مجلة المقتبس/العدد 8/مكتبة الإسكندرية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 8/مكتبة الإسكندرية

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 9 - 1906



(نشر المقتبس في الجزء الثالث مقالة ملخصة من كتاب تركي في نفي تهمة حريق مكتبة الإسكندرية عن عمرو بن العاص وعمر بن الخطاب بالأدلة التاريخية ولما اطلع عليها العلامة المتفنن الشيخ شبلي النعماني أحد كبار دعاة الإصلاح في البلاد الهندية بعث لنا برسالة له كان كتبها بالإنكليزية في معنى حريق المكتبة الإسكندرية فدفعناها إلى صديقنا محمد لطفي جمعة فعربها ملخصة على ما ننشرها. وفي مأمولنا أن لا يحمل القراء هذا الموضوع إلا على إرادة تصحيح خطاءٍ تاريخي إذ ليس في نسبتها لأحد رجال الإسلام ما يدعو إلى الطعن في الدين نفسه كما أنه ليس في نسبتها لبعض رجال النصرانية طعن عليها بالذات والمجلة علمية أدبية اجتماعية وهذه الأبحاث هي موضوع اهتمامها أبداً). قال العالم الهندي:

إن ما يوجهه الغربيون عامة من اللوم إلى المسلمين ويتهمونهم به من إحراق مكتبة الإسكندرية ليس سوى أحد أمور كثيرة ظلم فيها الغرب الشرق ووجه الأغيار إلى المسلمين سهام اللوم بغير حق وقد سرى هذا الاعتقاد إلى جميع المشتغلين بالعلم والأدب من الإفرنج بحيث لا تجد كتاب علم أو قصة أو تاريخاً أو خرافة أو مثلاً سائراً إلا وفيه ذكر لإحراق مكتبة الإسكندرية وتقريع للمسلمين الذين أحرقوها وقد دخلت مكتبة الإسكندرية حتى في القضايا المنطقية وهي من العلم الصراح الذي لا ينبغي أن يشاب بالأغراض والأهواء وهاك سؤالاً منطقياً وضعه الممتحنون في سنة 1882 في مدرسة كلكتا الجامعة ورد فيه ذكر المكتبة:

بين خطأ القضية الآتية: إن الكتب التي تتفق مع القرآن في شيءٍ لا فائدة منها لوجوده والكتب التي تخالفه يجب إتلافها.

لم يكتب تاريخ كبير في حوادث العالم إلا وورد فيه ذكر مكتبة الإسكندرية. وكثيراً ما كان كبار المؤلفين يشفعون الحادثة التاريخية برأيهم الخاص في هذا الموضوع مظهرين خطأ التهمة أو صوابها ويحسن بنا في مثل هذا المقام أن نأتي على الكتب التي استند عليها المؤلف في المراجعة قبل كتابة هذه الرسالة فأول هذه الأسفار تاريخ رومية تأليف العلامة جيبون ونحن نوجه الأنظار إلى ما كتب في هذا الكتاب عن فتوح الإسكندرية وثانيها كتاب اجيبتكا أو ملاحظات فلسفية على بعض الحوادث التاريخية تأليف الأستاذ هو اللغة العربية في مدرسة اكسفورد الجامعة وفي هذا الكتاب ناصر المؤلف القائلين بإنهاء المسلمين بإحراق المكتبة.

ثم كتاب الخلفاء الراشدين تأليف وشنجتون ارفنج صحيفة 113 ثم كتاب تاريخ العرب صحيفة 254 ثم تاريخ بلاد العرب قديماً وحديثاً تأليف العلامة اندريو كريستون صحيفة 393 ثم تاريخ نزاع العلم والدين تأليف العلامة درابر الشهير صحيفتا 103 و104 ثم مقالة دائرة المعارف الإنكليزية الكبرى عن الإسكندرية ثم تاريخ العرب العام تأليف العلامة سدليو. ثم شرح العلامة دي ساسي على تاريخ عبد اللطيف البغدادي وفيه كلام مطول وبحث ممل عن إحراق المكتبة ثم رسالة الهير كريل العالم الألماني التي تليت في مؤتمر المشرقيات في جلسته الرابعة في فلورنسا سنة 1878.

