مجلة المقتبس/العدد 82/حب الوطن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 82/حب الوطن

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1912



خطب ارنست لافيس من مشاهير علماء الاجتماع والتاريخ واحد أعضاء المجمع العلمي الفرنساوي في إحدى المدارس الفرنساوية خطبة في حقيق الوطن قال فيها:

الوطن أرض ينزلها أناس يخضعون لنظام واحد. ولقد صرفت العناية الكبرى لتأليف مثل هؤلاء الجماعة وتحديد مثل هذه الأرض. حتى أنك لترى الأقاليم المتنائية التي هي اليوم خاضعة لسلطان واحد تكاد تكون متحدة في ميولها ورغائبها بعد أن كانت من قبل مشتتة. جاء زمن كان فيه إقليم بيكارديا (من أعمال فرنسا) أبعد عن إقليم برتانيا وإقليم برفانس (فرنسا) مما ترى عليه اليوم فرنسا بعيدة عن أميركا والهند. ولطالما عملت الطبيعة ثم السياسة ثم الحديد ثم النار ثم العقل والقلب قروناً عديدة حتى هيأت لنا هذه الأرض التي نسكنها والسماء التي تظلنا.

علمكم التاريخ كيف عمل ملوكنا لتأليف أجزاء المملكة الفرنسوية فضموا أشتات ولاياتها واحدة بعد أخرى فكانت أول صلة ربطت إقليم بيكارديا بإقليم برتيانيا وإقليم غاسكونيا بإقليم بروفنسيا وغيرها. إنها خضعت لملك واحد فأصبح آباؤنا بأسرهم فرنسويين لأنهم صاروا كلهم رعايا ملك فرنسا فكان بذلك أول اجتماع وطني وهو اتحاد الجميع في الطاعة لملك واحد. فاهتم الشعب لما يصدر عن الملك من الأعمال وراح أجدادنا يتحدون يداً واحدة في الأعمال الحربية فقدموا لذلك مالهم ومهم فكان إذا كتب النصر لملك الفرنسيس تغتبط الأمة بأسرها وتسر وإذا نكست أعلامه تبتئس وتكتئب. وتأصلت العادة في النفوس بأن تضطرب لأنر واحد في ساعة واحدة فنشأ في ذلك في بلادنا شعور وطني.

ثم تجلت مظاهر الاجتماع بما أنتجته العقول من الأعمال فأحدثت الأمة الفرنسوية لغتها. فإن كنا اليوم نتكلم بلغة هي من أجمل لغات العالم فذلك لأن أجدادنا قد بذلوا كل نفس ونفيس قروناً عديدة حتى يجعلوها في هذا الجمال والقبول. فعلم الأدب هو بمنزلة الاعتراف العام في أمة تودعه تصوراتها في الوجود وتصوراتها في الإنسان. وكانت الآداب الفرنساوية ترجماناً عبر فكر فرنسا وأخلاقها الخاصة بها وجعل من الجماعة التي ضمت السياسة شملهم جماعة زبطت بينهم الأخلاق.

مضى زمن طويل كانت فيه فرنسا متفقة مع مليكها في الأفكار وذلك لاعتقاد الفرنسيس أن الملك كان نائب الله تعالى عَلَى الأرض يجب حيه وخدمته كما يحب المولى ويطاع.

أيها الجمهوريون الصغار إنه يصعب عليكم قليلاً أن تدركوا هذا الشعور. ولكل زمن أخلاقه والمتأخر قد لا يعي حال المتقدم. ومن الضلال أن لا يعترف أن هذه الأخلاق كانت فيما سلف مستحكمة شائعة كما أن من الضلال أن يحاول بعضهم إحياءها بعد أن ماتت واضمحلت.

جاء يوم عَلَى فرنسا استشاطت فيه غضباً من مليكها لأنه كان يحب الخصام فتصلب في رأيه واشتد في عناده وفي معاملتها ولكن صبر أجدادنا كان غريباً في شكله طويل النفس من وراء الغاية. فكانت الأمة تقاسي ضروباً من سوء الاستعمال من عدم التساوي وقلة العدل والظلم المطبق. ولم تلبث أن أقامت الحجة ولكن كلمتها ذهبت كصرخة في واد ثم رفعت صوتها بالشكوى أعلى من ذي قبل وأخذت تتناغى بالحرية والعدل والإنسانية فكان من ذلك الثورة فسقط مع الملك طبقات الأشراف وزالت امتيازاتهم وكان لهم من قبل حقوق خاصة بين ظهراني الأمة فاشترك جميع الفرنسويين عَلَى السواء في الوطن الذي اتحدت كلمته وتماسكت أجزاؤه وطفقت فرنسا تتحاب مباشرة وأحبت فوق حبها لنفسها ما تناغت به من العدل والحرية والإنسانية ولذلك حق لها أن يحب أبناءها أنفسهم كما أحبوا بلادهم حباً مازج اللحم والدم. فوطنيتنا الثورية كانت من أجمل العواطف التي عرفها التاريخ.

