مجلة المقتبس/العدد 90/قواعد العمران
مجلة المقتبس/العدد 90/قواعد العمران
من بين آيات القرآن
إذا تجرد الإنسان هنيهة من جلباب التقاليد. وترك التصديق والإذعان جانباً ونظر إلى القرآن ككتاب غامض خبره. مجهول مصدره. وأراد أن يقرأ فيه. ثم يحكم عليه. ويأخذ عبرة منه. فماذا يرى؟ وبماذا يحكم؟
أخذ ذلك الإنسان القرآن وما هو إلا أن وقع نظره على أوائل سورة الإسراء فرأى عجباً: رأى من ضروب الوعظ والتذكير. وأفانين التربية والتعليم. وأصول الآداب وقواعد الاجتماع. مفرغاً ذلك كله في أساليب عالية. وحلل بالفصاحة والبلاغة زاهية - ما جعله يكبر الأمر. ويتساءل ماذا عساه يكون السر.
كتاب وجد منذ أربعة عشر قرناً في بلد منقطع عن العمران. محجوب عن أشعة العلم والعرفان. بين قوم أميين. قساة جاهلين. ثم هو يتضمن ما أشرنا إليه لجدير بالتعجب منه. حقيق بالتفكير فيه.
تضمنت أوائل سورة الإسراء ما تضمنت وهي ست صفحات فقط. فماذا تتضمن إذا بقية صفحات ذلك الكتاب وهي زهاء (87.) صفحة.
نحن لا نحيل القارئ الكريم إلى أمر بعيد عن القياس ولا إلى غيب لا يدخل تحت متناول الحواس. وإنما نحيله إلى عيان ومشاهدة واختبار.
الإسراء والمعراج
(من مزايا صاحب الرسالة ﷺ)
يصح نعت القرآن بأنه أقدس رسالة أتت من أقدس مقام بواسطة أقدس إنسان. وهو محمد بن عبد الله الرسول في تبليغ تلك الرسالة إلى الخلق.
وقد افتتح مرسل تلك الرسالة إحدى سورها أعني سورة الإسراء - ببيان منزلة ذلك الرسول. ليزداد الناس ثقة به. وحباً له. وحرصاً على تلقي الرسالة عنه. فقال: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا
اطلاع الله لذلك الرسول على آيات الكون وأسرار الخليقة هي المنزلة الرفيعة التي امتاز بها عن سائر بني البشر. فالمقصد من الآية إثبات تلك المنزلة له.
أما أن رحلة الرسول في الاطلاع على تلك الآيات كان بروحه الشريفة أو جسده المبارك فهذا لا نكلف الإيمان القطعي به ما دامت الآية ليست دلالتها على معناها بقطعيته. ولذلك اختلف العلماء بل الصحابة في الإسراء والمعراج:
أسري بروحه أو بجسده وكيف كانت كيفيته. وعلى أية حالة وقعت غدوته وروحته هذا من عالم الغيب لا نكلف به تفصيلاً ما دمنا مؤمنين بالغرض منه إجمالاً. ألا وهو الإيمان بأن الله اطلع على نبيه على عالم الملكوت. ولنضرب لذلك مثلاً:
نسمع أن أهل طرابلس الغرب قاموا اليوم لمناجزة إيطاليا. ونعلم أن حكومتنا العثمانية ذات الدهاء والقوة هي التي أمدتهم بالضباط والسلاح والذخائر فتمكنوا بذلك من القيام ضدها.
فيقول قوم: وكيف أوصلت حكومتنا تلك الإمدادات إليهم بالبر عن طريق مصر؟ أو بالبحر على ظهر السفن. أو بالهواء على متون الطيارات؟
ولكن هل من المعقول أن توسع مسافة الخلاف بيننا في هذه المسألة ونكثر من اللغط فيها. وليس في ذلك من فائدة لنا. وإنما ألفائدة هي في أن نثق بالحكومة وفي أن لديها من الوسائط ما يكفل إيصال القوات إلى إخواننا السنوسيين بطريقة حكيمة مأمونة.
يستبعد قوم أن يكون الإسراء قد حصل بجسده الشريف ولكن أقول أنه ربما كان هو الواقع كما يستبعد قوم أن يكون إمداد السنوسيين بطريق البحر مع أنه ربما كان هو الواقع أيضاً بل ربما كلن بواسطة الغواصات التي تنساب تحت مياه البحر.
