مجلة المقتبس/العدد 72/النهضة الفكرية في سورية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 72/النهضة الفكرية في سورية

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 2 - 1912



الإقبال عَلَى الآداب منظومها ومنشورها أول ما تنصرف إليه وجوه الأمم الآخذة بالنهوض ثم تنبعث الرغبة في الفنون والعلوم بحسب الحاجة والدواعي. وبعد أن اضمحلت الآداب في سورية فبلغت حداً غريباً من الابتذال في القرن الثاني عشر للهجرة وآنت أدبيات أهل الطبقة الراقية في ذاك العصر تافهة بشعة لا شأن لها ولا ذوق فيها عادت فأخذت تسير نحو الحياة في منتصف القرن الثالث عشر بما هب عليها من نسمات التجديد السارية من عقول المنورين المتأدبين من السوريين والمصريين والتونسيين.

فنشأ للغة كتاب وشعراءٌ من مصر والشام ومنهم أخذوا يعودون بمنظوماتهم ومنشوراتهم إلى سالف نضرة اللغة من الرصانة ويقلدون أدباء الإفرنج في تصوراتهم. وكان لمصر في هذا الشأن يد طولى أسداها إلى الآداب العربية جد البيت الخديوي الأول فعمت المعارف في مصر ومنها انتشرت إلى سائر الأقطار. وإن كان بعض من يريدون أن يحصروا الفضل كله في سورية ولاسيما في المدارس الأجنبية يتكررون هذه الحقيقة التاريخية المدركة.

لا جدال في أن المدارس الأجنبية قد أحسنت عَلَى عهد نشأتها في بلاد الشام واهتمت بخدمة الآداب العربية اهتمامها بخدمة آداب لغتها الأصلية وإن بذلك كثرت صلاتنا التجارية والعلمية مع أوربا وأميركا وصار الإفرنج يطوفون أو يسكنون ديارنا وأمسينا لا نفزع من نزول ديارهم أو الرحلة إليها.

وعَلَى هذه الصورة أخذنا ندرك اليوم بعد اليوم نقصنا بالقياس إلى الغربيين فيسعى المنورون منا إلى بث أنوار المعارف والفضيلة ويشعرون بالمصلحة العامة ويتوفرون عَلَى إصلاح الأفكار السقيمة.

النهضة الفكرية في سورية متلونة كأبي براقش بتلون الأوعية التي تخرج منها فنهضة المسلمين مثلاً آتية من مدارس الحكومة عَلَى الأغلب عَلَى يد أُناس من العرب تعلموا التركية في المدارس الملكية والعسكرية في الولايات السورية أو في الآستانة وهؤلاء في الأكثر تعلموا ما تعلموا ليصبحوا موظفين وغايتهم أن يتدرجوا في سلك المراتب والمناصب ليعيشوا عيش الراحة والاتكال. ولولا نفر منهم تداركوا أمرهم بعد نيل الشهادات المؤُذنة بكفاءاتهم من المدارس الأميرية فأخذوا يحاولون أن يكتبوا بلغتهم ويتذوقوا أدبياتها ليلموا عَلَى أمتهم بعض ما غلب عليهم من المعارف الجديدة لقلنا أن تلك المدارس لم تأتنا بخير إلا بكونها صاغت من سورية موظفين آخرين فزادت الدولة بهم عبثاً فوق عبثها الثقيل من الأتراك الذين جعلوا وظائف الحكومة أقصى ما يبلغونه من درجات الكمال وسعادة الحال والمآل.

ثم أن طبقة الموظفين في جميع الأمم التي تسير عَلَى نظام الأوربيين لا يأتي في الغالب منها كبير أمر لأن الاستخدام مبني عَلَى الطاعة وارتقاء الموظفين مناط باعتزالهم وأحسن أعمالهم الخضوع لإرادة الرؤساء مهما كانت وهناك الارتقاء مضمون ولذلك قلما أثر موظف في نهضة الأمة الفكرية خلا أفراداً في مصر عرفوا منذ زهاء سبعين سنة إلى اليوم كيف يستخدمون أوقاتهم وحريتهم ليجعلوا لكل من حكومتهم وأنفسهم وأمتهم حظاً وتكون أعمالهم سلسلة نافعة من كل وجه.