وأغلب كتاب هذه الكتب سيما من يثبتون هذه الإشاعة يبرئون أنفسهم بقولهم أنهم لم يأتوا بها من عند أنفسهم بل هم يستندون في تقرير هذه الحقيقة إلى ما كتبه العرب أنفسهم في كتبهم وما دونوه في تواريخهم.

وأول من أشاع هذه الإشاعة في أوربا رجل اسمه أبو الفرج وهو ابن رجل من بني إسرائيل اسمه هرون الطبيب. وقد ولد أبو الفرج هذا في ملاطية سنة 1226م. وانتحل أبوه المسيحية فنشأ الولد عليها وتفرغ في صباه لدرس فقهها وتمحيص حقاق تلك العقيدة وكان يحسن العربية والسريانية ولما ظهر علمه وبان فضله عين أسقفاً لجوبا وهو حينئذ في الحادية والعشرين من عمره ومازال يرتقي درجات الكهنوت حتى صار رئيس طائفة اليعاقبة ولم يكن فوقه سوى البطريرك وكتب أبو الفرج تاريخاً جمعه من مصادر شتى عربية وفارسية وسريانية ويونانية واختصره في سفر صغير كتبه بالعربية وسماه مختصر الدول وكان هو أول من ذكر خبر إحراق مكتبة الإسكندرية فلما نقل الكتاب إلى اللاتينية سنة 1664 بدأت الإشاعة تتفشى في أوربا بأسرها. وإليك ما ذكره جيبون في تاريخه بالحرف: وقد ذكر ارفنح وكريستون وفلين وغيرهم أن ما أشيع عن الإسلام والمسلمين من المساوئ لم يكن له ذكر قبل نقل هذا الكتاب مختصر الدول إلى اللاتينية ومن ذلك الحين ابتدأ الغربيون يبغضون المسلمين ويحتقرونهم وهاك ما جاء في مختصر الدول بهذا الشأن:

ولما أحب عمرو يوحنا فيلوبونوس لعلمه وأدبه وقرَّبه من مجلسه وأدناه من نفسه وصارت ليوحنا دالة على عمرو لقيه يوماً وقال له: لقد ملكتم كل شيء في هذا البلد (الإسكندرية) بعد فتحه. فنحن لا نعارض في امتلاككم ما ينفعكم كما أنني لا أرى مانعاً من أن ننتفع بما لا تريدون فسأله عمرو عن غرضه فقال أريد ما في المكاتب الملكية من الكتب والمؤلفات الفلسفية.

فقال عمرو لابد لي أن أسأل الخليفة في ذلك وكتب إليه يشاوره في الأمر فاتاه من عمر هذا الجواب.

إذا كانت الكتب التي تشير إليها تتفق مع كتاب الله فلا حاجة لنا بها وإذا كانت تخالفه فإتلافها خير وأولى.

فوزع عمرو الكتب على حمامات الإسكندرية وأمر بإحراقها لإحمائها فاستمرت النار ستة أشهر تأكل الكتب. فاقرأ وتعجب ما جاء في مختصر الدول.

وقد انتشرت الإشاعة في أوربا على هذه الصورة وكان العلامة جيبون أول من نبه الناس إلى خطئها فإنه قال في كتابه إنني لا أعتقد بصحة هذه الرواية لأسباب قوية منها أن أبا الفرج بن هرون ولد بعد فتوح الإسكندرية بخمسة قرون وجاء قبله كثيرون من المؤلفين والمؤرخين ونحن لم نجد لهذه الإشاعة فيما كتبوه عن مصر ذكراً فكيف نعتمد على قوله ونحله من الصدق غير محله.

وقد نبه جيبون بذلك أذهان علماء الغرب فانقسموا قسمين قسم نهض لمناصرة جيبون وقسم قام لمعارضته ومناهضته ومن هؤلاء المستر كريستون الذي كتب تاريخاً للإسلام فإنه قال:

لو فرضنا أن أبا الفرج كاذب فيما قال واستنسينا عن روايته فإننا لا نستطيع أن نغض الطرف عن غيره من كتاب المسلمين أنفسهم أمثال عبد اللطيف البغدادي والمقريزي وكلاهما ذكر القصة في تاريخه بالتطويل. وكذلك قال الهير كيريل وهو يقول أن عبد اللطيف أول من ذكر هذه الحادثة وهو أيضاً ولد بعدها بخمسة قرون.

