مجلة المقتبس/العدد 74/أوروبا في سورية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 74/أوروبا في سورية

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 4 - 1912


حياة المرء سلسلة تختلف حلقاتها بين سوداء وبيضاء يحكم قبل أن يستامن لبيض الليالي يتوقى سودها فيذخر قوة ومنعة ولا يقف إذ ذاك حائراً أمام الشداد قانطاً متذمراً بل متسلحاً أبداً ومتأهباً للمكافحة والنضال.

وناموس الأفراد يشمل الأمم والمالك كبيرها وصغيرها فما من دولة إلا وكان لها من دهرها يومان يوم لها ويوم عليها. هذه صيرت فاعتبرت وفازت وتلك لم ترعو فتلاشت فخلفها من هو أقوى منها سنة الله في خلقه.

اعتبر ذلك بدولتنا العلية التي اجتاحت الممالك ودوخت الأمصار فاستنامت واستأمنت ولم تتأهب لمقاومة غدرات الزمان فقامت في وجهها الأمم التي كانت خاضعة لها وكانت صدمة بل صدمات بين الشرق والغرب آلت إلى تقهقرنا وما كنا قبل لنعرف للتقهقر معنى وفقدنا القريم وملدفيا والفلاخ وبسرابيا في عهد السلطان سليم الثالث واضطر محمود الثاني للتسليم بمصر لمحمد علي. وكانت أيام عبد العزيز فتضعضعت الدولة بتداخل الأوربيين وشق البلغار عصا الطاعة وفازوا باستقلالهم. وكان ما كان في أيام عبد الحميد من احتلال الدول لهذه الجزيرة وتلك الولاية واستقلال هذه الإمارة وانسلاخ تلك حتى لم يبق من مملكة سليمان كبير سوى شبح حاول الأحرار أن يجسموه فاقتلعوا الدستور من أعين طاغية آخر القرن التاسع عشر وعمدوا إلى الاحتفاظ به متخذين من الاتحاد الثلاثي سنداً وعوناً ففاجأتهم إحدى الصديقات بسلخ البوسنة والهرسك فصاحوا وزمجروا ولكن لم يتعبروا فداهمتهم الصديقة الثانية باحتلال طرابلس الغرب لاعتقادها أن الدولة العلية لم تتجاوز مع النمسا حد الجعجعة وهي قريبة منها فما عساها تفعل الآن مع إيطاليا وهي بعيدة عنها. كل ذلك وساسة البلاد لا يعتبرون بل لم يزالوا ينتظرون حدوث عجيبة لاعتقادهم أن من أقسم عَلَى ضريح صلاح الدين لا يلبث أن يمتشق حسامه ويضرب به أعداء الإسلام الضربة القاضية.

وكأني بهم أمام المحنة الأخيرة واقفين مستأمنين لا يحسبون للآتي حساباً متوهمين أن أزمة طرابلس الغرب هي آخر حلقة من سلسلة حياة الدولة فيحلون هذه العقدة ثم يستأمنون للدهر متعامين عن فلتات سياسة أوروبا القائمة بناموس بقاء الأفضل تاركين البلاد عرضة للمحن باختلال أحوالها وجهل أهلها وفقد الأمن منها.

قلب صفحات التاريخ لا تجد بلاداً اجتاحتها صروف الدهر ونابتها خطوب الزمان وكانت ميدان احتكاك المصالح فيها مثل بلاد الشرق. ولنضرب صفحاً عن العقد الكثيرة التي لم تحل فيها به كألبانيا ومكدونية والعربية ولننعم النظر فيما هو أقرب إلينا أي سورية وفلسطين ففيهما من مصالح الدول ما لا يوجد في غيرها من الولايات وبياناً لذلك نقول:

كان نفوذ الدول الأوربية في سورية قليل جداً قبل أواسط القرن الغابر. وأبرمت معاهدة لندن سنة 1840 فانفتح باب واسع لذلك النفوذ وكانت الجمعيات الدينية في ذلك العهد تنقل إلى الشرق مدنية الغربيين فتحينت فرصة ملائمة وغمرت سورية وفلسطين بعمالها المتسترين برداء التبشير الديني. وكانت فرنسا السابقة في هذا المضمار فغمرت بلادنا بالمعاهد الخيرية والتهذيبية بمهمة جمعية أخوية المدارس المسيحية وجمعية راهبات المحبة ولا عجب فقد وثقت علائقها مع الشرق منذ القرن السادس عشر بحمايتها فيه كاثوليك أوربا جمعاء وزكان مبشروها ينزلون ربوع سورية بالرغم مما قام في سبيلهم من المصاعب والمشقات. ولم تغفل عن تأييد مصالحها في الشرق بكل الوسائل الفعالة عَلَى اختلاف الأحوال حتى في أيام حكومة الكونفاسيون والدريكتوار والاضطرابات الداخلية قائمة عَلَى قدم وساق ولم يحد نابليون عن سياسة فرنسا التقليدية في الشرق فأسرع بعد إبرام الصلح مع الدولة العلية سنة 1802 إلى تجديد الامتيازات والمحالفات القديمة وأمر سفيره في الآستانة أن يبسط حمايته عَلَى كل كاثوليك سورية وفلسطين ولاسيما قوافل الزوار القاصدين إلى الأماكن المقدسة.

ولما كان يقتضي لهذا الأمر مبالغ وافرة من المال أخذت الحكومة الإفرنسية تمد عمالها بالمال المطلوب. ولا نعلم ما كان ينفق في سبيل ذلك قبل الإمبراطورية الثانية عَلَى أن الحكومة أدخلت في ميزانية وزارة خارجيتها كمية تنفق سنوياً عَلَى الأعمال الخيرية والتهذيبية تبلغ قيمتها 300000 فرنك فأصبحت سنة 1883 خمسمائة ألف وسنة 1892 سبعمائة ألف وسنة 1900 ثمانمائة ألف.

عَلَى أن الحكومة لا تشتغل وحدها في إنشاء المدارس وتنظيمها فهناك جمعيات أخرى قامت للغاية نفسها. ففي سنة 1856 أسست جمعية أعمال مدارس الشرق ' ' وأخذت تجمع مبالغ وافرة وتوزعها عَلَى المعاهد الخيرية ومدارس الرهبنات في الشرق تبلغ قيمتها 300000 فرنك. ثم أخذ الميل ينمو في فرنسا لتوسيع نطاق أعمالها وتعزيز مكانتها فأسس إثر ذلك الاتحاد الإسرائيلي ' الذي يوزع عَلَى المدارس السورية عَلَى اختلاف أصبغتها أربعين ألف فرنك.

ولم يكن لفصل الكنيسة عن الحكومة في فرنسا أدنى تأثير في حال المدارس السورية لأن الأحرار والمحافظين لم يختلفوا في أمر الاحتفاظ بمعاهد فرنسا الخيرية والعلمية في الشرق بل رأينا الأحرار كثيراً ما يوجهون إلى الحكومة الإفرنسية قوارص الكلام في مجلس الأمة لتخلفها عن خصومها في الشرق أي ألمانيا وإيطاليا.

وفي سنة 1900 تحسنت ميزانية هذه المدارس إذ جعلها مجلس النواب بأكثرية الأصوات 850000 فرنك ما عدا نفقات مدارس الرهبات الإفرنسية التي لا تزال في نظره تافهة لمصالح الدولة وقرر بذل المجهود لنشر التعليم المدني وتقويته في أملاك الدولة العلية.

