مجلة المقتبس/العدد 8/صدور المشارقة والمغاربة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 8/صدور المشارقة والمغاربة

مجلة المقتبس - العدد 8
صدور المشارقة والمغاربة
ملاحظات: بتاريخ: 19 - 9 - 1906


كيتي

1749_1832

ليس الغنى أبداً مفسدة لصاحبه معواناً على الشر والأشر كما أن الفقر لا يهذب النفوس ويربي الملكات. فابن الغني إذا حسنت تربيته وجاد تعليمه يجيء منه رجل قلما يجيء مثله من أبناء الزعانف والسوقة. وليست هذه القاعدة على إطلاقها في البلاد الراقية والبلاد المنحطة ففي الشرق اليوم لا يتعلم ويتهذب سوى ابن الفقير ويندر أن يشيع العلم والتهذيب بين أبناء الأغنياء كما تشيع الفاحشة وسوء السلوك. والحال في الغرب على العكس من ذلك إذ ترى هناك لأولاد الأغنياء حظاً من العلم وسهماً من التهذيب. شاع ذلك بين أهله منذ نهضوا نهضة الشمير الخبير لتلمس أسباب الحضارة وكثر ذلك بين أظهرهم في هذا القرن والذي قبله فبات الغني موقناً بأنه لا يستوفي الظرف ويذهب بفضل الشهرة وتنهال عليه ضروب المحمدة إلا إذا تهذب التهذيب الحقيقي وتعلم التعليم العالي وهما داعية مجده وفخاره لا واسع عقاره ووافر نضاره.

وكيفما تقلبت الدنيا بأهلها فإن الموسر خير من المعسر على نحو ما سيرد عليك في ترجمة كيتي أحد أعاظم شعراء ألمانيا ورجال نهضتها العلمية والأدبية. فقد قيل في ترجمته أنه كان من أسعد السعداء خدمه الحظ وهيأ له عامة الأسباب وتمكن من الانتفاع بالمواهب العالية التي وهبته الطبيعة إياها. ولم يكن كصاحبه شيلر مضطراً معوزاً بل كان السعد يبسم له والرفاهية طوع أمره وهو من أسرة شريفة كان والده مستشاراً للمملكة وفقيهاً مشهوراً ورجلاً فاضلاً مهذباً أما والدته فكانت سليمة الصدر جيدة الفطرة توفرت على تربيته وتثقيف عقله ولطالما كانت تلقنه في طفوليته قصصاً ثم تقطع عليه سلسلتها ليتصور ماذا يكون تاليها.

ولقد استحكم الجمال من شعور هذا الشاعر حتى لم يكن يطيق أن يرى ولداً بشع الصورة أمامه فكيتي والحالة هذه جمع إلى الغنى مالاً مثل اللورد ليتلتون الإنكليزي وفيكتور دروي الفرنسي وهو من بيت غني ومجد يضاف إليهما حسن تربية والدته فقد كانت والدته تدربه على الأخلاق الفاضلة وتسوقه إلى المنازع الشريفة أما والده فكان يعلمه ويلقي عليه ويكلمه منذ صغره بالطليانية والفرنسية وكان يحسنهما ولاسيما الطليانية لأن طول مقامه في إيطاليا حبب إليه لغتها وفنونها فشغف بها. ولما ترعرع كيتي أحكم هاتين اللغتين مع لغته وظهرت عليه إمارات الميل إلى الشعر كما عرف بحب النقد والولوع بالعلوم فمال بادئ بدء وهو في الحادية عشرة إلى شعر راسين من شعراء الفرنسيين ثم أنشأ يرتاح إلى شعراء الرومان واليونان. وفي سنة 1763 دخل مدرسة الحقوق في ليبزيك وكان يأوي إلى دار عجوز لها فتاة فشغفته حباً فنظم فيها رواية هزلية واعتاد مذ ذاك العهد على نحو ما قال عن نفسه أن يصيغ في قوالب الشعر كل ما كان في الواقع يوليه فرحاً أو ألماً ويروض العقل ويربي النفس وعاد إلى بيت أبيه من المدرسة سنة 1768 بعد أن فارقه ثلاث سنين وقد أيقن أن الآداب الألمانية ضعيفة متأخرة ثم رجع بعد مرض اعتراه إلى ستراسبورغ سنة 1770 وأقام فيها حولاً كاملاً كان نافعاً له في تهذيب عقله وتخطيط خطة يجري عليها في حياته. قالت الدائرة تعلم كيتي في ليبزيك ما ينبغي اجتنابه وعرف في ستراسبورغ ما ينبغي عمله. وفي سنة 1771 أتم دروس الحقوق. وكان في خلال الدراسة يضرب في فنون الشعر ويهيم في أوديته وشجونه.

