مجلة المقتبس/العدد 75/أدب الدارس والمدرس
مجلة المقتبس/العدد 75/أدب الدارس والمدرس
من استقرأ ما كتب في هذا الباب الواسع قديماً وحديثاً يرَ عدداً من المؤلفات والمقالات لا يأتي عليها الحصر، ولا يخفى أن لروح كل عصر مظهراً فيما كتب في واجباته ومطالبه، وكثير منها يتبدل بغيرها لمسيس الحاجة إلى ما هو أهم منها أو اختلاف العادات في أطوارها وشؤونها إلا أن ما يتقاضاه العلم من آداب القائمين عليه درساً وتدرساً تتلاقى أصوله مع كل زمان ومكان، لذا رأيت من المهم نقل أبدع ما كتب في هذا الباب، غذ الأمة لا تبلغ أوج المجد إلا بالعلم ولا علم إلا بصلاح الدارس والمدرس والعالم والمتعلم إذ هم القائمون عَلَى تهذيب الملكات وإرشاد العقول، والهادون إلى صراط الحق وميزان العدل والصدق.
وقد رأيت من أحسن ما جمع في مقاصد هذا البحث الجليل ما أَورده محيي الدين النووي - أحد أئمة الرواية والدراية المشاهير - في مقدمة (شرح المهذب) فآثرت عنه خلاصة ما أثره عن أساطين الحكمة المتقدمين وجعلته مقالة موجزة.
أحكام درس العلوم الشرعية - أنواع العلوم الشرعية لا تعد وفي أحكامها ثلاثة أقسام.
القسم الأول فرض العين منها ويقال له الضروري وهو درس المكلف ما تصح به عقيدته وتجزئ معه عباداته، وتنفذ عقوده ومعاملته، وما لا غنى له عنه مما يتناوله ويستعمله.
ويدخل في ذلك درس أمراض القلب كالحسد والعجب والبخل وأمثالها من المهلكات فقد قال الغزالي: معرفة حدودها وأسبابها وطبها وعلاجها فرض عين:
القسم الثاني فرض الكفاية ويقال له الِحاجي وهو درس ما لابد للناس منه في إقامة دينهم كحفظ القرآن والأحاديث وعلومها والصول والفقه والنحو واللغة ومعرفة رواة الحديث والإجماع والخلاف.
ومنه يحتاج إليه في قوام أمر الدنيا كالطب والحساب والهندسة.
ومنه تعلم الصنائع التي هي سبب قيام مصالح الدنيا كالزراعة ونحوها.
القسم الثالث النقل ويقال له التحسيني وهو كالتبحر في أصول الأدلة والإمعان فيما رواه القدر الذي يحصل به فرض الكفاية والتوسغ في فنون الأدب والمعقول.
آ أهم ما يطلب منه أن يعتني به أدبه في نفسه وأدبه في درسه
القسم الأول أدبه في نفسه - وذلك في أمور (منها) أن يقصد بتعليمه وجه الحق سبحانه وتعالى لا توسلاً إلى غرض دنيوي كمال أو جاه أو شهرة أو تكثير المختلفين إليه أو نحو ذلك كما كان عليه سلف الأمة فقد قال الشافعي رحمه الله: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم عَلَى أن لا ينسب إليَّ حرف منه: وقال أيضاً: ما نظرت أحداً قط علي الغلبة ووددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر الحق عَلَى يده:
(ومنها) أن يتخلق بالمحاسن التي ورد الشرع بها وحث عليها والخلال الحميدة والشيم المرضية التي أرشد إليها كالحلم والصبر والسخاء والجود وطلاقة الوجه من غير خروج إلى حد الخلاعة وملازمة الورع والوقار والتواضع والتنظف في البدن واللبسة.
(ومنها) الحذر من الحسد والرياء والإعجاب وتزكية النفس وإزراء الناس وإن كانوا دونه بدرجات.