أيها الأولاد: ليس وطننا أرضاً فقط بل هو عمل إنساني بدئ به منذ قرون ونحن نكمله وأنتم تتناوبون العمل بعدنا. إن ما قام به أجدادنا منذ الأصل وذكرى أعمالهم وأفكارهم وحركات عقولهم ولغتنا وفكرنا وكيفية فهمنا معنى الحياة مع ما خصت به أرضنا من الخصب والأمراع وما تجود به علينا سماؤنا من الحسن والإحسان وما عرفت به أصقاعنا من المناظر المبهجة وبلادنا الشمالية من الضباب المتكاثف والجنوبية من الصحو الممتع وبحارنا الخضراء وبحرنا الأزرق - كلها إرثنا العزيز هي وطننا ابنة الطبيعة وابنة الفكر.

ولكن وطنكم ليس وحيداً بين الأوطان في هذا العالم. هناك أوطان كثيرة تحيط بكم تألفت عَلَى غير الصورة التي تألف بها وطنكم كألمانيا وإيطاليا التي كان نشؤهما بطيئاً وكإنكلترا التي كان نشؤها سريعاً. هذه الأوطان قننت قوانينها وأنشأت لغاتها وآدابها وكل منها قد أبانت عن أفكارها وعواطفها في الطبيعة والإنسانية كما ابنا نحن. ولكل منها أفكارها التي تخالف أفكارنا ونبوغها الذي لا ينطبق مع نبوغنا وكل من تلك الأوطان يحبه أبناؤه كما تحب فرنسا أبناءها.

ماذا يجب أن تكون عليه عواطف تلك الأوطان وسلوكها بعضها مع بعض؟ هذه مسألة هي الآن مما يشغل الأذهان ويهيجها وتنقسم في تصورها الأفكار. فقد كان الشعور الذي تشعر به كل منها مدة قرون هو البغض والسلوك الذي تسلكه هو الالتجاء إلى الحرب. والظاهر أنه لم يكن يتأتى للمرء أن يحب وطنه بدون أن يكره وطن غيره.

وظاهر أن الحرب لم يكن يتيسر اتقاؤها في زمان كانت فيه التخوم غير مستقيمة عَلَى حال واحدة بين الممالك لأن هذه لم تكن بعد تألفت وعرفت لها كياناً. ولطالما كانت الحرب حادثاً يدعو إلى نماء الوطن وعملاً يؤدي إلى تحديد تخومها. وهكذا ربيت فينا غريزة الشدة المغروسة فكانت من موجبات بقاء تلك الممالك وذلك لأن الإنسانية ليست طبيعية في الناس وأصبحت الحرب من وظائف الحكومة فيولد الملوك زعماء حرب والناس ضباطهم ومن كان أدنى طبقة منهم يختارون الدخول في الحرب ليرزقوا منها ويحترفوا بها.

ولطالما كانت الجيوش تقف عَلَى قدم الدفاع أبداً وتنشب الحرب لاستخدام تلك الجيوش وتمرينها. وتتجلى أعوام السلام كأنها أعوام فارغة عَلَى أن تلك الأعوام الخالية كانت قليلة. ومن جملة الدواعي التي تدعو المحاربين إلى إهراق الدماء قديماً كنت ترى المصلحة السياسية والكبر والتشهي والعادة هي الفاعل الأكبر فيها. وكان ذلك من الأدوار الهائلة في تاريخ الإنسانية ونحن نعده اليوم من آثار البربرية وعلائم التوحش.

وخطب المشار إليه في إحدى المدارس وقال:

إذا سئلتم لماذا يدرس لكم أساتذتكم النحو والحساب تجيبون للحال: ليعلمونا التكلم والحساب وهما أمران ظاهرة ضرورتهما. وإذا سئلتم لماذا يعلموكم تقويم البلدان تبادرون بالجوب في الحال فتقولون حتى نعرف فرنسا بلادنا ونتصور الأرض التي هي بلاد البشر. ولكن ربما ارتبكتم إذا سئلتم فائدة دراسة التاريخ.

