مجلة المقتبس/العدد 84/تاريخ السياسة الأوروبية الحاضرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 84/تاريخ السياسة الأوروبية الحاضرة

مجلة المقتبس - العدد 84
تاريخ السياسة الأوروبية الحاضرة
ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1914



يفرد الغربيون كل العلوم بتأليف خاصة بل يفردون العلم الواحد بفروع كما هو الحل في التاريخ فقد وضع المسيو شارل سينوبوس أستاذ التاريخ في كلية باريز وصاحب كتاب تاريخ الحضارة الذي عربنا أكثره ونشرناه بين أهل العربية هذا الكتاب في تاريخ السياسة الأوروبية الحاضرة:

أفاض في نشوء الأحزاب السياسية وأشكال الحكومات وتقلبات السياسة في أوروبة منذ سنة 1814إلى سنة 1896 أي منذ سقوط نابليون أيام كان الحاكم المتحكم على كثير من بلاد أوروبا يتدخل في شؤونها الداخلية والخارجية ويحكمها حكماً عسكرياً قاسياً بل كان ببسط نفوذه مباشرة أو بالواسطة على جميع شعوب أوروبا فيحكم الإمبراطورية الفرنسوية مباشرة وهي ليست فقط فرنسا القديمة والبلاد المضافة إلى الجمهورية (كالبلجيك وولايات الريم) بل أجزاء من سويسرا وثلث ايطايا وبلاد القاع والولايات الألمانية الواقعة على شواطئ بحر الشمال والولايات الايليرية (الأسبانية) فيحكم هذه البلاد حكما مطلقاً كما كان يحكم الممالك المجاورة التي ارتبط معها بمعاهدات هجومية ودفاعية مثل ممالك اسبانية ونابولي وإيطالية وفستوفالية التي ولي عليها أقاربه وممالك ألمانية المنضمة تحت لواء اتحاد الريم وسويسرا والدانمارك واضطر سنة 1812 المملكتين الألمانيتين المستقلتين النمسا وبروسيا إلى الانضمام إليه ضد روسيا ولم يبقى خارجاً عن سلطانه إلا أطراف أوروبة مثل انكلترا وروسيا والسويد وصقلية والبرتغال وكان عصاة أسبانية يناوشونه القتال وهكذا كانت أوروبا بأجمعها منقسمة إلى معسكرين: نابليون وأعداؤه.

بدأ المؤلف بالكلام على انكلترا وذلك لأنها كما قال كانت في القرن التاسع عشر المثال السياسي لأوروبا فالشعب الانكليزي هو الذي أنشأ الطريقة السياسية التي اتبعتها أوروبا المعاصرة والحكم الدستوري والحكم النيابي وضمانات الحرية واقتدت به بقية الأمم والأحزاب التي اتصفت بها الحياة السياسية في القرن التاسع عشر (مثل الدستوري والنيابي والمتطرف والاشتراكي) قد تألفت في انكلترا قبل أن تظهر في الممالك الأخرى ولذا بدأ بانكلترا في الكلام على التاريخ السياسي في أوروبا.

تكلم على الحومة المركزية في انكلترا والسلطات المحلية وطريقة انتخاب النواب والكنائ وتأليف الجمعيات وحالة إيرلاندا وحالة الإصلاح وتحرير الكاثوليك والإصلاح في الانتخابات وذكر البواعث التي حملت أهل إيرلاندا على المطالبة بحقوقهم وكان منها انتشار مرض البطاطا سنة 1845 والمجاعة التي حدثت هناك سنة 1846 فكان الجياع يقصدون المدن يجمعون نفايات البقول ويأكلون الأعشاب أو مسواك القرود والطرق وقد بعثرت فيها الجثث فهلك الشعب بكثرته من الشقاء أو هاجر إلى أميركا فلم تلبث إيرلاندا أن سقطت نفوسها من 8170000 نسمة إلى 6500000نسمة سنة 1851 وأخذ الشعب منذ ذلك الحين يقلّ فبلغ 5100000 نسمة سنة 1881 و4700000 نسمة سنة 1891. وتكلم على الطرق السياسية التي عمد إليها الايرلنديون لمداواة هذا الأمراض.