كيف أسري بجسده ﷺ من مكة إلى بيت المقدس؟ وكيف يتصور هذا؟ ولكن قل لي - ولنفرض أنفسنا عائشين منذ مئات السنين - كيف يمكن أن يطير الإنسان مسافة أيام بساعة من الزمن؟ لو قلنا ذلك لأهل القرون الأولى أما كانوا يستبعدونه ويعدونه من المحالات العقلية؟
وكذلك إسراء النبي إذا استبعده العقل وعجز عن تصوره ينبغي له أن لا ينكره ولا يحيل وقوعه.
الاعتبار بالأمم الغابرة
عرفنا منزلة الرسول حامل الرسالة. ولنقرأ الآن الرسالة نفسها أو بعض آيات منها أعني أوائل سورة الإسراء
أول ما فعلته هذه الآيات أنها حولت نظرنا إلى أمة تقدمتنا كان لها في الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية شأن عظيم وقد ذاقت حلو الزمان ومره بحيث أصبحت أجدر الأمم القديمة بأن يتعظ بها. ويعتبر بأحوالها. ألا وهي الأمة اليهودية:
وآتينا موسى الكتاب. وجعلناه هدى لبني إسرائيل. ألا تتخذوا من دوني وكيلاً. ذرية من حملنا مع نوح. إنه كان عبداً شكورا. وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين. ولتعلن علواً كبيراً. فإذا جاء وعد أوليهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا. ثم رددنا لكم الكرة عليهم. وأمددناكم بأموال وبنين وجعلنكم أكثر نفيراً. إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم. وإن أسأتم فلها. فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علو تتبيراً. عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا
قصت علينا هذه الآيات من خبر اليهود ما فيه مزدجر وتحذير لنا أن يصيبنا مثلما أصابهم: فقالت أن الله أعطاهم التوراة فيها هدى وحذرهم مخالفة أوامره واستدبار سننه وأكد لهم أن هذه المخالفة تؤدي إلى غلبة عدوهم عليهم. واكتساحه بلادهم. فاليهود غفلوا عن سنن الكون. وتناسوا أمر الله. فسلط عليهم بختنصر نبوخذ نصر ملك الآشوريين. فأنزل بهم البلاء. ثم كشف ذلك عنهم على أمل أن يكونوا تابوا وأنابوا، فيعودوا للعمل بالتوراة. ومراعاة سنن الوجود والاتعاظ بما كان من إذلال عدوهم في المرة الأولى لهم - فلم يفعلوا شيئاً من ذلك وعادوا لما نهوا عنه. فجاءهم الرومانيون. وأوقعوا بهم واضطهدوهم وأذلوهم. كما قال لهم ربهم وإن عدتم عدنا أي وإن عدتم للمخالفة عدنا لتسليط عدوكم عليكم.
هذا ما كان من أمر اليهود في سابق عهدهم. فوعظنا الله نحن المسلمين بهم. وحذرنا أن نخالف أوامره الإلهية وندابر سننه الكونية. فيصيبنا مثلما أصابهم.
ولا ريب أن القدوة عامل من أقوى عوامل التربية. وهي في تربية الأمم مثلها في تربية الأفراد. فإن أحسن طريقة يتخذها المربي في تربية الناشئ هي أن يصف له إعمال رجال ألفضيلة فيقتدي بهم. وأعمال رجال الرذيلة فيتجنب عملهم. وهكذا الأمم في طور تكونها يجب أن تستفيد من أمم التاريخ فتقتدي بهذه. وتحيد عن عمل تلك.
سلك القرآن الكريم في تربيتنا معشر المسلمين هذا الطريق من التربية فترونه يقص علينا أخبار الأمم السالفة وما جرى لها لنستفيد من ذلك عظة وعبرة.
اليهود في عهد البعثة المحمدية كانوا مضرباً للأمثال. وموضعاً للشفقة عليهم. والتعوذ إلى الله من المصير إلى مثل حالهم. ولكنهم اليوم عادوا فلموا شعبهم. ورأبوا صدوعهم. وأخذوا يستفيدون من تجارب الأمم غيرهم. ومن عبر التاريخ التي تستنتج من حوادث من تقدمهم.
انظروا إليهم تجدوهم في علو منزلة ورفعة شأن. على أنه لا حكومة لهم ولا سلطان لماذا انقلب ما بهم وغير الله ما بهم؟
ذلك لأنهم غيروا ما بأنفسهم.
سلكوا إلى ألفوز في هذه الحياة من طريقه الطبيعي الذي طالما تنكبوه في سألف عهدهم. سلكوا سبيل الحياة الاجتماعية وهم مسلحون بثلاث أمور:
(1) تقوية روح التضامن بينهم
(2) إصلاح التربية العائلية والمدرسية
(3) توفير الثروة من طريق علم الاقتصاد
هذه القوى الثلاث هي عماد الأمم. وأكبر العوامل في نهوضها. فيجب علينا معشر المسلمين اليوم أن نقتدي بهم في توفير هذه القوى الثلاث: لأن الحكمة ضالتنا كما قال نبينا. وإلا كان أمرنا إلى خسار. وسعينا إلى تبار.
