مجلة المقتبس/العدد 8/نوع من نقد الشعر
مجلة المقتبس/العدد 8/نوع من نقد الشعر
(قل في رجال الأدب قديماً وحديثاً من تكتب لهم الإجادة في النظم والنثر وقد عرف مصطفى صادق أفندي الرافعي بين قراء العربية بأنه من أفراد الشعراء البلغاء ولو أنصفوه لوصفوه بالكتابة كما وصفوه بالشعر. والنبذة التالية مقتبسة من مقدمة الجزء الثالث من ديوانه وهو تحت الطبع وفيها نموذج من نثره).
الشعر تصوير عالمٍ من المعاني والألفاظ فالمجيد من جعله مختصراً من صورة العالم كله. ولابدَّ فيه من شعاع من الروح إذا تجردت له النفس امتزجت لطافتها بلطافته. وربما أخذ المرء بلذة التصوير فظنها في مكان نفسه وحسب نفسه في مكانه.
ونحن ناظرون إلى نقد الشعر من هذه الجهة التي يتمثل فيها حياً من الأحياء. تتنازع أنواعه البقاء. فقد أفاض المتقدمون في الأسباب التي يحسن بها ما يحسن من ظاهره وبقبح منه ما يقبح. وجردوا الكتب في طبقات الألفاظ ومخارج الأشعار وسقطات الكلام وألطفوا النظر في وجوه المعاني ومواضعها. وأصابوا منها صفة التمكن في مبادئها ومقاطعها. وإنك لتجد فيما وضعوه من علوم البلاغة البحر الزاخر بهذه الأمواج. والفلك الدائر بتلك الأبراج.
يرتقي المبتدئ في الشعر من مطلق النظم الذي هو النمط المصطلح عليه في إقامة الوزن إلى الفكر فيما يجيء به. فإذا صارت له هذه المنزلة أدته إلى الخيال. فإذا ارتفع شيئاً بعد ذلك فهو في جو الروح الذي يسمونه التصور وهناك حدُّ الطبيعة القائم. وحجاب الغيب القاتم. فيكون في منزلة بين الوحي والإلهام ويمر هناك خاطره على النفوس كما ينتقل على الأرض ظل الغمام.
وتلك هي أطوار الشعر من طفولته التي يعبث فيها بكل شيءٍ ولا يفقه شيئاً. إلى شبيبته التي يتماسك فيها وقاراً ويندفع إلى شدته التي تعتصم بها الحكمة وتمتنع. إلى مشيبه الذي هو نور الجمال. والحظ المقسوم له من الكمال.
والشاعر في الطور الأول كالصبي في يده القوس يغرق في نزعها ما يغرق ثم لا يكون إلا أن يسمع لها أرناناً ضعيفاً فلا هو غلب وهمه. ولا رمى سهمه. فإذا اشتد ساعده وانتقل إلى الطور الثاني كان في منزلة بين الخطأ والصواب. فإذا بلغ إلى الثالث أحكم التسديد. واستوى عنده في الإصابة ما كان من قريب وما كان من بعيد. ومتى صار إلى الط الرابع وهو منتهى كماله حسب توزع الطير في الجو لمخافته. وتفرق الوحش في البر لمهابته. وصارت هي السهم لأنه في أثرها. ولفظته عن القنيصة هي القضاء لأنه في خبرها.
وما يكن من عيب في الشاعر فلن تجد فيه كتسلط فكره عليه وعبثه بقوافيه فتراه ينظم الكلمة أبياتاً لا معرفة بين أولها وآخرها ثم يجيء بعد جفاف الريق وتخلخل اللسان وانقطاع النفس فيمضي فيها اختياره ويأخذ في التوفيق بينها وهي متنافرة. ويعمل على التعريف وهي لا تزال متناكرة. فمثل الكثير من هذا الشعر مثل الكلمة المفردة إذا نطقت بجملتها أدت إليك معناها على أتم ما يكون فإذا فككت أحرفها ولفظتها حرفاً حرفاً انقلبت إلى قول هراء. ولم تزد على أن تكون أصواتاً ذاهبة في الهواء. وأولئك هم الذين قال في شعرهم ابن ميادة أنه كلفة وتملح.
فإذا لم يكن فكر الشاعر عند إرادته ولم تكن إرادته عند اتجاه عواطفه أخذت عليه منافذ القول فاختل. واضطربت جهات رأيه فانحل. وصار من نضوب المادة في أخره أمره كمن يكتب بقلم ليس عليه إلا مسحة من ردع المداد فكلما كدَّه جمد. وكلما هزَّه ركد. فإذا كتب مع ذلك جاء الحرف مفرق الجهات لئيماً في الحروف فلا هو كتابة ولا هو محو.
ولقد يحار المرء إذا نظر في شعر العرب ورأى الكثير منه لا يتعدى الوزن والتقفية ولكن أكبر حظ القوم من شعرهم أن ينقلوا الكلام إلى نمط يتفق مع النغم كما ترى في غناء هذه الأيام فهو لا يزيد عن سائر الكلام إلا النمط والإيقاع بحيث أنك لو سمعته وقد جرد من ألحانه لخرجت منه على حساب ما دخلت فيه لا طرب ولا عجب.