عَلَى أن نجاح ألمانيا وإيطاليا الباهر في الشرق وسرعة انتشار نفوذهما حملا الحكومة الإفرنسية عَلَى انتهاج خطة أكثر حزماً وثباتاً مع توسيع ميزانية المدارس الشرقية بصورة قانونية بحيث لا تبقى عرضة للأخطار والتضعضع فحولت تلك الميزانية العرضية إلى بند خصوصي أدخلته في ميزانية نظارة خارجيتها لسنة 1911 تحت نمرة 22 بموجب هذا البند ينفق مليون فرنك عَلَى المعاهدة الإفرنسية في سورية وفلسطين ليوزع عَلَى الطريقة الآتية:

450000 فرنك لمدارس الرهبنات منها 30000 للمدارس العليا و60000 للمدارس الوسطى و360000 للمدارس الابتدائية.

و383000 فرنك للمدارس المدنية منها 157000 للمدارس العليا و131000 للمدارس المتوسطة و95000 للمدارس الابتدائية.

و45000 فرنك تنفق عَلَى مدارس مختلفة و122000 عَلَى المعاهد الطبية وتأخذ المعاهد المدنية علاوة عَلَى ذلك 170000 فرنك مساعدة من جمعية البعثة اللادينية (العلمانية) التي أسست سنة 1902.

فما ذكر يبدو للعيان أن فرنسا تسعى سعياً حثيثاً في تحسين مركزها في سورية ولا تبخل بالمال في سبيل ذلك. ونعتقد أنها قد لا تكتفي بمليون فرنك لازدياد نفوذ ألمانيا وإيطاليا اللتين تمدان يديهما إلى اقتلاع حماية الكاثوليك في الشرق الأدنى من يدها. ولا شك أنها لا تتوقف عن كل ما من شأنه المحافظة عَلَى اسم الجمهورية وشرفها.

أما إنكلترا فإنها قد رافقت فرنسا في عمل نقل المدنية الغربية إلى سورية وفلسطين. وكان المبشرون من الإنكليز ينشرون في المدن الكبرى وفي ربوع لبنان حتى أقصاها وينشئون المدارس والكنائس والمستشفيات للمرضى فعمت اللغة الإنكليزية وراجت تجارة إنكلترا وعظمت المنافسة بين النفوذ الإنكليزي والفرنساوي. عَلَى أنا لا ندري ما تنفقه الحكومة الإنكليزية عَلَى مدارسها ومعاهدها الخيرية في سورية أما فلسطين فقد عرفنا من أوثق المصادر أنه ينفق عليها أربعمائة ألف فرنك ولإنكلترا في سورية أضعاف ما لها في فلسطين من المعاهد الخيرية وغيرها.

ودخلت النمسا سورية بعد إنكلترا وفرنسا لاشتغالها عنها بالبلقان حيث كانت تسعى جهدها بتعزيز مركزها والبلقان مركز نفوذها دينياً وسياسياً. غير أنه لما رأت ما أحرزته إنكلترا وفرنسا من النجاح الباهر في سورية نوت من مناوأتهما لتفتح لتجارتها سوقاً جديدة وفازت بذلك بهمة جمعية الفرنسيسكان الغنية التي تنشر النفوذ النمساوي بهمة لا تبارى فتنشئ المدارس والمستشفيات للمرضى وبيوت العجزة وتجري الحفريات الأثرية وتبتاع الأماكن الثمينة بالنظر إلى تاريخها المقدس.

ولم نتمكن من الوقوف عَلَى كمية المبالغ التي تنفقها الحكومة النمساوية في سورية وفلسطين عَلَى مدارسها ومعاهدها الخيرية لإبقائها ذلك في طي الكتمان إنما نترك للقارئ تقدير ذلك متى علم أن النمسا تنفق عَلَى دار الغرباء وحدها في القدس 12000 كرون وذلك بموجب ميزانية وزارة خارجيتها وأضف إلى ذلك الإعانات العديدة التي يمد بها الأهالي جمعية الفرنسيسكان وما يدفعه الإمبراطور فرنسيس يوسف من ماله الخاص. وهذا ما لا يمكن معرفة حقيقته.