واأسفاه. . . كنا نرثي لليهود. ونشفق عليهم. ونتعظ بالمثلاث من أحوالهم. فعدنا اليوم نعجب من أمرهم. ونباهي بأعمالهم. ونحض أنفسنا على الاقتداء بهم. والسير في الحياة الاجتماعية على أثرهم.
(لا تحقرن امرءاً كان ذا ضعة ... فكم وضيع من الأقوام قد رأسا)
(فرب قوم قد جفوناهم ولم نرهم ... أهلاً لخدمتنا صاروا لنا رؤسا)
وهذا مصداق الآية الكريمة إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
غير أن القرآن الذي أعطانا نحن المسلمين هذا الأصل في نهوض الأمم وسقوطها وهو أن التغير الاجتماعي ناشئ عن التغير الأخلاقي - أعطانا أصلاً آخر في هذا المعنى وهوترك اليأس مذ قال: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون
هذه أسباب النهوض حوالينا. وطرق العزة والغلبة ممهدة أمامنا. فلنسلك هذه الطرق بصبر وثبات ورجاء كما أمر الله. فلا جرم أن نكون بعد ذلك من ألفائزين
التربية النفسية
بعد أن فهمنا من آيات اليهود لزوم الاتعاظ بما جرى للأمم قبلنا نرجع إلى بقية الآيات الأوائل من سورة الإسراء فنجد فيها مواعظ وحكماً وآداباً اجتماعية أخرى. من ذلك التربية النفسية:
الأصل الأول في هذه التربية أن يعتقد المرء بأن كل ما يصدر عنه - منقول أو عمل أو فكر - له تأثير في أخلاقه وسعادته ومستقبل حياته: إن حسناً فحياته سعيدة وإن سيئاً فحياته شقية. وإذا علم المرء هذا كان جديراً أن لا يقول إلا حسناً. ولا يعمل إلا حسناً. ولا يفكر إلا حسناً.
قال تعالى في آيات سورة الإسراء إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها - ثم قال - من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها
والأصل الثاني في التربية النفسية حياة الضمير وصحة الوجدان في نفس المرء: فمن كان ذا ضمير حي. ووجدان صحيح كان على نصيب وافر من صحة الحكم والقصد في الأعمال. وسعادة الحياة. وهذا مغزى قوله تعالى في آيات سورة الإسراء: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراًاقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا طائر الإنسان عمله الذي صدر عنه فهو منوط به مقصور عليه كما مر في آية إن أحسنتم. . وآية ومن اهتدى. . فأعمالك التي تصدر عنك أيها الإنسان يكفي في تمحيصها ومعرفة صوابها من خطأها أن ترجع إلى نفسك أي ضميرك أو وجدانك كما يقولون اليوم ثم تقرأ ما انطوى فيها من الهواجس والخواطر والأميال والاعتقادات. فإذا قرأت ذلك كله فهمت كيف صدرت عنك الأعمال حسنة أو قبيحة؟ وكيف أصبحت بسببها سعيداً أو شقياً.
نفسك وحدك هي نعم الحكم فيما إذا عرضت الأعمال. ونصب الميزان للفصل بين الحق والضلال.
فالواجب علينا في تربيتنا النفسية إذا أن نقوي فينا الضمير والوجدان الذي يسمى القرآن. النفس أو النفس اللوامةتقوي ذلك فينا لنعرف كيف نقول الصدق. ونحكم بالحق.
والأصل الثالث في التربية النفسية الصبر والثبات والتجلد وهو ما يسمونه اليوم قوة الإرادة والشجاعة الأدبية وقد نهانا الله في آيات الإسراء المذكورة عن اليأس والقنوط فقال ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا أي يا عجبا للإنسان! كيف يعجل بالسخط على نفسه والبراءة منها وتمني الشر لها إذا لم تفز في بعض المواطن. أو لم تنجح عند ممارسة عمل من الأعمال - كلا لا ينبغي أن يسخط ولا أن يدعو إلى نفسه بالشر والهلاك كأنه يدعو لها بالخير بل عليه أن يصبر ويتجلد. ويقوي إرادته فيعيد الكرة على العمل الذي لم ينجح فيه. فيتم له الفوز والغلبة. فبالله قولوا إذا لم تكن قوة الإرادة والصبر أساس السعادة في هذه الحياة فما هو الأساس؟
الأصل الرابع في التربية النفسية كبر النفس وعلو الهمة كما قال ﷺ علو الهمة من الإيمان فلا يرضى المؤمن لنفسه بالدون من شؤون هذه الحياة. بل يقتحم المصاعب في نيل المطالب. ويكايد العظائم. في اكتساب الغنائم.