وجود الكلام على انكلترا بين الاصطلاحين سنة 1832 - 1867 وفيه فصول في الإصلاح الإداري وهياج العملة وثورة ايرلندا وهياج حرية المقايضة والأزمة الايرلندية والنشوء الديمقراطي وغير ذلك. وكلام طويل على الأحزاب الانكليزية بعد سنة 1868 وما قامت به من جلائل الأعمال وكيف تألف حزب استقلال إيرلاندا الإداري وما أتاه للوصول إلى غرضه وكيف تألفت الأحزاب الاشتراكية وما قام به وزراء انكلترا في السياسة الداخلية والخارجية مثل الوزير ديزرائيلي الذي كان يهيج العواطف الوطنية الانكليزية باتخاذ سياسة الحرب والضرب باسم الشرف الانكليزي الذي أهين بسياسة الحياد الذي جرى عليها غلادستون وأهاج الشعور الوطني بأمرين: المستعمرات الانكليزية والمسألة الشرقية فكان الأحرار يرمون في سياستهم إلى الزهد في المستعمرات وإرادة انفصالها عن بريطانيا العظمى لأنها تكلف نفقات باهظة وصرح الحزب المحافظ بأنه يريد سلامة المملكة البريطانية وحاول ان يقوي الصلات بين المستعمرات وانكلترا بوحدة عسكرية وتجارية فنادت الحكومة ببيعة الملكة إمبراطورة على الهند وحاولت إنشاء وحدة أو اتحاد في إفريقيه الجنوبية انتهى بحرب الترنسغال. وصرح ديزرائيلي في المسألة الشرقية بأنه يود سلامة المملكة العثمانية فأوقفه غلادستون زمناً بإهاجة الرأي العام ضد العثمانيين لارتكابهم الفظائع في بلغاريا وعقدت سنة 1876 في المدن الكبرى بانكلترا عدة احتجاجات يظهر فيها الشعب الانكليزي سخطه على مرتكبي تلك المظالم فاستحسن مجلس النواب سياسة التداخل فعمدت انكلترا إلى نفس السياسة التي اتخذتها في حرب القريم وهي سياسة العداء وقامت بعمل فعلي في أوروبا.

وختم المؤلف كلامه بالفصل الآتي تعريبه وهو في النشوء السياسي في انكلترا: ان انكلترا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي اجتازت القرن التاسع عشر بدون ان تقوم بثورة فاحتفظت بدستورها القويم ولم تمسه وكذلك بأصول حكومتها وقد نسي الأجانب الثورات التي نشبت في القرن السابع عشر واستنتجوا من ذلك ان الثبات السياسي ملازم للأخلاق الانكليزية ومع هذا فان نحت هذه الصور الباقية غير المتحولة قد تبدلت الحياة السياسية من حيث العمل تبدلاً مهماً وذلك من ابتداء القرن إلى أواخره بحيث خرجت انكلترا من طريقة حكمها القديمة فقد كانت الأمة الانكليزية سنة 1814 خاضعة بعد لطبقة من الإشراف هي القابضة على زمام المجتمع والإدارة المحلية والحكومة المركزية فجدد القرن التاسع عشر النظام الاجتماعي بسنه سنة المساواة أمام القانون فألغيت القوانين والعادات التي كانت تقضي على الطبقات النازلة ولقول بعدم الكفاءة السياسية في المخالفين في الدين مثل الكاثوليك والإسرائيليين ومثل شقاء الملاحين وسقوط المحاويج المعانين ومنع عقد جمعيات العملة وسلبت الإدارة المحلية من طبقة الأشراف من أهل البلاد وجعلت في يد مجالس ينتخبها السكان. فأبقت الحكومة المركزية على مظاهرها ولكن تبديل الجماعات المنتخبة قد اختط لها خطة جديدة فأصبح مجلس العموم بعد ان كان طائفة من المقننين الأشراف مجلسا يضم نواب الأمة وأخذ بالتدريج يقضي على حكومة الملك والنبلاء (اللوردات) حتى كاد يمسي مجلساً ذا سلطة مطلقة وصيرت الوزارة التي يجب ان تكون مجلس الملك جمعية تنفيذية لمجلس النواب وهكذا انتقلت انكلترا من الحكم الدستوري إلى الحكم النيابي وطرية حكمها النيابي تتحول إلى طريقة الحكم الشعبي أو جمهورية يحكمها مجلس منتخب انتخاباً ديمقراطياً.

وكان هذا النشوء في المجتمع والحكومة على قاعدة ديمقراطية مناقضا مناقضة صريحة للدستور الارستوكراطي في المجتمع الانكليزي الذي لم تحفل به زمنا طويلا فقد بدئ بتنفيذ هذا الدستور منذ أربعين سنة بحيث ان العالم تين (سنة 1870) لم يتكلم عليه على انه لم يحدث من تحول داخلي في المجتمع الانكليزي بل جاء به من الخارج ولم ينشأ إلا من كيفية تأليف المملكة الانكليزية المؤلفة من أجزاء متخالفة متباينة.