أما في سورية فإننا نجد من تذوقوا شيئاً من الأدب وحبسوا أنفسهم عَلَى التوظيف لم يأتوا بما نفع في النهوض اللهم إلا إذا كانوا يروون تلك الدواوين الشعرية والأماديح النثرية التي يرسلونها في تمجيد الحاكمين عَلَى اختلاف درجاتهم تعد من الآداب في شيءٍ ولا يحضرنا الآن اسم بضعة من الموظفين يصح أن نوردهم مثالاً صحيحاً نحتج به عَلَى من يوقن كل الإيقان أن الموظفين مهما بلغوا من التربية والتعليم فلا يرجى أن ينتفع بهم إلا في الفروع التي تمحضوا لها من خدمة الحكومة.

وإذا كانت الشام واقفة عند حد الاعتماد عَلَى مدارس الحكومة والحكومة لا تعلم إلا ما ينفعها ومدارس الأجانب لا تعنى إلا بالعرض بما نفع البلاد بقيت النهضة الفكرية مذبذبة لا تركية ولا عربية ولا إفرنسية ولا أميركانية ولا إنكليزية ولا ألمانية ولا روسية ولا يونانية ولا إيطالية. كما أنها ليست إسلامية سنية ولا شيعية ولا باباوية كاثوليكية ولا مارونية ولا أرثوذوكسية ولا برتستانتية ولا إسرائيلية ولا درزية وبهذا صح أن نقول أن سورية بابل اللغات واللهجات كما هي بابل الأديان والمذاهب وإن النهضة في أصقاعها كأجوائها في التلون وأغوارها في الحرارة ونجادها في البرودة.

لم تنشأ في البلاد مدارس أهلية إلا في دمشق وبيروت وحمص وطرابلس وصيدا مثلاً منذ عهد قريب وهي لم تطل أعمارها بعد حتى يتخرج منها تلاميذ يكون واحدهم بألف في غنائه وكفاءته ويبذ المتعلمين في مدارس الأجانب ومدارس الحكومة معاً ويتلقن في مدرسته أن المقصود من العلم إنارة المتعلم نفسه وذويه ونفع قومه ولغته وأمته.

وممن يساعدون اليوم عَلَى ترقية الأفكار وإزالة غشاوة الأوهام بعض الصحف وفئة من ناشئة الشام تتلقى العلوم المختلفة من مدارس الغرب ولاسيما في فرنسا وسويسرا وإنكلترا وألمانيا وأُناس من وجوه البلاد أخذوا يغشون ديار الغرب للزيارة وهم عَلَى قلتهم يفيدون فيم يتصونه عَلَى قومهم من مشاهداتهم وإعجابهم بأوضاع المدنية الحديثة وقصور سورية بالنسبة إلى ذاك التقدم المدهش.

هذه العوامل الثلاثة في ارتقاء سورية وهي الصحف والمتعلمون في مدارس الغرب والسائحون في ديارهم إذا حسنت أكثر من الآن وقويت وكثر عديد الشاعرين بها تنهض بالبلاد ولاسيما مدن الداخلية كما أفادت هجرة اللبنانيين خاصة في تمدين لبنان فعد من سورية بمثابة باريز من ولاياتها أو القاهرة من بلاد أقاليم مصر ولذلك كانت الحركة الفكرية في لبنان وبيروت أرقى منها الآن في دمشق وحلب إذ التعلم فيهما أكثر من هاتين القاعدتين وحركة لبنان وبيروت في الفكر مادية ولذلك قلما ترى الرغبة اليوم في مدارس بيروت والجبل منصرفة عَلَى العلوم الأدبية والفنون بقدر انصرافها إلى إتقان اللغات الأجنبية ولاسيما الإنكليزية والإفرنسية يستخدمونهما في التجارة ويتسلحون بهما للاستعانة عَلَى الهجرة إلى أميركا الشمالية وأوستراليا وكندا وجنوبي أفريقية ومصر والسودان.

