انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 81/نحن وأوربا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 81/نحن وأوربا

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 11 - 1912



أيها السادة الأخوان:

التاريخ كما لا يخفى عليكم يلقح فكراً جديداً وتاريخ كل أمة مرآة أعمالها تنعكس عليها صورتها. فلا يشقن عَلَى بعضكم إذا سمعوا في هذه الجلسة كلاماً في تاريخنا السياسي الأخير لم يعهدوه من قبل أو لم ينطبق مع رغائبهم فالأفضل لكل أمة تريد النهوض أن تعرف ماضيها حق معرفته وتقف عَلَى ما دبره ويدبره أعداؤها لها من أن تتحدث بالخيالات وتتمجد بالأباطيل فصديقك من صدقك لا من صدّقك. وفي الماضي لمن بقي اعتبار.

موضوعنا الليلة علاقة أوربا بالمملكة العثمانية وعلاقتنا بأوربا نفيض فيه بقدر ما تساعد الحال لتتلجلي لنا الحوادث والكوارث التي جرت في هذا الشرق العثماني وخصوصاً في بلاد البلقان التي قامت حكوماتها الصغرى منذ أسبوعين تجاذبنا حبل السلطة في مقدونية بل في بلاد الروم أيلي أي أملاك الدولة العلية في قارة أوربا.

قد يعد من يلقي أقل نظر في تاريخ العرب الفاتحين من أغلاط الفتح التي ارتكبها بنو أمية أن قذفوا بأحد قوادهم إلى شبه جزيرة إسبانيا يفتحون جزؤاً مهماً منها سموه الأندلس فهزم العرب سكان البلاد الأصليين إلى الجبال ولم يفكروا من جاء بعد الفاتحين في طريقة للخلاص من عاقبة أمرهم كأن يدخلوهم في الإسلام أو يخضعوهم بحد الحسام أو يجلونهم عن أرضهم بسلام.

وقد أدرك سيد بني أمية أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مغبة نزول المسلمين في أرض يحيط بها أصحابها الأول من أطرافها فأمر أحد عماله أن يرسم له مصور بلاد الأندلس ويريد إجلاء العرب عنها لأن مقامهم فيها غير طبيعي. وبعد وفاة هذا الخليفة ترك ذاك الأمر وشأنه وتأصل الإسلام في ربوع الأندلس وأزهرت فيه مدنية العرب هناك فقامت الأندلس بنحو النصف من هذه المدنية الباهرة والباقي تم في بغداد وفي باقي عواصم الإسلام الكبرى ولم ينجل المسلمون عن غرناطة آخر عاصمة للعرب في بلاد الأندلس إلا سنة 897 للهجرة أي أن نظرية عمر بن عبد العزيز صحت بعد ثمانية قرون وكأنه أدرك بسديد نظره رحمه الله أن الأخلاف لا يسيرون عَلَى سنة الأسلاف في الحساب للعواقب وأنهم ربما شغلوا بما في الأندلس من الخيرات عن قطع شأفة العد وكذلك كان.

ففتح الأندلس وإن أورث العرب ذلاً في الآخر فقد أورثهم عزاً وأي عز في الأول واستفادة أوربا كلها من حضارة الإسلام باحتكاكها بالأندلسيين العرب ووقوفها عن أمم عَلَى علومهم وآدابهم وصناعاتهم وزراعتهم ومصانعهم فالأندلس كانت أو فتح للمسلمين في قارة أوربا انتهت بإجلائهم عنها كما كان فتح العباسيين في جزيرة صقلية سنة212 كان من الأغلاط في الفتح فلم تدم في يد المسلمين سوى نحو قرنين ونصف فاستولى عليها الملك روجار سنة 485 هـ بعد أن انقطع إمداد المسلمين عنها لاشتغال كل جهة بما يخصها من الفتن.

هاتان الغلطتان لبني أمية وبني العباس فيفتح بلاد قصية عنهم انتهتا بإخراجنا عما ملكنا بعد قرون وبنو عثمان ارتكبوا مثل هذا الغلط في الفتح بأن توسعوا في مد سلطانهم شرقي أوربا بعد فتح القسطنطينية وتركوا لأهل البلاد المغلوبة حريتهم المذهبية ولغاتهم القومية فظلوا في حرب دائمة معهم لا تكاد تلقي أوزارها حتى فيوقد العدو أُوارها. واوربا لم تبرح تسر إخراجنا من قارتها منذ أزمان لاعتقادها بأننا شعب آسيوي لا يليق بنا أن نأوي إلى غير كننا إذ القاعدة عندهم أن أوربا للأوربيين كما أن أميركا للأميركيين ولكنا نشهد الآن ويا للأسف أن آسيا ليست للآسيويين وافريقية ليست للأفريقيين.

إن ما يسميه الإفرنج بالمسألة الشرقية يرجع في الحقيقة إلى امتلاك العرب أرض الأندلس وانتباه أفكار الأوربيين إلينا يرد عهده إلى اليوم الذي تقدم فيه جيش المسلمين إلى بوتيه من أرض فرنسا فهزم شارل مارتل جيش المسلمين في أزاخر الثلث الأول من القرن الثامن للميلاد. واكثر من ناصبونا العداء من الأوربيين في حروب الصليبيين هم فرنسا وألمانيا وبولونيا وبريطانيا وإيطاليا في الأغلب وكانت هذه الأمم إذ ذاك عَلَى مستو واحد تقريباً بقوتها ومدنيتها. وبحرية البرتقال والإسبانيول أعظم بحرية حربية للدول الأوربية في القرون الوسطى كما كانت أقوى بحرية تجارية في تلك الأزمان للبيزيين والطوسكانيين والجنويين أهل إيطاليا اليوم.

ولقد عرف إدوارد دريول المسألة الشرقية بما ترجمته: ملك الإسكندر الكبير البلاد الواقعة بين البحر المتوسط والبحر الأسود والصحراء من الغرب ونهر السند الأندوس من الشرق أي الطريق من أوربا إلى الهند وجاء بعده الرومان فلم يصلوا إلى نهر دجلة إلا نادراً وكان للفرس أيضاً بعض العظمة والمجد. وفي القرن السابع والثامن امتدت المملكة العربية أيضاً من البحر المتوسط إلى نهر السند واتصلت تخومها من آسيا إلى المملكة المقدونية ما عدا قسماً طفيفاً في الجنوب. ومن القرن الثاني عشر إلى القرن الخامس عشر كانت غارات البرابرة الذين توطنوا أوربا واضطربت آسيا الغربية تلك المنطقة التي هي أوربية وآسيوية معاً بمن هاجر إليها من الشعوب واستولت مملكتا جنكيزخان وتيمورلنك عَلَى جميع البلاد من آسيا الصغرى إلى نهر القنج. وظلت القسطنطينية زمناً آخر سياجاً لأوربا في وجوه الفاتحين المداهمين من الشرق الأقصى أو من نجاد آسيا الوسطى. ودك آخر تيار من هؤلاء المهاجمين ألاسيويين سنة 453 أسوار مدينة القسطنطينية معقل النصرانية من الإسلام وامتدت المملكة العثمانية زهاء أربعة قرون عَلَى أوربا الشرقية وآسيا الغربية من الخليج الفارسي إلى نهر الطونة (الدانوب) إلى البحر الأدرياتيكي وتدخل سلطان القسطنطينية في القرن السادس عشر في مسائل أوربا وكان قد حالف ملك فرنسا واخضع علىنهر الطونة الأوسط التخوم الألمانية وقد بلغت هذه السطوة في عهد سليمان الكبير (1520 - 1566) ذروة المجد والعظمة. .