ليست المملكة المتحدة بريطانية العظمى وإيرلاندا التي يدعوها بانكلترا على غير حقيقتها أمة كفرنسا بل هي مجتمع أمم قديمة (غاليون وايكوسيون وإيرلانديون) خضعت لسلطان أمة متغلبة وظلت مباينة لها في نظامها الاجتماعي والديني وربما ساغ ان تدعى أمة جديدة ذاك المجتمع الصناعي الذي نشأ منذ أوائل القرن الثامن عشر في الأصقاع المقفرة في الغرب والشمال من انكلترا.

فانكلترا القديمة أي انكلترا الجنوب والشرق التي نظمت الحكومة والكنيسة كانت ارستوكراطية وانكليكانية ولا تزال كذلك اليوم خاضعة لإشرافها وكهنوتها وقد ظلت سياج الحزب المحافظ وحصنه الحصين أما سائر أمم المملكة فلم تكن لها صلة بالأشراف ولا بالكنيسة الانكليكانية بل كانت ايكوسيا من الشيعة البرسبتارية ديمقراطية في مناحيها وإيرلاندا كاثوليكية معادية لنبلاء الانكليز وبلاد الغال وانكلترا الجديدة الصناعية في الشمال والغرب يسكنها ناس من المخالفين. فكانت هذه المجتمعات الديمقراطية والمخالفة معادية بالطبع للحكم الذي يبعدها من السلطة ويجعل أديانها غير معتبرة رسمياً وهي التي تألفت منها الأحزاب المعارضة للنبلاء الانكليز والكهنوت الانكليكاني. والايكوسيون والايرلانديون والغاليون وانكليز الشمال والغرب هم الذين ألفوا ويؤلفون بعد سواد الحزب الحر والحزب الراديكالي وهم الذين أدخلوا على انكلترا القديمة تغييراً ديمقراطياً.

بيد ان انكلترا القديمة التي كان فيها بلاط الملك والحكومة قد انتفعت من ذلك للمحافظ على طريقة الحكم القديمة ومد سلطانها على رعايا بريطانيا العظمى وبمقاومتها للجديد من الحالات حتى ينفذ صبر رعاياها قد توصلت إلى ان تخفف كثيراً التحول نحو الديمقراطية وهكذا كان التبديل البطيء في الأوضاع الانكليزية على نسبة القوى الهائلة التي استخدمها المعارضون.

لم يبدأ الحزب الديمقراطي ببث دعوته في مملكة من ممالك أوروبا قبل ان يبثها في انكلترا فان هذه سبقت العالم لأول مرة في القرن التاسع عشر وذلك انه بواسطة الراديكاليين سنة 1819 قد وضعت الخطة السياسية لجميع الأحزاب الديمقراطية في أوروبا. وما من حزب ديمقراطي قد استجاش له أنصاراً وأعواناً أكثر من الراديكاليين والشارتيين والايرلنديين والمتظاهرين من العملة سنة 1866 فقد كانت انكلترا بلاد الاضطرابات والتظاهرات الهائلة بيد ان هذه الجماهير الديمقراطية المحترمة بمشروعية مطالبها قد وقفت أمام مقاومة الحكومة الارستقراطية التي كانت قابضة على زمام الأمر فكبحت جماح مخالفيها من دون عناء بتوقيف المشاكسين وسن قوانين استثنائية والاستكثار من الجند.

ونال هؤلاء الجماعات في نصف قرن بما قاموا به من التظاهرات أكثر مما نالته حفنة من الجمهوريين الفرنسويين في يوم واحد وقد عمدت إلى القوة بل انها رأت لإكراه الارستقراطيين المحافظين على التنازل عن شيءٍ من حقوقهم انه من اللازم ان يحالفوا الارستقراطيين الأحرار ويندمجوا فيهم واضطروا إلى الاكتفاء بالإصلاحات الجزئية التي رضي حلفاؤهم بإعطائها وهكذا وضع في صورة تحكيم قانون الانتخاب النصف العام والتعليم الابتدائي النصف إجباري ونصف المساواة بين الأديان في إيرلاندا والإدارة المحلية النصف انتخابية وقانون العملة النصف ديمقراطي.

