مجلة المقتبس/العدد 7/انحطاط المشرق بانحطاط الأخلاق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 7/انحطاط المشرق بانحطاط الأخلاق

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 8 - 1906



بسطنا الكلام في فصل سابق عن انحطاط المشرق وأبنا ثمة أن سببه انحطاط الأخلاق وعراقة الشرقيين في الحضارة وبلوغهم منها غاية قضت بتمكن الضعف منهم منذ زمان مديد ووعدنا بالعود إلى هذا البحث وإتمام الكلام عليه ووفاءً بالوعد نقول:

أشرنا في ذلك الفصل إلى أن الأخلاق السافلة التي تقضي بانحطاط الأمم وضعفها كثيرة وأن ما نراه منها مظنة انحطاط المشرق وأهله لا ينحصر بالملاذ البدنية بل هو أعم من ذلك وأن عامة الأخلاق الفاضلة في المشرق قد تطرق إليها الضعف فأضعف قوى الشرقيين ونفوسهم عن النهوض مع الناهضين والتسابق مع السابقين من أمم المغرب والخطر من هذا على المشرق عظيم يتهدد أهله بناموس الانتخاب الطبيعي القاضي ببقاء الأنسب. وحسبك دليلاً على ذلك هذا السكون المطلق الذي يخيم بسحبه المظلمة على آفاق المشرق بينا المغرب في حركة مستمرة يخترق صداها حجب الفضاء وتهتز لها جوانب الغبراء. فلو هبط الآن على الأرض هابط من عالم النجوم لخيل له أن المشرق وأهله عالم آخر لا اتصال له بالمغرب لما بينهما من التباين الذي يكاد يكون مستحيلاً في نظر العقل في عصر وصلت فيه الكهربائية والبخار بين جوانب الأرض وأصبح فيه العلم مشاعاً بين الأمم لا يقصر عنه نظر المتطاول. ولا يد المتناول. وما هذا التباين إلا أثر من آثار الأخلاق في رقيها وتدليها والإنسان إنما دعي إنساناً مميزاً بنفسه لا بجثمانه فالنفس هي التي تعلو بهذا الإنسان الضعيف حتى تبلغ به عنان السماء وتهبط به إلى الحضيض حتى يلتصق خده بأديم الأرض.

فكل ما في المشرق من وهن في العزائم. وفتور في الهمم. وإخلاد إلى السكون. وعجز عن النهوض. وتخاذل يفرق المجتمعات. ويأكل القوميات. ونفور من العمل. واسترسال في الجهل والخمول. ورضا بالضيم واستسلام للفاتحين والمستعبدين من الغربيين.

إنما هو نتيجة ضعف في النفوس تأصل فيها بضعف الأخلاق ويوشك أن يرجع بهذه النفوس البشرية إلى الجبلة البهيمية لو لم يقابله حكم هو أقرب لسنن الوجود وأشد أنحاءً على الشرقيين ألا وهو: فناء الضعيف في وجود القوي. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا.

إذن فداء المشرق كما تبين لك عضال ومرضه خطر قتال. وهو فساد الأخلاق وضعف ملكات العلم بلوازم الحياة. ولابد لتقويم الأخلاق من حسن المعالجة بمزاولة التربية الصحيحة وإحياء موات النفوس بالفضائل التي يرشد إليها العلم. والوصول إلى ذلك إنما يكون بأحد أمرين: إما بالشعوب أو بالحكومات: وفي كلا الحالتين فإن نهوض المشرق وقصد أهله هذا القصد يتوقف على وجود قادة في أممه وشعوبه يحسنون بهم السير ويأخذون بهم إلى سبيل الرشاد. على أنا نرى أن وجود القادة من زعماء الإصلاح الاجتماعي في المشرق لا يوصل إلى منتهى الغرض إلا إذا وجد أولئك القادة عضداً من الحكومات وناصراً من زعماء الرياسة والسياسة الذين أصبح في أيديهم قياد الأمم الشرقية. ذلك لما ثبت لنا من تناهي ضعف النفوس في المشرق وفقدها الشعور بالحاجة إلى الإصلاح النفسي والتربية العقلية.