ولكن تغلب العثمانيين لم يغرس في البلاد المنفتحة وسيما في أوربا جذوعاً عميقة فزلوا عَلَى الأمم المغلوبة بدون أن يحاولوا الامتزاج بها وربما كان من المتعذر مزج العثمانيين وهم من عنصر تتري مع اليونان أو الصقالبةالسلافيين وهم من عنصر آري واختلاط المسلمين بالمسيحيين. واكتفى العثمانيون بإلقاء الرعب في سطوتهم في نفوس المغلوبين عَلَى أمرهم وبإطفاء كل ثورة بالشدة المتناهية. دام ذلك إلى زمن ضعفت فيه تلك القوة أيام أصبح السلاطين يؤثرون العيش بين جواريهم عَلَى اقتحام الحروب وغدا البنجربة الإنكشارية وهم متزوجون رحالون وأمر الحرب في أيديهم يشتدون فيه اشتداد وقسوة وجبروت ومنذ ذاك العهد أي منذ القرن السادس عشر ضعفت المملكة العثمانية وراجعت حدودها مضغوطة عَلَى نفسها وذهبت نضرتها وجمدت مائيتها كالثمرة تتغضن إذا عتقت. .

فنزول المسلمين في أوربا وفي آسيا عَلَى ضفاف خليج القسطنطينية البوسفور وجناق قلعة الدردنيل قد نشأت عنه المسألة الشرقية وما تاريخها في الحقيقة سوى تاريخ ارتقاء الأمم المجاورة باقتطاع بلاد من الشعوب الإسلامية. ثم أن لهذه المسألة صفات دينية وذلك لأن تغلب محمد الثاني وسليمان القانوني عَلَى أراضٍ هي من صميم الأراضي المسيحية كان بمثابة تغلب راية الهلال عَلَى الصليب فإن محمداً الثاني قد نزع من جدران كنيسة آيا صوفيا الصور النصرانية وركز السلطان سليمان علم النبي الأخضر عَلَى أسوار بلغراد وحمله حتلا وصل به إلى أسوار فينا وطرد من رودس فرسان القديس يوحنا الأورشليمي وهم بقايا الصليبيين وما نراه في عهدنا من تغلب الروس عَلَى العثمانيين وثورات المملك المسيحية في البلقان إن هو إلا أخذ لثأر الصليب من الهلال. وإن الشعر المسيحية في كل مكان سواء في تركستان أو جنوبي القافقاس وعلى نهر الطونة وفي الأرخبيل وسورية ومصر حتى الهند لتهزم علم الإسلام. وهذه حرب صليبية هائلة تعد حروب الصليبيين في القرون الوسطى بالنسبة إليها ألاعيب أطفال.

ولما كان امتلاك هذه الأصقاع ذات التاريخ القديم ذا شأن خطير وكان للأمم الأوربية في آسيا فيما وراء نهر السند وبحر ىرال مصالح حيوية وكان يتأتى لصاحب القسطنطينية وآسيا الشرقية أن يكون سيد القارة القديمة أصبحت أوربا تنظر والقلق آخذ منها إلى تطور المسألة الشرقية وتكونها فروسياً بما لها من رقعة الملك وما فيها من جدة الشباب وقوة اليقين تشرف عَلَى الشرق من شماله من نهر الطونة إلى جبل البامير ولفرنسا عَلَى عامة صفاف البحر المتوسط الشرقية مصالح مادية ومعنوية قديمة للغاية لا يتيسر لها أن تتخلى عنها بدون أن تغدر بمن اعتادوا منذ الحرب الصليبية أن يعتمدوا عليها ومملكة النمسا والمجر التي هي من بلاد الطونة لا تريد أن يقطع عليها طريق الأرخبيل وألمانيا البروسية تحاذر أن تعود النمسا فتتطلع إلى أصقاع الرين والألب تدفعها إلى الجنوب وإنكلترا التي لا تود أن تقطع طريق الموصل من البحر المتوسط إلى الهند ومن قبرص ومصر وأفغانستان تحاول أن تحصر الروس فيما وراء عبر البحر الأسود وبحر الخزر خصوصاً وهي ترى تلك الكتلة من الجليد وأعني روسيا لا تزال أبداً في تزلق وانهيال. .

وهكذا يتواثب جميع أبناء يافث لاتينيهم ويونانيهم جرمانيهم وإنكليزيهم السكسوني وصقلبيهم وروسيهم عَلَى بلاد البامير طائفين حول شعر بمصر والساميين بين النهرين والعثمانيين في آسيا الصغرى يتواثبون عَلَى ضرب هذه الشعوب الغريبة التي أتت عَلَى غير مياد فاحتلت البلاد الواقعة بين نهر السند والبحر المتوسط فاصلة بين الفرعين العظيمين من الأسرة الهندية الأوربية ممن قضت الأقدار عَلَى ما يظهر أن ينضم أحدهما إلى الآخر.

بيد أن تاريخ المسألة الشرقية لعهدنا قد برز في مظهر اقتصادي فهي إحدى صور الجهاد في الحياة الذي قد يقتتل في سبيله شعبان عَلَى ما بينهما من لحمة القرابة ولقد فتحت بفتح ترعة السويس الطريق التجارية العظمى إلى العالم القديم فربط بين 350 مليوناً من الأوربيين و250 مليوناً من الهنود و400 مليون من الصينيين وفيها تحمل من المحيط الهادئ إلى المحيط الأتلانتيكي بحر الظلمات ماراً بالعالم القديم جميع الحاصلات التي نعيش بها كل يوم. ولإنكلترا المقام السامي عَلَى البحر المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي وتملك فرنسا الشاطئ الشمالي والشاطئ الجنوبي من البحر المتوسط الغربي ولها وفي الشرق مصالح وتقاليد أعظم منها ولها في الشرق الأقصى مصالح حديثة تزعم الانتفاع منها. ولا ترضى روسيا أن تظل منعزلة في سهول بلاد الشمال بل يقتضي لها مصارف عَلَى بحر حر كالبحر المتوسط والمحيط الهندي والمحيط الباسيفيكي وجميع الأمم الأوربية محتاجة لمكان عَلَى هذه الطريق التجارية العظمى إذ الظاهر أن من يتنحى عنها من الأمم يقضى عليه أن يعدل بأن يكون له شأن في الحركة الاقتصادية الشديدة في الأزمان المقبلة. .

فالشرق الذي بدأ فيه التاريخ عاد فغدا أخص ميدان للتاريخ وتاريخ الجديد إذا جرى التنظير بينه وبين التاريخ الماضي ذو ألوان وأشكال غريبة يحمل في مطاويه عَلَى الجملة فجائع وفظائع لما فيه من تداخل الحوادث التي تتألف منها السياسة الحديثة وربما كانت حياة الشعوب القديمة لم تبد لأنظارنا ساذجة أكثر من حوادث اليوم لأننا لا نعرفها حق المعرفة ولم نعش عيش أهلها اهـ. .

