مجلة المقتبس/العدد 77/مباحث لغوية
مجلة المقتبس/العدد 77/مباحث لغوية
كلمتان لهما من مناقب الحرب والجدال ما لا عظم الأمم المجاهدة وإن الخوف ليأخذ مني ما أخذه أمامهما وكأَني أسمع تلك المشاتمات التي علت زمناً كلمات أردت أن أخطو خطوة إلى حمامها. وكذلك فإن المناقشات اللسانية عندنا كثيراً ما ظهرت في شكل المناقشات اللغوية عَلَى أني لم أملك نفسي اليوم منأن أكتب شيئاً في هذه المسألة وأنا أعلم ماضيها المهيب وما ذلك لأني أراها سهلة ذات جاذبة بل لأني أجدها في هذا الزمن الأخير تحتاج إلى بحث وتدقيق عَلَى أنه لو لم يكن هذا الاحتياج وسيلة كافية للعود إليها لكان لنا من تلك السابقة التي اخترعها شبهال أكبر سائق للتمسك بأهدابها.
نعد من الاستيلاء أنواعاً فنقول الاستيلاء السياسي والاستيلاء الاقتصادي الخ وله نوع آخر لطيف يتميز عن غيره بأنه يطلبه من يريد هو أن يستولي عليهم ألا وهو الاستيلاء العلمي فلا أصول الحماية في المكوس ولا بناء السدود ولا جمع الجيوش في الحدود يمنعه إن كان مقدراً. يمر مثل الطيارة فوق هذه جميعاً وهو آمن في سربه يتبختر حتى يصل إلى المحل الذي تخير. يأبى عليك أن دعوته ويجور عليك إن تركته، وهو كضياء الشمس يحرم من الحياة من لم يتطلبه. إن رمت أن ترفع إليه فاخضع وإن شئت أن تكون حراً فاستسلم إليه أسراً. . . . ما أشد تضرعنا لأعتابه الآن! نذهب أفواجاً إلى برلين وباريز ولوندرا ونيويورك حتى يابان ولسوف ندعوه سنين عديدة أن يجيبنا لطفاً منه وتفضلاً فإذا أجاب فلسوف يحملنا من غير شفقة علينا.
أحماله الكثيرة ذرة ذرة ... نعم ذا تذلل ولكن العز فيه
- * *
إن أصلح الاحتلال بصلح هو الاحتلال العملي ولكن إذا تأخرك قليلاص عن تدارك ما يلزم لثوائه - أعني الكلمات والاصطلاحات - فإنه يأتي بها من عنده. أما هو فهو من النجابة وحسن العشرة بمكان وأما توابعه اللفظية فإنها ويا للأسف شكسة شرسة سيئة العشرة فإذا رأت قليلاًَ من التسامح هجمت عليكم فأذهب حسن الذوق من أفواهكم.
فإن كنتم تحبوا أن تدفعوا عنكم هذه التهلكة فبادروا بإحضار الكلمات والاصطلاحات.
هذه إحدى حاجاتنا التي لا تتناهى. نحن اليوم في موقف إذا أردنا أن نحفظ استقلال لساننا - كما نحفظ استقلال ملكنا - وجب علينا فيه أن نزيد - كما زدنا قوة الجيش - كت كلماتنا وننسقها وننظمها. وكما أنه من المفروض منع نفوذ الغرب إذا أخذنا حضارته فكذلك من اللازم وضع سد منيع أمام حلول لسانه عندما نأخذ علومه وفنونه. ولكن نرى معيشتنا الجديدة تسهل علينا سرعة اختلاط اللغات. دخلت بيننا اليوم كلمات كنا ننظر إليها بعين غريب قبل ثلاث سنوات مثلاً.
قال بكارتويست آنكت بارلمانتير ديمو كراسي بريكوتازالخ ولست أشك في أنه سو يتزايد هذه الحلول الوخيم بسائق المدنية وحرية المداولات.