وقد دبر الأمر رؤساء الأحرار في هذه الإصلاحات وكان لسواد الديمقراطيين من العملة الإيرلانديين بادئ الرأي في الإصلاح بد طولى ثم جرت التظاهرات النهائية بإخافة جماعة المحافظين فطلب قدماء الراديكاليين إصلاح الانتخاب من حيث الجملة ونزعوا الإصلاحات الانتخابية الجزئية التي جرت سنة 1832 و1867 التي أعقبتها جملة من الإصلاحات الديمقراطية والعامية. وطالب الايرلانديون وحصلوا على المساواة السياسية في المعتقدات الدينية.

وبعد ان نال الراديكاليون والايرلانديون جزءاً من السلطة السياسية بواسطة حق الرأي العام في الانتخاب دخلوا تدريجياً في الحزب الحر الانكليزي وانتهى بهم الأمر ان عرضوا عليه برنامجهم في الاستقلال الإداري والإصلاح الديمقراطي بحيث أصبح من الصعب التمييز بين الحر والراديكالي أو الايرلندي وقد سرت دعوة الراديكاليين الاتحاديين حتى إلى الحزب المحافظ نفسه بحيث أخذ يطالب بمطالب ديمقراطية.

وهكذا تداعى بناء الحكم القديم الذي كان يدافع دوله أكثرية الانكليز الممتازة وذلك بضربات سواد المعارضين من غير الانكليز فانهار البناء قطعة قطعة وحل النظام الجديد أيضاً ب \ ون ان تكون له خطة مجموعة بالاحتفاظ بالملكية واللوردات المتوارثين خلفاً عن سلف وكنيسة الحكومة الممتازة ومجانية الوظائف الانتخابية وقيود حق الانتخاب العام فامتزجت أوضاع الأنقاض القديمة بطعم الجديدة في مجموع حوى المتناقضات حيث لا يمكن التبوء على التحقيق فيما سيزول أو يبقى قائماً وهكذا من الصفات المشوشة في الحياة السياسية في انكلترا الحالية.

تكلم المؤرخ على سياسة الأحزاب بعد إخفاق أعلام نابليون الأول وتاريخ الانقلابات الفرنسوية أشبه بتاريخ الانقلابات العثمانية ولعلنا نحن المقلدون لها المتشعبون بآراء أهلها. مثال ذلك معاملة حكومة فرنسا للجرائد هناك بعد سنة 1819 وما أصدرته من القوانين لإرهاقها فقد جعلت على الصحف ضمانة باهظة وضربت عليها كما في الصحافة الانكليزية ضريبة وضع طابع بعشرة سنتيمات عن كل نسخة وخمسة سنتيمات أجرة البريد ولم تكن تباع الجرائد أعداداً مفردة بل لم يكن لها سوى مشتركين بأسعار غالية إذ انه يقضي على كل نسخة ان تدفع 15 سنتيما ضريبة. وكان الاشتراك من علائم الظرف خاصاً بالكبراء أو أهل اليسار وربما اشتراك بضعة منهم ليتقاسموا قيمة الاشتراك بينهم وكانت الصحف قليلة جداً ثلاثة أو أربعة لكل حزب ومجموع ما يطبع منها نحو سنة 1830 لم يتجاوز الخمسة عشر ألفاً. وقد جاء في تقرير سري سنة 1824 ان مجموع عدد نسخ الصحف السياسية المعارضة بلغ 41 ألفاً ومجموع ما تطبعه الصحف الموالية للحكومة 15 ألفاً. وقد عدوا من علائم النجاح الكبير سنة 1830 ان كان عدد مشتركي جريدة الكونستيتوسيونل 23 ألفاً وما كانت هذه الصحف تحتوي إلا على مقالات سياسية وأدبية غير موقع عليها على الطريقة الانكليزية وقد عدوا انقلابا شروع جريدة البريس بنشرها سنة 1836 مقالات في موضوعات مختلفة وعد من العار العظيم ما أتته جريدة البريس من نشر إعلانات مأجورة لتغطية نفقاتها وكانت الجرائد على عهد الحكومة الملكية غالية الثمن فارغة من المادة متشابهة المآل قلما تشبه صحف هذه الأيام ومع هذا كان لها بعددها القليل تأثير كبير في مشتركيها وإذ كان الفرد لا يطالع سوى جريدته كان رأيه رأي جريدته فقط.