هذا ما قاله دريول في كتابه المسألة الشرقية ترجمته بحرفه وفيه عَلَى إيجازه حقيقة تاريخية راهنة وإن كانت روح التحامل تبدو في معظم ما يكتبه الغربيون عَلَى الشرقيين والعاقل من يأخذ من كل كلام عبرة. مسألة البلقان من أهم فروع المسألة الشرقية إن لم تكن أهمها. ومادتها التي تحيا بها نزوع الشعوب البلقانية إلى الثورة والانتفاض وإثارة إحدى الدول الأوربية ذات مصلحة لمن يريد أن يتحرر من الحكم العثماني قال رينه بينون في كتابه أوربا والمملكة العثمانية وعليه أكثر اعتمادي فيما سيمر يكم: إن الأمم في أوربا الغربية بما لها من القوة تعارض المشارع العظيمة فلم يبق إلا الشرق حيث الخميرة لينة والحدود تكاد تكون غير معينة حيث شبه جزيرة البلقان ولاسيما آسيا العثمانية فهي ميدان جديد للتوسع الاقتصادي والنفوذ السياسي وإلى تلك الأصقاع توجه الدول العظمى أطماعها ومنافساتها.

ثم أن المملكة العثمانية هي الحاكمة الشرعية عَلَى تلك المواقع الحربية المشرفة عَلَى الطرق العظمى في الأرض تلك الطرق التي هي شرط في كل تغلب بحري وفي كل تفوق عالمي وهي البوسفور والدردنيل والسويس فجميع طرق الهند تجتاز البحار العثمانية أو الأرض العثمانية ولذلك دارت جميع المحالفات الكبرى والوفاقات الأوربية منذ زهاء قرن حول المسألة الشرقية وبأسبابها تنحل تلك العقود والمواثيق.

فسياسة أوربا ترجع بالنظر إلى الدولة العلية ومستقبلها إلى مبدأين متعارضين أحدهما يؤدي إلى التدخل في شؤونها والآخر يرمي إلى سلامتها. فالمبدأ الأول منبعث من تأثيرات دينية أو فلسفية أو إنسانية كما يدعون وعلى ضروب من الأشكال ومنه حدثت في القديم الحروب الصليبية. وقد اخرجت أوربا الدين من السياسة فلم تفلح في القضاء عَلَى العواطف المستكنة في حنايا التضامن المطلوب بين الشعوب المسيحية أمام غير المسيحية وكثيراً ما بدت في التاريخ الحديث آثار هذا التضامن وزاد عليها بعد الثورة الفرنسوية مبدأ حقوق الشعوب وحقوق الإنسان فأصبحت حجة يتوكأ عليها أرباب الأحزاب الحرة أو الثورية في الغرب وبها يستعينون عَلَى دك عروش الظالمين الذين عدونا نحن في جملتهم معاشر العثمانيين عَلَى غير إنصاف.

ومن نتيجة مبدأ التدخل طرد العثمانيون من جميع البلاد التي لا يؤلف المسلمون فيها أمثرية السكان وتحرير جميع الشعوب المضطهدة. يريدون بالشعوب المضطهدة الشعوب البلقانية وغيرها وتدخل الدولات في شؤوننا نحن المعدودين في مصاف الدول الأوربية العظمى ولكن عَلَى طريقة فيها الغبن الفاحش علينا.

وكلما قمعنا ثورة أو اشتددنا في إرهاق من يريد الخروج عن الجماعة وهو حق لنا لو أنصفونا لأنهم يأتون مثله مع من ينبذ طاعتهم يرموننا بكل كبيرة وقد عدوا علينا من الكبائر التي لا تغتفر ما أتيناه من الشدة سنة 1877 و1894 - 1895 التي قالوا عنها أنها لا تناسب ماحي الممدنين كأنهم يريدوننا أن نعاقب القاتل بالعفو حالاً ومن يريد أن يؤسس مملكة في مملكتنا بالابتسام له وطلب رضاه.

ضمنت المعاهدات لدولة العثمانية مركزها من الحق العام الأوربي ولكن سرعان ما تنقض تلك العهود المسطورة إذا كان من ورائها نفض عنصر من شعوب البلقان يده من طاعة سلطنتنا. ولقد تعهدت ثلاث دولات أوربية في حرب القرم سنة 1856 بموجب معاهدة باريز أن تدافع بالسلاح عن سلامة المملكة العثمانية ولما استبيح حماها سمة 1877 أي في الحرب الروسية لم ينتطح عنزان ولا تحك منهم لحق الدماء إنسان قال بينون: إنا إذا أحببنا إنصاف العثمانيين في كثير من المواطن نقول أنهم ليس لهم ذنب إلا كونهم عثمانيين. وهو كلام المؤرخ العاقل.

ولطالما حجة حماية غير المسلمين في المملكة العثمانية من الأسباب التي تتذرع بها حكومات الغرب ولاسيما فرنسا التي سبقت غيرها إلى هذه الدعوة منذ عهد فرنسيس الأول بما أفضل عليه أحد سلاطيننا العظام من الرعاية واللطف ولذا ترى حقوق العناصر في هذا الشرق تذكر في المعاهدات فقد ذكرت في المادة التاسعة من معاهدة باريز وفي المادة الثالثة والعشرين والحادية والستين من معاهدة برلين ولكن عَلَى صورة مرنة كالمطاط يعمد إلى تأويلها حينما يكون مأرب لإحدى الدول تريده منا ويغض عنها إذا لم يكن لهن ثمت باعث عَلَى التدخل في أحوالنا.

ولقد كان من سياسة إنكلترا منذ استولت عَلَى بلاد الهند أن تكون الطريق إليها سالمة من العوائق والمضايق لأن في الهند ثروة إنكلترا والهند شرط وعلامة عَلَى استيلائها عَلَى البحار وقبضها عَلَى الشؤون الاقتصادية فالهند هي المملكة كما عرفها ديزرئيلي الوزير الإنكليزي المشهور وجرى عَلَى ذلك أخلافه. وقبل فتح ترعة السويس كان من حكم الآستانة وجناق قلعة وله منفذ إلى بحر الأرخبيل أو كان له سلطة عَلَى بحر قافقاسيا يستطيع منها النزول عَلَى أرمينية أو فارس إلى ما بين النهرين والخليج الفارسي - من كانت هذه قوته وبلاده يكون منه خطر دائم عَلَى الطرق الأرضية أو البحرية إلى الهند أو التجارة الشرقية فإن القفار المحيطة بمصر ليست مما يحمي ترعة السويس حماية كافية وكثير من الشعوب منذ عهد كيكاوس (كمبيز) والإسكندر داهموا مصر وفتحوها براً آتين إليها من آسيا فإن جيش نابليون سافر من مصر وداهم سورية وجيش إبراهيم باشا هدد الآستانة مرتين فليس القفر والحالة هذه سداً يحول دون إغارة المغيرين وهجمات الفاتحين.

ولذا كان هم إنكلترا منذ رفعت علمها عَلَى الهند أن لا يكون في الآستانة حكومة تخاف عادياتها وأن تكون أرمينية وسورية وفارس عَلَى سلام وإياها ومن أجل هذا مدت إنكلترا يدها إلينا غير مرة تريد مؤاخاتنا في السياسة ومحالفتنا عَلَى السراء والضراء وكانت تريدنا عَلَى أن نتحضر ونقوى كما حضرت اليابان وقوتهم فضربت عدوتها أمس في الشرق الأقصى ضربة تشيب لها النواصي ولكن قدر الله بأن يبعث عبد الحميد وأعوانه مدة طويلة بالسياسة العثمانية سائرين فيها عَلَى الهوى ثم قامت في عهد الدستور تلك الفئة المتغلبة وقبضت عَلَى أمر الأمة وسارت بنا تيه لا يؤدي إلى خدمة أفكار الجامعة الجرمانية.