وبعد فإن حال النهضة غريب في هذا القطر فكما كان العمران في السهوب والوهاد في كور محدودة معروفة هكذا تجد النهضة الفكرية في انتشارها موزعة عَلَى المدن الآن وبعضا لا حظ لها منها إلا بقدر حظ الدساكر والقرى فترى اللاذقية وعكا مثلاً بنهضتها الفكرية دون حيفا ويافا مثلاً مع أن للمدينتين الأوليين تاريخاً مجيداً مهماً ونابلس وحماة متشابهتان وإن كانت الأولى تفوق الثانية بكثرة الناهضين للتعليم من أبنائها وحمص تشبه طرابلس والصلت تشبه بعلبك ولكن هناك نحو مئة بلدة لا تقل نفوس الواحدة منها عَلَى بضعة ألوف من السكان وهي لا تخرج في نهوضها الفكري عن أحقر المزارع وذلك مثل دومة وجوبر وعربيل وداريا في غوطة دمشق ويبرود وجيرود ودير عطية والنبك في جبل سنير (قلمون) وحاصبيا وراشيا في وادي التيم والسويداء والرمتا ودرعا ونوى وبصرى في حوران وغيرها من أُمهات القصبات في ولايات سورية وحلب وبيروت ومتصرفيات لبنان والقدس والزور وهي جماع أقاليم بلاد الشام.

قلنا أن نهضة سورية ذات ألوان كثيرة وذلك لاختلاف مصالح الأمم الغربية في هذه الديار وللسياسة والدين تأثير شديد في هذه الحركة ولولاهما ما رأينا تلك المدارس المبثوثة في القدس والناصرة وبيروت ولبنان ودمشق وحلب ومرعش. بل في بعض القرى والقصبات. وبينا تجد الدولة تجدّ ولاسيما في العهد الأخير بنشر لغتها وكادت ولاية حلب تعد من الولايات التركية نجد الأرض المقدسة ولاسيما طبريا وحيفا ويافا والقدس توشك أن تعد ولاية إسرائيلية وذلك لكثرة المهاجرين في العشرين سنة الأخيرة من الإسرائيليين الروسيين والنمساويين والألمان وغيرهم ومنهم دعاة الصهيونية يريدون أن ينشئوا مع الزمن في فلسطين مملكة تكون سداها ولحمتها بيد أبناء إسرائيل من أجل هذا تراهم في مدارسهم لا يعلمون العربية ويجعلون اللغة العبرية لغة التعليم والتخاطب ولهم في فلسطين جرائدهم ومطبوعاتهم ينشرونها عَلَى مناحيهم بمأمن من مراقبة الحكومة وتوفيق الخطة عَلَى ما يلاءم مصلحة البلاد ولذا تشهد في مدن فلسطين ولاسيما في القدس ويافا وحيفا غرائب الألسن فتظنك في بور سعيد اليوم تشمع بضع لغات والبلاد عربية ولكن بالاسم فقط.

ومهما يكن من صيغة النهضة في قواعد البلاد ومدنها فإن أعمالها من بلاد الأقاليم كالقرى والدساكر لا تزال بمعزل عن كل نهضة وحسبك أنك تمر إلى اليوم في بضع قرى ولا تجد من يستطيع أن يقرأ القراءة البسيطة فضلاً عن كتابة سطرين وهذا شان الأقاليم التي لم تدخل إليها الإفرنج أو دعاة البرتستانتية عَلَى القل مثل الصلت والكرك وتنشئُ المدارس لبث دعوتها كمعظم ألوية حوران والكرك واللاذقية والزور.

نعم تسير الأيام الطويلة ولا تشهد السكان إلا كما كانوا منذ بضعة قرون تجتاز تدمر وجرش وبلاد موآب وأرض الشراة والبلقاء وارض منبج وحران والرقة وبلاد الجولان وارض الصفا واللجاة وغيرها فلا تكاد ترى مدرسة أهلية تذكر ماضي هذه الأقاليم فلا تلبث أن تنهل عبراتك عَلَى بلاد نام عليها رعاتها وأقاليم كل منها بمساحته وخصبه وذكاء أهله ومضائهم لا يقل عن أحسن أقاليم قارتي أوربا وأميركا.

ربما توهم واهم أن الحرية العثمانية أبرزت من القوى ما كان كامناً في النفوس ولكننا لم نشهد من علائمها شيئاً يستحق الذكر اللهم إلا أولئك النفر من المتأدبين الذين جربوا أنفسهم في نشر الصحف والمجلات وتأليف الأسفار والمترجمات يحاولون منها الرزق أولاً فخسر أكثرهم عَلَى أن معظم ما نشر في السنين الأربع الأخيرة من المصنفات والمقالات يدل عَلَى أن الأمة هنا لم تزل في دور التجارب وهيهات أن تعد في مصاف الأمة المصرية حتى بعد ربع قرن فالأسماء هنا أكثر من المسميات وإن تكن الهمم عالية أكثر من مصر في الجملة ولكن أين نحن من نضوج العلم في وادي النيل وتلك الفئة الرشيدة من العلماء والكتاب والمفكرين والسياسيين والخطباء الواعظين.