وبينما كان شاعرنا ينشر طرف أقواله أو يعدها للنشر كان يتقرب من كبار رجال عصره ويستميل قلوبهم إليه ويحرص على عقد الصلات الأدبية معهم فطاف كثيراً من بلاد ألمانيا وسويسرا وإيطاليا وتعرف إلى رجالها وفلاسفتها وعظمائها ثم تولى منصباً سياسياً في الحكومة. ولم تكن مشاغله لتحول دون أعماله العلمية. فكنت إذا رأيته حسبته منقطعاً عن كل عمل ليس لقلمه في ميدان التأليف جولة وأن المتاعب العالمية صرفته عن وجهته العلمية على حين كان عقله يفكر ولسانه يحبر ويعبر.

ولقد ثبت أن وظيفته ما كانت إلا باعثة له على الاستزادة من المعارف. ولو كان يريد أن ينحو منحى قدماء الشعراء لانقطع في غرفته واعتزل الناس ومخالطتهم ولكن كان يطمح إلى أن يجمع في شعره مثال القدماء إلى ما يتأثر به ويتعرف به بذاته من أحوال المجتمع.

وفي سنة 1788 تزوج الشاعر بفتاة اسمها كرستيان فولبيوس شقيقة أحد الكتاب فنظم في التقائه معها قصيدة من الشعر قال فيها ما ترجمته:

كنت أتنزه في الغابة سائراً في طريقي ولا شيء يعنيني ولا فكر ينازعني فرأيت في الظل وهرة مطلة تلمع كالنجم الثاقب وهي كالنظرة جمالاً

أردت أن أقطفها فتقدمت إليَّ بلطف تقول هل يكون ذلك منك ليقضي عليَّ أن أذبل وأنت تجنيني وتقطفني

فعندها أخذتها من أصولها وحملتها إلى الحديقة التي هي زينة داري

وما هو إلا أن أعدت غرسها في مكان ساكن وها هي الآن مخضرة مخضلة تزهر على الدوام.

ولقد عيب على زوجته أنها لم تكن في الدرجة المطلوبة من العلم تساوي بها درجة بعلها بيد أنها كانت كما وصفها الشاعر تعني بمصالح زوجها وبنتها وأولادها وهذا مما كان يزيد اغتباط كيتي بها لأنها كانت امرأة حقيقية تنظر في شؤونها البيتية.

وفي سنة 1794 بدأت صلات الحب بين كيتي وشيلر وما كان اجتماع الشاعرين بادئ بدء دالاً على الصدقة التي تتأكد بينهما بعد بل كان اجتماعهما لأول وهلة اجتماع تكلف وكره. فتعارفا سنة 1788 ولم يتأت تآلفهما حقيقة إلا سنة 1704 عندما أسس شيلر مجلة سماها الساعات وكان يطمع أن تشترك الطبقة العالية من كتاب ألمانيا بها فأبى أكثرهم أن يؤازروه فوعده كيتي بالمساعدة وكتبا سوية كتاباً فيه قصائد هجائية كان كيتي هو الذي اقترح موضوعه فألفاه معاً. وكان ذلك واسطة لاتحادهما فتناولا فيه التنديد بالتقاليد القديمة والنقد على أرباب الأذواق السمجة التي كانت تحول دون تقدم الأدب فكان ذلك منهما بمثابة إعلان للطريقة الجديدة التي أسساها في القريض وأخذ خيال الشعر والأدب من ذاك العهد يوحي إليهما كل طريف وتليد فيتطارحان الأفكار ويتناشدان الأشعار وكل منهما محب لصاحبه يبوح له بذات نفسه ويراقب أعمال صديقه مراقبة الود. دامت هذه الصداقة محكمة العرى إلى أن توفي شيلر سنة 1805.