وإذ أن منبع هذه الإشاعة هو ما كتبه مؤرخو العرب فنحن أعلم بما كتبه هؤلاء من غيرنا والمثل العربي يقول وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.

ونحن نعلم أن الإفرنج الذي أيدوا الإشاعة اعتمدوا في كتبهم على ما كتبه عبد اللطيف والمقريزي وحاجي خليفة وقد سرت عدوى التقليد إلى بعض جهال المؤلفين فنقل أحدهم الخبر وعزاه إلى ابن خلدون مما دل على أنه لا يعرف من العربية وكتبها شيئاً. ومن العجيب أنه ينقل ما نقل عما كتبه ابن خلدون عن عمر هذا على شهرة الكتاب بين قراء العربية وعلمهم بأنه لم يحدث لهذه القصة الكاذبة ذكراً.

أما كتاب المقريزي فها هو بين أيدينا ففي الجزء الأول من ص151 وصف المؤلف عمود السواري وهو أحد الأعمدة الشهيرة بالإسكندرية نقلاً عن عبد اللطيف البغدادي حرفاً بحرف. أما مكتبة الإسكندرية فقد ورد ذكرها عرضاً في تاريخ المقريزي ولذا يرى الموسيو لانجل أن ما كتبه المقريزي عن المكتبة لم يجيء في كتاب المقريزي إلا عرضاً أيضاً.

ومن الغريب أن المؤلفين من الإفرنج ممن لم يروا تاريخ المقريزي مرة في حياتهم ويشيرون إليه في كتبهم وإلى سابقه تاريخ عبد اللطيف. أما الموسيو لانجل فقد قرأ تاريخ المقريزي في لغته بالحرف ونقل منه تاريخ فتوح الإسكندرية نقلاً وافق فيه الأصل فلم يرد لمكتبة الإسكندرية في خلال ما كتب ذكر أو شبه ذكر.

وعليه فلا يبقى لدينا إلا مؤرخان هما عبد اللطيف وحاجي خليفة وكثيراً ما يشير مؤرخو الإفرنج إلى الأخير ولكنهم لا يقتبسون منه حرفاً. وقد أراحنا دي ساسي من عناء بحث طويل في هذا الموضوع بأن نقل ما كتبه حاجي خليفة بهذا الشأن وهو:

اهتمَّ الناس في صدر الإسلام بدرس فروع الشريعة وفنون الطب لاحتياجهم إلى الأمرين وضربوا صفحاً عما سواهما. ولما كانت العقيدة لم تثبت بعد ولا تزال مقلقة في قلوب الكثيرين ممن انتحلوا هذا الدين رأى أولو الأمر أن يحرقوا ما وجدوه من كتب العلم والحكمة في مكاتب البلدان المغلوبة لئلا يجد الشك سبيلاً إلى قلوب المسلمين.

ويرى القارئ أن حاجي خليفة نفسه لم يذكر الإسكندرية أو مكتبتها بحرف إنما ذكر أمر احتراق الكتب عامة ولم يعين مكاناً وهذا نوع من التعمية والنقص في التاريخ لا ينبغي الركون إليه أو الاعتماد عليه فلم يبق بعد إلا عبد اللطيف البغدادي وهو الذي كتب كتاباً فيما شهده في مصر وقد فرغ من تصنيفه في العاشر من شهر شعبان سنة 603 للهجرة. وقد جاء فيه من الأغلاط والأكاذيب في وصف منارة سافاري ونسبتها إلى أرسطو والاسكندر وغيرهما ما يزعزع الثقة فيما كتبه هذا الثقة. وقد ذكر هذا الهير كيريل في رسالته التي قرأها على أعضاء مؤتمر علماء المشرقيات.