تريد روسيا أن يكون لها عَلَى البحر المتوسط لا تدوس للوصول إليه إلا أرضها ولذلك كان لها من وصية بطرس الأكبر كل حين حادث يستحثها والنمسا تطمح أن تخلص إلى سلانيك كذلك عَلَى الخطة التي تتصورها فالآستانة وسلانيك هما بيت القصيد في السياسة الشرقية ونقطة الدائرة في الحقيقة طريق الهند لا تزعج فيه إنكلترا. ولذلك كانت تهتم بالمسألة الشرقية أكثر من جماع الدول والاهتمام عَلَى قدر المعرفة بالواجب ومن يهدد في حياته لا يلام إذا عمد إلى اتخاذ كل سبب يقيها من المصارع وسلامة المملكة العثمانية مما قالت به إنكلترا سنة 1833 واستعملته سلاحاً ضد محمد علي ولوزير فيليب.

قال بينون: إن إنكلترا تقوي الجولة العلية كمن يقوي معقلاً للدفاع فهي التي تدفعها في سبيل الإصلاح واللامركزية للقضاء عَلَى المطالب المزعجة التي تتذرع بها شعوب البلقان وهي تنصح للسلطان أن يمزجها عَلَى التدريج في السلطة الناهضة إلى التجدد المتسامحة في تقاليدها البحرة النيابية وبهذا المؤثر كتب خط كلخانة سنة 1839 وتمت التنظيمات الخيرية سنة 1856 وتطبيق أصول الحكومة الحرة الإنكليزية قد أتى بأحسن النتائج لبلاد الدولة العلية. إن كل ما يتم في بلاد للذين الشأن الأول في تأليف الوطنية فيها بغية التدرج بها إلى مدارج اللامركزية الإدارية كان معرضاً للإخفاق وكذلك الإصلاح السياسي والاجتماعي يؤدي إلى فشل تام أما إلغاء الإنكشارية والإصلاح العسكري في السلطنة فقد تكللا بالنجاح بحيث أن الدولة العثمانية بعد انقلابها في قبول التجدد أصبحت أشد إسلاماً مما كانت بل أقرب إلى الآسياوية بل أقوى من حيث الجندية مما كانت.

ولشد ما بذلت إنكلترا من الجهد بعد ولاسيما في الحرب الروسية العثمانية للدفاع عن مصلحة العثمانيين لأن في الدفاع عنها مصلحة لها تريد سلامتنا ليسلم لها طريق الهند بقوتنا وروسيا تريد أن يكون الخليجان (جناق قلعة وخليج الآستانة) حرين للتجارة البحرية ولبسط سلطانها لتحرير الشعوب السلافية ولكن إنكلترا علبت عَلَى أمرها ونجحت سياسة بطرسبرج وبرلين وفينا وكانت متفقة يداً واحدة عَلَى تحرير شعوب البلقان الشمالية واحتلال النمسا للبوسنة والهرسك واقتطاع روسيا لبعض ممتلكاتنا مثل باطوم والقرص وأردهان من أرمينية واحتلت إنكلترا جزيرة قبرص لتكون مشرفة عَلَى طريق أرمينية وآسيا الصغرى وسورية لئلا تداهم جيوش روسيا ذات يوم طريق الهند من طريق الخليج الفارسي أو من الإسكندرونة أو من سورية فخرجت إنكلترا ظافرة بحسن سياستها فنالت روسيا منا ونالت هي من روسيا ومنا ولله ما يفعل العقل والتوفيق السياسي.

ولقد تجلى في مؤتمر باريز وكان البرنس بسمارك رأسه ورئيس سلطان الدهاء في السياسة فتلطف الوزير الألماني في مراعاة حقوق النمسا وروسيا وحكومات البلقان كل التلطف فهو بدفعه النمسا إلى التقدم نحو سلانيك يخدم الأمة الجرمانية لأن تزايد السكان في ألمانيا سيضطرها ذات يوم لأنه يكون لها منفذ خاص مثل سلانيك نحو البحر المتوسط إن لم يكن في يدها مباشرة فلا أقل من أن يكون في يد النمسا وأغلق في روسيا طريق الآستانة عن سكة رومانيا وأصبحت رومانيا صديقة الألمان وعدوة الروس لأن هؤلاء اضطروها إلى إخلاء إقليم بسرابيا لقاء دبروجيه وكان من نتائج مؤتمر برلين أن أخفقت آمال الروس من البلقان بعد حربها معنا ونالت حقوقاً ضعيفة فمن مؤتمر برلين نشأ التحالف الثلاثي بين النمسا وألمانيا وإيطاليا والوفاق بين روسيا وفرنسا وكان من دهاء إنكلترا أن أشركت ألمانيا في الدفاع عن مصالح الشرق من اعتداء روسيا فتمكنت في مؤتمر برلين بإبعاد القوة المسكوبية عن ترعة السويس وطرق الهند وأن قربت منها ألمانيا. والحقيقة أن ألمانيا قد ربحت في مؤتمر برلين سنة 1878 بفضل بسمرك كما ربحت إيطاليا بفضل كافور في مؤتمر باريز سنة 1855.

سلكت من الحكومات الصغرى الأربع التي تكونت في معاهدة برلين في سياستها مسلكاً يوافق مصالحها فاقتربت رومانيا من ألمانيا لتنجو من روسيا والطريق التي توصلها إلى الآستانة واقترب الجبل الأسود من روسيا لئلا تكون النمسا وصية عليه وأرادت الصرب أن تحذوا هذا الحذو ولكن علائقها الاقتصادية بالنمسا دعتها إلى أن تمسك بيدها الأولى النمسا وبالأخرى روسيا.

أما بلغاريا فإن الحرب التي شهرت لأجلها قد أحيت في النفوس فكرة عودة بلغاريا العظمى إلى العالم فتكون لها حتى بحر الأرخبيل وإلى حدود ألبانيا وأبواب سلانيك ولكن معاهدة برلين قضت بأن تكون بلغاريا الأصلية ولاية مستقلة وتكون الروم إيلي الشرقي للعثمانيين هي وسائر البلاد المقدونية إلا أن الروم إيلي الشرقي عاد وانضم إلى تلك الولاية المستقلة سنة 1885 وعين أميراً عليهما البرنس باتنبورغ ابن القيصر وهذا الضم مغاير لبنود معاهدة برلين ولولا المحالفة الثلاثية لنقضت تلك المعاهدة عروةً عروة مع معاهدتي فرنكفورت وسان ستفانو.

ولما أخفقت الدول في المحافظة عَلَى حالة البلقان قامت اليونان والصرب تريدان أن تنالا تعويضاً يوازي ما نالته بلغاريا من الروم إيلي الشرقي وبلغ الحنق من إمبراطور روسيا إسكندر الثالث أن حمل البرنس باتنبورغ عَلَى التنازل عن الملك فانتخب مجلس الأمة البلغارية سنة 1887 بنفوذ النمسا وألمانيا البرنس فردينان دي ساكس كوبورغ غوتا من ضباط الجيش النمساوي والمجري وهو الأمير الحالي الذي بايعوه ملكاً عَلَى البلغاريين منذ أربع سنين.

وفي سنة 1895 - 1896 أحدثت الوقائع الأرمنية المشؤمة في الآستانة وأرمينية مبنية عَلَى أحلام أخفقت وقد نجحت فغيها السياسة الروسية كثر من الإنكليزية لأن قسماً مهماً من الأرمن هم في أرض روسيا وهم لا يؤلفون أكثرية في ولايات أرمينية وكردستان.