لست ممن يميل إلى الفرار من الأجانب وإني لأرى من الإفراط أن نطرد من حدودنا كلمات تترّكت. ونقيم بدالها كزلمات من مصنوعاتنا المحلية. ولكني أعد ذلك ربحاً كاذباً إن كانت كل إفادة جديدة تحوجنا إلى أخذ كلمة غربية وأقول أنه لا ينبغي من الآن فصاعداً أن نترك دائرة ملك لساننا مفتحة لكل طفيلي من الكلمات غريب ولو عنينا بهذه القاعدة إلى الآن وتجشم كل محرر كلفة اختراع كلمة تركية مقابل كلمة أجنبية يرى نفسه مضطراً إلى استعمالها لما كان تكدر صفو لساننا بتلك الكلمات المبرقشة التي تباين لهجتنا ولكان لتلك الكلمات المخترعة رجاء في حياتها عند من يسمعها لأول مرة ويتعلمها. إبداع اصطلاح جديد لنا إليه حاجة ووضعه في زَي مقبول هو أصعب من تبديل كلمة عمت. وكم من كلمة جديدة أحدثها أهل الفضل والإحسان من الكتاب دخلت منذ زمن غير بعيد إلى لساننا وهي تستعمل فيه بكل رشاقة.
حتى أنه ليمكنني أن أسمي الواضع وأبين كيف تلقاها الناس منذ وضعتها إلى الآن وأصور صفحات حياتها وإني لأذكر بعض تعبيرات لم يتم دور تأليفها ولم يمض عليها عمر تشتد فيه قوتها بأن يقبلها فيما يكتبه كاتب غير الذي اخترعها وها نحن نرى أحد الكتاب المحترمين استعمل ثلاث أربع مرات كلمة ذهنيت بمعنى وغني بدون أن أناقش في مكانتها اللغوية - حتى ولو كان فيها غلط من جهة - فإني أرضى باستعمالها بكل منة لأنه لا ينبغي للعطشان أن يرد نصف قدح من الماء إذا لم يجد كأساً دهاقاً. ولا ريب في أن المترجمين من بين الذين خدموا الوطن بأفكارهم وأقلامهم هم أكثر الناس تشيكاً من النواقص اللغوية والأسلوبية في هذا اللسان. إن الأفكار الجامحة التي فهمت ولكنها استعصت عَلَى من فهمها أن يفهمها غيره هي غول المترجمين أن معرفة اللسانيين - كيفية وكمية - لها دخل عظيم في أداء الترجمة حقها لكن لا ينكر أن أقدر الناس ترجمة تنتابه الفينة بعد الفينة حمى الحمية المتولدة من فقر اللسان عندما يترجم كتاباً له قليل علاقة بدقائق الأفكار والمعاني.
إنها لا تزول جميع المشاكل باختراع كلمة تقابل كلمة أجنبية إذ أنه يوجد طرق مختلفة في أداءِ البيان يستحيل أن يؤدي مآلها بتلك البلاغة بوسائط أُخرى. وهذا القسم من الرقي في الأسلوب مؤخر عن تكامل الكلمات وأبطأ منه سيراً فيجب علينا اليوم إذاً أن نعجل في رقي الكلمات.
حدود رخصتنا في إبداع الكلمات
كل يوم ينال لساننا قطرة لفظ أو معنى يسير به سيراً مطرداً وإن كان غير محسوس فتوسعت حتى تجمعت لدينا في ربع عصر كتابة كلمات لو كان من الممكن أن نخابر أجدادنا لأمكننا - مع فضلهم المحتمل - أن نملأ لهم صحائف مكاتيب طويلة عريضة بتركية لا يفقهونها. فمن أين أتت هذه الكلمات الجديدة مسألة؟ ذات بال؟.
كان التجدد في الماديات والمجردات يأتينا ويأتي معه بأسمائه فكلمة تياترو، غرته، دوكتور، أومنيبوس، لوكوموتيف، سيغورطه، بروتستو، نوطه، بيهس، آنسيكلوبويا الخ وغيرها مما تتوالى لواردنا عدها طفيلية دخلت بيننا لأنها لم تترجم بكلمة معقولة تقابلها ومهما كانت لهذه الكلمات من السلالة اللفظية في لسانها فلا أحد ينكر أنها تستثقل عندنا لتباين اللهجتين.
وما عدا جماعة هاته الكلمات الأجنبية التي تعيش معتزلة عن كلماتنا اعتزال الأجانب في بلادنا عنا فإنك تجد معمورة لسانية أُسست في مولداتنا القومية وضعها أرباب الحمية من الكتاب هي أصل الثروة عندنا عَلَى ما أرى. وغني لأذكر عَلَى وجه المثال بعض كلمات من تلك الكلمات المحترمة المجاهدة التي تسعى في قضاء حاجتنا المبرمة: تدرج، صائت، صامت، عنعنة، تعويض، تصوت محيط، كراسة، واحة، طيارة، إحصائيات.