(ومنها) أنه إذا ترخص في أمر جائز وخيف أن يظن خلافه أن يخبر أصحابه ومن يراه حقيقة ذلك الفعل لينتفعوا ولئلا يأثموا بظنهم السيئ.
القسم الثاني أدبه في درسه - وذلك أن لا يزال مجتهداً في الاشتغال بالعلم قراءة ومطالعة وتعليماً ومباحثة ومذاكرة وتصنيفاً.
وأن لا يستحي من السؤال عما لم يعلم روي أمير المؤمنين عمر أنه قال: من رق وجهه رق علمه: وروى البخاري عن عائشة أم المؤمنين قالت: نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين:
وأن لا يمنعه منصبه وشهرته من استفادة ما لا يعرفه فقد كان كثير من السلف يستفيد من تلامذته ما ليس عنده، قال الإمام النووي: قد ثبت في الصحيح رواية جماعة من الصحابة عن التابعين وروى جماعة من التابعين عن تابعي التابعين، وهذا عمرو بن شعيب ليس تابعياً وروى عنه أكثر من سبعين من التابعين، وثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قرأ لم يكن الذين كفروا عَلَى أُبي بن كعب وقال أمرني الله أن أقرأ عليك: ويسمون هذا النوع وراية الأكابر عن الأصاغر.
وأن تكون ملازمة الاشتغال بالعلم هي مطلوبة به ورأس ماله فلا يشتغل بغيره فإن اضطر إلى غيره في وقت فعل ذلك الغير بعد تحصيل وظيفته من العلم.
أدبه في تصنيفه
قال النووي: ينبغي أن يعتني بالتصنيف إذا تأهل له فيه يطلع عَلَى حقائق العلم ودقائقه ويثبت معه لأنه يضطره إلى كثرة التفتيش والمطالعة، والتحقيق والمراجعة، والاطلاع عَلَى مختلف كلام الأئمة ومثقفه، وواضحه من مشكله، وصحيحه من ضعيفه، وجزله من ركيكه، وما الاعتراض عليه من غيره، وبه يتصف المحقق بصفة المجتهد.
وليحذر كل الحذر أن يشرع في تصنيف ما لم يتأهل له فإن ذلك يضره في دينه وعلمه وعرضه.
وليحذر أيضاً من إخراج تصنيفه من يده إلا بعد تهذيبه وترداد نظره فيه وتكريره.
وليحرص عَلَى إيضاح العبارة وإيجازها فلا توضح إيضاحاً ينتهي إلى الركاكة ولا يوجز إيجازاً يفضي إلى المحق والاستغلاق.
وينبغي أن يكون اعتناؤه من التصنيف بما لم يسبق إليه أكثر والمراد بهذا أن لا يكون هناك مصنف يغني عن مصنفه في جميع أساليبه فإن أغنى عن بعضها فليصنف من جنسه ما يزيد زيادات يحتفل بها مع ضم ما فاته من الأساليب.
وليكن تصنيفه فيما يعم الانتفاع به ويكثر الاحتياج إليه.
آداب تعليمه
التعليم هو الأصل الذي به قوام الدين والدنيا وبه يؤمن أمحاق العلم وفي التنزيل الحكيم: وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتموه وقال النبي ﷺ ليبلغ الشاهد منكم الغائب.
يجب العلم لأن يقصد بتعليمه وجه الله تعالى، وأن أي جعله وسيلة إلى غرض دنيوي لأن ما كان خالصاً كان مستمراً غضاً في كل حين وما كان لغرض زال عند الظفر به فقات ما قصد له.
ولا يمتنع من تعليم أحد لكونه غير صحيح النية فإنه يرجى له حسن النية. وربما عسر في كثير من المبتدئين وتصحيح النية فالامتناع من تعليمهم يؤدي إلى تفويت كثير من العلم مع أنه يرجى له تصحيحها إذا أنس بالعلم وقد قال بعض السلف طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله:: معناه أن كانت عاقبته أن صار لله.
وينبغي أن يؤدب المتعلم بالتدريج بالآداب السنية والشيم المرضية، ويحرض عَلَى الإخلاص والصدق وحسن النية.