ولما رات روسيا نفسها محصورة عَلَى تخوم البلقان أرادت أن يكون لها منفذ ولو إلى الشرق الأقصى وكانت سكتها الحديدية في سيبيريا قد أشرفت عَلَى النجاز فقلقت من ذلك إنكلترا واغتنمت فرنسا هذه الفرصة ففتحت جزيرة مدغسكر وضمت مستعمراتها الأفريقية بعضها إلى الآخر وحلت المسائل المختلفة عليها بينها وبين إنكلترا في أفريقية وفي آسيا ثم نشأت مسألة الكونغو وسيام وشاطئ غربي أفريقية.

وكان لإنكلترا يد طولى في تأخير مسألة كريت ونزعها منا وكريت أخت أرمينية في الصورة والشكل وإن كانت غاية كل منهما متباينة ولألمانيا يد كبرى في جعل كريت تحت حماية السلطان وغمارة البرنس وجورج اليوناني آثرت عَلَى ذلك أن تراها لقمة سائغة لإنكلترا كما كانت مصر وقبرص من أجل طريق الهند وبذلك ازداد نفوذ ألمانيا في الآستانة وصار لسياستها الموقع الأول الذي بدأ في مؤتمر برلين فكان منه عموم النفع لشؤونها التجارية والاقتصادية. وفي سنة 1897 عقدت روسيا مع النمسا والمجر معاهدة عَلَى حفظ السلام في البلقان وكبح جماع المتناغمين بجنسيتهم من عناصرها في سنة 1903 اتفقت ذانك الدولتان عَلَى بروغرام مورزتج لإصلاح مقدونية وذلك تعدل نفوذ الألمان في الآستانة.

مسألة المضايق أو المضيقين البوسفور والدردنيل مرتبطة بالمسألة الشرقية أي ارتباط ولطالما تألمت روسيا من اعتزالها وراء البحر الأسود تملك بعض شواطئه ولكناه لا تستطيع أن تنفذ منه فشبهوا مقامها هناك بالمسجون فيلا قصر لا يستطيع الخروج منه ولولا إنكلترا لقبض الروس عَلَى قياد المضيقين ومن قبض عليهما قبض عَلَى منافذ البحرين الأسود والأبيض ولما سار إبراهيم بن محمد علي باشا المصري بجيوشه سنة 1833 من سورية إلى آسيا الصغرى وكان يهدد الآستانة لم تر الجولة إلا أن تستعين لدفع غائلته بالأسطول الروسي فبعثت دولة القياصرة أسطولاً إلى قرن الذهب في خمسين ألف جندي حتى إذا أمنت السلطنة شرد ذاك المهاجم وأراد الأسطول أن يعود من حيث أتى بعد أن كان مروره في المضيقين لأول مرة وبوارجه الحربية ترفع أعلامها أراد تعويضاً عن ذلك فعقد الباب العالي مع حكومة القيصر معاهدة خنكار أسكله سي وبموجبها تحمي روسيا المضيقين حماية حقيقية بحد السلاح فغضبت إنكلترا من هذا العقد الذي يضر بمصلحتها ومازالت تتفنن في أساليب السياسة حتى اضطرت الدول أن تعقد مؤتمراً في لندرا سنة 1841 وكتبت فيه معاهدة جاء في بندها الرابع أن المضيقين لا تفتح لدولة من الدول تسير فيهما بوارجهما فسقطت بذلك معاهدة خنكار أسكله سي وأصبح من حق سلطان العثمانيين أن يغلق المضيقين في وجوه الدول وليس من حقه أن يفتحهما فتقيد بذلك تقيداً لا ينطبق مع ما تدعيه حكومات أوربا من مراعاتها لحقوق السلطنة وسلامة استقلالها.

ثم أن إنكلترا اضطرت روسيا بموجب هذه المعاهدة أن لا يكون لها سوى عدد معين من السفن في البحر الأسود ولا تنشئ دوراً للصناعة (ترسانات) عَلَى شواطئه وبذلك سد البحر الأسود في وجه روسيا فلم يبق بحيرة عثمانية كما كان عَلَى عهد كاترينا الثانية وبطرس الأكبر ولا بحيرة روسية كما قضت معاهدة خنكار أسكله سيوهذا المنع لا يتناول بالشدة المعينة سائر دول أوربا الخمس الكبرى ولاسيما كبيرتها إنكلترا فقد دخل الأسطول الإنكليزي والفرنساوي ليضربا مع الجيش العثماني قلعة سواستبول الروسية وهكذا اصبح ما يحرم عَلَى روسيا لا يستحيل عَلَى غيرها فكأن معاهدة لندرا يقصد بها اتقاء عادية الروس عَلَى البحر المتوسط فقط وقد أيد البند القاضي بالحجر عَلَى روسيا وراء المضيقين سنة 1841 في معاهدات 1856 و1871 و1878.

في الأمثال العربية لا تطعم العبد الكراع فيطمع في الذراع وهذا مما ينطبق عَلَى حكومات البلقان الأربع المجاورة للأملاك العثمانية فإنها بعد أن استقلت الاستقلال التام وصار لها عَلَى صغر حجمها ملوك ومجالس نيابية حداها الغرور أن تتوسع في بلادها ولا سبيل إلى ذلك باقتطاع شيء من الأراضي العثمانية وكي السبيل إذا كان علم الأمن مرفرفاً في ربوعنا؟

ولذا عمدت اليونان والصرب والبلغار إلى تأليف عصابات من أبنائها وفيهم كثير من خاصتهم المتعلمين في المدارس العليا تلقي الفوضى وترتكب أعمال التعذيب والقتل في ربوع مقدونية التي تريد كل منها الاستئثار بها أو ببعضها ومقدونية هي عبارة في عرفهم عن ولايات سلانيك ومناستر وقوصوه والحقيقة أن مفدونية هي مهد الإسكندر حيث ترى عاديات بللا وييدا وأمفيبوليس فكان معدل من تهلكهم عصابات الهول والإرهاب من الأهلين ألفي نسمة كلب سنة يذبح اكثرهم كما تذبح النعاج فخربت هذه البلاد وكانت من قبل من أكثر بلاد الله عمراناً وعادت كما يقول بينون زراعتها بائرة وخصبها جدباً ولطالما قاصت تربتها السوداء في تلك السهول المنبسطة لبناً وعسلاً فأمست لا تعطي سوى غلات ضئيلة لا تكاد تسد عوز السكان وكثرت في حقولها النباتات الطفيلية من العوسج والأعشاب الضارة وتجردت الآكام من غابتها الغبياء بما سطى عليها من أسنان المواشي واتخذت المطار تنهال عَلَى المنحدرات لا يقف شيء في سبيلها تحمل التربة الصالحة للزرع فتؤلف منها بطائح ويتجمع كثير من هذه التربة الزكية تحملها السيول إلى خليج سلانيك بحيث لا يأتي عليه مئة سنة إلا ويطم كالحوض المطبق وانحصرت القرى في أعماق الأودية أو رؤوس الآكام المنحدرة ولم يبق في تلك الأرض مزرعة ولا بيت منفرد وأخذت الأكواخ ينضم بعضها إلى الآخر خوفاً وهلعاً.