أما إيطاليا فإنها بعد اتحادها سنة 1861 فقد وجهت أنظارها إلى الشرق أسوة بغيرها من الدول الأوربية. وكانت الحكومة إذ ذاك فقيرة فخصصت في ميزانيتها اعتماداً زهيداً لا يتجاوز أربعين ألف فرنك إعانة لكل المدارس الإيطالية في الشرق.

وفي سنة 1870 تضعضعت فرنسا في حربها مع بروسيا فطلبت إيطاليا أن تأخذ عَلَى عاتقها حماية الكاثوليك فلم تقبل فرنسا أن تتنازل عن حقوقها. وبلغت المنافسة من هذا الوجه معظمها سنة 1883 فكانت إيطاليا تلج بطلب حماية المبشرين الإيطاليين وفرنسا تعارضها لاعتقاد الاثنتين أن في هذه الحماية ما يجعل لهما شأناً عظيماً في هذه البلاد.

ولما كانت إيطاليا تبغي إيصال نفوذها إلى أقصى درجاته فتحت اعتماداً في ميزانيتها للدارس الشرقية لسنة 1883 - 1884 قدره ثمانون ألف ليرة. وما كان هذا المبلغ ليحسب عظيماً لو لم تكن ماليتها إذ ذاك في حالة يرثى لها. لكنها لم يتسنى لها مع ذلك حماية المبشرين الإيطاليين فقررت إنشاء عدد كبير من المدارس المدنية وخصصت لهذه الغاية سنة 1887 إعانة سنوية قدرها مليون ونصف من الفرنكات. غير أنها لم تفلح في هذا المسعى لما يقتضيه التعليم المدني من النفقات الباهظة ولعدم تمكنها من إيجاد معلمين لهم خبرة كافية للقيام بمثل هذا العمل. فعادت تحاول سلب حقوق فرنسا بحماية الكاثوليك وأَسست لهذه الغاية في فلورنسا جمعية جنسية لحماية المبشرين الطليان فاضطرت فرنسا أن تتنازل عن بعض حقوقها واتفقت مع إيطاليا في سنة 1905 عَلَى أن المعاهد وكان لهذا الفوز السياسي الباهر تأثير سيء في فرنسا اضطرب له الرأي العام أيما اضطراب.

ولم تكن إيطاليا بعد فوزها عَلَى فرنسا لتكتفي بالمليون والنصف من الفرنكات لأجل مدارسها فجعلت كل سنة تخصص مبالغ أخرى لمدارس الحكومة ومدارس الرهبنات التي أنشأها الإكليريكيون المطرودون من إيطاليا بأمر الحكومة. وفي الخامس من تموز سنة 1905 صادق مجلس النواب عَلَى زيادة ميزانية المدارس السورية أربعمائة ألف فرنك فأصبحت نحو مليونين ادخل منها في ميزانية نظارة الخارجية 1350000 فرنك وفي ميزانية لجنة الاستعمار 550000 وتقرر توزيع المبلغ من قبل نظارة الخارجية بمعرفة نظارة المعارف.

ولما التفتت ألمانيا إلى الشرق كانت الدول قد رسخت أقدامها في سورية وفلسطين. عَلَى أن ذلك لم يمنعها من بسط نفوذها ونشر لغتها بسرعة لا توصف شأنها في كل حالاتها مع الدولة العلية. وجعلت تخطو إلى الأمام بقدم ثابتة زاعمة أنها مدعوة للقيام بعمل حيوي لأن الحياة والتاريخ يدعوانها لتكون صلة التواصل بين الشرق والغرب ومرشدة روحية للشرقيين. وما من ينكر عليها أنها تقوم بهذا العمل أحسن قيام فما برحت تنقل إلى الشرق ما اكتسبته من الغرب ومن المدنية بواسطة عمال ملكيين وعسكريين وعلماء وأساتذة ومعلمين ومهذبين الخ.