وينبغي أن يرغبه بالعلم ويذكره بفضائله وفضائل علماءه.
وينبغي أن يحنو عليه ويعتنى بمصالحه كاعتنائه بمصالح نفسه وولده، ورجي مجرى ولده في الشفقة، عليه والاهتمام بمصالحه، ويعذره في سوءِ أدب وجفوة تعرض معه في بعض الأحيان فإن الإنسان معرض للنقائص.
وينبغي أن يكون سمحاً ببذل ما حصله من العلم سهلاً عَلَى متبعيه متلطفاً في إفادته طالبه مع رفق ونصيحة وإرشاد إلى المهمات وتحريض عَلَى حفظ لم يبذله لهم من الفوائد.
ولا يذخر عنهم من أنواع العلم شيئاً يحتاجون إليه إذا كان الطالب أهلاً لذلك.
ولا يلقي إليه الشيء لم يتأهل له لئلا يفسد عليه حاله فلو سأله المتعلم عن ذلك لم يجبه ويعرفه أن منعه ليس شحاً بل شفقة ولطفاً.
وينبغي ألا يتعظم عَلَى المتعلمين بل يلين لهم ويتواضع وفي التنزيل الحكيم واخفض جناحك للمؤمنين.
وينبغي أن يكون حريصاً عَلَى تعليمهم مهتماتً به مؤثراً له ويرحب بهم عند إقبالهم إليه ويظهر لهم البشر وطلاقة الوجه، ويحسن إليه بعمله وماله وجاهه، ولا يخاطب الفاضل منهم باسمه بل بكنيته.
وينبغي أن يتفقدهم ويسال عمن غاب منهم.
وينبغي أن يكون باذلاً وسعه في تفهمهم وتقريب القائدة إلى أذهانهم حريصاً عَلَى هدايتهم.
ويفهم كل واحد بحسب فهمه وحفظه فلا يعطيه ما لا يحتمله ولا يقصر به عما يحتمله بلا مشقة، ويخاطب كل واحد عَلَى قدر درجته وبحسب فهمه وهمته، فيكتفي بالإشارة لمن يفهمها فهماً محققاً ويوضح العبارة لغيره ويكررها لمن لا يحفظها إلا بتكرار.
ويذكر الأحكام موضحة بالأمثلة من غير دليل لمن لا ينحفظ له الدليل فإن جهل دليل بعضها ذكره له ويذكر الدلائل لمحتملها.
ويذكر ما يرد عَلَى المسألة وجوابه إن أمكنه.
ويبين الدليل الضعيف لئلا يغتر به فيقول: استدلوا بكذا وهو ضعيف لكذا ويبين الدليل المعتمد ليعتمد.
ويفهمهم عَلَى غلط ما غلط فيها من المصنفين فيقول مثلاً: هذا هو الصواب وأما ما ذكره فلان فغلط أو فضعيف قاصداً التضحية لئلا يغتر به لا تنقيص القائل فإن الانتقاد إنما يكون للقول لا لقائله.
ويبين له جملاً من أسماء المشهورين من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فمن بعدهم من الأئمة المشاهير وأنسابهم وكناهم وأعصارهم وطرق حكايتهم ونوادرهم، وضبط المشاكل من أنسابهم وصفاتهم، وتمييز المشتبه من ذلك، وجملاً من الألفاظ اللغوية والعرفية ضبطاً لمشكلها ومخفي معانيها فيقول هي مفتوحة أو مضمومة أو مكسورة مخففة أو مشددة. مهموزة أولاً، عربية أو أعجمية أو معربة وهي التي أصلها عجمي وتكلمت بها العرب، معروفة أو غيرها، مشتقة أولاً، مشتركة أم لا، مترادفة أم لا، وإن المهموز والمشدد يخففان أم لا، وأن فيها لغة أخرى أم لا.