نعم إن هاته العناصر التي ادعت المدنية هي التي تهرق دماء الأبرياء وتدعي أنها من رسل المدنية والسلام والذنب في ذلك عَلَى أوربا التي كانت بعض حكوماتها تسر حسواً في ارتقاء وتدفع البلقانيين إلى ارتكاب المنكرات من الإيقاع بالنفس والعبث بالأموال وبالعروض وقد اشترطت وربا في مؤتمر الآستانة ومؤتمر سان ستفانو أن تجرى الإصلاحات في الولايات العثمانية من قارة أوربا ولكن أي إصلاح تقوم به دولة والعدو المجاور يرسل عليها كل يوم عصابات تستبيح السفك والفتك وإن المرء ليحزن إذا أراد إحصاء ما بذلت هذه الأمة من دمائها منذ قرن فقط في سبيل بقاء الروم إيلي في أيدينا.

لما استقلت حكومات البلقان الشمالية في مؤتمر برلين لم تعط ولاية الروم إيلي الشرقية لبلغاريا لأن البلغاريين ليسوا فيها أكثرية ولكن بلغاريا خرقت هذا البند من المعاهدة وضمت إليها تلك الولاية وهكذا الآن تحدثها نفسها أن تستولي عَلَى مقدونيا أو جزء منها مع أن العنصر البلغاري هو بعض سكان هذا الإقليم إذ فيه صربيون ويونان وفلاخيون دع الأتراك والأرناؤد فمقدونية هي مزيج من عدة عناصر وليس في حقوق البشر قانون يقضي بانفصالها عنا وذلك لأن الفاتحين لتلك البلاد منذ عهد البلاسجيين قد تركوا فيها آثاراً وهذه البلاد التي نشأ فيها الإسكندر فاتح العالم قد اقتبست أموراً من اليونان ومن الرومان ومن الصقالبة ومن البلغار ومن العثمانيين لأن كل أمة حكمتها استولت عَلَى سهولها أما الجبال فكانت معاقل طبيعية لمن ارادوا الاحتفاظ من السكان بقومياتهم ولغاتهم ومن هؤلاء تألفت كتلة قامت تتناغي بعد بالاستقلال وكل أمة من أمم الطونة الأربع أي بلغاريا والصرب ورومانيا واليونان تدعي أن سكان مقدونية جزء من عناصرها مع أن لغاتهم متباينة وكذلك أديانهم وكل منها بذلت في سبيل الناطقين بلغتها أموالاً طائلة وعلمت تاريخا وأمجادها وأنسابها حتى انك لتجد في مناستر تاجراً ولد ألبانياً ثم تبلغراي صار بلغارياً ثم يونانياً أما الآن فهو روماني وهذا من أضحك ما سمع في التبدل. ومن خان لغة أبيه وأمه كان بالطبع خائناً للغة التي يتعلمها أيضاً ويدعي الانتساب لأهلها زوراً.

بقول كاتب الإفرنج أن الدولة العلية لم تقم بالإصلاحات التي تقررت في الولايات المقدونية ولو وفت بالوعود لما فتح سبيل لتلك الدويلات أن تطالب بشيء للبلاد المجاورة لها ولما قامت يونان تقول أن لغتها ومدنيتها هي الحاكمة المتحكمة في مقدونيا منذ عرف التاريخ ولا ادعت الصرب ولا بلغاريا ولا رومانيا مثل هذه الدعوى ولكن الموظفين العثمانيين إذا تركوا وشأنهم يهملون إصلاح حالة البلاد ونحن ما قاله صديقنا لطفي فكري بك لو قمنا من أنفسنا بالإصلاحات في الروم إيلي وطبقنا القانون الذي كنا سنناه لننفذه في أرجائها لما احتجنا إلى من يحثنا عَلَى ما يجب علينا القيام به من تلقاء أنفسنا ولكن أمراض الشرق كثيرة ومرض الإهمال أحد تلك الأدواء القتالة.

ولقد انتهت الحال سنة 1902 في مقدونية عقيب حدوث حوادث مزعجة أن بعث الباب العالي مفتشاً عَلَى الولايات الثلاث وتألفت لجنة مختلطة من خمس دول لإصلاح مالية هذه الولايات وحي بضباط إيطاليين وفرنسويين وألمان وروس وإنكليز لإصلاح سلك الجندرمة الذي طالما جلب الولايات بخلله عَلَى البلاد العثمانية فدرست اللجنة المالي الولايات الثلاث فإذا ميزانيتها سنة 1906 تبلغ 2. 680. 050 ليرة عثمانية يصرف منها 1. 480. 080 عَلَى الجندية ويصيبها 354 ألف ليرة من ديوان الدولة فلم تقدر اللجنة أن تعدل شيئاً من النفقات الحربية ونظرت في ميزانية الملكية وهي 822 ألفاً فتعذر عَلَى الدول أن يطالبن حكومتنا بتطبيق الإصلاحات العمرانية وكان من ذلك تساهل معتمديها في قبولهن زيادتنا ثلاثة في المئة عَلَى الرسوم الجمركية ولإنكلترا ستون في المئة من مجموع ما يرد للسلطنة العثمانية من الواردات فنالت بريطانيا وغيرها من الدول ذات الشأن امتيازات وتمديد مهلات ومنحت حقوقاً أخرى علاوة عَلَى مالها في الأرض العثمانية.

تمكنت الحكومة العثمانية بعد سنة 1904 من كبح جماع العصابات لأن كثيراً من رؤسائها ولاسيما البلغارية منها هلكوا في أيدي جنودنا. وهنا جيب أن يعرف أن سواد البلغاريين في مقدونية أكثر من غيرهم من العناصر غير المسلمة وهم أهل النشاط والحرب وثلاثة أرباع من هاجر من بلاد مقدونية إلى أميركا هم من البلغاريين والمهاجرون فيها لا يقلون عن مئة ألف. وقد اغتنوا كما اغتنى بعض السوريين ومنهم من عاد إلى بلاده فابتاع الأراضي بالثمن الباهظ ومنهم من تخلص من سلطة الأغنياء أرباب المزارع الواسعة وعمروا الدار والعقار. ولسيت الهجرة من ممالك البلقان إلى أميركا وغيرها اقل من هجرة سكان الروم إيلي حتى لقد هاجر خمسة عشر ألف يوناني من جهات وارنه في بلغارا سنة 1906 إلى أثينة وغيرها عقيب مناوشات قتل فيها أفراد من اليونانيين والبلغاريين وذلك بداعي تعيين أسقف يوناني في وارنه.

أقول عقيب مناوشات وما أحرانا أن نقول عداوات فإن اليوناني يكره البلغاري والبلغاري يكره الصربي والبلغاري يمقت الروماني والجبلي يتألم من الصربي عَلَى صورة يستغرب من قرأ تاريخهم أمس كيف يتفقون اليوم اتفاقاً مربعاً لم تخرج عنه سوى رومانيا المرتبطة مصالحها بمصالحنا وأعجب منه أن نرى روسيا عقب مؤتمر برلين بعد أن كانت في البلقان هي الكل والكل رضيت بأن تشاركها في نفوذها دولة النمسا والمجر واغرب من كل هذا أن إيطاليا والنمسا وألمانيا وروسيا وإنكلترا كلها تنادي بسلامة المملكة العثمانية وحفظ الحالة الحاضرة في البلقان مراعاة لمصالحها لأن كل واحدة تستفاد من الروم إيلي وهو في أيدي العثمانيين من حيث التجاور والأمور العمرانية والمالية أضعاف أضعاف ما تستفيد منه لو كان لا قدر الله في أيدي غيرنا من حكومات البلقان وذلك لأن القوم في أوربا يستفيدون من إهمالنا وعدم عنايتنا بالمصالح المالية بخلاف غيرنا لو كان سلطان عَلَى شبه جزيرة البلقان كلها فإنه يقطع عَلَى الماليين والمتجرين الأوربيين أرزاقهم ويحاربهم حرباً اقتصادية شعواء.

