مجلة المقتبس/العدد 67/ابن زيدون وابن جهور

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 67/ابن زيدون وابن جهور

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1911



هذه رسالة ذي الوزارتين أبي الوليد أحمد بن عبد الله بن زيد المخرومي الأندلسي القرطبي (354 - 463) كتب بها إلى رئيسه أبي الوليد بن جهور من ملوك الطوائف بالأندلس توفي عام (443) يستعطفه بها لما كان في اعتقاله.

يا مولاي وسيدي الذي ودادي له واعتمادي عليه واعتدادي به ومن أبقاه الله ماضي حد العزم واري زند الأمل ثابت عهد النعمة.

إذا سلبتني أعزك الله لباس أنعامك وعطلتني من أحلى إيناسك وأظمأني إلى برود إسعافك ونفضت بي كف حياطتك وغضضت عني طرف حمايتك بعد أن نظر الأعمى إلى تأميلي لك وسمع الأصم ثنائي عليك وأحس الجماد باستنادي إليك فلا غرو فقد يغص الماءُ شاربه ويقتل الدواء المستشفي به ويؤتى الحذر من مأمنه وتكون منيته التمني في أمنيته والحين قد يسبق جهد الحريص.

كل المصائب قد تمر على الفتى ... وتهون غير شماتة الحساد

وإني لأتجلد وأرى الشامتين إني لريب الدهر لا أتضعضع.

فأقول: هل أنا إلا يد أدماها سوارها وجبين عض به إكليله وشرفي الصفة بالأرض صاقله وسمهري عرضه على النار مثقفه وعبد ذهب به سيده مذهب الذي يقول:

فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً ... فليقس أحياناً على من يرحم

هذا العتب محمود عواقبه وهذه النبوة غمرة ثم تنجلي وهذه النكبة سحابة صيف عن قليل تقشع.

ولن يريبني من سيدي أن أبطأ سحابه أو تأخر غير ضنين غناؤه فأبطأ الدلاء فيضاً أملأوها وأثقل السحب مشياً أحفلها وأنفع الحيا ما صادف جدباً وألذ الشراب أصاب غليلاً ومع اليوم غد ولكل أجل كتاب. له الحمد على اهتباله ولا عتب عليه في إغفاله.

وان يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللاتي سررن ألوف

وأعود فأقول: ما هذا الذنب الذي لم يسعه عفوك والجهل الذي لم يأت من ورائه حلمك والتطاول الذي لم يستغرقه تطولك والتحامل الذي لم يف به احتمالك.

لا أخلو من أن أكون بريئاً فأين عدلك أو مسيئاً فأين فضلك.

ألا يكن ذنب فعدلك واسع ... أو كان لي ذنب ففضلك أوسع حنانيك قد بلغ السيل الزبى ونالني ما حسبي به وكفى وما أراني إلا لو أمرت بالسجود لآدم فأبيت واستكبرت وقال لي نوح اركب معنا فقلت سآوي إلى جبل يعصمني من الماء وأمرت ببناء صرح لعلي أطلع إلى إله موسى وعكفت على العجل واعتديت في السبت وتعاطيت فعقرت وشربت من النهر الذي أبتلي به جيوش طالوت وقدت الفيل لأبرهة وعاهدت قريشاً على ما في الصحيفة وتأولت في بيعة العقبة ونفرت إلى العير ببدر وانخذلت بثلث الناس يوم أحد وتخلفت عن صلاة العصر في بني قريظة وجئت بالإفك على عائشة الصديقة وأنفقت من إمارة أسامة وزعمت أن خلافة أبي بكر كانت فلتة ورويت رمحي من كتيبة خالد ومزقت الأديم الذي باركت يد الله عليه وضحيت بالأشمط الذي عنوان السجود به وبذلت لقطام:

ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وضرب علي بالجسام المصمم

وكتبت إلى عمرو بن سعدان جعجع بالحسين وتمثلت عندما بلغني من وقعة الحرة:

ليت أشياخي ببدرٍ علموا ... جزع الخزرج من وقع الأسل

ورجمت الكعبة وصليت العائذ على الثنية لكان فيما جرى على ما يحتمل أن يكون نكالاً ويدعى ولو على المجاز عقاباً.

وحسبك من حادثٍ بامرئٍ ... ترى حاسديه له راحمينا

فكيف ولا ذنب إلا نميمة أهداها كاشح ونبأ جاء به فاسق وهم الهمازون المشاؤون بنميم والواشون الذين لا يلبثون أن يصدعوا العصا والغواة الذين لا يتركون أديماً صحيحاً والسعاة الذين ذكرهم الأحنف بن قيس فقال: ما ظنك بقوم الصدق محمود منهم إلا:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب.

والله ما غششتك بعد النصيحة. ولا انحرفت عنك بعد الصاغية ولا نصبت لك بعد التشيع فيك ولا أزمعت يأساً منك مع ضمان تكلفت به الثقة عنك وعهد أخذ حسن الظن بك ففيم عبث الجفاء بأزمتي وعاث العقوق في مواتي وتمكن الضياع من وسائلي ولم ضاقت مذاهبي وأكدت مطالبي وعلام رضيت من المركب بالتعليق بل من الغنيمة بالإياب وإني غلبني المغلب وفخر علي العاجز الضعيف ولطمتني غير ذات سوار ومالك لم تمنع مني قبل أن أفترس وتدركني ولما أمزق أم كيف لا تنصرم جوائح إلا كفاء حسداً على الخصوص بنت وتنقطع أنفاس النظراء منافسة في الكرامة عليك وقد زانني اسم خدمتك وزهاني وسم نعمتك وأبليت البلاء الجميل في سماطك وقمت المقام المحمود في بساطك.