ولم يفتها أن حماية الكاثوليك في الشرق كانت أعظم الأسباب الآيلة إلى تعزيز مركز فرنسا فأخذت تسعى للحصول عَلَى حقوق حماية الكاثوليك الألمانيين وأول عمل قامت به لنيل مآربها تأسيس جمعية فلسطين وعهدت إليها بإدارة المعاهد الألمانية الشرقية. وكانت بعد ذلك سياحة الإمبراطور في بلاد الشرق فقال وزير خارجية ألمانيا في مجلي الأمة نحن بعيدون عن فكرة حماية كل المسيحيين في الشرق لكن حماية الكاثوليك الألمان من حقوق الإمبراطور دون منازع. ولم تعارض فرنسا بل تنازلت عن حقوقها لألمانيا. . .

وفي هذه السنين الخيرة نمت أعمال ألمانيا نمواً غريباً إذ أَسست كيراً من المدارس الابتدائية وعدة مدارس عالية ومدرسة إكليريكية في القدس وغيرها من صناعية ومستشفيات وهياكل معتمدة في كل ذلك عَلَى الجمعيات الكاثوليكية والإنجيلية الألمانية وعَلَى اللجان الجنسية التي تستمد قوتها من الاتحاد النمساوي العام. وحذت الحكومة حذو إمبراطورها الحكيم فقدمت الإعانات للجمعية عَلَى اختلاف المذهب لتبعد عنها روح المنافسة المضرة بالمصالح الوطنية. وما عدا ذلك فقد فتحت اعتماداً في ميزانيتها قدره 850000 مارك ينفق عَلَى معاهدها في سورية وفلسطين بمعرفة وزارة خارجيتها.

ولم تغفل روسيا عن مساعي الدول الأوربية في سورية وفلسطين ونجاح الجمعيات التبشيرية. ومكان الشرق الأرثوذكسي قد اعتاد من القديم أن يعتبر روسيا حامية له في أيام المحن. واعترفت لها الدول بذلك بواسطة معاهدات دولية كانت نتيجة حروب كثيرة سالت فيها الدماء أنهاراً. فلم يسعها إلا الإقدام عَلَى مباراة الدول الأوربية بتأييدها مركزها في الشرق. فأسست لهذه الغاية سفارة روحية في القدس ما لبثت أن باشرت سنة 1847 بفتح المدارس وإنشاء المعاهد الخيرية وفي سنة 1858 بعد انتباه حرب القريم أقامت في المدينة نفسها أقامت في المدينة نفسها قنصلاً لها.

عَلَى أن السفارتين لم يكن في وسعهما مباراة الجمعيات الأجنبية بالنظر لحرج المركز الذي لا يسمح لممثلي الحكومة أن يتوسعوا في العمل وأدت الحاجة إلى تأسيس جمعية خصوصية غير مقيدة بمركز رسمي نظير الإرساليات الأوربية تطلق يدها في العمل بدون خوف وهكذا كان.

ففي سنة 1882 وضع الأساس لجمعية فلسطين الأرثوذكسية التي أُطلق عليها سنة 1889 إمبراطورية ليتسنى لها جمع الإحسان من الشعب الروسي الذي يعتقد أن الإمبراطور لا يهب اسمه إلا لما فيه المنفعة للوطن. وباشرت الجمعية بإنشاء المدارس وصادفت صعوبات شتى لم تلق مثلها الجمعيات الأوربية لأن المعاكسات بدت من حيث لم ينتظرها أحد أي من الإكليروس اليوناني الذي يكره الروسيين فسهلت لهم سبل الوصول إلى الأراضي المقدسة وأقامت لهم الأبنية في القدس الشريف وغيرها وأنشأت عدة مستوصفات لهم ولتلاميذ مدارسها كل ذلك والخزينة الروسية لم تنفق بارة واحدة بل كان الشعب الروسي الساذج مصدر هذه النفقات الوحيد.