وإذا وقعة مسألة غريبة لطيفة أو مما يسأله عنها في المعاياة نبه عليها وعرفه حالها في كل ذلك ويكون تعليمه إياهم كل ذلك تدريجاً ليجتمع لهم طول الزمان جمل كثيرات.
وينبغي أن يحرضهم عَلَى الاشتغال في كل وقت ويطالبهم في أو قات محفوظاتهم ويسألهم عما ذكره لهم من المهمات فمن وجده حافظاً مراعياً له أكرمه وأثنى عليه وأشاع ذلك، ومن وجده مقصراً لامه ويعيد له حتى يحفظه حفظاً واضحاً.
وينبغي أن يصنفهم في البحث فيعترف بفائدة يقولها بعضهم وإن كان صغيراً.
وينبغي أن يقدم في تعليمهم إذا ازدحموا السبق فالأسبق ويتحرى تفهيمهم بأيسر الطرق ويذكره مترسلاً مبيناً واضحاً ويكرر ما يشكل من معانيه وألفاظه حتى يفهموه، وإذا لم يكن البيان إلا بالتصريح بعبارة يستحى في العادة من ذكرها فيذكروها بصريح اسمها ولا يمنعه الحياء ومراعاة الأدب من ذلك فإن إيضاحها أهم من ذلك، وإنما يستحب الكناية في مثل هذا إذا علموا المقصود منها علماً جلياً وعلى هذا التفصيل يحمل ما ورد في الأحاديث من التصريح في وقت والكناية في وقت، ويؤخر ما ينبغي تأخيره ويقدم ما ينبغي تقديمه، ويقف في موضع الوقف، ويصل في موضع الوصل.
ويحسن خلقة مع جلسائه ويوقر فاضلهم بعلم أو سن أو شرف أو صلاح، ويتلطف بالباقين.
وينبغي أن يصرف يديه عن العبث وعينيه عن تفريق النظر بلا حاجة، ويعم الحاضرين بالتفاته ويجلس في موضع يبرز وجهه لهم.
ويقدم من دروسه أهمها فيقدم التفسير ثم الحديث ثم الأصولين ثم الأهم فالأهم، ولا يقرأ الدرس وبه ما يزعجه كمرض أو جوع أو مدافعة الحدث أو شدة فرح أو غم.
ولا يطيل مجلسه إطالة تملهم أو تمنعهم فهم الدرس أو ضبطه، وليكن مجلسه واسعاً ولا يرفع صوته زيادة عن الحاجة ولا يخفضه خفضاً يمنع بعضهم كمال فهمه.
ويصون مجلسه من اللغط والحاضرين عن سوء الأدب في المباحثة، وإذا ظهر من أحدهم شيء من مبادئ ذلك تلطف في دفعه قبل انتشاره ويذكرهم أن اجتماعنا ينبغي أن يكون لله تعالى فلا يليق بنا المناقشة والمشاحنة بل سبيلنا الرفق والحياء واستفادة بعضنا من بعض واجتماع قلوبنا عَلَى ظهور الحق وحصول الفائدة.
وإذا سال سائل عن أعجوبة فلا يسخرون منه.
وإذا سئل عن شيء لا يعرفه أو عرض في الدرس ما لا يعرفه فليقل لا أعرفه أو لا أتحققه ولا يستنكف عن ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فمن العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم قال الله لنبيه ﷺ قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكفلين رواه البخاري.
قالوا: وينبغي للعالم أن يورث أصحابه لا أدري: معناته يكثر منها، ولا يضع ذلك من منزلته بل يدل عَلَى وقور عقله وعظم محله لأن المتمكن لا يضره عدم معرفته مسائل معدودة، بل يتمنع من لا أدري من قل علمه وقصرت معرفته وضعفت تقواه لأنه يخاف لقصوره أن يسقط من عين سائليه أو سامعيه وهو جهالة منه بإقدامه عَلَى الجواب فيما لا يعمله يضر نفسه وغيره وقد يبوء بالخزي العاجل أولاً ثم الآجل وفي الحديث المتسبع بما لا يعطه كلابس ثوبي زور.