يقولون أن الكليتين الأميركية واليسوعية في بيروت تخرجان رجالاً أكفاءً فأين آثارهم نستدل بها عَلَى فضلهم ووطنيتهم وما نخالهم يستطيعون أن يأتونا بغير مقالات خيالية أو قصص غرامية مسلوخة أو ممسوخة من اللغات الأجنبية. وكان في مقدرة أولئك المتعلمين عَلَى التواءٍ في نظام تعليمهم أن يأتوا وهم متوفرون عَلَى أعمالهم المادية بشيءٍ من المعارف لوطنهم يخدمونه بها ولكن القوم بلغت بهم الأثرة وحب الماديات حتى صاروا لا يتعلمون العلوم إلا إذا كانت تنفعهم لجلب الرزق وما عدا ذلك فليس له حظ من الأعراب في جملة حالهم.

وهذا من آكد الأسباب التي دعت فئة من المتعلمين ولاسيما في لبنان والساحل أن يعرضوا عن درس اللغة العربية ويستعيضوا عنها بالانصراف إلى تعلم إحدى اللغات الأجنبية لأن هذه بزعمهم تعود عليهم بجماع الفضائل والمحامد والغنى وتلك لا تفيدهم في مادياتهم ولا في أدبياتهم ولكن فات هذا الفريق من المتعلمين إنهم مهما بلغوا من أحكام ملكة اللغات الأجنبية لا يتعدون فيها قدر الترجمان البسيط وإن من جميع من اشتهروا بإتقان اللغة الإنكليزية أو الإفرنسية حتى الآن من أبناء سورية لا نعرف بضعة أشخاص يستحقون أن تنشر مكتوباتهم في مطابع الغرب إلا بعد أن ينظر فيها أبناء تلك اللغة وينمقونها ويتعاورونها بالحذف والإثبات.

وبعد فإن النهضة الفكرية لا تكون عَلَى أتمها إلا بالتعليم وهذا التعليم مفقود من سورية اللهم إلا علة مناحي الفرنسيس والأميركان وغيرهم ولذلك كانت النهضة السورية أشبه بجنين لم تظهر سحنته وتتم خلقته. وما دام التفرنج من جهة والتترك من أخرى يستحيل عَلَى بلاد الشام أن تدعي بأن فيها نهضة فكرية عربية ولا يفعل أكثر من يتعلمون إلا أنهم ينقلون أنفسهم إلى أبناء اللغة التي يتعلمونها وينسلخون من قوميتهم.

وربما يقول بعضهم ما هذا الغلو في تقدير هذا الخطر المداهم والمتعلمون أفراد والسواد الأعظم لا في العير ولا في النفير لم يبرحوا عَلَى الفطرة وسيتعلمون ما سيكتب لهم فالجواب أن الأفراد هم العمدة والفرد المتعلم اقدر عَلَى معرفة المدخل والمخرج من عشرة آلاف أُمي ولو كانت كثرة العدد تنفع كل حين لما رأينا سكان الهند يخضعون للإنكليز وجزائر الملايو أو جاوة يخضعون للهولانديين وغيرهم من الأمم الشرقية الضعيفة يخضعون لغيرهم من الأمم الغربية القوية. وعَلَى الجملة فإن نهضة سورية عَلَى غير ما تقتضي الحاجة الوطنية فهي لا شرقية ولا غربية بل هي من كل البلدان وثمرة كل الشعوب والناس قد شعروا بنقصهم ويسعون عَلَى تعليم أبنائهم في معظم الأقاليم والشعور بالنقص أول درجات الكمال كما أن ميل الناس إلى المشاركة في المسائل العمومية دعا إلى ترقية المحيط والتجافي عن تافه الأحاديث فعسى أن تنمو هذه الجراثيم وتنتقل من دور الحضانة إلى دور الطفولة والفتوة في قليل من السنين.