نعم تعلم الدول الست أن أهل كل عنصر من العناصر البلقانية أقوى عَلَى قلة عديدهم في التشيع لأبناهم الناطقين بلغتهم من العثمانيين بمجموعهم عَلَى كثرتهم فإن الصربي مسلماً كان أو كاثوليكياً أو أرثوذكسياً يهتم لمصلحة بلاده أكثر مما يهتم التركي أو العربي! وكأن هذا الحق خاص بشبه جزيرة البلقان إلا قليلاً فقد رأينا الأرانؤط مسلميهم مسيحييهم يدافعون يداً واحدة عن كل ما فيه سلامة وطنيتهم ولغتهم لم تفرق بينهم المذاهب والنحل وكذلك البلغار يتعلقون بجنسيتهم أكثر من تعلقهم بدينهم وهذا الخلق ضعيف جداً في ديارنا وما برح أهل كل نحلة يتناغون بحب بعضهم بعضاً ولو كانوا لا تجمع بينهم لغة ولا وطن ولا قرابة جنسية.

اقترحت إنكلترا لما رأت عجزاً في ميزانية الولايات المقدونية الثلاث لكثرة ما ينفق من أموالها عَلَى الحامية هناك أن ينزل عدد الحامية ليتوازى الدخل والخرج ويستطيعوا أهل الشأن إذ ذاك أن يقوموا بالإصلاح المطلوب لمقدونية ولكن الدولة العلية تعلم أكثر من كل دولة أن سلامتها في الروم أيلي معقود بناصية جيشها وأنة عهود الدول ومحالفتهن تستعمل عليها لا لها فقد ضمنت لها معاهدة باريز سلامة أملاكها من التمزق ومع هذا فقدت بعدها ولايات كثيرة ولم يقم من دول أوربا من يقول أن اقتطاع أرض عثمانية مخالف لتلك المعاهدة التي أقرتها الدول أو معتمدوها.

وإنا إذا وصمتنا أوربا بالظلم في بعض شؤونها فلا يسعها إلا أن تعدنا مظلومين عَلَى الأكثر ولاسيما فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية الحيوية من استثمار الخيرات والتجارات والصناعات في السلطنة قال بينون: لا تزال ميزانية النافعة (الأشغال العمومية) في السلطنة في حالة التكون أو كالجنين لم يتكون فالأجانب هم الذين ينشئون الخطوط الحديدية والمرافئ والأرصفة والترموايات والفنادق وهم الذين يبيعون المدرعات والنسافات والمدافع والبنادق وكل المعدات التي تلزم للجيش وهم يعنون المناجم ويؤسسون شركات الملاحة وقد اعتادوا أن يحملوا إلى البلاد العثمانية أدوات المدنية الحديثة عَلَى شرط أن يكون فيها ربح لهم وتجتهد كل حكومة في أن تنال مشاريع أكثر ثمرة من فغيرها وبذلك تنحصر منافسة الدول العظمى في الآستانة يراد بها الأعمال الاقتصادية.

ولطالما كان للمعتمدين السياسيين سماسرة من المتجرين والصانعين ولم ير غليوم الثاني حطة عليه أن يكتب إلى السلطان عبد الحميد شخصياً ليضمن طلبية كبرى للصناعة الألمانية والعثماني يدخن نارجيلته في ظل شجرة دلب قديمة. يرى هذا وهو يدهش من تكالب الغربيين عَلَى الأعمال وتنافسهم في سبيل الكسب واغتنائهم من بلاده ووضع أيديهم عَلَى مصادر ثروتها وحياتها والسلطان هو الذي يمنع هذه الامتيازات (هذا الكلام قبل الدستور) في الظاهر وهو صاحب الوقت ولا حرية له في لارفض ما يعرض عليه لأن للدول التي تطلب مدرعات وجنوداً تستعملاه حين الحاجة لضمانة ديونها ولاستصناع بضائع في معالمها وهي تراقب المالية وتنظر في مسائل الديون العمومية ولا يعمل شيء إلا بفضل رؤوس أموالهم وعلى أيدي مهندسيهم ولا يخضع رعاياهم بموجب قانون الامتيازات الأجنبية للقوانين العثمانية ولا يحكم في مسائلهم غير قناصلهم. وللأجانب مدارس لأولادهم ومدارس داخلية وكليات ورهبان وأطباء وإدارات بريد وبرق وليس للبوليس العثماني ولا لجابي الأموال أقل سلطة عليهم فكل واحد منهم كائن لا يمس فالسلطان يحكم ولكن الأجانب يتمتعون و1ذلك لأنهم ملوك المال اهـ.

يتمتع الأجانب في البلاد العثمانية بسعيهم الحثيث ونفوسهم التي لا تمل وأعلام دولهم التي تحميهم فبعد أن كان لفرنسا منذ القديم المقام الأول في التجارة نازعتها إنكلترا حتى استأثرت بأكثر من مجموع نصف الصادرات والواردات ثم جاء الدور لألمانيا بعد مؤتمر برلين فإن كانت هذه الدولة قد فتحت ولايتين هما الإلزاس واللورين فتحاً سياسياً فقد فتحت الولايات العثمانية فتحاً اقتصادياً فأنشأت البيوت التجارية والمصارف والمدارس ومن أهم الامتيازات التي نالتها سكة حديد بغداد تصل بين الآستانة والخليج الفارسي ولكن إنكلترا لم تغفل عن ذلك لأنها تحاذر من أن يصل أحد إلى الهند من غير طريقها وإرادتها فسلحت البادية فيما يقال بسلاح إنكليزي هندي وبعثت عيونها طول الخط الحديدي ولما لم يمد ثم انتبهت للتجارة مع العثمانية حكومة إيطاليا والنمسا وكل الدول تنازعنا بل تتنازع حياتنا الاقتصادية والمملكة العثمانية كما قال بعضهم فيها مجال لك طالب عَلَى فقرها بل إن فيها مجالاً للعثمانيين أنفسهم لو يعملون.

ولما أيقنت إنكلترا بالخطر عَلَى مصالحها في الشرق ولاسيما الهند بتهديد الألمان لخليج فارس بسكتهم الحديدية الجديدة من الآستانة إلى بغداد أرادت تأمين طريقها إلى هندها بتطويق بلاد العرب بطوق من حمايتها فأثارت أولاً مسألة تحديد التخوم بين مصر وسورية وذلك في المسألة التي عرفت بمسألة العقبة وطابة سنة 1906 فاستأثرت مصر التي هي محتلة لها بشبه جزيرة سيناء وأمنت إنكلترا من هذه الجهة وكانت قد عقدت مع فرنسا عقداً في سنة 1904 يكون إنكلترا بموجبه حرة في وادي النيل كما تكون فرنسا حرة بعملها في شمالي أفريقية وينتج من ذلك قبض فرنسا عَلَى قياد حكومة مراكش حتى أصبحت جرائد الفرنسيس تذكر اليوم أخبار المغرب الأقصى في باب المستعمرات كما ت1ذكر تونس والجزائر والسنغال ومدغسكر وسيام والهند الصينية. وهكذا جعلت السياسة للعقبة وطابة اسماص في التاريخ وكانت من قبل نكرة كما جعلت الحملة التي سيرتها فرنسا منذ بضع سنين من أعالي وادي النيل مثل ذلك لقرية فاشودة وانتهت بالوفاق الفرنساوي الإنكليزي وكما اشتهر بورارثو في الشرق الأقصى الذي زحزح اليابان عنه الروسيين عقيب معركة لم يسمع في التاريخ بأعظم منها زكان من ذلك أن عاد الروس أدراجهم من الشرق الأقصى واشتهرت بورارثو.