وأي مناصب ومغانم؟ هي أن تكون أمته سعيدة فيكون سعيداً بها ومعها - هي ألفضائل والكمالات والأخلاق العالية والمظاهر السامية فيكون المرء بها رجلاً عظيماً ونابغة كبيراً.
إذا كثر الأفراد من هذا القبيل في أمة من الأمم ارتقت وعزت. وإن قلوا وفقدوا تدهورت وذلت. والله سبحانه وتعالى يعطي المرء من هذه المظاهر العالية على حسب سعيه وما طلبه بلسان حاله (وإن ليس للإنسان إلا ما سعى) وقد أ - مره أن يسعى في نيل الكمال الإنساني بأبلغ أسلوب في آيات سورة الإسراء فقال:
من كان يريد العاجلة (الخطة التي يسهل تناولها والمنزلة الناقصة) عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد. ثم جعلنا له جهنم يصليها مذموماً مدحوراً أي تكون عاقبة ما أراد التعجيل به من خطة الدون البلاء والشقاء الأبدي ومن أراد الآخرة وهي الحياة الكاملة والسعادة الشاملة وسعى لها سعيها وهو مؤمن واثق بالظفر فأولئك كان سعيهم مشكوراً.
الأصل الخامس: من أصول التربية النفسية التي علمنا إياها الله في آيات الإسراء إعمال العقل في ما يعرض عليه من المسائل العلمية والكونية فلا يجوز للمرء تعطيل عقله ومشاعره وتصديق كل وهم يلقى عليه. فقال تعالى في آيات سورة الإسراء - ويا ما أسمى حكمته فيما قال - ولا تقف ما ليس لك به علم. إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً أي لا تتبع الظن فتصدق ما لا يلتحم مع العقل اليقيني بل استعمل عقلك وسمعك وبصرك. فإذا أهملتها وعطلت العمل بها سئلت عنها يوم القيامة. فإذا قال لك ربك يومئذ لماذا اعتقدت كذا أو كنت تذهب من المذاهب والآراء إلى كذا فقلت له: يا رب قيل لي كذا وقالوا لي كذا فتبعتهم. فيقول لك وأين عقلك وسمعك وبصرك التي قد وهبتها لك؟ ولماذا لم تستعملها وتستهد بها؟ هل أعطيتك إياها لتهملها؟ أهكذا حق النعمة وشكرها؟
لا جرم أن تقوم إذ ذاك الحجة على هذا المقلد فيقذف به في هوة الشقاء. أنقذنا الله منها بفضله وكرمه.
التربية العائلية
الأمة تتألف من العائلات كما أن الجدار يتألف من الأحجار. فإذا كانت الأحجار متينة قوية محكمة الوضع كان الجدار ثابتاً حسن الوضع والعكس بالعكس. كذلك الأمة إذا تألفت من عائلات راقية في نظامها وترتيبها ونظافتها وأدبها وأخلاق أفرادها كانت الأمة في أعلى درجات الرقي والعكس بالعكس.
والعائلة تتألف من أول أطوار تكونها من أب وأم وابن
والابن الأول هو حجر الزاوية في أساس البيت. فإذا كانت أخلاقه حسنة وآدابه راقية وباراً بوالديه تبعه أخوته وأخواته وانتظم حال الأسرة. وإلا فسدت الحالة واختل النظام.
على أن البن إذا كان عاقاً لوالديه. يسيء عشرتهما. ويوصل الأذى إليهما كان جديراً بأن يفعل ذلك مع خلطائه ومعاشريه الآخرين. وهذا كاف في سقوطه وتعاسته. قال تعالى في آيات الإسراء: وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً. أما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ومعنى هذه الآيات ظاهر لا يحتاج إلى تبيان.
ومن التربية العائلية التي جاءت في آيات الإسراء رحمة الوالدين وعطفهما على ابنهما فلا يقسوان عليه. ولا ينظران إليه كأنه متاع لا قيمة لفه في الوجود. وإنما هو حر مستقل في نفسه. يكلف أبوه بالإنفاق عليه وتربيته حتى يبلغ أشده. ثم يسرحه في هذا العالم ليسعى لنفسه وعائلته ولوطنه.
