزم ... أنك نبي الزهر وبدر التم
من طور خدك ما قرب موسى ... ومنين جبت ألن للمبسم
من طور خدك ماقرب موسى ... ونارة اشترت منها السما شموساً
تخمين قبل مبسمك عيسى ... وحول رضابك خمر حلو الطعم
حول رضابك بالعجل خمره ... بكاس العقيق الزابدة حمرة
من برقها في وجتنك جمرة ... قلبي مجاهرها وصبري ألفحم
خمرة شفافك طعمها سكر ... ممزوج بالأطياب والعنبر
خمارها خمارته سكر ... والوف عند أبوابها تلتم
إلى أن ختمها بقوله:
إياك تطمع بعدها لمرة ... في الطيف كاسات الطمع مرة
ما كل مرة بتسلم الجرة ... خايف أنا بعد الطمع بتندم
وله مع بعض الزجليين (القوالين) نوادر ومحاضرات ولاسيما ألفران وغيره إلى كثير مما يماثل هذه النوادر والنكات اللطيفة الجامعة لكثير من الأنواع البديعة كالجناس والتورية والتلميح والتوجيه والانسجام والتفنن وغيرها من ملح الكلام ولطائف النظام وكثيراً ما يساعد الزجل على سرد القصص والأقوال طبيعية بدون تكلف أملة القيود مثل الأعراب والوزن الخاص ذلك فيجيئ كله من السهل الممتنع والمعنى المبتكر.
عيسى اسكندر معلوف