آداب الدارس المتعلم
أما آدابه في نفسه فكآداب المدرس وقد أوضحناها وينبغي أن يطهر قلبه من الأدناس ليصلح لقبول العلم واستثماره، أن يقطع العلائق الشائكة عن كمال الاجتهاد، ويرضي باليسير من القوت ويصبر عَلَى ضيق العيش قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يستعان عَلَى العلم بجمع الهم ويستعان عَلَى حذف العلائق بأخذ اليسير عند الحاجة.
وقال الخطيب البغدادي: يستحب للطالب أن يكون عزباً ما أمكنه لئلا يقطعه الاشتغال بحقوق الزوجة والاهتمام بالمعيشة عن إكمال طلب العلم.
وأن يتواضع للمعلم وينقاد له ويأتمر بأمره كما ينقاد المريض لطبيب حاذق ناصح.
ولا يأخذ العلم إلا ممن كم لت أهليته وظهرت ديانته وتحققت معرفته وكانت له دربة وخلق جميل وذهن صحيح واطلاع تام.
وينبغي أن ينظر معلمه بعين الاحترام والرجحان عَلَى أكثر طبقته فهو أقرب إلى انتفاعه به ورسوخ ما تسمعه منه في ذهنه وقد قال الشافعي: كنت اصفح الورق بين يدي مالك رحمه الله صفحاً رفيقاً هيبة له لئلا يسمع رفعها. وقال الربيع: والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليّ هيبة له.
ويروى عن علي كرم الله وجهه قال: من حق العالم عليك أن تسلم عَلَى القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، وتشير عنده بيدك ولا تغمزن بعينيك غيره ولا تقول قال فلان خلاف قوله ولا تغلبن عنده أحداً ولا تسار في مجلسه ولا بأحد بيوته ولا تلح عليه إذا كسل ولا تشبع من طول صحبته فإنما هو عليك كالنخلة تنتظر متى يسقط عليها منك شيء.
ومن آداب المتعلم أن يتحرى رضاء العلم وإن خالف رأي نفسه ولا يفشي له سراً وأن يرد غيبته إذا سمعها فإن عجز فارق المجلس وأن لا يدخل عليه بغير إذن وإذا كان معه غيره قدم الأفضل والأسن وأن يدخل كامل الهيبة فارغ القلب من الشواغل متطهراً متنظفاً بسواك وقص ظفر وإزالة ريح ويسلم عَلَى الحاضرين بصوت يسمعهم ويخص الشيخ بزيادة إكرام وكذلك يسلم إذا انصرف.
ولا يتخطى رقاب الناس ويجلس حيث انتهى به المجلس إلا أن يأذن المعلم أو الحاضرون بالتقدم والتخطي أو يعلم من حالهم إيثار ذلك ولا يقم أحداً من مجلسه فإن آثره غيره بمجلسه لم يأخذ إلا أن يكون في ذلك مصلحة للحاضرين بأن يقرب من الأستاذ ويذاكره مذاكرة ينتفع منها الحاضرون بها ولا يجلس وسط الحلقة إلا لضرورة ولا بين الصالحين إلا برضاهما وإذا فسح له وقعد ويحرض عَلَى القرب من الأستاذ ليفهم كلامه فهماً كاملاً بلا مشقة عَلَى شريطة أن لا يرتفع في المجلس عَلَى أفضل منه.
ويتأدب مع رفقته وحاضري المجلس فإن تأدبه معهم تأدب مع الأستاذ واحترام لمجلسه ويقعد قعدة المتعلمين ولا يضحك ولا يكثر الكلام بلا حاجة ولا يعبث بيده ولا غيرها ولا يلتفت بلا حاجة بل يقبل عَلَى الأستاذ منصتاً إليه ولا يسبق إلى شرح مسالة أو جواب سؤال إلا أن يعلم رضاه فيستدل عَلَى فضيلة المتعلم.