وفي سنة 1892 فحصت كل أعمال الجمعية وما أنتجته خلال العشر سنوات التي مضت عَلَى تأسيسها فثبت أنها نجحت وأفادت الزوار كثيراً وآوت بعض اولاد الأرثوذكسيين وأمدتهم بالمساعدات الطبية وحق لها أن تكسب ثقة الحكومة الروسية ولما كان عدد الزوار يزداد من سنة إلى سنة والمدارس لم تسد كل الحاجة والإحسانات لا تقوم بكل ما تطلبه التحسينات الحيوية من النفقات طلبت الجمعية من الحكومة إعانة قدرها 600000 روبل أي 80000 ليرة وأيد طلبها رئيسها الغرندوق سرجيون وقد للحكومة ضمانة لهذا الدين كل ما تملكه الجمعية من عقار وغيره ما تبلغ قيمته مليوني روبل. فرفض وزير المالية (فيت) طلبه لتضعضع المالية في ذلك الحين. ولم يبق للجمعية إلا أن تتابع عملها متكيفة بالإحسان من الشعب الروسي ولكنها عادت سنة 1895 فطلبت من الحكومة أن تقرضها أربعة آلاف ليرة لتنفقها عَلَى المدارس السورية التي أنشأتها بطلب من البطريرك الأنطاكي سبيريدون ففتحت لها الحكومة اعتماداً بالقيمة المذكورة وأدخلته في ميزانية المجمع المقدس عَلَى أن تنفقه عَلَى السفارة الروحية في القدس.

ولما لم يكن في الإمكان متابعة العمل حسبما تقتضيه الأحوال بدون مساعدة كبيرة طلبت من الحكومة ثمانين ألف ليرة تقبضها دفعة واحدة لتحسن أمورها وتستوفي من الاعتماد المذكور أعلاه في مدة عشرين سنة. فقبلت الحكومة بذلك وتكون الجمعية لم يحصل عَلَى مطلوبها إلا بعد سعي عشر سنوات وبشرط إيفاء المبلغ أقساطاً سنوية.

والأمر الغريب أن الحومة لم تنقدها المبلغ من مال الخزينة بل من ريع ملاك بسرابيا التي تديرها الحكومة ووفت الجمعية بوعدها. لكن الحرب اليابانية قللت من مداخيل الإحسان فلم تعد تستطيع وفاء دينها فاجلته إلى سنتين ثم إلى ثلاث واخيراً اضطرت إلى عدم الاحتفاظ بكل المعاهد التهذيبية والخيرية التي أنشأتها وصرحت للحكومة بأنها تضطر والحالة هذه إلى حصر أعمالها في دائرة ضيقة فتهدم ما بنته في سنين عديدة. فارسلت الحكومة مفتشين إلى سورية وفلسطين فحصواأعمال الجمعية وشهدوا بما تؤديه من المنافع الجمة للزوار الروسيين وللمدارس الأرثوذكسية فتقرر إيجاد مبلغ يدخل بصورة قانونية إلى نظارة الخارجية فتنفقه الجمعية عَلَى تحسين المدارس في سورية وفلسطين بحيث تفي باحتياجات الأهلين نظير المدارس الأوربية في هذه البلاد. ومن هنا نستنتج أن الجمعية الفلسطينية الروسية أنشأت معاهدها في هذه البلاد دون أن تساعدها الحكومة بشيءٍ بعكس ما رأيناه في أمر المدارس الأوربية الأخرى. وأنها لم تحصل عَلَى الوعد بالمساعدة المنظمة القانونية إلا بعد مضي 39 سنة عَلَى تأسيسها.

هذا شيءٌ عن حالة أوربا في سورية بسطته للقارئ وله أن يستنتج ما عسى أن يكون مستقبل هذا الوطن المحبوب إذا لم تبادر الحكومة إلى إزالة كل ما من شأنه حمل الدول الأوربية عَلَى التدخل في شؤوننا. وما هي إلا فاعلة ذلك عن شاء المولى الكريم وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وطني