ولنضرب لك مثلاً على ذلك بمن قاموا من قادة الأفكار في المشرق في عصر واحد وهو عصرنا هذا فقد سعى المركيز ايتو الياباني لإنهاض قومه في أقصى الشرق فأنجح سعيه ونهض باليابانيين إلى أفق السعادة لما أخذ بيده إمبراطور اليابان كما هو معروف. وسعى غيره كثيرون في أدنى الشرق فأخفق سعيهم لما لم يجدوا من زعماء الرياسة على الشعوب من يأخذ بأيديهم ويعضد سعيهم. ذلك لأن شعوب المشرق كما قدمنا قد مرنوا على الخمول لما تأصل فيهم من مرض الضعف وفساد الأخلاق الفاضلة التي تنهض بالنفوس إلى ذرى الاستقلال الذاتي فأصبحوا اتكاليين لا يسعون إلى عمل نافع إلا إذا سيقوا إليه سوقاً. واقتدوا برؤسائهم إذا كانوا لهم عوناً يضاف إلى هذا غرور الشرقيين ببقايا مدنيتهم الدارسة غروراً يقعد بالهمم عن تطلب غايات الكمال على أن إخفاق المخفقين إنما كان في الحصول على الثمرة العاجلة التي جناها ايتو اليابان وأما الآجلة فلم يكونوا يائسين من نيلها إذا ثابر الخلف من محبي خير الشعوب ومصلحي النفوس والمخلصين في النية والعمل لأقوامهم على إرشاد أمم الشرق إلى سبيل النجاة واستنهاض همم ذوي المروآت من زعماء الحكومات الشرقية إلى بسط جناح الرحمة على الرعية ومعونتها في القيام على أصول العلم النافع وتلمس وجوه الخلاص من براثن الفناء الذي يتهدد أمم المشرق في كل آن ولا يعدم المشرق أفذاذاً من المصلحين في كل عصر توافق دعوتهم من بعض الزعماء آذاناً واعية وقلوباً رقيقة ونفوساً سامية نقية من شوائب الفساد تنطبع عليها صورة الخير وتنزع إلى النهوض بالشعوب الشرقية من وهدة الذل والخمود.

ورب معترض يقول أن نهوض زعماء الحكومات بالأمم أمر غير متوقع الحصول لاسيما في المشرق ومادام الشرقيون قد بلغوا من الضعف ذلك المبلغ فأحر بزعمائهم أن يكونوا كذلك فالأولى أن تحث الأمم على النهوض بنفسها وترك الاعتماد على حكوماتها فالجواب عن هذا أن ذاك الاعتراض وجيه لا يقبل النقض بل هو القاعدة الأساسية في حياة الأمم لكن ذلك يجوز على أهل المغرب وأما أهل المشرق فقد أقعدهم عن العمل بهذه القاعدة طول عهدهم بالجمود والخمول الناشئين عن الإغراق في الحضارة كما قدمنا وتماديهم أجيالاً كثيرة في الاعتقاد بألوهية زعمائهم وما يتبعها من تسليم النفوس إليهم والتعويل في كل الشؤون عليهم وهي عقيدة وإن محتها الشرائع الإلهية من أكثر أرجاء المشرق إلا أن إدمان الأمم عليها غادر في نفوس الشرقيين من آثارها القبيحة اعتماد الشرقيين على حكوماتهم في كل شأن من شؤونهم العامة.

وهل تظن أيها القارئ أن الأمة اليابانية كانت تتجول عن مثل هذا الاعتقاد بميكادها (إمبراطورها) لو لم يتنازل هو نفسه عن ألوهيته بمحض إرادته وحب الخير لأمته ويفهم شعبه أنه بشر مثلهم لا قوة له ولا حول إلا بهم ولاحظ لهم سعادة الحياة ومسابقة الأمم إلا بجدهم وهل تظن الصينيين يبلغون من الرقي مبلغ اليابانيين إذا لم يفهمهم إمبراطورهم ابن السماء أنه ابن الأرض ويهدم مختاراً ذلك السور الهائل القائم بينه وبين أمته فيقودهم إلى الطريقة التي سلكها ميكادو اليابان بقومه ورفع لهم فيها بنيان الفضيلة والعلم بإخلاصه وعلو نفسه. وبالإجمال فالشرق يحتاج في نهوضه إلى حكوماته إذا أريد التعجيل في الحصول على الثمرة المبتغاة من دعوة المصلحين في كل قبيل منه وعند تعذر الحصول على هذه الثمرة يعدل فيه إلى الرأي الآخر ولابد في هذه الحال من قيام طائفة من كل قوم على تربية النفوس وبيان الفضائل التي تسمو بها النفس إلى أفقها الأعلى حق البيان والله بحسن العاقبة كفيل.

حلوان

رفيق العظم