ولا يقرا عَلَى أستاذه عند شغل قلبه وماله وغمه ونعاسه ونحو ذلك مما يشق عليه أو يمنعه استيفاء الشرح ولا يسأله عن شيء في غير موضعه إلا أن يعلم من حاله أنه لا يكرهه ولا يلحح في السؤال إلحاحاً مضجراً ويغتنم سؤاله عند طيب نفسه وفراغه ويتلطف في سؤاله ويحسن خطابه ولا يستحي من السؤال عما أشكل إليه بل يستوضحه أكمل استيضاح فمن رق وجهه رق عمله ومن رق وجهه عند السؤال ظهر نقصه عند اجتماع الرجال.
وإذا قال له الأستاذ فهمت فلا يقل نعم حتى يتضح له المقصود إيضاحاً جلياً لئلا يكذب ويفوته الفهم ولا يستحي من قوله لم أفهم لأن استيثاقه يحصل له مصالح عاجلة وآجلة فمن العاجلة حفظ المسألة وسلامته من كذب ونفاق بإظهاره فهو ما لم يكن فهمه منها ومنها وثوق الأستاذ باعتنائه ورغبته وكمال عقله وورعه وملكه لنفسه وعدم نفاقه ومن الآجلة ثبوت الصواب في قلبه دائماً واعتياده هذه الطريقة المرضية والأخلاق الرضية وعن الخليل بن أحمد منزلة الجهل بين الحياء والأنفة.
وينبغي إذا سمع الأستاذ يقول مسألة أو يحكي حكاية وهو يحفظها أن يصغي لها إصغاء من لا يحفظها.
وينبغي أن يكون حريصاً عَلَى التعلم مواظباً له في جميع أوقاته ليلاً ونهاراً حضراً وسفراً ولا يذهب من أوقاته شيئاً في غير العلم إلا بقدر ما لا بد له من أكل ونوم وراحة وما أجمل قول الشافعي: حق عَلَى طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من العلم والصبر عَلَى كل عارض دون طلبه وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصاً واستنباطاً والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه.
يقال: أجود أوقات الحفظ الإسحار ثم الغداة وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار لفراغ البال وهدوء الحركة ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع وأجود أماكن الحفظ الغرف وكل موضع عن بعد المهيبات ولا يحمد الحفظ بحضرة النبات والخضرة والأنهار وقوارع الطرق لأنها تمنع غالباً خلو القلب.
وإذا جفاه الأستاذ رجع إليه بالاعتذار واظهر ندمه وخطأه فذلك أنفع له ديناً ودنيا وأبقى لقلبه قالوا: من لم يصبر عَلَى ذل التعلم بقي دهره في عماية الجهل.
ومن آدابه الحلم والأناة وأن تكون همته عالية فلا يرضي باليسير من إمكان الكثير وأن لا يسوف في اشتغاله ولا يؤخر تحصيل فائدة وإن قلت إذا تمكن منها لأن للتأخير آفات ولا يحمل نفسه ما لا تطيق مخافة الملل.
وإذا جاء مجلس أستاذه ولم يجده انتظر ولا يفوت درسه.
وإذا وجحده نائماً لا يستأذن عليه بل يصبر حتى يستيقظ أو ينصرف والأحسن الصبر كما كان السلف يفعلون.
وينبغي أن يغتنم التحصيل في وقت الفراغ والنشاط وحال الشباب وقوة البدن وبداهة الخاطر وقلة الشواغل قبل عوارض البطالة وارتفاع المنزلة فقد قال الشافعي: تفقه قبل أن ترأس فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه:
ويعتني بتصحيح درسه الذي يحفظه تصحيحاً متقناً ويكرره مرات ليرسخه رسوخاً متأكداً ثم يراعيه بحيث لا يزال محفوظاً جيداً، وليذاكر محفوظاته وليدم الفكر فيها.