ولقد حاول كيتي في تآليفه - وكانت أولاً منضمة غير منتشرة كتآليفه بعد - أن يعرف القارئ حال المتفنن وما يشغله في العالم من الأعمال. وبعد أن فقد كيتي صديقه شيلر كما تقدم لم يبق في حياته ما يستحق الذكر وامتاز بنقد من كانوا يستحسنون الثورة الفرنسية الأولى وأبان عن أفكاره قائلاً: إني أكرر بأنني أكره كل ما فيه شدة وتهور لأنه مخالف للطبيعة. وفي سنة 1813 تنحى الشاعر في خلال الحركة الوطنية وترك المجال لشعراء أصغر منه سناً يؤلفون الأغاني الحربية ويحثون الجمهور. وحاول وهو في السبعين أن ينسج على منوال ديوان حافظ الشيرازي شعراً ألمانياً في أفكار شرقية وأناس شرقيين فنظم ديواناً سماه ديوان الشرق والغرب. وهو سفر أغان وإن تكن ألمانية الصبغة فإن تنوع أوزانها واختلاف أسمائها واستبدال الأسماء الشرقية بالغربية جعلها غريبة في بابها تصدر من شيخ شاب.

وبعد أن فقد والدته وولده وصديقه الحميم بعد شيلر ضعف سنة 1832 فوافاه أجله وقضى عند الظهر جالساً على كرسيه وكان آخر كلامه ليدخل النور بكمية أكثر.

وقد كتب كيتي كثيراً من الأسفار في كل موضوع وكان كثيراً ما يعاشر أهل الأخصاء في كل فن فيوحون إليه بأفكارهم ويبوحون له بأسرارهم وأن المرء ليعجب بما خلفه كيتي من التآليف الممتعة المنوعة التي يستغرق وصفها صفحات من مثل هذه.

جاز كيتي كسائر الكتاب ثلاثة أدوار وهي دور التكون ودور النضوج ودور الانحطاط إلا أن دور نضوجه كان طويلاً ودور انحطاطه لم يخل من قوة. وقسم بعض مترجميه أدوار حياته الشعرية إلى ثلاثة أدوار الدور الأول الحبي والطبيعي الثاني المدرسي الثالث التعليمي. ولم يستنكف كيتي من الأخذ عن كبار شعراء الأرض كشكسبير وروسو وهوميروس وكتاب الفاجعات من اليونان والأماديح من اللاتين. وقال في بعض تآليفه: وهل أحسن فينا من القوة وحسن الذوق في امتلاك عناصر العالم الخارجي واستعمالها في مقصد سام. ولذلك امتاز بقوته التقليدية في الشعر والأدب وقوته في التحويل وقوته في التجديد مع مزج ذلك بالنقد وقوته على الإبداع ولم يشغله الأدب والشعر عن معاطاة العلوم الأخرى كعلم النبات والحيوان والجيولوجيا والمنيرولوجيا والطبيعيات ووفق إلى اكتشافات مهمة في التشريح والفسيولوجيا النباتية.

هذا هو الرجل العظيم الذي ربي في قصور النعيم وما أفسده الترف والرفاهية جمع في شخصه مزايا كثيرة وعلوماً كبيرة قلما يكتب نيلها إلا لكبار العقول في الأمم والقرون العديدة ولا غرو فإن قيام أمثاله في القرن الماضي والذي قبله هو الذي فتح على ألمانيا أن تكون اليوم في مقدمة الخليقة بعلومها وأعمالها. فسبحان من أسعدها برجالها وأسعدهم بها وأشقى رجالاً في الشرق وأشقى الشرق بهم.