مجلة المقتبس/العدد 68/الزلزلة العظمى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 68/الزلزلة العظمى

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1911



في دمشق وأعمالها

قرأت في الجزء السابع من التذكرة الكمالية لجدنا المرحوم الشيخ كمال الغزي هذه الوقعة العظمى فأحببت أن أطلع القراء عليها تتمة لتاريخنا الحديث قال:

إنه في سنة ثلاث وسبعين ومائة والف سادس ربيع الأول الساعة العاشرة من الليل قد رجفت الأرض رجفة مقلقة برياح عواصف ورعود قواصف فطاشت لها العقول وحصل والعياذ بالله غاية الذهول وتخلعت السقوف وتشققت الجدران وهدمت في الشام بيوت لا تحصى وسقطت رؤوس مآذن دمشق فمنها المأذنة الغربية والشرقية من جامع بني أمية وقع منهما في تلك الساعة حصة ومنارة العروس في ذلك الجامع ذهب منها شيءٌ يسير وبقية منارات جوامع دمشق لم يسلم منها إلا القليل وتلتها رجفات وزلازل وفي ثاني يوم من تلك الليلة ضحوة النهار رجفت الأرض وتزلزلت زلزلة شديدة فسقطت من منارة الجامع الشريف الأموي الشرقية جدران الشرقي والشمالي وسمع لها صوت هائل وما من منارة بدمشق إلا وهى بناؤها حتى أن منارة السليمية المحيوية بصالحية دمشق طارت منها حصة وافية وسقطت والجامع المظفري بها أيضاً ومنارة جامع سيباي والجامع المعلق وجامع حسان وجامع الأمير منجك بمحلة مسجد الأقصاب ومنارات الجامع بمحلة الميدان وبقية منارات جوامع دمشق تقصفت ولم يسلم منها إلا النذر القليل وقبة النسر العظمى في الجامع الشريف الأموي تشققت ووهت وتشقق الجدار الشرقي من هذا الجامع ووهى وخرب أكثر دور دمشق وقعت تلك الليلة سقوف وبيوت لا تحصى ووقعت شراريف الجامع المزبور وكان طول كل شرافة مقدار خمسة أذرع على حائط حول سقف الجامع مقدار قامة من جميع الجهات الأربع بحيث أن الشخص إذا وقف على سطح الجامع لا يرى شيئاً من الدور التي حوله فسقطت تلك الشراريف وهدمت بعض الأماكن المجاورة للجامع كدار بني الغزي وحجرة الخلوتية الطباخية بالخانقاه السيمساتية ورمت قبو إيوانها وهذه الأماكن شمالي الجامع وفعلت ببقية جهاته كذلك وفعلت أفعالاً عنيفة في الأحجار وانصدع في الجامع العمود الذي تجاه باب مشهد المحيا الشريف النبوي تجاه العضادة الكبرى وبقت الرجفات والاهتزازات تتوالى ليلاً نهاراً إلى آخر شهر ربيع الأول والناس يدعون الله تعالى في إذهاب تلك الشدة التي ما عهدوا مثلها وقرأوا صحيح البخاري مرتين والقرآن العظيم مراراً وتوسلوا في رفع ذلك بكلام الله وكلام رسوله .

وانهدم في تلك الليلة المتقدمة في بيت الشهاب أحمد المنيني مكانان أحدهما فوق الآخر فسقط الأعلى فوق الأسفل فقتل تحت الردم في الأسفل ستة أنفس من أولاده وعياله جهزهم صبيحة ذلك اليوم ودفنهم جملة واحدة بمرج الدحداح وثلاثة أنفس أُخر سقطت عليهم منارة في محلة الميدان ورجل وقع عليه هلال منارة جامع حسان فقتل أيضاً. وفي تلك الليلة تزلزلت بلاد صفد فذهب أكثر أهلها قتلى وقتل بها من اليهود ألف وثلاثمائة نفس وذهبت حصة عظيمة من بلاد نابلس وقال بها خلق كثيرون وتزلزلت عكا وذهبت حصة من برجها في البحر وطبريا ودير حنا وقلعة الجندل وبلاد الشوف وسائر بلاد الساحل الشامي كصيدا وبيروت واللاذقية ويافا وحيفا وباقي تلك البلاد الشامية ولم يبق في جبل الدروز قرية إلا وأصابها حادث عظيم وبلاء جسيم وتهدمت الخانات على من بها من القفول وفي دمشق قتل ما لا يحصى من الرجال والنساء والذي أصاب مسجد دمشق ما عهد مثله وهذا الزمن الذي حصل فيه هذا البلاء في البلاد في أقل من درجة نسأل الله السلامة من أهوال الحشر والقيامة.