والغناء على أي وجوهه ينقل النفس من تنقيبها بين الألفاظ عما هو حسن وغير حسن إلى تحركها على الألفاظ نفسها. وإنما النظم العربي أوزان موسيقية. فكل من جاء بعد العرب من الشعراء لا ينظر إلا في أعطاف اللفظ وتلاحم الكلمات وانتظام تلك المعاني القديمة فهو من الجاهلية الثانية وإن كان الأولون قد سموا جاهلية لعبادة الأوثان. فهؤلاء لعبادة الأوزان.
ويكاد شعر العرب ينحصر في غرضين الشاهد والمثل فقد كانوا لا يطلبون من الشعر غيرهما كما لا يطلبون من الخبر إلا الأيام والمقامات. وكان أبدع ما يروج عنهم من أجل ذلك مساق الخبر ومضرب المثل ومقطع الحكمة. والحكيم فيهم يومئذ نبي.
ومن هنا تجد مثار الخلاف بينهم في قولهم هذا أشعر الناس في كذا وذلك أشعر الشعراء وغيرهما أشعر الإنس والجن. وهلم جرا
وما عدا ذلك ففي شعرهم من الطرف المستنكرة ما بغلط على الطبع ويثقل على الذوق فمنهم من يشبه وجه الحسناء ببيضة النعام. ومنهم من يشبه جسمه الناحل بأشلاء اللجام. . . إلى غير هذا مما تهجنه الحضارة ولهم مع ذلك وجه عذر فيه ومنفسخ للوم عنه. وإنما ذكرناه مأخذاً أكثرها صدأ الركاكة وغبار القدم. . . فتراجع الشعر بينهم وتعطلت قرائحهم حتى أصبحوا في اتصالهم بمتن أولئك الشعراء كما شبه أبو هفان شعر آل أبي حفصة الذين كان آخر شعرائهم متوج وكان رجلاً ساقطاً وذلك في قوله: (شعر آل أبي حفصة بمنزلة الماء الحار ابتداؤه في نهاية الحرارة ثم تلين حرارته ثم يفتر ثم يبرد. وكذا كانت أشعارهم إلا أن ذلك الماء لما انتهى إلى متوج جمد. . .).
وأعجب شيءٍ رأيته في تاريخ الشعر أنه كان عصرٌ يسمون فيه المولد (بالرقيق) ثم صار هذا الاسم علماً بالغلبة وأطلق على الغزل السبط والرثاء السائل ثم عدوا منه أنواعاً عرفوها (بالألفاظ الملوكية) وأجروها في بعض التشبيهات والأوصاف وما إليها. كأن الشعر كان مقضياً عليه أن يبقى في الموتى حتى يموت الأحياء. وأن يكون أهله نصباً على جانبي تلك البطحاء التي كان فيها شعراء الجاهلية. . . وحسبك أن أعداء ابن المعتز لم يزروا على غير نحته وسبكه ولم يحاولوا إسقاطه إلا من بينهما وهو بالإجماع في السطح من طبقات الشعراء.
ومنتهى الحمق أن يتخذ مولد ذلك النمط الجاهلي فإن السر في بقاء شعر الجاهلية والمخضرمين بعد أهله حاجة الرواة والعلماء إلى الشاهد منه فلما أسقطوا الاستشهاد بكلام المولدين لما يدخل عليهم من الغلط ولضعف الثقة بلغتهم سقطت هذه الطبقة بعلة طبيعية وهي سنة (بقاء الأنسب).
والعرب إنما ابتدأت الشعر بما كان عندها من جزالة اللفظ وإتقان بنية القريض وأحكام عرض القافية ونحوها مما هو طبيعة فيهم فكان على من يخلفهم أن يأخذ في زخرف البناء وزينته بعد أن يكون قد تم منه ما لم يتم وهو الذي فعله أبو تمام والمتنبي ومن في طبقتهما من أهل القوة والكفاية ثم كان على من يجيء بعد هؤلاء أن يزيدوا من تحف عصورهم ومدنيتها طبقة بعد طبقة حتى يكون ذلك المرضع ديواناً للتاريخ ترتب فيه العصور. وتقف على أبوابه الدهور. ولكنا نجد إلى عهدنا طوائف تنقض ذلك البناء وتقيم على أساه فلا يلبث أن يقع الاثنان معاً.
والشعر أقسام كانت محدودة على ما نوعها أبو تمام في حماسته ثم جاء من تفنن فيها وذهب كل مذهب كابن أبي الإصبع وغيره. وقرأت أن البديع الأسطر لأبي رتب ديوان ابن حجاج على مائة وأربعين باباً وواحد. ثم قفي كل باب وجعله في فن من فنون شعر الرجل.