على أن لدينا دليلاً آخر لهدم ما بناه عبد اللطيف لو فرضنا صدقه. وهو أن عبد اللطيف البغدادي على سعة عمله وفضله لم يكن مؤرخاً بل كان طبيباً حاذقاً ومن يقرأ كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء يعرف فضل عبد اللطيف في الطب وفروعه ولا يخفى أن من يطلب من الطبيب أن يكون مؤرخاً كمن يطلب من المؤرخ أن يكون طبيباً ولو أن ابن سينا والفارابي أو أحدهما كتب لنا حادثة تاريخية هل يجب علينا أن نثق بها ونعول على صدقها مع علمنا بأنهما اختصا بفرع من العلم غير فن التاريخ؟

أضف إلى ذلك أن عبد اللطيف لم يكن مؤرخاً بل كان كتابه عبارة عن مجموعة حوادث رآها في عصره وأحب أن يدونها بدون إمعان نظر أو أعمال فكرة.

وبعد فإن الواقف على حقيقة التاريخ يعلم حق العلم أن مكتبة الإسكندرية أحرقت قبل دخول الإسلام إلى مصر إذ لا يخفى أن ملوك الوثنيين هم الذين أسسوها فلما جاءت المسيحية إلى مصر وكانت في نشأتها متعصبة لدينها وعلومها بتحريض القسيسين والكهنة سعى أهلها في إحراق الإسكندرية وقد سلم بذلك كثيرون من كبار العلماء في الغرب ومنهم العلامة ارنست رينان الذي ألقى خطاباً اسمه الإسلام والعلم في المجمع العلمي الفرنسي وذكر فيه أن العلم والدين الإسلامي يجتمعان ولكنه عندما وصل إلى ذكر مسألة مكتبة الإسكندرية قال أنه لا يعتقد بأن عمراً هو الذي أحرقها لأنها أحرقت قبله بزمن طويل.

وكذلك ذكر العلامة درابر في كتابه أن يوليوس قيصر عند قدومه إلى مصر لنجدة كلوبطرة أحرق نصف المكتبة وقلده بطارقة الإسكندرية فأحرقوا البقية وذكر اورسيوس أنه رأى بعينه أماكن الكتب خالية منها بعد أن صدر أمر الإمبراطور ثوديوس بإحراقها.

أما وقد انتهى ما لدينا من الأدلة بطريق النقل فنحن نعمد الآن إلى العقل فقد جاء من الرواية التي أثبتنا كذبها أن الكتب وزعت على حمامات الإسكندرية وبقيت تشتعل ستة أشهر وكتاب الإفرنج يقولون أن حمامات الإسكندرية كانت في ذلك الحين تزيد على أربعة آلاف فما مقدار تلك الكتب التي تحرق في ستة أشهر في أربعة آلاف حمام؟ ثم لننظر في مسألة أخرى تحتاج إلى تحكيم العقل: وهي هل يعقل أن عمراً وهو الذي اشتهر بحب العلم وأهله وتقريبهم من مجلسه واكبر دليل على ذلك تقريبه ليوحنا منليوبوس أن يعمد إلى إحراق كتب ثمينة امتدحها له صديقه ولو قيل لنا أن عمراً لم يكن حر التصرف نقول لابد أن يكتب على الأقل كلمة في نفاسة المكتبة في كتاب إلى عمر ولا نظن أن الخليفة كان يخذله في أمر كهذا لما للفاتح عنده من المقام والمكانة. مثال ذلك أن الخليفة لم يكن يريد فتح مصر ولكن عمراً أخذ ذلك على نفسه فأطاعه الخليفة في فتح مملكة فكيف لا يرضى له إبقاء مكتبة.

ومما يدل على أن المكتبة لم يكن لها وجود في عهد عمرو أنه لما كتب تقريره المطول إلى الخليفة بعد فتح الإسكندرية جاء فيه: وفي هذه المدينة أربعة آلاف حمام وأربعة آلاف دار لها شرفات وأربعون ألف إسرائيلي يدفعون الضرائب وأربعمائة مكان للرياضة والتنزه واثنا عشر ألف حديقة تخرج الأثمار فهل يعقل أن الرجل الذي لا يغفل في تقريره الحدائق والديار أن يهمل ذكر مكتبة الإسكندرية لو كانت موجودة في عهده على ما لها من الأهمية ونحن نختم هذه الرسالة ببيت من الشعر الإنكليزي: إننا نوجه إليهم سهام اللوم وليس جديراً باللوم سوانا.