إن الكلمات الوطنية ويا للأسف تتألم لسوء طالعها من أنها عرضة للاستثقال من لدن أهلها أكثر من الكلمات الأجنبية إذ إنا في الأغلب نعامل اصطلاحاتنا الجديدة معاملة شديدة، ولا ترى تلك الكلمة العثمانية المحدثة في وجهنا أثر تبسم مقدار ما تراه كلمة غيرها أجنبية. نحن أولاً أهل العنف والشدة نوقف تلك الكلمات المسكينة أمامنا ونفحص عن حسبها ونسبها ثم نتوهم لها عيباً في زيها وحضارتها ورشاقتها كأنه شرف لها أن تكون مملوكة لنا وأما الألفاظ الأجنبية فإنها ترى منا حسن المعاملة كأن بها فخرنا فلا نسال - وحاشاها - من أين أنت أو ذهبت ونرى البحث عن زيها وحضارتها ورشاقتها منافياً لعلو شأنها وإن لها عندنا لزلفى. وكيف لا تمن علينا وهي في الأغلب برهان إملائنا؟ إذا كانت نظارة المعارف لا تفكر في اتخاذ تدبير ينجع أو أنها لا تقدر أن تفكر أو أنها تفكر وليس في وسعها أن تطبق ما تريد فقد وفي الواجب حقه أركان الصحافة التركية مثل شهبال وغيرها إذا فتحوا لهذا البحث صحائفهم.
أيستحق المؤاخذة من يضع المشكلات أمام كلمات تدخل إلينا من جديد؟
إذا كنا كذلك فهذا أثر صلاح يحق لنا أن نسر به لأنا لم نتباعد ولا قليلاً في التصرفات اللسانية عن هذا الإهمال مرض اجتماعي اشتهرنا به في جميع شؤوننا وكانت نتيجته أن امتلأَ لساننا بالكلمات الأجنبية وتغير معنى كثير من الكلمات التي أَخذناها من العربية والفارسية منبعين فياضين لإثراء لساننا.
فلو طلبنا قبل التصاق الكلمات الأجنبية بلساننا مقابلها وأخذنا الكلمات العربية والفارسية بمعانيها الصحيحة لخدمنا لساننا خدمة يتدرج بها إلى الكمال وإني لآمل أن يشترك جميع أرباب القلم بكل ارتياح بتلك المسابقة التي وضعتموها رجاء اختراع كلمات تقابل تلك الكلمات الأجنبية. وإن مداولة الأفكار في ساحة المطبوعات ليكونن سداً منيعاً أمام تلك المخاطرة أعني استيلاء الكلمات الأجنبية. إن من يقول أن لا إذن لنا في اختراع كلمة تركية أو فارسية أو عربية لم يقل شيئاً ولكن من لا يرى اتباع قيد لساني عند وضع اصطلاح جديد يضمه لسلسلة اللغات العثمانية فهو أيضاً عندي عَلَى غير شيء. إذا كانت الكلمة المخترعة تركية فيها وإلا فإن كانت عربية فإني أحب أن أقول: أنه ينبغي أن تكون مما يحويه اللسان العربي وأن تكون مما يجوز استعمالها قواعد ذاك اللسان.
إن المناسبة المعنوية بين ونشب ظاهرة جداً ولكن إذا كانت العرب لم تستعمل صفة مشبهة من مادة نشب فأنك تصيب، عَلَى ما أظن، من لا يهش إليها ولو كانت من السلاسة بمكان ويقول: لنا الحق بإيجاد كلمة جديدة تدل عَلَى فكر جديد ومعنى جديد وضمها إلى مجموعة اللغات العثمانية ولكن لا حق لنا باختراع كلمة عربية في لساننا التركي.
لابد أن نشير إلى كلمة نشيبة الجديدة عندما ندخلها إلى لغتنا بأنها عربية ولكن العرب لا يقبلونها بين كلماتهم العربية بدعوى أن نشيبة من مادة نشب غير مستعملة عند العرب. أفلا يكون هذا من الغرائب؟!