سن مجلس النواب الفرنسوي سنة 1822 قانونا للصحافة يقضي باستحصال رخصة قبل إنشاء الجريدة وان يكون للحكومة الحق بإيقافها وان تنظر في دعاويها محاكم عادية مؤلفة من حكام مستقلين عن الحكومة وألغيت المراقبة ولكن الوزارة يحق لها ان تعيدها بأمر منها وقد جرى البحث أيضاً لمنع إنشاء جريدة جديدة وان تبتاع الجرائد القديمة واحدة بعد أخرى. وبالحقيقة ان الصحافة كانت خاضعة لطريقة غريبة من الدعاوي والأحكام بحيث أصبحت المعارضة مستحيلة تقريباً حتى ان الحكومة إذا لم تجد مادة لمحاكمة الصحيفة تقيم على مديرها دعوى ترميه فيها بهوى في النفس وتحكم عليه بسلسلة مقالات لا سبيل إلى الحكم بها مفردة ولكنها إذا وضعت بعضها مع بعض تدل على أهواء مهيجة.

قال سينويوس من فصل في النشوء السياسي في فرنسا خلال القرن التاسع عشر: يظهر التاريخ السياسي في فرنسا منذ قرن لأول وهلة سلسلة غير مرتبطة الأجزاء من الثورات ومن ذلك وقر في صدور العالم خارج فرنسا ان الفرنسيس وحدهم شعب ذو أهواء في السياسة لا يعرفون ما يريدون وهذا عين ما كان يقال في الانكليز أواخر القرن التاسع عشر واليك مع هذا نظرة في تلك الثورات المغمضة التي بدت فيها في مظهر نشوء مدرك للغاية فقد كانت الأمة الفرنساوية في أواخر القرن الثامن عشر ملكية وان كانت أخذت تسير نحو الديمقراطية والعامية ولا سيما في المدن وأصقاع الشرق والجنوب حيث المجتمع أقرب إلى ان يكون ديمقراطياً والفلاحون أكثر عدداً وكبار المالكين أقل نفوذا ومن هذه السواد القائل بالملكية والديمقراطية انشق سنة 1792 بما قام من شق عصا الطاعة للملك والبلاط الملكي حزب ثوري صغير لم يلبث ان أصبح جمهورياً على خلاف إرادته إلا قليلا وهو حزب قليل العدد عقد العزم ان يتولى زمام الأمر وبالقوة ان اقتضى الحال فاستولى على الحكم من سنة 1792 إلى 1870 أربع مرات وكان توليه له بطريقة واحدة وهو ضرب مركز الحكومة في باريز وإذ كان أشياعه قلائل لم يتيسر له ان يستولي كل الاستيلاء بصورة قطعية وذلك لان الأكثرية من الملكيين تعزم في الحال على تأسيس حكومة ملكية فتبدد الجمهوريين وهكذا كان يتبع كل انقلاب جمهوري إعادة الحكم الملكي فيدوم ريثما يقوم جيل جديد يتقوى به رجال الجمهورية ويكثرون سوادهم للقيام بانقلاب جديد ولكن كانت كل ثورة تحمل معها شطرا من أهل الحكم القديم (الملكية) ممن لا يستطيع البقاء بإعادة سلطانه وهذا التقلب حدث مرات أربعاً.

وهكذا أفاض المؤلف في الكلام على كل دولة في أوروبا فتكلم على بلاد القاع (بلجيكا وهولاندة) وسويسرا وثوراتها السلمية البديعة واسبانية والبرتغال وايطاليا وألمانيا قبل الوحدة الألمانية والنمسا على عهد حكومتها المطلقة ومملكة بروسيا قبل غليوم الأول على الوحدة الألمانية والإمبراطورية الألمانية وكل ذلك بلسان المؤرخ المنصف الذي لا تأخذه العصبية لقومه ما أمكن وأفاض في النظام الدستوري في النمسا والمجر وذكر بلاد السكنديناف ومملكة بروسيا وبولونيا والمملكة العثمانية والأمم النصرانية في البلقان أي رومانيا واليونان والصرب والجبل الأسود والبلغار وعقد فصولاً في آخر سفره البديع في تحول الشروط المادية في الحياة السياسية وفي الكنيسة والأحزاب الكاثوليكية وفي أوروبا على عهد حكم مترنيخ من سنة 1815 - 1830 وفي منافسة روسيا لانكلترا 1830 - 1854 وفي تفوق فرنسا والحروب الأهلية سنة 1854 - 1870 وفي تفوق ألمانيا والسلام المسلح.