ووافت الناس من سائر الأقطار من الوجه الغربي والساحل يقولون لأهل دمشق احمدوا الله تعالى على ما حفكم به من اللطف فإن الخارجين عنكم لم يسلم منهم إلا القليل وأغاث الله تعالى بكافل دمشق الدستور الأعظم الوزير عبد الله باشا ابن إبراهيم الشهير بجته جي ومتولي أوقاف الجامع المشار إليه شيخ الإسلام علي بن محمد بهاء الدين بن محمد مراد المرادي الحسيني النقشبندي مفتي السادة الحنفية بدمشق فبل الوزير الهمة في إصلاح المنارات ونقض المنارة الشرقية الهائلة التي أعجزت البنائين وأهل الصناعات أن يضعوا أيديهم فيها لما هي عليه من البناء الهائل المتداعي للسقوط وطلبت طائفة البنائين من النصارى أموالاً عظيمة على نقضها وأن يجعلوا لذلك السقايل الهائلة من الأخشاب حولها الأجل النقض فأمر الوزير بقطع الأخشاب ونقلها للجامع فقطع شيءٌ كثير من الغيضة الشهيرة الكائنة بالوادي بدمشق ومن غيرها ونقل إلى الجامع حتى امتلأ خشباً واجتمع جميع نشاري دمشق لنشره قطعاً ضخاماً كل قطعة سمكها مقدار ثلث ذراع أو ربع ذراع وشر البناؤون في عمل السقايل لأجل النقض حول المنارة الزبورة واستعظم طائفة البنائين من النصارى نقضها فانتدب رجل من طائفة النجارين المسلمين لنقضها من غير سقالة وطلع إلى رأس المنارة إلى أن انتهى إلى هلالها ولم ينزع من ثيابه شيئاً بل خرج بقاووقه وشخشيره وأخرج معه مطرقة وإزميلاً حديداً صغيراً وصار يقلع بهما الأحجار ويلقيها في أسفل والناس ينظرون إليه من صحن الجامع ونقض في ذلك الوقت حصة من المنارة وكانت أعلا مما هي عليه الآن بخمسة وثلاثين ذراعاً وأغلظ بمقدار خمسة أذرع وهلالها فوق شاش من الحجر الكبير وبذل الوزير للنجار وكان حاضراً لما صعد إلى المنارة جائزة ووعده أنه إذا تم العمل أن يقابله بالجوائز السنية وأخذ البناؤون في تهيئة أسباب البناء من عمل الدواليب وحفر الأسس.

ثم استهل شهر ربيع الثاني بيوم الأربعاء ففي ليلة الاثنين سادس الشهر المذكور بعد صلاة العشاء بالجامع الشريف بنحو ثلث ساعة رجفت الرجفة العظمى والزلزلة الكبرى التي لم ير ولم يعهد مثلها في سوالف العصور فصارت الجبال تمور والأرض تغور والمياه تفور وبقيت بعد سكونها تتوالى إلى رجفات لطيفة إلى أن أصبح الصباح واستمرت نحو درجتين فانخلعت لها القلوب وصار الناس يبتهلون بالدعاء والتضرع لعلام الغيوب وحارت العقول وطاشت الرجال الفحول وثار في ذلك الوقت الغبار والقتام واشتد في ذلك الآن الظلام وأدهش الناس في ذلك الخطب المهم والمرعب المدلهم الذي انعقدت له الألسن وخرست وغرات له العيون والشفاه يبست وصارت الأرض تفور وتغلي مثل المرجل وانكشفت تلك الساعة عن غالب منارات دمشق بالسقوط وبالقصف والمأذنة الشرقية الأموية المتقدم ذكرها وقعت إلى الأسفل ولم تحوج إلى فك وسقطت قبة النسر في الجامع المرقوم مع عظمها وسقط جميع الرواق الشمالي بأعمدته المحكمة وعضاداته وكان مشتملاً على عضادات وأعمدة بين كل عمودين عضادة مبنية بالرخام وأنواع الحجار المثمنة من أسفلها إلى أعلاها وسقطت المنارة الشرقية على جهة الجمع فهدمت مقدار ثلث المغارب الثلاث التي بقربها وتشققت غالب الجدران وأشرفت عل السقوط فسبحان الفعال لما يريد الحي القيوم الذي لا يموت.