نعم قد تغير معنى بعض كلمات عربية في كلماتنا مثل كلمة تحسس من مادة حس فإن معناها في العربية طلب الشيء والبحث عنه فهل نقصد بها هذا المعنى بعينه. إذا قلنا تحسسات وطنبروري؟ لا. وكذلك بعض المصادر الثلاثية فقد جرى عَلَى لساننا مزيدها خلافاً للعرب ومنها تسرير فإنه وإن يكن موجوداً في العربية إلا أنه بمعنى بلغ من ماء النهر أو الحوض سرة الرجل. فهل نستعمله نحن بهذا المعنى؟ قال أرباب القلم من الأتراك في أنفسهم يشتق من الفرح تفريح فلا يشتق من الشرور تسرير فعلوها وزادوها كلمة مغلوطة لا تقبلها العرب بالطبع بين الكلمات العربية. عَلَى أن هذه الأحوال لا تكون لنا سنداً يساعدنا أن لا نتبع قيداً في إحداث كلمات جديدة لأن الباطل لا يقاس عليه. ولنا احتياج لتعلم العربية فينبغي أن تنفعنا في العربية تلك الكلمات المستعملة في التركية ومن الغرائب بل من المؤلمات أن لا نقدر أن نستعمل في العربية كلمة عربية نستعملها في التركية أو أن نضطر إلى استعمالها بغير معناها الذي نعهده. فعلنا ذلك ولكن ينبغي أن لا نفعلها بعد هذا وأن لا نزيد في سقطات لساننا. رأيت في إحدى جرائدنا التركية قبل سبع أو ثماني سنوات أن في مصر وجدوا مقابل كارت دوويزيت تركيب بطاقة الزيارة أما البطاقة فهي موصلة بوصلة توضع بين الأمتعة يكتب فيها مقدار تلك الأمتعة وقيمتها فاقتبسوا تلك الكلمة وأحدثوا هذا التركيب وهو جميل يقابل الإفرنسي كل المقابلة. وأنا أظن أن أمثال محرر شهبال من أرباب القلم ممن لهم قدرة كافية في اللسان إذا تعمقوا في أبحاثهم وجدوا أوفق مقابل للكلمات الأجنبية التي تدل عَلَى معانٍ وأفكار جديدة.
- * *
هذا ما أردت تعريبه وأنا أرى تلك المسابقة الثالثة وما يتلوها من أمثالها فرصة لتكثير سواد الكلمات العربية فاغتنموها وعندكم من علك اللغة بلحييه فلا يعسر عليه إذا سئل أن يجيب من غير تردد بما يوافق المطلوب. وعلى الجرائد العربية والمجلات نقل هذه المسابقات عيناً أولاً وترجمة الكلمات الأجنبية بجملة - لا بكلمة - تؤدي معناها حق الأداء ثانياً حتى إذا كان رجل يحسن اللغة العربية ولا يعرف الأجنبية فلا نحرم من علمه وينظر إلى المعنى الذي ذكرناه له بجملة أو جمل فينتخب له كلمة توافقه فنقول له مثلاً ماذا تسمى آلة من خشب أو حديد تسمر عَلَى جدار وفيها أعواد يعلق عليها الثياب فلا أظنه إلا قائلاً لكم يمكن أن نسميها شجاراً. وأن نضع من نفسها مسابقات أخرى مثلها ثالثاً ومن كان منها ذات ثروة جعلت للمجيد جائزة عَلَى أني أرى اكبر جائزة للعالم أن يخدم لغته وأن يقال أنه أبو عذرة هذه الكلمة. وكيف يجوز لنا أن نبقى عَلَى الحياد وأن ننظر من بعيد وغيرنا يتصرف في لغتنا كيف يشاء ولست أريد بذلك أن نمنعهم عن الاقتباس والتصرف لكني أريد أن يعلم أخواننا العرب أن من الواجب عليهم أن يشتركوا في تلك المباحث اللغوية ولو بلغتهم إن لم يعرفوا التركية ويناقشوهم حتى يتبين الحق فنفيد ونستفيد. نفيد أخواننا الأتراك إذ نعطيهم كلمة خيالية عن الغلط الصرفي في مؤديه للمعنى المراد هم في حاجة إليها ونستفيد إذ نحن أيضاً أحوج منهم إلى أمثال تلك الكلمات.