مجلة المقتبس/العدد 66/بحث في نوع من البديع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 66/بحث في نوع من البديع

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 8 - 1911



البديع فن جليل وركن من أركان البلاغة لا يستهان به وإن توهم كثيرون خلافه. ولكنه متى يقوم ضعاف النظر في الصناعة الشعرية ركبوا فيه متن التكليف وقصروا هممهم على نظم أنواعه بلا مراعاة ما تقتضيه الصناعة من المقتضيات وأهمها إبراز المعاني في قوالب يصح أن يسمى بها النظم شعراً فتراهم إذا ظفروا بإيداع البيت شيئاً منه ضربوا صفحاً عما عداه ولم يبالوا بعد ذلك بعلو أو انحطاط حتى كاد هذا الفن أن يكون مقصوراً على هذا الضرب من النظم وأصبح فيما نراه فيه من المهانة عند البلغاء.

ومن العيوب المزرية بقدره مزجهم الغث بالسمين من أنواعه وإدراجهم فيه ما لا يصح أن يكون نوعاً بديعياً أو ما هو جدير من المقبحات لا من المحسنات بَلهَ خطبهم في بعض التعاريف والخطأ في الاستشهاد وإدخال بعض الأنواع في بعض بحيث أصبح في حاجة كبرى إلى تهذيبه وتخليصه من تلك الشوائب.

وأنا ذاكر في هذه النبذة رأباً عنَّ لي في نوع منه وضعه ابن المعتز وسماه بتأكيد المدح بما يشبه الذم ودعاه بعضهم بالمدح في معرض الذم وآخرون بالنفي والجحود والتسمية الأولى أولى لسلامتها من الاعتراض ولكونها أوضح دلالة على النوع. وقد قسمه علماء البديع إلى قسمين قسم عرفوه بأنه نفي صفة ذم ثم استثناء صفة مدح وقالوا أنه أفضل القسمين واستشهدوا عليه بقول النابغة الذبياني:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فول من قراع الكتائب

ويقول من يقول زيد لا عيب فيه سوى أنه يكرم الضيف. والقسم الثاني عرفوه بأنه إثبات صفة مدح ثم استثناء صفة مدح أخرى نحو أنا أفصح العرب بيدني من قريش ونحو قول النابغة الجعدي:

فتىً كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا

وكلامنا في القسم الأول فقط أطلت النظر فيما كتبه علماء هذا الفن قديماً وحديثاً فظهر لي أنهم تساهلوا في تعريفه فأداهم التساهل إلى الخلط بين شواهده كما ترى. والذي استبان لي ويستبين لكل متأمل أن بينهما فرقاً واضحاً يقسم به النوع إلى نوعين. ولبيان ذلك نقول أن استشهادهم ببيت النابغة استشهاد صحيح مطابق تمام المطابقة لاسم النوع الذي اختاره واضعه لأن وصف سيوف القوم بأنها مفلوقة مثلومة لا يشك أحد في أنه عيب يذمون به ولكن لما كان سببه قراعهم للكتائب دل على إقدامهم وشجاعتهم وكثرة مباشرتهم الضراب بأنفسهم فصار مدحاً لهم وصح القول بأن الشاعر أكد مدحه بما يشبه الذم لإتيانه بتلك الصفة المذمومة المقرونة بما يصرفها إلى المدح ولا يخفى حسن هذا الأسلوب البديع على من نهل من حياضه العربية وتذوق بلاغتها بخلاف استشهادهم بقول القائل لا عيب في زيد سوى الكرم وبقول القال:

ولا عيب في هذا الرشا غير أنه ... له معطف لدن وخد منعم

فليسا في شيء من المطابقة لاسم النوع كما يظهر لي ولا يصح عدهما مع الشاهد الأول من نوع واحد وإنما أداهم إلى هذا الخلط تساهلهم في التعريف كما قدمنا لأن قولهم نفي صفة ذم ثم استثناء صفة مدح شامل لهذين الضربين من الاستشهاد أما في الثاني فظاهر لأن الكرم والمعطف اللدن والخد المنعم المستثناة من صفة الذم المنفية كلها صفات مدح وأما في الأول فلأن الصفة المستثناة وهي فلول السيوف وإن تكن صفة ذم فقد حولت إلى صفة مدح أيضاً فصح بذلك عندهم الاستشهاد بهما على نوع واحد لشمول التعريف لهما مع أن الفرق بين الضربين لا يخفى عل ذي بصيرة. ولزيادة التوضيح نقول أن الضرب الثاني من الاستشهاد ليس فيه من تأكيد المدح بما يشبه الذم سوى الأسلوب الذي صيغت به شواهده فقط لأن ذكر الاستثناء بعد نفي صفة الذم موهم لإثبات شيءٍ ما من الذم فلما استثنى القائل صفة مدح محضة كان موهماً للنوع بأسلوب وإن لم يأت به على حقيقته.

والذي أراه في حل هذا الإشكال أن يقسم هذا النوع إلى نوعين يسمى بتأكيد المدح بما يشبه الذم ويقال في تعريفه أنه نفي صفة ذم ثم استثناء صفة ذم مقرونة بما يصرفها إلى المدح أو استثناء صفة مدح محولة من ذم أو غير ذلك مما يؤدي معناه وقد ظهر لي أن القرينة الصارفة قد تكون لفظية كما في بيت النابغة الذبياني لأن قوله من قراع الكتائب قرينة دالة على عدم إرادة الذم أو تكون معنوية كما يف قول القائل:

ولا عيب فيكم غير أن ضيوفكم ... تعاب بنيسان الأحبة والوطن

فإن جعلهم ضيوفهم ينسون أحبتهم وأوطانهم عيب ولكن لما كان سببه كثرة ألطافهم وإكرامهم إياهم صار مدحاً وهو غير مصرح به بل مفهوم من سياق البيت.

(النوع الثاني) يسمى بإيهام تأكيد المدح بما يشبه الذم ويقسم إلى قسمين قسم يقال في تعريفه بأنه نفي صفة ذم ثم استثناء صفة مدح محضة ليس فيها شائبة ذم ويستشهد عليه بنحو قولهم لا عيب في زيد سوى الكرم وبنحو قول القائل:

لا عيب فيه سوى مكارمه التي ... نسبت لحاتم بخل كل بخيل

والقسم الثاني يقال في تعريفه بأنه إثبات صفة مدح أخرى خاليتين من شائبة ذم ويستشهد عليه بقوله عليه الصلاة والسلام أنا أفصح العرب بيد اني من قريش وببيت النابغة الجعدي المتقدم وبنحو قول القائل:

وظبيٌ ثناياه الصحاح كما ترى ... من الريق يرويها الرضاب المبرد

وقد حاز أشتات البها غير أنه ... له مقلة كحلا وخدّ مورّد

وقول البديع الهمذاني:

هو البدر إلا أنه البحر زاخر ... سوى أنه الضرغام لكنه الويل

وإنما جعلنا هذين القسمين لنوع واحد لأنهما كما ترى من نمط واحد وليس فيما بينهما من الفرق ما يدعو إلى جعلها نوعين. أما أصحاب البديعيات فقد وقفت على عشرين بديعية فما وجدت بين ناظميها من تنبه لما ذكرت بل استقوا جميعهم من بحر واحد ولم يأتوا بغير إيهام النوع إلا صفي الدين الحليّ حيث قال:

لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم ... يسلو عن الأهل والأوطان والحشم وهو مأخوذ من

قول القائل المتقدم:

ولا عيب فيكم غير أن ضيوفكم ... تعاب بنسيان الأحبة والوطن

وكذلك الشيخ ابن المقري في قوله:

لا عيب فيه سوى تسليط نقمته ... على العدا ومواليه على النعم

فانه قال في شرحه أن تسليط النقم عيب ولكنها لما كانت على الأعداء كانت مدحاً وعندي فيه نظر والله أعلم.

القاهرة // أحمد تيمور