ابن الربعين في السنة التي أنتم فيها يبدو كأنه شيخ هرم منذ مائة سنة أو مائتين أو ثلثمائة أو أكثر. ولا شك أنكم تنكرونه ولا علاقة لكم بهم وإذا كانوا هم آمنين مطمئنين في موتهم فعليهم أن يتركوا صغار الأحياء آمنين بدلاً من أن يملؤوا دروس أسمائهم وقائمة أسمائهم بحركاتهم وسكناتهم وبأرقام تواريخهم وأزمانهم.

ولكنكم أيها الأبناء مخدوعون باعتقادكم بأن المضي بعيد. هو قريب منا ومجاور لنا وهاءنذ أبينه لكم في بضع كلمات: ولد لويس الرابع عشر سنة 638 أي منذ 260 سنة وأنا الذي لم أبلغ سن الهرم بعد عرفت في نوفيون رجلاً أدرك المعاصرين للويس الرابع عشر.

ويدعى هذا الرجل كؤول وكثيرون ممن جلسوا الآن عَلَى هذه المقاعد يذكرون ألوما إليه فقد مات سنة 1856 في التسعين من عمره كما تشاهدون ذلك مزبوراً عَلَى شاهد قبره المصنوعة من الرخام الأبيض. وكانت سني إذ ذاك أربع عشرة سنة وكنت أراه كل يوم إلا قليلاً وكان خال خالي الكبير شهد أموراً هائلة مدهشة فرأى لويس السادس عشر يرفع عَلَى المشنقة دستور فرنسا القديم يمزق كل ممزق وفرنسا مولعة بحياة خيالية جديدة. فأخذ يوحي بروح القرن الثامن عشر الذي تعلمت مذ ذاك أن أحبه في أوهامه وخيالاته لأنه كان قرناً في الشقاء والبربرية وتلاه قرن من الهناء والإنسانية.

فالمسيو كؤول ولد إذاً سنة في سنة 1766 وبلغ سنة 1776 سن الرشد. وفي ذلك الزمن لقي ولا شك بعض أناس من أبناء الثمانين في نوفيون. وعليه فالرجل الذي كان في سن الثمانين سنة 1776 قد ولد سنة 1696 وكان في سنة البلوغ عندما قضى لويس الرابع عشر نحبه سنة 1715. وبهذا فأنتم ترون أن هذا الملك الذي يتراءى لكم أنه بعيد العهد جداً قد مسستموه بأيديكم إلا قليلاً.

إن المائة والتسعة والثمانين عاماً التي مرت بين موته وبينكم هذه مدة قصيرة من الزمن ينبغي لها ثلاثة رجال وأنا الذي أخاطبكم وخالي وذاك الرجل الثمانين إذا مسك أحد بيد صاحبه نصل إلى هذا العهد وعلى هذا فليس من حاجة إلى سلسلة طويلة من الرجال لبلوغ الزمن الذي جاء فيه المسيح إلى العالم بل يكفي ثلاثون رجلاً.

لعد بضع سنين ترون يا أولادي متى انقضت ألوف من القرون أن الإنسانية تتكلم عن الأزمان القديمة. أما الآن فإننا لا نستطيع أن نقول عن رجل مات منذ أمد بعيد جداً فلا حق لكم إذاً أن تحيدوا عن الماضي كما تحيدون عن أمر بعيد جداً وإذ كان قريباً منا كثيراً لا يجب أن يتطلع أحدكم لئلا يحمل عَلَى النظر فيه قليلاً. إن هذا التطلع إذاً ينفعكم وبه تطيلون حياتكم أن تضيفوا أزمنة إلى زمانكم كأنكم عشتم فيها. نحن قلما تنعم في حياتنا القصيرة ولذلك نحلم بخلود روحنا. أما التاريخ فيه ضروب من الخلود وراء حجب الماضي ويظهر لي أني بصرف حياتي في دراسته قد بلغت الآن من العمر عَلَى الأقل خمسة أو ستة آلاف سنة. وأنا أتنزه في فضاء واسع طافح بالأنوار والظلمات والحركات وأتنفس برئتين واسعتين.

بيد أن معرفة التاريخ شيئاً غير هذا وأحسن منه في الأثر فالتاريخ هو الفراق العظيم بين الإنسان والحيوان. فالكلب يجهل ما بذل من العناية الطويلة. وما اثر فيه نوع التربية حتى صار كلب صيد أو كلب راع. فهو لا يتمثل أمامه تاريخ جنسه من الكلب الأول جده الأعلى إلى أيامنا هذه. والرجل الذي لا يصعد إلى طبقة أجداده وهم في مغاورهم الأولية ليراهم حيث كانوا يأتون بالصيد ويمتصون نخاع العظام المكسرة بقدوم من الحجر هو كلب وزيادة. هو لا يتبع آثاره الإنسانية إلى الدرجة التي بلغناها من المقام الإنساني. والإحساس الظاهر من تكريم الإنسانية لا يقتبس من غير التاريخ.

