مجلة المقتبس/العدد 7/جيوش المستقبل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 7/جيوش المستقبل

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 8 - 1906



جاء في العدد الأخير من مجلة البابيروس التي ينشئها صديقي ميخائيل مونان الكاتب الأمريكي البليغ مقالة من قلمه تحت عنوان صورتان يقابل فيها بين كلام لكاريل في الحرب وكلام لكارل مركس فاستحسنت نقلها إلى المقتبس لإرجاء نشر محاسن مجلة صديقي الصغيرة النفيسة التي لا تنفعها الشهرة العربية بل حرصاً على بث رأي الفيلسوف الألماني الجميل وحباً بالسلم العام الذي لا يستتب كل الاستتباب إلا إذا تأصلت جرثومة بغض الحرب في قلب كل إنسان. لكاريل فصل مشهور يصف فيه جيشين متعاديين واقفين في ساحة القتال ينتظران أوامر قوادهما على حين ليس من عداوة بين رجال الجيشين ولا ثأر ولا تراث ولا يحملهم على القتال شيء من الضغائن الشخصية ولا دعاهم إلى ساحة الحرب داع من دواعي الأمة والوطنية التي يحسبها بعضهم شريفة جليلة فهم هناك امتثالاً لإرادة حكامهم المطلقة وطوعاً لأوامرهم العالية. هم ثمت لا لأسباب لها مساس بشؤونهم العالمية ولا لدواع تستلزمها مصالحهم الخصوصية ولا لأغراض ينفعهم تعزيزها وتنفيذها ولا لمبادئ يهمهم نشرها ومعرفتها وتراهم مع هذا هجروا نساءهم وأولادهم وبيوتهم وآباءهم وأمهاتهم وكل ما يرغبهم في الحياة ليريقوا دماءهم الطاهرة ودماء غيرهم من الأبرياء من أجل أهواء حكامهم الخبيثة أو مطامعهم الباطلة. وفي كلا الجيشين كهنة يحرضون الرجال على القتال ويزينون لهم الجهاد في سبيل الأمة والوطن. يزينون لهم سفك الدماء الذي يؤهلهم إلى الخلاص بالمسيح كما يزعمون. ويبرهنون لهم أحسن برهان بأن عملهم هذا مطابق للإرادة الإلهية التي يمثلها في حكامه المختارين المباركين ولما كان الكهنة يعزون مثل هذا الجهاد إلى إرادة إلهية شأنهم في كل حرب منذ بدأت القبائل والشعوب تغزو بعضها بعضاً للقتل والسلب والنهب فينتج عن ذلك أن الله عز وجل هو المسؤول وحده عن الحرب وأهواله. وهكذا يهجم المتحاربون بعضهم على بعض هجوم الوحوش الضارية وقد فعلت هذه المنبهات الدينية في الرؤوس فيذبحون إخوانهم ويفادون بأنفسهم للذبح راضين قانعين لأن حكامهم أمروا بذلك وكهنتهم آذنوا به بل حرضوا عليه. على أنهم يسيرون إلى ساحة الحرب بادئ بدءٍ بفتور همة وتردد حتى إذا تقابل الجيشان تتغير الوجوه وتلعب في القلوب روح الهمجية ونهمة القتال. فينقلبون سريعاً وأي انقلاب. ولم يكونوا من قبل ليفكروا في غير بيوتهم وعيالهم المهجورة وفي النول والمحراث والمعمل وأدوات الصنائع المتروكة. وأما الآن فلا يهزهم سوى نهمة وحشية واحدة فتراهم قد فقدوا كل عاطفة بشرية تراهم يفرحون ويتهللون بسفك الدماء فيصرخون وقد ملأت رائحة الدم خياشيمهم اقتلوا اقتلوا اقتلوا. هذه هي الصورة الهائلة التي صورها كارليل.

وهناك صورة أخرى تمثل الجيشين المتعاديين صورها كارل مركس بقلمه. وليست الصورة هذه مشهورة كالأولى ولكن ستصبح عزيزة فريدة في المستقبل فتفوق صورة كارليل شهرة وتستمطر على موحيها ومؤلفها رضوان الله وثناء العباد. وليست هي في الحقيقة صورة بل هي نبوة قد يشاهد أحفادنا تحقيقها عياناً. وصف كارل مركس اجتماع الجيشين يقتتلان كما وصفهما كارليل فهما أيضاً مؤلفان من عامة الناس الذين يقدمهم الحكام طعمة للحرب قال: ها قد دعوا الآن إلى ساحة القتال ولا مصلحة تبعثهم عليه ولا غرض ولا ثأر ولا مبدأ ولا داع البتة ولا سبب يتعلق بشؤونهم الخصوصية ولا واجباً حقيقياً نحو الأمة والوطن يوجب عليهم سفك الدماء الزكية ومع هذا كله ترى الكهنة بينهم يحرضون على عادتهم عملاً بتقاليد تجارتهم وبعد أن يبثوا في الجيشين روح الدين - بعد أن يشحذوا في قلوب الرجال نهمة القتال يتقهقرون ساكنين ويتخذون لهم مراكز آمنة في مؤخرة العسكر. وكأنك بالجيشين قد تقابلا وصدرت أوامر القواد ولكن بدل أن يهجم الرجال بعضهم على بعض هذه المرة هجوم الأعداء تراهم قد رموا بسلاحهم إلى الأرض وتصافحوا مصافحة الإخوان. وعندئذ يختفي إلى الأبد شبح الحرب الهائل. ويهجر الكهنة والعقبان ساحة القتال آسفين. ويتنازل الحكام عن عروشهم ويتعزز الإخاء الحقيقي ويبتدئ عصر الإنسانية.

ومن لا يفضل صورة كارل مركس هذه على صورة كارليل: من لا يعمل استطاعته ليقرب اليوم الذي فيه تتحقق هذه النبوة؟ ومن لا يبذل ما في وسعه في سبيل هذه الأمنية الجميلة؟ فسقيا لليوم الذي فيه يبتدئ عصر الإنسانية والمحبة البشرية.

لبنان

أمين ريحاني