مجلة المقتبس/العدد 80/الحكومات وشرائعها
مجلة المقتبس/العدد 80/الحكومات وشرائعها
عرف الإنسان منذ نشأته أن الاتحاد ذريعة لنيل سعادته ووسيلة للحصول عَلَى مراده فمال بالقسر إلى الاجتماع تكاتفاً عَلَى ما يتعلق بأمر معيشته من هجوع وترحال ومأكل ومشرب ودعاه إلى ذلك داعي العجز والتقصير للقيام بمقتضيات حياة المدنية كالزراعة والصناعة عَلَى اختلاف أصنافها والعلم عَلَى تعداد أنواعه فكان اجتماعه قسرياً ضرورياً لراحته ورفاهته عبرت عنه الحكماء بقولها الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم.
ولما كان الإنسان ميلاً بالطبع إلى الظلم والعدوان كان من الضروري لاجتماعه وجوب وجود وازع يدفع بعض الناس عن بعض ويهتم بإصلاح شؤونهم وأحوالهم ومعيشتهم وإلا تضعضعت دعائم العمران ووهت أسبابه وقواعده لأنه ليس من الممكن عقلياً اجتماع أفراد بدون اتفاق فيما بينهم عَلَى كيفية نيل المعاش واقتسام الرزق ولا يمكن ذلك الاتفاق إلا بوجود وازع عادل يحدد حقوق كل فرد وواجباته طبقاً لقواعد أدبية واجتماعية تعرف الآن بالشريعة وهي لئن الآن اختلفت مبدأ باختلاف العادة والمكان لا تختلف غاية وهي المحافظة عَلَى حقوق الإنسان لقيام المجتمع البشري كما يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته: ولكي يتم للإنسان الاجتماع لابد له من سنن يكفله ولابد من العدل في هذه السنن أي مراعاة مصالح الجمهور المتبادلة ولا بد من احترامها كذلك وإلا انفصمت عروة الاجتماع وتداعت دعائمه: ولكن لما كان الإنسان كثيراً ما لا يسلك م نفسه الطرق المثلى المؤدية إلى ذلك إما عن عتوا أو غرور أو عن جهل وذهول كان لابد له من إقامة قوة يناط بها المحافظة عَلَى المقرر من السنن والاقتصاص ممن يحيد عن جادتها وإلا آل به الحال إلى الفوضى أي لابد له من وازع يكون من إذا لم يمكن أن يكون سواه يدفع عدوان بعضه عن بعض ويتهم بإصلاح شؤونهم اهـ.
فهكذا نشأت الشرائع والحكومات ولم تكن الأولى بداءة بدء سوى مجموعة عوائد وآداب بعضها ما فرضته الأديان وأخرى ما قضت الأحوال بإتباعه عفواً فأخذت ترتقي بعدئذ بالاتقاء الإنسان إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن كما أنه لا ينكر تغيير الأحكام بتغيير الأزمان.
فما الشريعة سوى خطة تسري الحكومة بموجبها فتحدد حقوق الجميع وهي مسئولة بالطب لدى هذا النظام عما تفعله بالنظر إلى رعاياها كما أن أرباب العائلات مسئولون أمام نظامهم عما يفعلون بالنظر إلى عائلاتهم لا بل تبعت الحكومة أعم من مواجب أرباب العائلات لأن رب العائلة تطالبه أُسرته وهو مسؤولية لها ولذمته في حين تكالب الرعية الحكومة والرعية مجموع أُسر عديدة فتكون مسئولة لها وللوطن كما قال أرسطو: العالم بستان سياجه الدولة والدولة سلطان تحيا به السنة والسنة سياسة يسوسها الملك والملك نظام يعضده الجنود والجند أعوان يكفلهم المال والمال رزق تجمعه الرعية والرعية عبيدٌ يكنفهم العدل والعدل مألوف وبه قوام العالم.
فينتج إذن مما تقدم أن نشوء الشرائع والحكومات كان قديماً بقدوم أول اجتماع نظراً لما في طبيعة الإنسان الحيوانية من الأثرة والعدوان التي تحول دون اجتماعه وتآلفه لولا حاكم عادل يحد لكل حقوقه حسب الشرائع المفروضة فتاريخ الشرائع مرتبط بتاريخ الحكومات وتاريخ الاجتماع البشري كل ارتباط أي لم يكن الاجتماع دون الحكومات لتحفظ كيانه وتذب عن حماه وتدفع عن حوزته ولم تكن الحكومات دون الشرائع لتسير بموجبها فتحدد بالقسط والسوية حدود الجميع لم تكن الشريعة بدون حكمة تسنها ولم تكن الحكومة بدون جمعية تحكمها كما قال الموبذان بن بهرم في حكاية البوم التي نقلها المسعودي الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة ولا قوام بالشريعة إلا بالملك ولا عز للملك إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلا بالمال ولا سبيل للمال إلا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخلقة نصبه الله وبه قوام العالم. اهـ.
قلنا الشريعة لم تكن بادئ بدءٍ سوى مجموعة آداب وعوائد قضت الأحوال بإتباعها عفواً ثم أخذت ترتقي بارتقاء الإنسان إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن من الرقي والفلاح فهي إذاً مرآة صافية ينعكس عليها مركز الأمة في الجسم الاجتماعي كما ينعكس عليها أيضاً من عوائدها وأخلاقها ما يظهر لنا تأخرها أو تقدمها. فمن اطلع عَلَى شرائع الفرس واليونان قديماً وأهل سومطرة مثلاً في القرن الماضي ووقف عَلَى ما جوزته شرائعهم من سلخ جلد المجرم بالقتل وسحقه بين صخرتين أو طمره حياً في الرماد حتى يموت تحته خنقاً إلى غير ذلك من الفظائع الحيوانية كأن يلقوا المجرم إلى السباع أو يمزقوا جسده بالكلاليب أو يحرقوه حياً أو يشدوا أطرافه إلى أربع أفراس فيمزق المجرم بالقتل إرباً إربا عرف حق المعرفة فظاظة طبائعهم وقسوة قلوبهم وغلظة أكبادهم وحكم حكماً باتاً عَلَى تلك الأمم بسكرة الجهل وتسكعها في مهامه الخمول لأن قساوتها وانحطاط أخلاقها وعوائدها كانت تتجلى في شرائعها بأجلى بيان عَلَى بقائها تحت وقر الجهل ووراء ظل الارتقاء.