معرفة التاريخ توضح سبيل محبة الوطن. والوطن مكان الإنسانية الذي ولدنا فيه ويمتاز عن سائر الأوطان بالطبيعة بل بالتاريخ أي بمجموع أعمال وأفكار متتابعة تألف منها ما قدر لنا من سعادة وشقاء. فعليكم ألا تجهلوا كيف أصبحت فرنسا من أعظم الأمم - ولا يكفي لأن يكون المرء فرنسوياً أن يولد في فرتنسا كما هو شأن أشجار الحور والصفصاف عندنا بل إن التاريخ هو الذي يطلعنا عَلَى ما قام به أسلافنا ويعلمنا ما يقتضي علينا القيام به.

فمن السهل أن يميز العمل الذي تم في خلال القرون الأخيرة. إن هذا المعاصر للويس الرابع عشر الذي ذكرته لكم منذ حين كان رعية لملك كان يعتقد نفسه - بل وكان بالفعل - سيد رعاياه ومالك أرواحهم وأشباحهم فأبادهم بحربه وبما أنفق عَلَى قصوره وأعياده وأفراحه وتركهم يعذبون في ظل إدارة ممقوتة كره العقول عَلَى الإغضاءِ هن أفكارها واضطهد الوجدانات وحبس وشرد ملأ سجون بالرجال والمطابق المؤبدة عَلَى أنه لم يكن رديئاً كما لم يكن غبياً لأنه كان عَلَى جانب من الذكاء. ولم يكن ساقطاً لأنه كان محتشماً في سره وعلى شيء من العدل. ولكن الزمن إذ ذاك كان يبيح تلك الأخلاق. وكان كل ما يأتيه الملك يعتقد - ومعظم الشعب يوافقه عَلَى اعتقاده - بأن له الحق أن يعمل ما يريد بحيث أنه لا يحزن إلا إذا قلبت الأيام له ظهر المجن ولا يتأثر وجدانه بل إنه يأسف قليلاً يبد عليه في حفلته وهو عَلَى سرير الملك يكلم وارثه المحزون الذي دعي لويس الخامس عشر.

نعم كانت تلك الأعصر عصور عدم المساواة الاجتماعية المعتدلة بدون نقض ولا إبرام. فكان يوصف الفلاحون من حرج في مملكة فرنسا - التي هي ضرب من جدول الأيام الوطني - بأنهم (وإن كانوا أكثر عدد من غيرهم فليسوا مما يجب الاحتفال به بل لنا أن نقول فقط بأن منهم تجبى الضرائب وأنهم يزرعون الأرض ليغذوا المدن) وغليك أيضاً كيف كانوا يعرفون الأعمال الصناعية الميكانيكية بأنها سافلة ساقطة. وكان الفقراء وحدهم يزرحون تحت أعباء الحكومة بأسرها وهي تطلب من الناس ما لا يستطيعون أن يقوموا ببعضه وأرباب الطبقات المختلفة من الأعيان سامت الملوك برفاهيتها وهي تستند إليها ويستندون عليها وعاقبة ذلك سحق الفقير.

لكم أن تقيسوا ما قمنا به من الأعمال وما حدث من الفروق بين هذا العصر والعصر السالف وما أظن أحداً في صحة من عقله يزعم بأن عصرنا عصر سيئات. نعم إن الإصلاح لم يتم إذ لا نزال نرى الشقاء الطبيعي والأدبي والظلم مستحكماً. إنكم عَلَى صغر سنكم تعرفون تلك الولايات وكثير منكم يراها قريبة منه. فمن بيوت ضيقة رديئة تحوي عوامل الفناء والأسر الوحيدة العديدة التي بقيت في فرنسا تصفر ألوانها في الأكواخ الساكنة فيها وينهكها السكر الذي ربما نشأ من الشقاء وربما أزاده وأدامه وبذاء الكلام والحركات السفيهة. وأنكى من ذلك مشاهد أولئك المحتشمين الذين لا يفتأون يقلقون ويخافون الفاقة وهم عَلَى طيب قلوبهم يحيون منقطعة آمالهم. وبين السواد الأعظم وخيار الناس من الفرق العظيم الناتج من اختلاف التربية ما هو معروف موصوف. فالجهل في السواد الأعظم يكاد يكون عاماً يتناول صفات الناس وصفات الوطن.

إن ما يجب أن يعمل أيها الأولاد هو تتابع العمل فيما بدأنا به لنحرر المجتمع الفرنسوي ما أمكن من ضروب الشقاء والمظالم الإنسانية التي لم تستأصل شأفتها.