نقول طوقت إنكلترا شبه جزيرة العرب بطوق من حمايتها ومن عرف كيف أخذت مضيق باب المندب وعدن وبريم منذ القديم لا ينكر وضع حمياتها عَلَى صاحب الكويت لتدعي بعد أن حوض الخليج الفارسي إنكليزي محض كما وضعت حمايتها عَلَى أمير مسقط أهم سلاطين عمان وحمت صاحب البحرين وصاحب لحج فطوقت بذلك الجزيرة لتأمن غائلة الألمان والله أعلم ماذا يخبئ المستقبل للعراق وللشام واليمن والحجاز ونجد والجزيرة وكل هذا تسأل عنه حكومة الاستبداد الماضية التي أرادت إرضاء ألمانيا فأغضبت إنكلترا فكانت النتيجة خسارتنا عَلَى كل حال.

وكذلك الشرق يقتسمه الغرب وحكوماته تشتغل بالباطل كما حدث لجارتنا إيران فوقعت بين أيدي إنكلترا وروسيا ادعت أن هذه منطقتها من الشمال وتلك استأثرت بالجنوب وكان من اختلال الأمن في بلادها حجة توكأت عليها السياسة الحديثة كما كان كذلك في العهد الأخير من مراكش مع فرنسا.

ومن أخلاقنا معاشر الشرقيين أننا نذكر الداء عند وقوعه ولو قيل لنا أن نتخذ شيئاً من الاحتياط القليل بادئ بدء هزأنا بالمشير علينا واستسلمنا للأقدار فالأخطار فقد رأينا مثلاً فرنسا نشرت مدارسها في الشرق العثماني والمصري أي انتشار حتى كادت تدعي أن لها حق الحماية عَلَى رعاياها بعض أصقاعنا بحجة حماية أناس في الشرق وقد حذت حذوها إيطاليا فنشرت عَلَى فقرها مدارسها بأموال خصصتها لها في ميزانيتها في طرابلس وبرقة. وإن ذكر هذين القطرين ليرمض قلب كل عثماني اليوم. وفعلت مثل ذلك بعض بلاد الأرناؤد وكذلك تفعل ألمانيا في بلاد الأناضول ووادي الفرات فتنشئ اليوم مدارس ألمانية تحت رعاية إمبراطورها كما أنشئت في فلسطين ومثل ذلك فعلت روسيا في ديارنا وكل يوم امتيازات جديدة وحقوق علينا أكيدة.

ومنذ حرب السبعين بين ألمانيا وفرنسا لم تر أوربا دولتين أو ثلاث التقتا في حرب ما عدا حرب الصرب وبلغاريا سنة 1885 ونرى مصالحها تقض بينها بالسلام سلام عليهم وحرب عَلَى غيرهم. وكل مدة نسمع بعض زعمائهم وملوكهم يجتمعون ويتفاوضون سراً فلا نلبث أن نرى أزمة في إحدى بقاع الشرق لا تنحل إلا بربح جماعة المتفاوضين. نعم يشرب بعضهم نخب الآخر كما قال بينون ويتآخون ويتصافحون وهم في الحقيقة هم يجسون عَلَى الأرض ليكونوا ثقة منها فبما إذا نشبت عليها حرب حقيقية وهذه سياسة غريبة كل الغرابة في مظاهرها المتناقضة في هذا العهد وما قط كانت الحقائق العميقة مختلفة عن الظواهر التي تغشاها كل هذا الاختلاف قال: وعلينا أن لا يفوتنا أنه ربما تحدث مشاكل غير منتظرة في الشرق لأنه فيه تجد أوربا بلاداً بكراً واصقاعاً جديدة لم ترزق حتى الآن أدوات الاقتصاد الحديث فليس يرجي في أوربا الغربية والوسطى الآن حروب فتح وغلبة وليس فليس فيهما أمة تستطيع أمة تستطيع أن تربح من الأخرى ولذلك ظهرت منافستهن فيلا الأصقاع النائية وإذ كانت أوربا مغلقة في وجوههن وآسيا الشرقية لا تقبل وصاية دولة عليها بتة وأفريقية لم تأت حتى الآن بثمرة تذكر لم يبق أمام أمم أوربا غير التنازع في المملكة العثمانية عَلَى مصارف جديدة لصناعاتهم وأعمالهم وتجاراتهم.

هذه جملة حالنا مع أوربا وهي اقرب أن تكون لهجتها لهجة المتشائم لا لهجة المتفائل ومع هذا فإننا بما عرف من تاريخنا وتاريخ غيرنا من الأمم لا يزال الرجاء معقوداً في مضائنا وعقول القائمين بالأمر فينا ولا ينقصنما إلا أن نجمع عَلَى الخير كلمتنا ونجعل العلم والعمل رائدنا فليس الخطأ فيما وقع علينا من الحيف هو خطأ الحكومة فقط بل أن المحكوم عليهم مسؤولون كثيراً عن كل ضعف بدا وكل شر نجم يسألون عن تفاشلهم وتخاذلهم وعن فساد أخلاقهم وقلة نظرهم في عواقب أمرهم وثبرهم عَلَى جهلهم وادعاء المعرفة وبذلهم في التافه وكذاذة أيديهم في المآزق.

كلنا يعلم أن حياتنا السياسية مقرونة ببقاء هذه الدولة العلية العثمانية آخر مملكة قوية مستقلة من الممالك الإسلامية وإن دولتنا اليوم في بحران شديد فأين أغنياؤنا يبذلون عن سعة لإعانة الأمة عَلَى الأقل في كسوة أبنائنا المجاهدين في الروم أيلي بعض ما يصرفونهم عَلَى شهواتهم. إنني والله أخجل من تسطير تلك الصدرات والجوارب والأعبئة القليلة التي لم يجد ملوك المال فينا بغيرنا وقد رأينا واحدهم وثروته كلها من رقاب الفلاحين وسرقة الخزينة لا ينفق في هذا السبيل ربع ما أنفقه لاستحصال رتبة أو أخذ منصب أو مكافأة عَلَى وسام فاين هذا وأمثاله من ذاك اليوناني الذي تبرع لحكومته بأربعة ملايين فرنك تبتاع بها بارجة حربية!

إن هذا التضامن المنشود عَلَى أشده في الحكومات الأوربية والأميركية هو الذي أعوزنا اليوم فتركنا هدي كتابنا الكريم وأردنا تقليد المحدثين فصرنا كالعقعق أراد مشية الحجل فنسي مشيته ولم يحسن تقليد من يريد تقليده. إننا إذا تضامنا نضع الأشياء مواضعها وإذا تفاهمنا ننجح في تأليف أحزابنا وحزب عدونا ونأمن عَلَى مستقبلنا السياسي والاقتصادي وإلا فكل كلام ضائع وكل سعي في إنهاضنا هباء فتدبروا رحمكم الله وإياكم فليس للدهر بصاحب من لم ينظر في العواقب والسلام بعدد ما سجل التاريخ لأجدادكم من المآثر وعد لهم من الأيام الغر المحجلة فقد قيل:

الناس كالناس والأيام واحدة ... والدهر كالدهر والدنيا لمن غلبا