ولم تبق قبة في دمشق إلا وأصابها عاهة أو سقطت ولم يسلم منها إلا النادر وسقط جميع جامع يلبغا مع قبته الهائلة ومنارته مع أن بناءه كان في غاية الرصانة والمتانة وسقط من الخان البديع الذي بناه الوزير أسعد باشا والي دمشق ونائبها ثلاث قباب هائلة وتهدمت دور دمشق إلا القليل وكثرت القتلى في تلك الليلة وتهدمت القرى التي حول دمشق وهلك بسبب ذلك من الأنفس والمواشي ما لا يحصى كثرة وكان من جملتها قرية التل قتل بها تحت الردم ما ينوف على خمسمائة ولم يسلم منها إلا القليل وقرى الجبل كالهامة والزبداني ووادي بردى هلك فيها تحت الهدم ما لا يعد ووقع سور مدينة دمشق في نهر عقربا أحد أنهار دمشق فسده وسور قلعة دمشق الغربي سقط جميعه وسد نهر بانياس وسدت الطرق بالتراب والأخشاب والصخور وصارت السماء مع الأرض تمور وتلف من الأموال والأنفس ما لا يحيط به حد ولا يحصره عد وذهب من الأثاث والأمتعة والأواني الصيني الشيء العظيم الكبير فسبحان من قضى بلك ليعلم العباد أن كل شيء هالك إلا وجهه فصار الناس لا يألفون الأوطان ولا يستقرون بمكان وخرج أهل دمشق جميعاً بأموالهم وأنفسهم وعيالهم إلى خارجها ونصبوا الخيام وبقوا ثلاثة أشهر وهي في الخارج وقد نظم في تلك الزلزلة الهائلة الفاضل العالم الأديب مصطفى بن أحمد بن محمد الدمياطي أبياتاً قال:

إن تناسيت أوقات أنس تقضت ... لست أنسى ليالي الزلزال

أذكرتنا كيف المنام بمهد ... وأرتنا بالعين رقص الجبال

أشهدتنا تمايلات قصور ... باهتزاز كحالة الأطفال

ولما عرض كافل دمشق الوزير عبد الله بن إبراهيم الشهير بالجتجي إلى الأبواب العالية السلطانية بقسطنطينية المحمية حال الجامع الشريف الأموي المزبور وقلعة دمشق وما أصابها من الانهدام وسألوا الدولة في تعميرها وكان صاحب التخت العثماني السلطان مصطفى ابن السلطان أحمد فلما وصل الخبر إليه صدر الأمر منه بتعميرها وأرسل أميناً على العمارة المزبورة أحد البوابين بالأبواب العالية مصطفى بن محمد الشهير باسبانخجي فلما وصل إلى دمشق بالأوامر والأموال وذلك في سنة أربع وسبعين ومائة والف نزل كافل دمشق الوزير عبد الله باشا المذكور إلى الجامع وحضر معه قاضي قضاتها إذ ذاك المولى ساطع علي بن مصطفى ختن علمي أحمد أفندي ومفتي الحنفية بدمشق ومتولي أوقاف الجامع المزبور المولى العلامة شيخ الإسلام علي بن محمد المرادي النقشبندي وبقية أعيان دمشق من العلماء وكشفوا عما يحتاج إليه الجامع المزبور وجمعوا المعمرين والمهندسين وأرباب الصنائع من كل حرفة تتعلق بالتعمير فأمرهم المتولي عل العمارة أن يشرعوا في إعادة ما انهدم ومرمته انتهى.

دمشق // محمد فهمي الغزي