وإذا رجعنا فوقفنا عَلَى كثير من شرائع أمم أوربا المتمدنة الآن كإنكلترا وفرنسا وألمانيا وغيرها من أمم العالم المتمدن كأميركا وخصوصاً شرائع مملكتنا العثمانية نحكم بالطبع عَلَى وجوب رقي تلك الأمم لما ينجلي منعكساً عَلَى مرآة شرائعهم الصافية من حسن العوائد وطيب الأخلاق ما يضطرنا أن نقول بارتقاء تلك الأمم طبقاً لارتقاء شرائعها.
ولكن لماذا لا يصدق هذا الحكم عَلَى أمتنا العثمانية وشريعتها من أحسن الشرائع ونظامها من أقوم النظامات؟ لماذا لا يصدق علينا هذا الحكم بل لماذا نحن في تأخر؟ إلا أننا من جنسية غير جنسيتهم ونحن ذرية الذين اشتهروا بالصناعة والتجارة والحماسة والشجاعة والفتوحات والفصاحة والمعارف والحكمة؟ أم لأنهم أقرب منا استعداداً للارتقاء ونحن من القوم الذين أفاض الله عليهم من بركات الحجى ما أقام لهم الاندماج في سلك الرتبة الأولى بين مراتب بني آدم؟ كلا ليست هذه من الأسباب التي أودت بأمتنا بعد أن كان لها من بسطة الملك واستفحال الكلمة ونفوذ الشوكة ما لم تصل إليه أمة من أمم أوربا الراقية. ولكن هو ضعف الإدارة في الأعمال وعدم تنفيذنا الأوامر الشرعية والقوانين المفروضة وقلة رجالنا الأمناء المخلصين كانت من جملة أمراضنا الاجتماعية فقلدنا كما قيل كبائر الأعمال لصغائر العمال أي وضعنا الشيء في غير موضعه فأصبح الوالي ظالماً والقاضي محابياً والجندي خائناً وأمر الشريعة لغوٌ لا يعمل به ولا ينفذ فلا بدع إذا فسدت الأمة بفساد الحكومة التي هي بمنزلة الرأس منها وقد أجاد القائل:
وإذا رأيت الرأس وهو مهشم ... أيقنت منه تهشم الأعضاء
وهكذا يستنتج بأن سلامة الوجود موقوف عَلَى سلامة النظام وسلام الناظم يكفله حسن العمل وذلك مترتب بالطبع عَلَى إدارة مستقيمة حسنة تصدر عن رجال مخلصين أمناء لأن إدارة ميزان كل حكومة وقوام كل مملكة كما أن الرجال سياج الأمة يذوبون عن حوضها ويدرؤون طوارئها فيذهبون بها من غمرات الخلل إلى سواحل النظام والسعة كما قال أنو شروان الملك بالجند والجند بالمال والمال بالخراج والخراج بالعمارة والعمارة بالعدل والعدل بإصلاح العمال واستقامتهم وتنفيذهم أوامر الشريعة المفروضة من الله.
فإذا كانت شريعتنا من أقوم الشرائع ونظامنا من أحسن النظامات وحكومتنا لا تعمل به فهو لغو ومعتبر حين تسير بموجبه الحكام فتحدد بالسوية حقوق الكل وواجباتهم. التعليم إجباري بمملكتنا المحروسة ولكن من يرد عليه هذا الأمر ولا يسقط في يد ومن يعمل به من الحكومة؟ توسيع الطرق وتطهير الشوارع وتسهيل أسباب النقل ومراقبة أسعار ضروريات الإنسان من واجبات المجلس البلدي في كل ولاية مثلاً ولكن هل تسير أعضاؤه عَلَى خطة واجباتهم فتحافظ عَلَى راحة الشعب ورفاهته وتوسع الطرق وتطهر الشوارع حتى قال بها أحدهم مرة إن أهالي دمشق تود لو تزرع الشجار في شوارعها لتكثر الأمطار فنتخلص من الغبار الذي لا يسكنه غير مياه السماء. شريعتنا تحرم الرشوة بالطبع فتقول ما حرم أخذه حرم إعطاؤه ولكن العاملين بها قلبوا الآية فحللوا الأخذ والعطاء. التصرف عَلَى الرعية - كما ورد في القانون - منوط بالمصلحة فيلزم أن يولى المناصب أهلها ولا يكلف الناس ما لا يحتمل ويدفع الظالم عن المظلوم ويؤمن السبل ويدفع الأذى ولكننا نحن نقلد الوظائف لمن لا يصلح لها فنضع الشيء بغير موضعه ونساعد الظالم عَلَى المظلوم وإن كنا ندري بأن ذلك مبدأُ الخلل. .
وخلاصة القول أن شريعتنا من أحسن الشرائع وأقومها ولو نعمل بموجبها ولكن فساداً طرأ عَلَى أفكار العاملين بها فغيروا المعاني وصحفوا الألفاظ وحرفوها طبقاً لمآربهم ومقاصدهم. الكلية بيروت:
حبيب جرجي كحالة