ومما قاله في مملكة النمسا والمجر وما قام فيهما بشان مسائل اللغات ان بلاد المجر والنمسا قد أصبحت منذ 1867 مملكتين مختلفتين لكل منهما حياته السياسية الداخلية الخاصة ولكن اشتراكهما في الملك والسياسة الخارجية كان موطداً للتضامن بينهما ومؤثراً في سياستهما الداخلية وكان من احتلال النمسا لبلاد البوسنة سنة 1878 معدلا للنشوء الداخلي في البلادين وعلى ذاك العهد كانت بلاد النمسا مزيجاً مختلف الجنس والطبائع من الشعوب وكانت الحياة السياسية بعد سنة 1878 مستغرقة في الجهاد بين تلك الشعوب وكانت الأحزاب وطنية فانقسمت إلى مركزين أشياع الحكومة العامة التي يدير دفتها الألمان واتحاديين أشياع الحكومات المحلية التي يتولى إدارتها الصقالبة (السلافيون) أي التشك والبولونيون والسلافيون والخرواتيون وينقسم الألمان إلى أحزاب سياسية حزب الحكم القديم الارستقراطي الكاثوليكي أي المحافظ وحزب الديمقراطيين المحررين أي الأحرار ومما كان يزيد في تعقيد الحياة السياسية ان الأمم ليست شعوباً صريحاً تخالفها فما كان العناصر في بلاد النمسا والمجر يمتازون في العمل إلا بلغاتهم فتقوم جنسية المرء بلغته التي يستعملها وأصبح جزء من الألمان صقالبة جرمانيين ولذلك كانت الأمم في كل ولاية (أي الناس الذين يتكلمون بلسان واحد) غير متصلة الأجزاء بعضها بالأخر ممزوجة مزجاً ومنضدة تنضيداً فكانت اللغة الألمانية شائعة في معظم البلاد التي يرفرف فيها العنصر السقلبي اللسان الذي تتخاطب فيه المدن وكبار أرباب الأملاك والطبقة المتعلمة إذ كانت الألمانية لغة التجارة والبلاط الملكي والعلم والأدب وكان للغة الايطالية نفس تلك المكانة على شواطئ البحر الادرياتيكي وكان ثمة بلاد ألمانية برمتها أي مجرمنة لا أثر فيها للمنازعات الوطنية ولكن كان الاختلاف في اللسان في البلاد الأخرى منشأ عداوات بين السكان من أهل إقليم واحد بل بين أهل المدينة الواحدة وما كان النزاع يقوم فقط في المركز بين النواب في المجلس بشان السياسة العامة التي تتبعا الحكومة الملكية بل بين مجالس كل ولاية بمناسبة حقوق كل عنصر أي بسبب استعمال اللغات فان القانون الأساسي الذي أعلن مبدأ المساواة في الحقوق بين الأمم واللغات في المدرسة والوظائف والحياة السياسية قد وضع مسألة اللغة موضع النظر ولم يحلها فكان يحق لأهل كل لسان ان يكون لهم مدارس ابتدائية تعلم فيها لغاتهم (وذلك بصعوبة في القرى المختلطة اللغات والمدن التي يتكلم فيها أبناء الأسرة الواحدة لغات مختلفة ويعيشون مشتتين) أما التعليم الثانوي فيكون باللسان المحلي بحسب مبدأ المساواة وتعلم الألمانية تعليماً راقياً حباً بمصلحة التلامذة لأنها تفسح لهم السبيل إلى تلقف العلوم الحديثة وقد نشأت ارتباكات أخرى في تطبيق مبدأ المساواة بين اللغات في الوظائف والحياة السياسية وذلك لان وحدة الحكم تتطلب لغة واحدة للملكة للقيام بالأعمال العامة فكانت اللغة الألمانية في كل زمن في النمسا لغة الملك والحكومة والجيش بل اللغة الوحيدة التي يتفاهم بها أهل العناصر المختلفة فاقتضى ان يترك له هذا الامتياز ويقلل من المساواة في الإدارة المحلية والمحاكم ولكن ذلك مما يصعب تطبيقه بالعمل فلا يكفي إنشاء اللوائح ويجيبوه بلسانه وان يقدم المحاضر بلغته ويحاكم بها وليس في الأماكن ان يتكلم كل موظف بجميع لغات الولاية بسهولة ولذا كانت مسائل المدارس الابتدائية المختلطة والتعليم الثانوي والعالي واعتماد اللغات في المحاكم والإدارة أهم مواضع الخلاف في إمبراطورية النمسا والمجر.