وينبغي أن يبدأ من دروسه وفي الحفظ والتكرار والمطالعة بالأهم فالأهم، وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز فهو أهم العلوم، وكان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن وإذا حفظه فليحذر من الاشتغال عنه بالحديث والفقه وغيرهما اشتغالاً يؤدي إلى نسيان شيء منه أو تعريضه للنسيان، وبعد حفظ القرآن يحفظ من كل فن مختصراً ويبدأ بالأهم، ومن أهمها الحديث والأصول والنحو ثم الباقي.
وكلما أتقن مختصراً انتقل إلى أكبر منه مع المطالعة المتقنة والغاية الدائمة المحكمة وتعليق ما يراه من النفائس والغرائب وحل المشكلات مما يراه في المطالعة أو يسمعه من الأستاذ.
ولا يحتقرن فائدة يراها أو يسمعها في أي فن كانت بل يبادر إلى كتابتها ثم يواظب عَلَى مطالعة ما كتبه.
وليعتن بكل الدروس ويعلق عليها ما أمكن فإن عجز اعتنى بالأهم.
وينبغي أن يرشد رفقته وغيرهم من الطلبة إلى مواطن الاشتغال والفائدة ويذكر لهم ما استفاده عَلَى جهة النصيحة والمذاكرة.
ثمرة ذلك
قال الإمام النووي إثر ما تقدم: وإذا فعل ما ذكرناه، وتكاملت أهليته، واشتهرت فضيلته، اشتغل بالتصنيف، وجد في الجمع والتأليف، محققاً كل ما يذكره، ومبيناً في نقله واستنباطه، متحرياًُ لإيضاح العبارات، وبيان المشكلة مجتنباً العبارات الركيكات، والأدلة الواهيات، مستوعباً بعظم أحكام الفن غير مخل بشيء من أصوله منبهاً عَلَى القواعد فبذلك تظهر له الحقائق وتنكشف له المشكلات، ويطلع عَلَى الغوامض وحل المعضلات، ويعرف مذاهب العلماء والراجح من المرجوح، ويرتفع عن الجمود عَلَى محض التقليد، ويلتحق بالأئمة المجتهدين أو يقاربهم إن وفق الله وبالله التوفيق اهـ كلام النووي.
آداب يشترك فيها العالم والمتعلم
ينبغي لكل منهما أن لا يخل بوظيفته لعروض مرض خفيف ونحوه مما يمكن معه الاشتغال وأن لا يسأل أحداً تعنتاً وتعجزاً فالسائل تعنتاً وتعجزاً لا يستحق جواباً.
وأن يعتني بتحصيل الكتب شراءً واستعارة وليشتغل بنسخه أو استنساخه إذا كان نفيساً وليعتن بتصحيحه، ولا يرتض الاستعارة مع إمكان تحصيله، فإن استعاره لم يبطئ به لئلا يفوت الانتفاع به عَلَى صاحبه ولا يكسل عن تحصيل الفائدة منه، ولا يمتنع من إعارته غيره لأنه أعانه عَلَى العلم مع ما في مطلق العارية من الفضل (روي) أن رجلاً قال لبي العتاهية: أعرني كتابك قال: إني أكره ذلك قال: أما علمت أن المكارم موصولة بالمكاره: فأعاره، ويستحب شكر العير لإحسانه وليحذر من الإبطاء بها عن أربابها قال الزهري: إياك وغلول الكتب: يعني حبسها عن أصحابها، وبسبب حبسها امتنع غير واحد من إعارتها وانشدوا من ذلك أشياء كثيرة.
(خاتمة)
هذه النبذة من آداب المدرس والدارس أو المعلم والمتعلم مختصرة بالنسبة إلى ما جاء فيها وقد اردت إحياء ما قاله الأئمة المتقدمون في هذا وتطرية ذكره لما فيه من الفوائد والحكم والنصائح التي هي نتيجة ما أوصى بها السلف أيام استبحار العلوم ونضارتها في حضارة القرون الأولى، فليحرص المدرس والدارس عليها وليحافظ العالم أو المتعلم عَلَى التخلق بها والاهتداء بها، فثمرة العلم العمل وبالله الاستعانة وعليه المتكل.
دمشق
جمال الدين القاسمي