ألست الموالي فيك غر قصائدي ... هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما

ثناءٌ يخال الروض منه منوراً ... ضحى ويخال الوشي فيه منمنما

وهل لبس الصباح إلا برداً طرزته بفضائلك وتقلدت الجوزاء إلا عقداً فصلته بمآثرك واستملى الربيع إلا ثناء ملأته من محاسنك وبث المسك إلا حديثاً أذعته في محامدك ما يوم حليمة بسر وإن كنت لم أكسك سليباً ولا حليتك عطلاً ولا وسمتك غفلاً بل وجدت آجرَّاً وحصى فبنيت ومكان القول ذا سعة فقلت وحاشا لك أن أعد من العاملة الناصبة وأكون كالذبالة المنصوبة تضيء للناس وهي تحترق فلك المثل الأعلى وهو بي وبك أولى ولعمرك ما جهلت أن صريح الرأي أن أتحول إذا بلغتني الشمس ونبا بي المنزل وأصفح عن المطامع التي تقطع أعناق الرجال فلا استوطئ العجز ولا أطمئن إلى الغرور ومن الأمثال المضروبة خامري أم عامر وإني مع المعرفة بان الجلاء. . . والنقلة مثله.

ومن يغترب عن قومه لم يزل يرى ... مصارع مظلوم مجراً ومسبحا

وتدفن منه الصالحات وإن يسئ ... بكن ما أساء النار في رأس كبكبا

عارف بأن الأدب الوطن لا يخشى فراقه والخليط لا يتوقع زياله والنسيب لا يجفى والجمال لا يخفى ثم ما قران السعد للكواكب أبهى أثراً ولا أسنى خطراً من اقتران غنى النفس به وانتظامها نسق معه فإن الحائز لهما الضارب بسهم فيها وقليل ما هم أينما توجه ورد منهل بروحط في جناب قبول وضوحك قبل إنزال رحله وأعطي حكم الصبي على أهله.

وقيل له أهلاً وسهلاً ومرحباً ... فهذا مبيت صالح ومقيل

غير أن الوطن محبوب والمنشأ مألوف واللبيب يحن إلى وطنه حنين النجيب إلى عطته والكريم لا يجفو أرضاً فيها قوابله ولا ينسى بلداً فيها مراضعه قال الأول:

أحب بلاد الله ما بين منعحج ... إليّ وسلمى أن يصوب سحابها

بلاد بها عق الشباب تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها

هذا ال مغالاتي بعقد جوارك ومنافستي بلحظة من قربك واعتقادي أن الطمع في نيزك طبعك والغنى من سواك عنا والبدل منك أعور والعوض لنا.

وإذا نظرت إلى أميري زادني ... ضناً به نظري إلى الأمراء

كل الصيد في جوف الفرا وفي كل شجر نارا واستمجد المرخ والعفار فما هذه البراءة ممن يتولاك والميل عمن لا يميل عك وهلا كان هواك فيمن هواه فيك ورضاك فيمن رضاه لك.

يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم

أعيذك ونفسي من أن أشيم خلباً واستمطر جهاماً وأكرم من غير مكرم وأشكو شكوى الجريح إلى العقباء والرخم فما أبسست لك إلا لتدر وحركت لك الحوار إلا لتحن ونبهتك إلا لأنام وسريت إليك إلا لأحمد السرى لديك وإنك إن سنيت عقد أمري تيسر ومتى أعذرت في فك أسري لم يتعذر وعلمك محيط بأن المعروف ثمرة النعمة والشفاعة زكاة المروءة وفضل الجاه تعود به صدقة.

وإذا امرؤ أهدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله

لعلي ألقي العصي بذراك وتستقر بي النوى في ظلك وأستأنف التأديب بأدبك والاحتمال على مذهبك فلا أجد للحاسد مجال لحظة ولا أدع للقادح مساغ لفظة والله ميسرك من أطلابي بهذه الطلبة وأشكاي من هذه الشكوى بصنيعة يصيب منها مكان المصنع وتستودعها أحفظ مستودع حسبما أنت خليق له وأنا منك حريٌ به وذلك بيده وهين عليه.

ولما توالت غرور هذا النثر واتسقت درره فهز عطف غلوائه وجر ذيل خيلائه عارضه النظم مباهياً بل كايده مداهياً حين أشفق من أن يعطيك استعطافه وتميل بنفسك ألطافه فاستحسن العائدة منه واعتد بالفائدة له وما زال يستكد الذهن العليل والخاطر الكليل حتى زف إليك منه عروساً مجلوَّة في أثوابها منصوصة بحليها وملابسها.

وبعد أن أورد القصيدة قال:

هاكها أعزك الله ببسطها الأمل ويقبضها الخجل لها ذنب التقصير وحرمة الإخلاص فهب ذنباً لحرمة وأشفع نعمة بنعمة ليتأتى لك الإحسان من جهاته ويسلك إلى الفضل مني طرقاته.

دمشق // محمد رشدي الحكيم