وقد نعى الله على الآباء القساة صنيعهم فقال في آيات الإسراء: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياهم إن قتلهم كان خطأً كبيراً
فذه القسوة أو اليأس من حصول الغنى هو من أسباب خراب العائلات وتنغيص عيشها. ونحن اليوم لا نقتل أولادنا قتلاً حقيقياً وإنما نقتلهم قتلاً معنوياً. نهمل الإنفاق على تربيتهم وتعليمهم فيكونوا على حالة من الجهل والشقاء حتى الموت الحقيقي خير منها.
فتربية الأولاد والرأفة بهم وعدم قتلهم قتلاً حقيقياً أو أدبياً هو مما أمرنا الله به وحضنا عليه في آيات الإسراء.
ومن التربية العائلية استحكام ملكة الاقتصاد في نفوس أفرادها الآيتان السابقتان آية بر الوالدين وآية عدم قتل الأولاد تحضاننا على استكمال الروح الأدبي في العائلة. أما آيات الاقتصاد التي تضمنتها آيات الإسراء فهي تحضنا على استكمال الأمر المادي أي على توفير الثروة. والاهتداء إلى أحسن الطرق في استثمارها وتحصيلها. والعائلة التي لا تعرف كيف تستثمر ثروتها. أو تزيد فيها. أو لا تعرف كيف تنفق المال في طرقه القانونية. وتقابل الصرف بالخرج على أصول البودجة يوشك أن تنفق أموالها وتضيعها بالتدريج. أو تخزنها في صناديق دون أن تستفيد منها ويكون شأنها شأن من أعطاه الله عينين ليبصر بهما فهو قد أغمضهما أو وضع عليهما عصابة فلم يعد يرى ولا يبصر.
فمثل هذا الرجل كيف يمكنه أن يعيش؟ وذلك البخيل الذي يقتر على عياله كيف تطيب له الحياة؟ قال تعالى في آيات الإسراء: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً
الحياة الاجتماعية
آيات الإسراء على قلتها حافلة بالقواعد العمرانية. والأصول المدنية. التي يتوقف عليها هناء الجماعات البشرية.
فالبشر ما داموا مدنيين بالطبع. وما داموا في حاجة إلى أن يعيشوا عيشة اجتماعية - كانوا محتاجين إلى هذه الأحكام والأصول التي جاءت في آيات الإسراء. وها نحن نسرد تلك الآيات سرداً من دون شرح ولا تعليق. خوف التطويل والتضييق.
1 وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراًً.
وهذا خطاب للأغنياء والعظماء في الأمم
2 ولا تزر وزارة وزر أخرى.
وهذا خطاب للحكام والزعماء فيأخذون كل مذنب بذنبه
3 وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل. ثم في آية بعدها. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده.
خطاب لكل فرد من أفراد الأمة وتنبيه حكام الشرع لحمل الناس على إيفاء الحقوق
4 ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشةً وساء سبيلا.
خطاب لكل فرد من أفراد الأمة فلا يتلوثوا بهذه ألفاحشة. ويصح أن نعد هذه الآية من آيات التربية العائلية لأن الزنا يهدم بناءها
5 ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً.
خطاب لكل فرد من الأمة بأن يكونوا ودعاء متواضعين فيتحابوا فيكونوا أقوياء وإلا تخاذلوا وضعفوا. وتصلح هذه الآية مثالاً للتربية النفسية لأن التواضع وعدم الغرور أساس تلك التربية
6 ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً.
خطاب لكل فرد أو للحكام في حفظ الدماء والحكم بالحق وترك الشطط والإسراف
7 وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً.
خطاب لكل فرد أو للحكام مع الدول الأخرى فيكون من قبيل التربية السياسية. وتصلح هذه الآية أن تدمج في آيات التربية النفسية
8 وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم
خطاب عام وتنبيه للحكام
هذه الآيات كلها مم جاء في أول سورة الإسراء. ولم تستغرق ست صفحات وهي كما يرى القارئ اللبيب جماع الأصول العمرانية وكفاف القواعد الاجتماعية ويتخللها آيات في مقاصد أخرى كآية وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب
وهذه الآية تصلح شاهداً للتربية الاقتصادية لأن فيها حضاً على السعي والكسب والاحتفاظ بالوقت فنعرف أقسامه. ولا ندع جزءاً منه يفلت منا سدى. أو يضيع علينا بدداً.
هذه نماذج من آيات أوائل سورة الإسراء. كما أن هذه الآيات نفسها نموذج من مجموع ما في القرآن الكريم من الحكم والعبر. والمبتدأ والخبر. فرسالة هذه شأنها. والله مرسلها. ومحمد رسولها وواسطتها - هل يليق بنا أن نتغافل عند تلاوتها. أو ندع العمل بمضمون آياتها. دمشق
المغربي