ولكن الذي قطع بالشعر العربي دونه إنما هو النوع الذي يسميه الإفرنج بالشعر القصصي ومنه الملاحم الكبرى عندهم كالإلياذة وغيرها. والبسيط منه نادر في العربية بل هو في بسطتها كالظل شيء كلا شيء.
ذلك لأن الشعر العربي روح هذه اللغة وهو من اللطافة بحيث لا يضيء فيه المعنى إلا بشعاع من الخيال. فإذا أردت أن تقيم منه حديثاً سويَّ التركيب. كامل الترتيب. زوت عليك القافية وتقطع الشعر فلا تدري من أين تأخذ ولا من أين تدع. كالنور اللطيف تحاول أن تلقي عليه كثافة الغطاء فإذا هو منبسط فوق ما تلقي فمهما تأت من ذلك لا تكون قد صنعت شيئاً.
ورأس هذا الأمر عندنا على ما يقول شبيب بن شبة حظ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة أرفع من حظ سائر البيت فلا بد لهذا النوع في لغتنا من وضع جديد يكون وسطاً بين النثر والنظم حتى يحمل الألفاظ والمعاني معاً فيتعلق فيه الشعر بالنفس ويمتد السباق على النفس كما فعل الأندلسيون في وضع الموشحات لحاجتهم التي بعثتهم عليها والعصر يومئذ لهو وترف. والأدب مجد وشرف.
وأساس هذا الشعر سلامة الذوق فهي الحاسة التي تتجه بها النفس إلى المعاني وتنقلب عنها. بل هي العين المركبة في الروح تجمع جمال الطبيعة في نظرة واحدة فتنقله إلى الإحساس كما تمد العين الباصرة بمرئياتها وهي المخيلة. ومن الشعراء من يكون سقيم الذوق فهو في نظره إلى الشعر مع فساد ذوقه كاللص في نظرته إلى الحسناء إذا وسوس حليها في وسمعه. يغفل منها عما ينتبه إليه الناس وينتبه لما يغفلون عنه.
ومن هؤلاء طائفة الشعراء المصنعين وهم الذين لاحظ لهم إلا في (الصنعة الشعرية) وفنونها لا تعد فيجيئون بالقصيدة كلها رقع ثم يتنافسون في هذا التصدير ولا يدرون أن الثوب الساذج من قطعة واحدة خير من هذه الرقع كلها وإن كانت من أنفس الخز والديباج وانظر ما يكون موقع هذا الثقل من الأدباء فقد أراد ديك الجن الشاعر مرة أن يهول على دعبل ويقرع سمعه فأنشده بيتاً مضطرباً. . . فقال له دعبل اسكت فو الله ما ظننتك تتم البيت إلا وقد غشي عليك أو تشكيت دماغك. ولكأني بك في جهنم تخاطب الزبانية أو تخبطك الشيطان من المس.
والعلة الطبيعية في بؤس الشعراء هي ذلك الإحساس المتصل بالنفس فكلما غمزته المؤثرات تحول منه بمقدار الضغط بخار روحاني ينتشر حولها وذلك هو الشعر. وقد ترى النفس فيه ضوءً كأنه تبسم القلب الحزين الذي تشابه جلال الطبيعة بجلاله. لأنها مخلوقة في رأي النفس على مثاله.
وقد يكون للشاعر متسع في غلوه وكبريائه على هذه الطبيعة إلا في العواطف التي هي روابط القلوب بالقلوب. وموضع الصلة بين ما في الوجود وما وراء الغيوب. فقد يضرب في كلامه بسيف لم يطبع. ويرمي بقذيفة لم تصنع. ويقطع من خيوط الحياة ما لم يقطع ولكنه فيما دون ذلك لا يقدر أن يذكر الحب من قلب لم يحب. ويثبت للشيء الذي لم يجر عليه حكم الوجوب شيئاً مما يجب. فإذا هو فعل أطفأت الطبيعة من روائه. وقامت عواطف الناس شاهدة على كذبه في ادعائه. وقد ذكروا أن كسرى سمع الأعشى يتغنى ذات يوم بقوله:
أرقتُ وما هذا السهادُ المؤرقُ ... وما بيَ منْ سقمٍ وما بيَ معشقُ
فقال ما يقول هذا العربي؟ قالوا يتغنى بالعربية فأمر أن يفسروا قوله فقالوا زعم أنه سهر من غير مرضٍ ولا عشق. فقال هذا إذا لص. . .؟
وللشعر أساليب تنتجها القرائح ولكن جماع القول فيها أنها تمثيل للطبيعة فكأن الشاعر ينقل مناظر الأرض إلى الروح العالية التي ترسل إلى الجسم شعاع الحياة فتزيد تلك المناظر في قوة الشعاع الإلهي فلا يتصل بالجسم حتى تفيض هذه القوة على القلب فتهزه الهزة التي نعزف منها الطرب.
فأي امرئ اجتمعت له قوة التمثيل وسلامة الذوق وهما يكونان عند سعة العقل وسمو الطبع فذلك الذي هو في معناه بين الملك والإنسان وهو الشاعر.