هذا العمل شاق ولا يخلو من مخاطر وذلك لأننا نحاول للمرة الأولى أن نرفع ما سقط ونقوم ما انحنى. وظاهر بأن الناس كلهم كيفما دارت الحال لا يقدرون عَلَى الاضطلاع بأعباء الزعامة وأنه يجب شيء من النظام أبداً وشيء من الترتيب وبديهي بان بعضهم يتساءلون عمن يقوم عَلَى هذا النظام وهذا الترتيب.

لا تعجب أن ترى كثيراً من الناس وفيهم أهل الحشمة والصلاح يضطربون ويقلقون وينكرون علينا ما نعد الأمة له ونحلم به من تحسين مستقبلنا. هذه الفئة من الناس هي التي تريد منا أن نرجع أفكار أجدادنا وأخلاقهم ولكني لا أرى بأي حق يقفون في النقطة الفلانية بدل النقطة الفلانية من الطريق المؤدية إلى الكهوف؟ التاريخ بأجمعه طافح بأخبار الرجوع عن التقاليد وبعبارة ثانية ليست التقاليد إلا انتقالاً من الماضي للحاضر يأخذ منها الناس ما يريدون وما يستطيعون ويبذلون ما شاؤوا أو يخدمون أو فيقون ما أرادوا. وما تقليد يقف في زمن معين إلا أنه اشبه بحدود لا تتعدى.

نعم أنا مدرك ما هناك من مخاوف وأسمع أصوات الأهواء وأشعر بآهات الأحقاد. تذكر الصحف وقائع يومية محزنة وهناك الأحلام اللطيفة تعدنا بأمور جميلة. ولكن الإنسانية لم يهدأ لها بال قط. وما قط عاشت بدون شهوات وأحقاد وبدون أحلام ومطامع. أما أنا فإني معجب بما مر علي من أيام البؤس والسخط عجبي من الكون الذي يتم فيه هذا العمل العظيم في العالم.

ولو ذكرت لكم ما حدث هناك في تلك المقاطعة وحدها لطال بي المطال ولطالما أصابها ما أصاب باريز نفسها. اذكروا فيها أيام 1848 والفتن اليومية التي حدثت عَلَى عهد لويز فيلي وأيام الثورة والتمرد عَلَى أيام الحكم القديم عهد لويس الرابع عشر وحركات القرون الوسطى الهائلة أما اليوم فليس فيها شيء من هذا يباكر الناس مضاجعهم فينامون ملء جفونهم آمنين مطمئنين.

أنا لا أتنبأ فلا أقول بأن الدهر لنا بالمرصاد عَلَى أنني لا أعتقد بالتقلبات الدائمة المحزنة فقد حدث نجاح عظيم في العقل العام. إن حق الكتابة والخطابة وحق الانتخاب قد أتت عَلَى حق الثورة. أيها الأصدقاء إنكم لن تنسوا أبداً كل قسوة يعد جناية في البلاد المتمتعة بروج الجهورية.

يعلمونكم في المدرسة روح التكافل والتضامن وقاعدته أعن نفسك بنفسك وشعاره أعينوا بعضكم بعضاً وهذه القاعدة هي أساس الإخاء العلمي ثم تجيء بعد أعمال المحسنين الشريفة أي إرادة الأمة الفرنسوية لتحفظ الحياة من الأمراض التي تهددها والطفولية من العمال وسوء التربية والعمل من الحوادث والشيخوخة من الشقاء وتعطي الضعيف واسطة للمناقشة مع القوي وتقسم العمال العامة والتكاليف الأميرية العسكرية عَلَى نصاب العدل. وما النظام الجمهوري إلا باحث عن العدل.

ألا فلنكبر دائرة الرجاء والآمال بحسن المآل وما الخير إلا ثمرة جهادنا العظيم وسرعته أكثر مما نتصور. واذكروا أن الطريق قصيرة بين معاصر لويس الرابع عشر وبيننا فالتاريخ ما خلا الفضائل التي قلتها لكم يحوي أجمل الفضائل ألا وهو تقوية الأمل اهـ.

ها ما قاله علامة الفرنسيس لطلبة بلاده ترجمناه لتتدبره هذه الأمة العربية لأن الأمم متشابه في تواريخها وأحوالها وليت كبار رجالنا يتنزلون تنازل كبار رجال الغرب إلى مخاطبة الناشئة بمثل هذا اللسان العذب والأفكار السديدة فلا خير إلا في التعليم ولا تعليم إلا للشبان رجال المستقبل.